الطاحونة المهجورة!
كان الشياطين قد تناولوا طعام الإفطار باستراحة شرطة المسطحات المائية، وبعد أن أمضوا دقائق في الحديث، نظر الصديق الجديد إلى «أحمد»، وقال له: تستطيع الآن — وبكل سهولة — أن تدخل هذه الحجرة، وتتصل بالزعيم رقم «صفر».
دخل «أحمد» الحجرة فوجدها مجهزة بأحدث الأجهزة للاتصال بأيِّ مكان، وعلى الفور لم يتردد «أحمد» في الاتصال بالزعيم رقم «صفر» وإخباره بما حدث.
كان الزعيم رقم «صفر» على علم بكل هذه التفاصيل. لكنه بعد ذلك حدَّد لهم المهمة المقبلة والتي يجب أن تُنجز على وجه السرعة قبل فوات الأوان؛ حيث إن العصابتَين أصبحتَا كخلية النحل تقومان بعملية مسح شاملة وتفتيش واسع عن مكان المخدرات. وأصبح من الضروري الوصول إلى المخدرات وإلا ضاع كلُّ التعب والوقت هباء.
كانت المهمة المقبلة تتركز في رجوع أربعة من الشياطين إلى قرية برج «البرلس» والبحث عن الحقيبة التي خبَّأها القبطان وبها الخريطة السرية والأموال، وذلك بعد تحديد مكان الطاحونة المهجورة؛ فإذا وجدوا الحقيبة عرفوا أين «طابية عرابي» التي تُخفي هذا السرَّ. انتهت المحادثة ورجع «أحمد» إلى بقية الشياطين، وأخبرهم بما كان من الزعيم رقم «صفر» وتحديد المهمة.
والتفت «أحمد» إلى النورس الغريب، وسأله: ألَا تعرف شيئًا عن الطاحونة المهجورة؟ فقطَّب الضابط حاجبَيه مستفهمًا: الطاحونة المهجورة؟ هذه أول مرة أسمع فيها هذا الاسم. ولم يتردد قبل ذلك أمامي، وما أظن أحدًا يعرف شيئًا بهذا الاسم.
نظر «أحمد» إلى الشياطين وقال: ليس أمامنا وقتٌ للحوار، الآن سنتحرك … سيبقى أربعة وينجز الأربعة الباقون المهمة.
ردَّ «بو عمير»: أنا معك، إني مشتاق لمعرفة سر الطاحونة المهجورة و«طابية عرابي».
وقال «قيس»: لا يمكن أن أتأخر، لن أحتمل الانتظار.
أما «خالد» فقام يُهيئ نفسه ويستعد للذهاب مع الثلاثة دون كلام.
قال «أحمد»: يجب أن تكونوا على استعداد تام إذا احتاج الأمر، وودَّع بقية الشياطين ثم خرجوا من البوابة الخلفية للاستراحة وقصدوا موقف السيارات، وأخذوا السيارة الذاهبة إلى قرية «برج البرلس».
كانت الساعة تقترب من العاشرة لكن الجو يبدو وكأنه في الصباح الباكر؛ فالسحب القاتمة تحجب أشعة الشمس والبحيرة الداكنة تُثيرها الرياح بقوة فتتلاطم أمواجها.
شرد «أحمد» بذهنه وبدأ يفكر ويسأل نفسه: هل الطاحونة المهجورة خدعة خدعَنا بها القبطان؟ وكيف سنصل إلى المخدرات إذن؟
ثم أفاق لحظة كأنه يستنكر أن يحدث هذا: لا. غير ممكن، إن القبطان لم يكن كاذبًا، لم يكن وراء كذبه منفعة له حتى يكذب علينا، إنه كان يخاف من العصابة؟ لقد كان في أيديهم، فلماذا لم يَقُل لهم؟ لقد كان يموت وهو يقول هذا، فلماذا يكذب؟
تنبه «أحمد» إلى أن السيارة وصلت القرية، وحين توقفت نزل الشياطين الأربعة، ووقفوا.
قال «بو عمير»: الآن أستطيع أن أذهب إلى البوغاز وحدي. إن هذا المشهد قد حُفر في ذاكرتي.
قيس: إن القرية محصورة بين طريق واحد يلتفُّ حولها من البحيرة إلى البحر ثم يدور ويعود إلى نفس المكان.
أحمد: يجب علينا الآن أن نتحرك، فيجب الحذر؛ لأنني واثق أن أفراد العصابتَين يراقبون كلَّ شيء حتى الهواء الذي نتنفسه، ولا يجب أن نذكر شيئًا اسمه «الطاحونة المهجورة» لأي أحد … فربما يكون من أفراد العصابتَين.
سار الشياطين الأربعة حتى وجدوا مقهى، فجلسوا فيه يشربون الشاي. وأقبل شابٌّ في الخامسة عشرة من عمره يحمل أكواب الشاي فوق «صينية»، وبيده الأخرى قطعة قماش يمسح بها المنضدة.
قال له «أحمد»: شكرًا يا … ما اسمك؟
ردَّ الفتى: اسمي «سامي».
قال «أحمد»: أهلًا وسهلًا … أنا اسمي «أحمد» … وهؤلاء زملائي: «خالد»، و«بو عمير»، و«قيس». إنهم زملائي في الكلية، وقد جاءوا معي في رحلة.
قال الفتى: أليس معكم أمتعة؟
ردَّ «أحمد» على الفور: معنا طبعًا … لكننا تركناها في بلطيم مع بعض زملائنا … وجئنا نتعرف على معالم هذه القرية … أنت من أهل هذه القرية؟
قال الفتى: نعم … من أهل هذه القرية أبًا عن جدٍّ.
ردَّ «أحمد»: هل تتعلم في المدرسة؟
قال: نعم، في الصف الثاني الثانوي؛ أذهب إلى المدرسة في الفترة المسائية، ولكني هنا أساعد أخي الأكبر.
قال «أحمد»: بالتأكيد … أنت تعرف كلَّ شيء عن بلدكم.
ردَّ الفتى: نعم … كل شيء.
أراد «أحمد» أن يعرف بعض المعلومات منه … لكنه كان على حذر حتى لا ينكشفَ أمرُه أو يسأل الفتى مباشرة عن الطاحونة المهجورة، فلا يعرفها فيضطر لسؤال أخيه عنها وتتسع الأمور، فبدأ يسأله عن أشياء بديهية معروفة لكل إنسان.
قال «أحمد»: أنا سعيد جدًّا بمعرفتك … والحقيقة الكلام مع إنسان متعلم شيء مريح.
رد «سامي»: وأنا كذلك … ومستعدٌّ لأي مساعدة.
قال «أحمد»: شكرًا … لكننا نخشى أن نعطلك عن عملك.
قال «سامي»: لا. ليست هناك عطلة … إن الزبائن قليلة جدًّا — كما ترى — وينقصون ولا يزيدون.
قال «أحمد»: نريد أن نستوضح منك عن بعض الأشياء.
قال «سامي»: قُل. ماذا تريد أن تعرفه عن قريتنا؟
قال «أحمد»: يعني … طبيعة الناس هنا … ماذا يعملون؟ وكيف يعيشون؟ أليست هنا معالم سياحية أو أثرية مثلًا؟
قال «سامي»: يوجد الكثير … الجزر الموجودة في البحيرة … مملوءة بالأسرار.
قال «أحمد»: وهنا في القرية، أليس فيها أية معالم سياحية أو أثرية؟
قال «سامي»: ماذا تعني؟
أحمد: لا أعني شيئًا محددًا … لكنه سؤال عادي.
قال «سامي»: لا، إن قريتنا ليس فيها شيء يلفت النظر … كل شيء فيها عادي.
قال «أحمد»: شكرًا … ونحن سعداء بمعرفتك.
فأومأ «سامي» برأسه، وقال: شكرًا … ثم دخل المقهى.
ارتشف «أحمد» رشفة من كوب الشاي ثم قال: لا شيء مهم … كل شيء عادي. أخشى ألَّا نصلَ إلى شيء.
لحظات وانتهى الشياطين من شرب الشاي، وأخرج «أحمد» من جيبه خمسة جنيهات ووضعها فوق الصينية، وأقبل الفتى ورفع الصينية، لكنه دُهش حين رأى الورقة المالية، فأمسكها، وقال ﻟ «أحمد» ليس معنا «فكة».
قال «أحمد»: لا نريد الباقي … شكرًا … ثم قال له في شيء من التجاهل وعدم المعرفة: أتعرف رجلًا اسمه عم «خضر» … عم «عثمان».
قال «سامي»: آه، نعم. عم «عثمان خضر». ومن أين عرفته؟ وكيف؟
قال «أحمد»: تعرَّفت عليه في السيارة بالأمس. وعرف منَّا أننا قادمون لزيارة القرية، وقال لنا: سأريكم اﻟ… الطاحونة القديمة … الطاحونة المهجورة … شيء مثل هذا.
قال «سامي»: ليس هنا شيء اسمه الطاحونة … آه … تقصد ماكينة الطحين …
قال «أحمد»: يجوز … أنا لا أعرف شيئًا.
قال «سامي»: إنها قريبة من هنا … وماذا فيها؟ إنها شيء عادي، لا شيء فيها غريب … ماكينة تطحن حبوب الشعير والقمح والذرة.
قال «أحمد»: طبعًا شيء عادي، ربما ظن أنها بالنسبة لنا شيء غير عادي … المهم أين نجد هذا الرجل الطيب؟
رد «سامي»: كان هنا في الصباح يشرب الشاي، الآن تجده عند البوغاز … تستطيع أن تصل إليه؟
قال «أحمد»: نعم … شكرًا لك.
أخرج «أحمد» منديلًا من جيبه بعدما فارق المقهى وأخذ يمسح وجهه وجبهته …
ثم التفت إلى زملائه، وقال: كدنا أن ننكشف.
سار الشياطين تجاه البوغاز، وهناك وجدوا عم «عثمان»، فرحَّب بهم ودعاهم للذهاب إلى بيته، لكنهم شكروه وتظاهروا بأن الوقت ضيق ولا يسمح، وأنهم جاءوا في مهمة محددة. ثم سأله «أحمد» قائلًا: عم «عثمان» أيوجد شيء اسمه الطاحونة المهجورة؟
شرد عم «عثمان» لحظات ثم قال: الطاحونة المهجورة، لا شيء بهذا الاسم هنا.
أحمد: تذكَّر يا عم «عثمان» … ركِّز أرجوك.
سرح عم «عثمان» بفكره بعيدًا وهو يغمغم: الطاحونة المهجورة … الطاحونة المهجورة … آه تذكَّرت … لكن هذا شيء مرَّت عليه العديد من السنين … ولا يوجد له أثر الآن.
أحمد: كيف يا عم «عثمان»؟
بو عمير: نعم كيف وأنت اعترفت بوجودها من لحظة؟!
عم «عثمان»: لقد كانت هنا فعلًا طاحونة تعمل بقوة الريح، ولكن الناس هجروها؛ لأن الأشباح تسكنها، وظلت مهجورة أكثر من ستين عامًا، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها.
أحمد: لماذا؟ رغم أن وجودها كان ضروريًّا؟
عم «عثمان»: لقد قتلَت — منذ زمن — الرَّحَى رجلَين من الذين كانَا يعملان بها … ومنذ ذلك الوقت أشاع بعضُ الناس أنهم كانوا يرون أشباحهما ليلًا … فهجرها الناس، وظلت كذلك حتى تصدَّعَت واندثرَت … وبقيَ مكانها خاليًا يُلقى الناس فيه الفضلات.
بو عمير: ألَا يوجد أيُّ أثر يدل على مكانها؟
عم «عثمان»: لا أثرَ على الإطلاق، إلا بضعة أحجار مرصوصة تحت الأرض يبرز منها أجزاء صغيرة لا تدل على أي شيء.
أحمد: أوصِلنا إلى هذا المكان من فضلك.
سار الشياطين خلف عم «عثمان» وهو يتجاذبون أطراف الحديث، وعم «عثمان» يخرج بهم من شارع ليدخل في حارة ضيقة ثم يلوي بهم إلى شارع … وهكذا حتى وجدوا أنفسهم بعيدًا عن البيوت وفي مكانٍ خالٍ تمامًا من أي بناء.
أحمد: ما هذا يا عم «عثمان»؟
عم «عثمان»: إنه مكان الطاحونة المهجورة.
أحمد: كيف؟! لا يوجد أيُّ أثر لأيِّ شيء هنا؟!
عم «عثمان»: هذا ما أعرفه جيدًا … ولا شيء بهذا الاسم غير هذا المكان الذي كانت فيه — فعلًا — الطاحونة المهجورة.
وخطَا «أحمد» بضع خطوات تجاه المكان، فحص الأرض بقدمه … وأخذ يزيل بعض التراب بقدمه … ثم ينحني ثم يشير لباقي الشياطين: تعالوا … انظروا.
قيس: ما هذا؟
خالد: أهناك شيء يستحق النظر؟!
أحمد: نعم … إنها كتل صخرية ضخمة … ولا بد أن وراءها كلامًا كثيرًا.
بو عمير: ماذا تعني؟
أحمد: أعني أن هذه الصخور لا بد أنها تُخفي أسرارًا كثيرة.
أخرج «أحمد» الخنجر من جيبه ثم بدأ يُزيل التراب من بين كتل الصخور وبعضها … ثم توقَّف ونظر إلى الشياطين، وقال: شيء عجيب! فردَّ «خالد»: ما هو هذا الشيء العجيب؟
قال «أحمد»: هذه الكتلة الصخرية … منظرها غريب وشكلها … إنها دائرية … «خالد» ادفع هذا التراب بعيدًا.
وأخذ «خالد» يدفع هو و«قيس» التراب؛ فظهر في وسط الصخرة الدائرية قضيبٌ حديدي يتوسط الصخرة.
أحمد: ألم أقل إن وراء هذه الصخور أسرارًا؟ حاولوا معي … سندفع الصخرة لكي تتحرك حول هذا القضيب.
خالد انحنى وهو يقترب من «أحمد» وقال: إننا مراقَبون!
أحمد: وكيف عرفت؟
خالد: حاول أن تسترقَ النظر إلى هذه الأزقَّة الضيقة … ستجد رءوسًا تطل منها تنظر نحونا بين الحين والآخر.
أحمد: وما العمل؟ أنتوقف ونعود؟
بو عمير: لن نتوقف، سنكمل ودَع الأحداث تمر.
أحمد: هيا بنا … سندفع الصخرة دفعة واحدة حتى تتحرك.
أخذ الجميع يستجمعون كلَّ قوتهم ويدفعون الصخرة التي تتحرك شيئًا فشيئًا لتترك تحتها فتحة عميقة داخل الأرض … ثم استمر الشياطين يحركونها حتى ظهرَت درجاتٌ لسُلَّم صغير على جانب الفتحة …
رفع «أحمد» بصره ونظر إليهم ثم قال: أيديكم فوق مسدساتكم حتى أعود.