عاصفة … ووحش خرافي!
اكتظَّ رصيفُ ميناء «نيويورك» بعشرات السفن من كل الجنسيات وبحارتها وعمال الشحن الذين يعملون في تفريغها أو شحْنها … وفي أقصى طرف الميناء كانت تقف سفينةٌ صغيرة لا يزيد طولُها عن عشرين مترًا، ولم يكن يوجد حولها سوى عددٍ قليل من البحارة راحوا ينقلون إليها بعضَ الصناديق الكبيرة المغلقة جيدًا، والتي كان البحارة يحرصون أشدَّ الحرص في نقلها مستخدمين ونشًا كبيرًا، وقد بدَا على بحارة السفينة عدمُ الميل للاختلاط ببقية البحارة الآخرين بالميناء … وفي وقت قليل تم شحن السفينة، وبدا بحارتُها الستة يستعدون للإقلاع بها.
ولم يستغرق دخولُ السفينة للميناء الكبير وشحنُها ومغادرتها للميناء سوى ثلاث ساعات فقط. لم يتبادل خلالها بحارتُها الحديثَ مع أيِّ مخلوق كان بالميناء.
وكانت هذه هي خطة الشياطين الستة … فقد كانوا موقنين أن هناك عيونًا ترقبهم من طرف خفي … وتأكَّد هذا الإحساسُ لديهم عندما حاول بعضُ البحارة التسكعَ أمام السفينة ومحاولة استكشاف ما تحويه صناديقُها، وتجاذبَ أطرافَ الحديث مع الشياطين الستة الذين ارتدوا زيَّ البحارة؛ فحتى «زبيدة» و«إلهام» أخفيتَا شعرهما الطويل تحت كاسكيت، وتظاهرتَا أمام الجميع بالعمل تمامًا كما يفعل البحارة المخضرمون …
وعندما أبحرت السفينة أخيرًا التفتَ «أحمد» باسمًا إلى «إلهام»، وقال: لقد أجدتي أداءَ دورك.
ضحكَت «إلهام» وقالت: مَن يراني لن يشكَّ لحظةً أني فتاة … إن عمل البحارة شاقٌّ جدًّا.
ضحك «عثمان» قائلًا: لا أظن أن هذا سيكون رأيَكِ عندما تواجهين الديناصور البحري … فالمشقة ستأتي فيما بعد. وتساءلَت «زبيدة» بعينَين واسعتَين: أتظنون أنه سيهاجمنا؟!
ردَّ «أحمد» باسمًا: هذا مؤكد … وإلا فماذا كانت تفعل كلُّ تلك العيون الفضولية التي حاصرَتْنا بنظراتها في الميناء الكبير؟! من المؤكد أن للديناصور عيونًا عديدة في الميناء.
قال «خالد» بحيرة: إنني لا أكاد أصدِّق أننا بدأنا هذه المهمة الجنونية … إن عقلي لا يستسيغ هذا الأمرَ حتى الآن!
هزَّ «أحمد» كتفَيه قائلًا: ربما يفسر لنا الديناصور الأمرَ عندما يتكرم بمقابلتنا.
انفجر بقيةُ الشياطين ضاحكين، وشرع كلٌّ منهم يؤدي عمله في السفينة الصغيرة التي رُصَّت بالصناديق متجهةً بأقصى سرعتها إلى نقطة الموت في قلب المحيط.
وكانت خطة رقم «صفر» هي أن يتظاهر الشياطين بأنهم يحملون شحنةً هامة من قِطَع الغيار ثم تسرَّبَت أنباءٌ عنها إلى بعض المصادر في الميناء، ومن الجهة الأخرى بالغ الشياطين في التظاهر بسرية حمولتهم وعدم حديثهم مع أحد حتى تزدادَ الريبةُ في الحمولة.
وانقضَت ساعات وهبط الليل على المحيط، وراحَت «إلهام» تُراقب شاشةً إلكترونية صغيرة أمامها والتفتَت إلى «أحمد» قائلةً: ليس هناك أيُّ أثرٍ لهذا الديناصور وإلا لظهر فوق شاشة الرادار.
أحمد: هذا لأننا لم نبلغ مكانه بعدُ … ما زال أمامنا بضعُ ساعات أخرى.
وساد شيءٌ من التوتر على وجه «إلهام» فسألها «أحمد» برفق: أتخشين من المواجهة مع هذا الحيوان البحري الهائل؟ إن لدينا أسلحةً كفيلة بنسفِه إلى شظايا صغيرة …
قالت إلهام: لا أخشى المواجهة … إن ما أخشاه المفاجأة فقط.
ضحك «أحمد» قائلًا: في هذه الحالة فمن الأفضل لنا الهرب، وأظن أن غواصتنا الصغيرة المثبتة في قاعة السفينة ستحلُّ مشكلتنا مع ذلك الحيوان الخرافي.
قالَت «إلهام» بحسم: ليس من عادة الشياطين الهرب من أيِّ خطر مهما كان.
ردَّ «أحمد» بغموض: ولماذا لا؟! إن الهرب أحيانًا يكون خطة تكتيكية لا بد منها وضرورة قصوى. ولم يُكمل أكثر من ذلك؛ فإن تعليمات رقم «صفر» كانت واضحةً بالنسبة له، وكان هو الوحيد بين مجموعة الشياطين الستة على ظهر السفينة الذي يعرف أن هناك سفينة أخرى كانت تشحن في ميناء «نيويورك» بأجهزة إلكترونية ثمينة جدًّا وفي سرية بالغة؛ لتعويض السفينة الأولى التي أغرقها الديناصور البحري على حين تظهر سفينتُهم كطعم لتصطادَ الديناصور الرهيب … أو يصطادهم هو … كما كانت تعليماتُ رقم «صفر» واضحةً تمامًا وتنص على معرفة حقيقة الديناصور ومَن يقف وراءه أيًّا كانت المخاطر التي يتعرض لها الشياطين.
والتفت «عثمان» الذي كان يُدير دفة السفينة إلى «أحمد» بقلق، وقال: هناك عاصفة في الطريق. وأشار إلى سحابة سوداء كبيرة قادمة باتجاههم تُنذر بعاصفة شديدة، فغمغم «أحمد» بقلق: لم يكن ينقصنا إلا هذا!
ولم يستغرق الأمر طويلًا … فسرعان ما اربدَّ سطحُ المحيط وهبَّت الرياح عنيفةً عاصفة تكاد تقتلع الشياطين من مكانهم فوق سطح السفينة فخفضوا سرعةَ السفينة لأقصى حدٍّ، وتشبَّثوا بأقرب الأشياء حولهم، وراحَت الأمواج العنيفة تلطم جدران السفينة بقسوة وتعلو حواجزها لتصطدم بأجساد الشياطين، وهطل المطر كالسيل، وراح البرق والرعد يدويان في السماء بعصفٍ وهدير شديدَين، وأخذت السفينة تتأرجح كريشةٍ في مهبِّ عاصفة، فصرخ «أحمد» في الشياطين يطلب منهم أن يتماسكوا بقوة.
ولكن فجأة تدحرج أحدُ الصناديق الضخمة … وكان محمَّلًا بالحجارة … واندفع نحو «إلهام» بغتةً بفعل الرياح العاصفة فصرخ بها «أحمد» محذِّرًا، ولكنَّ صرختَه جاءَت متأخرةً قليلًا؛ فقد اندفع الصندوق كالقذيفة نحو «إلهام» التي قفزت مبتعدةً عن مساره في آخر لحظة، ولكن الصندوق دفعها بحافته في قوة فاختلت ذراع «إلهام» التي كانت تُمسك بالحبال في قوة وتدحرجَت في عنفٍ فوق سطح السفينة، وقبل أن تعتدلَ أو تحاولَ استعادةَ توازنها صَعِدَت إلى سطح السفينة موجةٌ هائلة فرفعَت «إلهام» من سطح السفينة وألقَتها في قلب المحيط وسط العاصفة الرهيبة …
حدث ذلك كلُّه في ثانيتَين أو ثلاثة، وصرخ «أحمد» ولكن صرخته ضاعَت وسط هدير العاصفة، وبلا وعيٍ انقضَّ «أحمد» كالمجنون وألقى بنفسه في المحيط خلف «إلهام» … بينما بقيَ الشياطين الأربعة في أماكنهم فوق السفينة ذاهلين.
راح «أحمد» يَسْبح بقوة باتجاه «إلهام»، ولكن الموج الصاخب حمله وألقاه بعيدًا في عنف، وجاهد محاولًا بلوغَ نقطته الأولى، والموج يحاول أن يجذبه لأسفل بوحشية.
وجُنَّ جنون «أحمد» وبذلَ جهدًا مستميتًا … وراح يصارع الأمواج وهو يصرخ باسم «إلهام» فلم يجاوبه أيُّ صوت … وأدرك أنه يخوض معركة مستحيلة ضد الطبيعة، وعلى الفور غاص لأسفل مسافة عشرة أمتار وقد حبس أنفاسه وفتح عينَيه محاولًا العثورَ على «إلهام».
ولمح عن بُعدٍ تموجاتٍ في سطح الماء كأنها قدمان تتخبطان، وعلى الفور اندفع عائمًا نحو التموجات … وكانت «إلهام» بالفعل تُصارع الموج الشديد محاولةً الابتعاد عن طرف دوامة هائلة على يسارها … وكادت قوى «إلهام» تخور فصرخ بها «أحمد» يطلب منها التماسك، واندفع نحوها بقوة فتعلَّقَت برقبته بعد أن كادَت تنهار وتترك نفسها للدوامة الرهيبة. وأخذ «أحمد» يسبح بقوة وعنف مبتعدًا عن الدوامة … ولكنَّ الموجَ القويَّ كان يلطمه في عنف، وفجأة سقط فوقه شيء، فرفع عينَيه وشاهد حبلًا قويًّا قد ألقاه «عثمان» من على ظهر السفينة برغم الظلام المحيط بالمكان، وتشبَّث «أحمد» بالحبل في قوة، وأخذ «عثمان» و«خالد» يسحبان الحبل المعلَّق به «أحمد» و«إلهام» على حين أمسك «رشيد» و«زبيدة» ﺑ «عثمان» و«خالد» حتى لا تقذفَ بهما العاصفة من فوق ظهر السفينة … وأخيرًا لامسَت أيدي «إلهام» و«أحمد» حافةَ السفينة وقفزَا داخلها وتمدَّدَا فوق سطحها خائرَي القوة، ولمعَت دموعُ الفرحة في عيون بقية الشياطين، وحمدوا الله على نجاة «أحمد» و«إلهام»!
وبدأت العاصفة تهدأ قليلًا مع ظهور الفجر، وما لبث المحيط أن سكن تمامًا وعاد إليه هدوءُه مع شروق الشمس بعد ليلةٍ لم يعرف فيها الشياطين طعمًا للنوم …
وأخذ الشياطين ينزحون الماء المتجمِّع فوق سطح السفينة إلى قلب المحيط، ويقذفون بالصناديق التي تحطَّمَت من العاصفة ويُلقون بالأحجار التي تناثرَت منها والأخشاب المحطَّمة إلى قلب الماء، وعند الظهر كانوا قد نظَّفوا قلب السفينة تمامًا ونال التعبُ منهم بشدة …
وتحسَّسَت «إلهام» بوهنٍ ساقَها التي أُصيبَت إصابةً طفيفة من اصطدام الصندوق بها … وقالت وآثار الإرهاق الشديد باديةٌ عليها: سأذهب لأغفوَ قليلًا حتى أستعيدَ نشاطي.
وقبل أن تستديرَ هابطةً إلى قلب السفينة جاء صوتُ «أحمد» يقول: لا أظن أن أحدًا منَّا يستطيع الحصول على راحة الآن.
التفتَت «إلهام» بدهشة! وحدَّقَت عيونُ باقي الشياطين ﺑ «أحمد» الذي أشار إلى نقطة صغيرة ظهرَت على الشاشة الإلكترونية بسطح السفينة أمامه، وقال: يبدو أننا نقترب من هدفنا … أو يقترب هو منَّا! وأدرك الشياطين ما يعنيه «أحمد» تمامًا … وفي سرعة البرق امتدَّت أيديهم لتُخرج أسلحتَهم من مخابئها ويقفون بها متأهبين وقلوبهم تدقُّ بشدة … ولم يَطُل انتظارهم، وسرعان ما كان يشقُّ قلبَ المحيط على يسار السفينة مخلوقٌ خرافي هائل الحجم، كان منظرُه كفيلًا بإصابة مَن يراه بسكتة قلبية تقضي عليه فورًا.