البركة السرية!
بدأ الشياطين الانتشارَ في شبه دائرة، ومرَّت اللحظات الحرجة. وفجأة، سمع «رشيد» صوتًا خافتًا من خلال البوص يقول: اذهب إلى «الريس»، وأخبره أن العصابة الأخرى قد وصَلت الجزيرة، وتقترب من «البركة السرية»، حاول معرفة المكان واقْضِ عليه قبل أن يَصِل أحد إليه.
كان مع «رشيد» في هذه اللحظة «فهد» الذي أشار إليه «رشيد»، ففهم «فهد» الإشارة ومعناها متابعة الرجل والتمكُّن منه قبل الوصول، ودار «رشيد» من خلف الرجل الآخر، وفي لحظة كان فوق رأسه واضعًا مسدسه في أُذُنه قائلًا له: ألقِ سلاحك.
فألقى الرجل سلاحه، فأمسك «رشيد» بذراع الرجل، وبحركة سريعة ألقاه على وجهه فوق الأرض، وربض فوق ظهره كالأسد، وبعد ثوانٍ قليلة كان «أحمد» ومن معه من الشياطين قد وصلوا إليه، فوجدوه متمكنًا من هذه الفريسة.
ربض «أحمد» قريبًا من الرجل على ركبتَيه، وقرَّب مسدسه من جبهة الرجل، وقال له: إن هذا المسدس كاتم للصوت، بمعنى في ثانية تكون في العالم الآخر دون أن يدريَ بك أحد. ما رأيك؟
ردَّ الرجل وهو يتكلم بصعوبة: وماذا تريد؟
أحمد: أين «البركة السرية»؟
الرجل: «البركة السرية»؟ ما معنى «البركة السرية»؟
فقال «أحمد»: ألَا تعرف «البركة السرية»؟ إذن … ثم حرَّك «أحمد» خزانة المسدس.
فقال الرجل: لا. أرجوك لا تقتلني أنا لا أعرف. حقيقة.
أحمد: إذن اعتبر نفسك من الأموات. واحد. اثنان. ثلا …
فصاح الرجل: لا. انتظر سأقول، إنها في الجهة الغربية من الجزيرة، إنها حفرة في طرف الجزيرة في منطقة كلها محار وأحجار صغيرة، محاطة بكُتَل صغيرة من البوص والغاب.
فهزَّه «أحمد» بالمسدس في عنف وهو يقول: كم عدد الحرس هناك؟
قال الرجل: هناك ثمانية حول البركة.
فهزَّه «رشيد»: أين يختبئون؟
ردَّ الرجل: داخل هذه الكتل الصغيرة.
قال «أحمد»: وأين القبطان؟
الرجل: القبطان داخل البركة في الغرفة السرية تحت الأرض ومعه الريس.
سأله «رشيد»: وكلمة السر؟
قال الرجل: كلمة السر «الليلة عيد».
كان «فهد» يتعقَّب الرجل الآخر في هذا الظلام الدامس … والرجل يحاول أن يصل إلى رئيس العصابة ليُخبرَه.
وكان «رشيد» قد أخبر «أحمد» بما حدث وأن «فهد» يطارد الرجل الآخر ليتمكن منه قبل أن يصل إلى رئيس العصابة في مقرِّه.
أوثق الشياطين الرجل جيدًا وكمَّموا فمه وتركوه بين البوص، وأخذوا سلاحه وأسرعوا للحاق ﺑ «فهد» والرجل … كان الرجل يقفز وسط البوص كأنه أرنبٌ بريٌّ، و«فهد» يتبعه بكل همة ونشاط فقد دبَّت فيه روح المغامرة، فأخذ يقفز كالأسد خلف هذا الأرنب.
كان الظلام شديدًا، ولا أحد يرى أحدًا، وإنما يستمع لحركته ويحدد المكان عن طريق الصوت.
وكان الرجل قد دخل منطقة أمان للعصابة، وكانت قفزاته بهذه الجرأة والسرعة تُوحي بأنه قريب من المقر السري للعصابة. وبعد لحظات استطاع الشياطين أن يُدركوا «فهد» وهو يحاول اللحاق بهذا الرجل، لكنهم وصلوا بعد فوات الأوان. إن الرجل كان قد دخل منطقة الحراسة، وسرعان ما تنبَّه الحارس، وقال: مَن هناك؟
قال الرجل وهو يلهث: أنا … سعفان.
ردَّ الحارس: سر الليل؟
قال الرجل وهو يلهث: الكلمة «الليلة عيد».
قال الرجل له بعد أن وصل إليه: خذوا حِذْركم … احترسوا؛ فإن العصابة الأخرى قد وصلَت، لقد ضربت أحدهم في الجزيرة. أريد أن أنبِّهَ «الريس».
قال له الحارس: انتظر مكاني حتى أُبلغَه.
كان الشياطين يستمعون إلى هذا الحوار في الظلام بين كُتَل البوص. لقد أصبحوا إذن أمام المقر السري لهذه العصابة، وأصبح القبطان على بُعد خطوات منهم. لا بد إذن من اقتحام هذا المقر والوصول إلى القبطان قبل أن تعرف العصابة الأخرى مكانَه وتتعقد الأمور أكثر، وقبل أن يعرف أحد مكان المخدرات.
أدرك «أحمد» أن الأمر يحتاج إلى مغامرة، فلا بد من التعامل مع الحرس فورًا والقضاء عليهم حتى يخلوَ الجو للوصول إلى القبطان.
إن الشياطين ثمانية والحرس ثمانية، وهذا الرجل الذي جاء ليُبلغ رئيس العصابة تسعة، لا بد من التصرف فورًا قبل أن يعود الحارس الثامن من «البركة السرية»، وفي لمح البصر فكر «أحمد»، واهتدى إلى خطة سريعة لاقتحام المقر السري لهذه العصابة والوصول إلى القبطان.
طلب «أحمد» من الشياطين الانتظارَ لحظاتٍ قليلة حتى يعود ويحدد أماكن المراقبة والحرس. غاب «أحمد» لحظات داخل البوص، ودار حول مقر العصابة ليتأكد من وجود الحرس. ووجد الأمر كما قال الرجل المكمَّم، فعلًا ثمانية رجال يحرسون المقر من كل ناحية، ولكلٍّ منهم كتلة من البوص يختبئ فيها كأن الطبيعة زرعَتها بأيديها …
وعاد «أحمد» بعد أن حدد أماكن الحرس وقال لباقي الشياطين: إن رجال العصابة منتشرون حول المقر، وبين كل فرد والآخر مسافة تكفي للتعامل مع كل فرد على حدة. فكل واحد منَّا عليه فردٌ من الحرس وأنتم تعرفون كلمةَ سر الليل. لا بد أن نتخلص منهم سريعًا وفي هدوء، ثم نقتحم «البركة السرية».
انتشر الشياطين سريعًا حول المقر كأسرع ما يكون الانتشار، وأخرج كلٌّ منهم خنجرَه واستعد للهجوم، واقترب «فهد» من الرجل الموكل به، وأحدث صوتًا قويًّا داخل البوص. فقال الرجل: مَن هناك؟
قال «فهد»: أنا سعفان.
قال الرجل: كلمة السر.
قال «فهد»: «الليلة عيد».
فاقترب الرجل من «فهد»، وفي نفس اللحظة كان «فهد» يقترب في سرعة من الرجل. قال له الرجل مطمئنًّا واثقًا أنه «سعفان»: ماذا جاء بك؟
وفي لمح البصر كان «فهد» قد سدَّد إليه ضربة قوية، فسقط في قوة على ظهره، ثم هجم «فهد» عليه كالأسد وضربَه ضربة قوية، فتراخَت يداه فاقدًا وعيَه، وتقدَّم «قيس» من الرجل الموكل به وكذلك هزَّ البوص فتنبَّه الرجل، وقال: قف مكانك، مَن هناك؟
غيَّر «قيس» من صوته، وقال: أنا «سعفان».
قال الرجل: وما هي كلمة سر الليل؟
ردَّ «قيس»: «الليلة عيد».
خرج الرجل من بين كتلة البوص وهو يكلِّم «قيس» ظنًّا منه أنه «سعفان»، وقال: وماذا هناك؟
كان «قيس» قد أخذ وضع الاستعداد ليفاجئ الرجل، وفي حركة خاطفة ضرب الرجل فوقع على الأرض، وفي سرعة خاطفة كان «قيس» فوقه والرجل بين ساقَيه كالعصفور ساقطًا على الأرض بلا حراك.
وكذلك تخلَّص بقية الشياطين من الرجال الذين يحرسون المقر السري للعصابة، ثم تقدَّم «أحمد» من السرداب ليفاجأ الرجل ﺑ «أحمد»، فيصيح الرجل وهو يجري إلى الداخل: العصابة وصلت يا ريس، العصابة.
كان «أحمد» قد توغَّل في السرداب الموصِّل إلى «البركة السرية» تحت الأرض، ورأى شعاعًا خافتًا ينبعث من الداخل من بعيد، ورأى ذلك الرجل يلتفت للخلف ممسكًا بندقيته يحاول أن يُطلق النار، وفي جزء من الثانية كان «أحمد» قد أخرج مسدسه في سرعة فائقة، وأطلق على الرجل رصاصة أسقطَته بدون صوت ودون إحداث ضجيج.
في نفس اللحظة كان «الريس» — زعيم العصابة — قد شعر بالخطر، وأحسَّ بأن العصابة قد اقترب وقتُ مجيئها. وهو لم يعرف من القبطان حتى هذه اللحظة أين مكان المخدرات. أمسك «الريس» بخناق القبطان الذي كان ضيفه من لحظات في محاولة يائسة ليعرف منه مكان المخدرات وأين ألقى بها؟ … كان القبطان مريضًا باديَ الضعف، ويبدو أنه تعرَّض لمضايقات وتعذيب حتى يكشف سرَّه. لكن القبطان لم يكشف سرَّه؛ لأنه لم يقبض ثمنًا حتى هذه اللحظة، وأدرك غدرَ «الريس» وأعوانه، فلم يُبِح بشيء، ورغم ما تعرَّض له من تعذيب، هدَّد «الريس» القبطان في يأس، وقال: انطق أين خبأت البضاعة؟ تكلم … تكلم قبل أن أُنهيَ حياتك.
أحسَّ زعيم العصابة بأقدام تدخل عليه «البركة السرية»، فاستدار وفي يده بندقية، ورفعها ليضغط على الزناد، ولكن «أحمد» كان قد قفز في سرعة خاطفة، وضربَه ضربةً فطارَت عمامتُه، لكنه كان قويًّا، فتمكَّن من «أحمد» وقلبَه على الأرض وربض فوق صدر «أحمد»، وصوَّب البندقية إلى رقبة «أحمد»، وقبل أن يضع يده على الزناد كان «أحمد» قد ضربه ضربة قوية أطارت البندقية من يده فأسقطت مصباح الكيروسين فوق أعواد القش والبوص وسرَت النار في «البركة»، وضغط «أحمد» على الرجل ثم أسقطه على الأرض، وتمكَّن منه وضربه ضربة قوية فتراخَت يده. بينما كان الشياطين في هذه اللحظة يسحبون القبطان قبل أن تُدركَه النيران، وأومأ إليهم «أحمد» أن يخرجوا بسرعة بعد أن تكاثر الدخان وتحولت البركة إلى حريق هائل في لحظات.
حمل «فهد» القبطان المتهالك فوق عاتقه، وخرج به من السرداب إلى حيث الهواء الطلق. كان القبطان في حالة سيئة، فوضعه الشياطين على الأرض ليستنشق بعض الهواء النقي … لكنه كان قد اقترب أجله … انحنى الشياطين عليه ليطمئنوا عليه، فنظر إليهم جميعًا، وقال لهم في صوت متهدج: أشكركم جميعًا … إني أراكم من أهل الخير … وأريد أن أدلَّكم على مكان المخدرات الذي لم أُبِح به لمخلوق قبلكم. أريد أن أصحح خطئي. أريد أن أعمل شيئًا أكفِّر به عن سوء صُنعي، لقد غرَّر بي هؤلاء وأنا شريك الآخرين في الجريمة. أريد أن أدلَّكم على مكان المخدرات قبل أن يصل إليها أحد فيُهلك بها الشباب ويدمر بها الأمة … إن المخدرات تبعد عن السفينة بحوالي ثلاثة كيلومترات إنها …
وضاقَت أنفاسُه وتحشرجَت.
فقال «أحمد»: انطق أرجوك تكلَّم. تكلَّم قبل أن يطلع النهار أو يصل إلينا أحدٌ من أفراد العصابتَين. فحاول القبطان جاهدًا أن ينطق بالمكان، ولكن كانت الحروف متقطعة تتلجلج داخل حلقه … ثم أخذ نفَسًا عميقًا ثم بدأ يتكلم.
وقال: إنها … بالقرب من «طابية عرابي»، وهناك حقيبة بها خريطة سرية للمكان بالتحديد وبالحقيبة خمسون ألف جنيه، أعطاها لي أصحاب المخدرات «مقدمًا» حتى أوصل البضاعة إليهم، إنها لكم، استخدموها في عمل الخير وإنقاذ مَن يحتاج إلى مساعدة واﻟ … ثم سعل … وراح في غيبوبة خفيفة.
فقال «أحمد»: أرجوك … تمالَك … أفِقْ … أخبرنا.
بدأ القبطان يتأوَّه ويحاول الكلام ولكن ذلك كان بصعوبة بالغة. قال: والحقيبة في الط … في الطاحونة المهجورة.
ثم شخصَت عيناه.
صاح «أحمد»: وأين الطاحونة المهجورة … أرجوك تكلَّم.
لكن القبطان كان قد فارق الدنيا، ولفظ آخر أنفاسه، فلم يسمع «أحمد».
نظر الشياطين إلى بعضهم نظرة يائسة في الوقت الذي كانت أضواء الفجر تنبعث في الأفق، لكن «أحمد» أعاد الأمل إلى نفوسهم قائلًا: لا مجال لليأس لقد صنعنا مستحيلًا … إننا الوحيدون الذين نعرف مكان المخدرات والحقيبة. وإذا كان القبطان قد مات، فلا أحد يعرف سرَّه سوانا.
تحرَّك الشياطين وسط الجزيرة متجهين إلى ناحية الشرق حيث تركوا المركب و«عثمان». كان النهار قد أوشك على الطلوع، وبدَت الجزيرة هادئة، في الوقت الذي بدأ يتهادى فيه إلى أسماع الشياطين صوتُ محركات من بعيد تقترب.
نظر الشياطين إلى أعلى … فلم يروا شيئًا … فقال «بو عمير»: إن هذا الصوت صوت طائرة هليكوبتر. فقال «أحمد»: لا. إنه صوت محركات زوارق … أظن أننا مقبلون على معركة وشيكة … مكانكم … لا تتحركوا حتى نتبيَّن … انحنى «أحمد»، وسار عدة خطوات ثم رفع رأسه لينظر إلى مصدر الصوت، فرأى زورقَين مطاطَين فيهما بعض الأشخاص … لكن لا تبدو ملامحهم؛ لأن الشمس لم تُشرق بعد.
اقترب الزورقان من الجزيرة، ودخلَا في أحد الأسراب لحظات، وكان أحد الزورقَين قد ظهر عند حافة الجزيرة، ورأى «أحمد» من خلال البوص أن به بعض الجنود، ثم نزل من الزورق الأول رجلٌ قويُّ البنية، يرتدي الزيَّ العسكري … ثم واصل السير تجاه الشياطين الذين تجمَّعوا ووقفوا يرقبون المشهد حتى اقترب الرجل فبدا واضحًا كلُّ شيء … ورفع الرجل يدَه بعلامة النصر وهو متجه إلى الشياطين، ولمَّا اقترب منهم قال: «النورس الغريب»، عقيد شرطة: مدحت الرفاعي.
نشكركم كثيرًا، وأُبلغكم تحيات الزعيم رقم «صفر» وسعادته بنجاح جزء كبير من المهمة.
فابتسم الجميع … وفي تلك اللحظة كانت الشمس قد أشرقت ورجعوا في فرحة غامرة تحملهم الزوارق المطاطية لكي يُكملوا المهمة التي أتَوا من أجلها وهي العثور على شحنة المخدرات.