صراع في الظلام!
هبط «أحمد» درجات السُّلم، كانت الرائحة تحت الأرض كريهة ونفاذة، وكلما هبط ازدادت الظلمة، لكن فجأة اصطدمَت قدمُه بالأرض ووجد شيئًا يتلوَّى تحت قدمه وفي سرعة أخرج مسدسه والبطارية باليد الأخرى ثم وجَّهها تحت قدمه … فزع «أحمد» حين رأى المنظر، إنها حية ضخمة تتلوى وتحاول أن ترفع رأسها لتقتله، ارتعد «أحمد» من رؤيتها ولكنه في سرعة البرق كان قد سدد إلى رأسها طلقة صائبة جعلَتها تهوي إلى الأرض خامدة.
أدار «أحمد» ضوء البطارية في المكان، فوجد شيئًا أسود اللون بارزًا في ناحية، انحنى في حذر واقترب منه وحرَّكه بقدمه … لم يكن هذا الشيء سوى الحقيبة التي جاءوا من أجلها … قبض «أحمد» على الحقيبة وأزاح ما عليها من تراب ثم حملها واستدار إلى السُّلم ليصعد إلى الشياطين.
خرج «أحمد» برأسه والعرق يتصبَّب منه، وقال: بعض الهواء أكاد أختنق.
بو عمير: اصعد … لقد أخذتَ وقتًا طويلًا.
أحمد: لقد كدتُ أموت … حية ضخمة في حجم رقبة الجمل هاجمتني لولا أنني تصرفتُ بمنتهى السرعة لكان لي شأنٌ آخر الآن … اقترِبوا قليلًا حتى أخرج بالحقيبة.
خرج «أحمد» من الهُوَّة السحيقة وكلُّه عرقٌ يتصبَّب وتراب ومعه الحقيبة … ولكنه ما كاد يقف على قدميه حتى كان المكان محاطًا بعدد كبير من الرجال. لقد برزوا من الأزقة والحارات الضيقة وبدءوا يتحركون تجاه الشياطين في هدوء ومن كل الاتجاهات.
شعر الشياطين بأن «كماشة» قوية قد أحكمَت عليهم، عشرة رجال في مقابل أربعة … تمتم «أحمد»: إنها معادلة صعبة … ولكن لا مفرَّ.
اقترب أحد الرجال العشرة وفي يده مسدس، وقال ﻟ «أحمد»: ألقوا أسلحتكم. وناولني الحقيبة. أخرج الشياطين مسدساتهم وألقوا بها قريبًا من أرجلهم … أشار الرجل إلى أحد أفراد العصابة وقال له: هات المسدسات.
كان هناك رجل آخر يقف وراء هذا الرجل يحمل بندقية … نظر «أحمد» إلى بقية رجال العصابة فلم يجد أحدًا معه سلاح … إلا هذين الرجلين، لكنه لم يكن واثقًا أن بقية الأفراد لا يحملون أسلحة … كان الرجل الذي يُمسك بالمسدس يقترب من «أحمد» ليأخذ الحقيبة … بينما تحرك الآخر ليأخذ المسدسات من تحت أرجلهم … نظر «أحمد» إلى الشياطين الثلاثة وعلى الفور فَهِم الثلاثة ما يريده «أحمد»، إن أفكارهم تنتقل بالنظرات … إنهم متفاهمون في كل شيء وعلى أي شيء.
مدَّ «أحمد» يده بالحقيبة إلى الرجل ومدَّ الرجل يده ليأخذها، لكن ساق «أحمد» كانت من السرعة بحيث أطارَت المسدس من يده ثم لفَّ «أحمد» يده حول الرجل في ثانية في نفس اللحظة كان «بو عمير» قد ضرب الرجل الثاني ضربة قوية قبل أن تمتدَّ يدُه إلى أول مسدس.
وفي سرعة البرق، كان باقي أفراد العصابة قد هجموا على الشياطين ودارَت المعركة الفاصلة؛ فرغم كثرة أفراد العصابة إلا أنهم لم تكن لديهم دراية بفن الكاراتيه والكونغو فو؛ فقد أعطاهم الشياطين درسًا لن ينسَوه طوال حياتهم، وأبرحوهم ضربًا حتى تكوَّموا على الأرض فاقدي الوعي.
نظر «أحمد» إلى الشياطين نظرة نشوة بالنصر ثم اقترح على الشياطين أن يقيدوهم بالحبال لكن لم تكن معهم حبال؛ فجردهم الشياطين من جلابيبهم ثم قيدوا أيديَهم إلى بعضها وراء ظهورهم، وطرحوهم عند الصخرة وعادوا إلى بقية الشياطين.
اتصل «أحمد» في المساء بالزعيم رقم «صفر» وأعطاه تقريرًا بما حدث، فأبلغه الزعيم بضرورة التحرك والوصول إلى مكان المخدرات قبل أن يتعقبَكم أفراد العصابتَين، ويقضوا عليكم قبل أن تصلوا إلى مكان المخدرات.
أحس الشياطين أنهم أمام لغز غامض. ما هذه العلامات؟ ماذا تعني على الشاطئ؟ وماذا تعني على الماء؟
أزاح «أحمد» الخريطة ثم دق بيده على المكتب، وأدار رأسه … ثم جذب الخريطة وطواها … لكنه تنبَّه إلى أن هناك علاماتٍ وخطوطًا على ظهر الخريطة، فقال: ما هذا؟
ثم أكمل: إنها حل اللغز الغامض … انظروا.
نظر «أحمد» والشياطين إلى العلامات والتوضيح الذي أمامها، وبدأ يقرأ بصوت مرتفع: العلامة على الشاطئ: «عمود» يحمل أسلاك التليفونات، والعلامات الثلاث: ثلاثة أعمدة مجتمعة في مستواها الرأسي بالبحر، وعلى بعد اثنين كيلو من الشاطئ «طابية عرابي» التي غمرَتها وطفَت عليها أمواج البحر، والبضاعة بالقرب من هذه الطابية في حدود مائتي متر.
أحس الشياطين بالسعادة؛ لأنهم أوشكوا على النهاية، وعرفوا سرَّ الصفقة ومكان البضاعة ولم يبقَ إلا ساعات قليلة وينتهي كلُّ شيء.
نظر «أحمد» إلى الشياطين، وقال: لا بد أن نتجهز من الآن … كيف سننزل البحر؟ وبأي كيفية؟
قام «أحمد» ورفع سماعة التليفون واتصل بصديقهم الضابط في منزله: أهلًا وسهلًا.
أحمد: نحن نأسف لهذا الإزعاج، ولكن هل يمكن أن ننزل البحر غدًا؟
الضابط: ولماذا؟
قال «أحمد»: لنرى السفينة.
قال الضابط: لقد تحطَّمت، ولم يبقَ فيها إلا هيكلُها تحت الماء.
أحمد: نريد أن نُلقيَ عليها نظرة أخيرة.
قال الضابط: وهو كذلك … سأجهز لكم مركبًا … ولا مشكلة بالنسبة للتصريح.
عاد الشياطين إلى البوغاز، ووجدوا مركبًا بخاريًّا صغيرًا ينتظرهم، وبه أحد الصيادين.
هبط الشياطين الأربعة إلى المركب، وبقيَ الأربعة الآخرون على الشاطئ … أدار الصياد «الماكينة» ثم انطلق المركب خارجًا من البوغاز … وبعد دقائق استقل الشياطين الأربعة الباقون «المعدية» إلى الشاطئ الآخر، ثم استقلوا «جرارًا» زراعيًّا، وانطلقوا إلى الغرب بجوار هذه العلامات حتى وصلوا إلى العلامة الثلاثية … نزل الشياطين من «الجرار» وواصل الجرارُ مسيرتَه، بينما قصد الشياطين العلامة الثلاثية. وقف الشياطين يتأملون الأعمدة الخشبية القديمة وهي تحمل الأسلاك التليفونية، ثم أخرج «فهد» منظارًا مكبرًا من الحقيبة الصغيرة ووضعه على عينَيه، وأدار عينَيه في المكان بحرًا وبرًّا، لكنه لم يجد شيئًا … كان المركب الذي يستقله «أحمد» و«بو عمير» و«خالد» و«قيس» لم يظهر بعد. ووجَّه «فهد» المنظار ناحية البوغاز، ثم قال: لقد ظهروا، وها هم في الطريق.
كانت الدقائق تمر … والمركب يقترب من المنطقة … حتى بدَا واضحًا فوق الأمواج. أخرج «أحمد» من الحقيبة منظارَه المكبر، ثم وضعه على عينيه ونظر إلى العلامة الثلاثية، وحدد خطَّ التعامد ثم قدَّر المسافة … وأشار للصياد أن يُلقيَ «الهلب».
نزل «أحمد» إلى «كابينة الموتور»، وخلع ملابسه، وارتدى ملابس الغوص، ثم أخرج من المركب حبلًا طويلًا وربط في طرفه حجرًا، وجعل يُرخي للحجر بعد أن ألقى به في الماء حتى استقر على الأرض ثم رفعه، وبدأ يقيس عمق الماء فوجده تسعة أمتار … وقف «أحمد» على جانب المركب وأمسك بيده طرفًا من الحبل السميك، وقال لهم: إذا جذبتُ الحبل مرة فأطيلوا الحبل لي، وإذا جذبتُه مرتين فهذا معناه أني انتهيتُ من مهمتي فارفعوا إلى أعلى.
ثم قفز «أحمد» وسرعان ما كان تحت الماء واختفى. اللحظات تمر صعبة … فكل لحظة تحت الماء كأنها عمر طويل … لقد هبط «أحمد» بعيدًا عن البضاعة قليلًا … لكنه سبَح إليها فوجدها معبأة في إطارات من الكاوتشوك. جذب «أحمد» الحبل جذبة فعَلِم بقية الشياطين أنه يحتاج إلى مدد، فأطالوا له الحبل. بدأ «أحمد» يربط الإطارات ببعضها، ثم جذب الحبل جذبتين … فلم يهتمَّ أحد … جذب «أحمد» الحبل جذبتَين مرة أخرى … لكنَّ أحدًا لم ينتبه له، فأمسك «أحمد» بالحبل، وجعل يستعين به في الصعود حتى إذا صعد على سطح الماء وجد حول المركبة ثلاثة مراكب أخرى لكنها كانت مشحونة بأفراد العصابة. غطس «أحمد» تحت الماء مرة أخرى وأخذ يسبح تحت الماء حتى وصل أسفل أحد المراكب فقطع حبل الهلب ثم سبح في خفاء وربط به «الرفاص» ربطًا محكمًا ثم رفع رأسه دون أن يراه أحد، ونظر إلى أقرب المركبَين الباقيَين ثم سبح ناحيته تحت الماء كالسمكة فصنع به نفس الصنيع. ثم عاد إلى المركب وصَعِد مع بقية الشياطين …
رفع المركب الثالث «الهلب» ثم اقترب من مركب الشياطين … بينما ظل المركبان الثانيان منطلقَين مع الأمواج تجاه الشاطئ، فلم يُفلحوا في تشغيل «الرفاص»؛ لأن «أحمد» قد شل حركتَهما.
اقترب المركب الثالث مشحونًا بأفراد العصابة، ونادى على الشياطين: أين البضاعة؟ هاتوا البضاعة وسنترككم تعودون سالمين.
فقال «أحمد»: أية بضاعة؟ نحن لا نعرف شيئًا.
فقال الرجل: أنتم تعرفون كلَّ شيء، وأعدكم وعد شرف … إذا أنتم سلمتمونا البضاعة سنترككم ترحلون في أمان.
كان «أحمد» يريد أن يُطيل معه الحوار حتى يقترب أكثر فأكثر فيستطيع الشياطين من قريب أن يتعاملوا معهم.
كان الرجل جادًّا في تهديده؛ فما إن اقترب من المركب حتى أطلق طلقة على مصباح على ظهر المركب، ثم قال: أمامكم خمس دقائق … وإلا فسيغرق المركب بكم.
أحس «أحمد» أن الخطر بهذه الصورة محدق بهم وعليهم التعامل فورًا قبل أن يتمكن الآخرون من فعل شيء … أشار «أحمد» إلى بقية الشياطين بعينَيه، ففهم الشياطين مراده، وزحفوا بسرعة على ظهر المركب، وأخذ كلٌّ منهم مكانًا مناسبًا لإطلاق النار.
تظاهر «أحمد» بأنه يخلع زيَّ الغوص، وفي لمح البرق كان قابضًا على مسدسه، وفي جزء من الثانية كانت طلقة قد استقرت في الرجل فاندفع إلى البحر، وسقط وتوالت بعد ذلك الطلقات من الجانبَين، لكن الشياطين أحسوا أن مركبهم يهوي إلى قاع البحر، بعدما أصابَته العصابة … في نفس اللحظة كان مركب العصابة قد اقترب حتى أوشك على الاصطدام بمركب الشياطين ظنًّا منهم أنهم أشرفوا على الهلاك بغرق مركبهم … لكن الشياطين في لحظات كانوا قد قفزوا إلى المركب الآخر في صيحة قوية كصيحة الأسود. أمسك «بو عمير» بإحدى السواري ثم قفز بقدمَيه دافعًا رجلَين إلى الماء في قوة.
بينما كان «أحمد» قد تعلَّق بحبل ثم اندفع إليهم كالصخرة، وهو ممسك بالحبل، فأطاح باثنين من فوق ظهر المركب.
كان الشياطين الأربعة الباقون يرقبون المعركة من فوق الشاطئ، وحين التفت «باسم» إلى الخلف وجد أفراد العصابة الأخرى قد جاءوهم من الخلف، وخرجوا من البوص القريب وبدءوا يقتربون من الشياطين … فتح «باسم» حقيبته وأخرج قنبلة يدوية … فسمع أحد أفراد العصابة يقول: ألقِ سلاحك وإلا قتلتك.
فقال «باسم»: نعم سأُلقيه فورًا.
ثم قذف بالقنبلة على أفراد العصابة وهو قادمون كسرب الجراد، فتناثرت الأجزاء في الهواء، وحدث انفجار ضخم هزَّ الشاطئَ كلَّه، وبدأ الغبار يسد الأفق.
في نفس اللحظة كان العديد من القوارب والزوارق تقترب من المراكب التي تقف في عرض البحر، بينما «أحمد» وبقية الشياطين منهمكون في ضرب أفراد العصابة كأنهم في تدريب.
كانت القوارب والزوارق قد حاصرت المكان … وقبض قائد الكتيبة وجنوده على بقية أفراد العصابة وفي نفس اللحظة كانت زوارق شرطة المسطحات المائية المطاطية قد طوَّقت المكان من ناحية البحيرة، وأمسكوا ببقية أفراد العصابة الأخرى، وذهب الشياطين الأربعة مع صديقهم «النورس الغريب» الذي كان يتابعهم من بعيد ويتدخل في الوقت المناسب، بينما كان «أحمد» مع قائد الكتيبة يرفعون المخدرات من الماء، ويضعونها في المركب والزوارق.
ثم نظر الرائد «عباس» إلى المقدم «يسري»، وقال له: الآن يا سيادة المقدم أدركتُ لماذا اختفى القبطان.