مفاجآت عديدة!
اقتاد الحراس الشياطين الستة إلى داخل المبنى الأبيض المتسع … وساروا بهم في ردهة طويلة مضاءة، وقد أحاط بهم الحراس المسلحون من كل جانب …
وانتهى الأمر بوضع الشياطين داخل زنزانة متسعة، حوائطها من الصلب لا نوافذ ولا أبواب بها عدا مدخلها المصفح، والذي كان يقوم على حراسته من الخارج أربعةٌ من الحراس الأشداء بمدافع رشاشة، وهتف «عثمان» غاضبًا في «أحمد»: كيف تركتَنا نستسلم هكذا دون قتال؟!
أشار «أحمد» ﻟ «عثمان» أن ينتبه؛ فربما كانت هناك ميكروفونات تنقل أحاديثهم إلى الخارج، وبلغة الأصابع أجاب «أحمد»: لقد توقعتُ وقوعَنا في الأَسْر على الجزيرة؛ لذلك لم أشَأْ أن ندخلَها حاملين أسلحة حتى لا تُكتشفَ حقيقتُنا، كما أن أيَّ أسلحة لن تكون ذات جدوى؛ لأننا نجهل طبيعة تلك الجزيرة وسيسهل على حرَّاسِها اقتناصنا، أما بدون أسلحة فإن الحراس لن يبادرونا بالهجوم وإطلاق الرصاص وهو ما حدث.
تساءَل «عثمان» بنفس اللغة: إذن فقد كنت تتوقع وقوعَنا في الأَسْر فوق الجزيرة؟
ردَّ «أحمد»: هذا بديهي.
هتفَت «زبيدة» متسائلة بعينَين واسعتين: ولماذا يا «أحمد» لم تحتَط لذلك؟!
لم يردَّ «أحمد» مباشرةً، وانفتحَت الزنزانة وظهر في مدخلها بعضُ الحراس اقتادوا «عثمان» وحده إلى مكان مجهول … ثم عادوا ليسوقوا الشياطين واحدًا بعد الآخر لوضعهم في زنزانات منفردة بعد تفتيشهم والحصول على ما معهم من أسلحة.
وخضع «أحمد» لتفتيش الحراس بصمت واستيلائهم على أسلحته وجهاز الإرسال والاستقبال الصغير. أما «عثمان» فما كاد باب زنزانته يُغلَق عليه حتى ثارَت ثائرتُه وأخذ يدقُّ باب الزنزانة بقبضته في غضب وانفتح باب زنزانته، وما كاد أحد حراسها يخطو داخلًا حتى انطلقَت قدمُ «عثمان» كالقذيفة نحوه فاندفع الحارس إلى الخلف كالقذيفة واصطدم بالحائط، وقبل أن يُفيقَ زميله عاجلَه «عثمان» بضربة من «بطة» فاختلطَت المرئيات أمام الحارس، وكانت ضربة من قبضة «عثمان» كفيلةً بأن تُسقطَه بجوار زميله.
وقفز «عثمان» خارجَ زنزانته، ولكن وقبل أن يخطوَ خطوةً واحدة خارجًا أصابَته من الخلف ضربةٌ قوية فوق رأسه فغامَت الدنيا في عينَيه وسقط فاقدَ الوعي … وسحبه بقيةُ الحراس وألقَوه في زنزانته وأغلقوها مرة أخرى …
مضَت ساعتان منذ أن تمَّ أَسْر الشياطين، وأحسَّ «أحمد» ببعض اللوم لأنه لم يُخبر بقيةَ زملائه بخطته قبل تنفيذها؛ فقد كان يريد التعرف على كل كبيرة وصغيرة … داخل الجزيرة، ومعرفة مَن يسيطر عليها وهدفهم وجهة تمويلهم، فكان هذا صعبًا إذا ما اشتبك الشياطين مع هؤلاء الأشخاص في معركة، أما عند وقوعهم في الأسر فإن هؤلاء الأشخاص لا بد وأنهم سيُفاخرون أمام الشياطين بما قاموا به من عمل …
وكان «أحمد» يعلم تمامَ العلم أن بقية زملائه لو علموا بخطته لرفضوا الاستسلام بسهولة وبلا معركة؛ ولذلك أصرَّ أن يحتفظَ بخطته لنفسه … ولكنه في تلك اللحظة شعر بشيء من الندم لعدم إطلاعهم مسبقًا بما كان ينوي.
انفتح باب زنزانة «أحمد» وظهر ثلاثة حراس في مدخلها شاهرين مدافعهم الرشاشة، وأشار أحدهم ﻟ «أحمد» أن يتبعهم في صمت، وأخذ الجميع يسيرون في ممرات طويلة مضاءة … جاهد «أحمد» حتى تنطبع صورتها في ذهنه …
وانتهى بهم السير إلى نهاية ممر ضيق ضغط أحد الحراس على زرٍّ في الحائط فانفتح الباب أمامه فدخلوا منه، ووجد «أحمد» نفسه في قاعة متسعة فاخرة الأثاث، وقد جُهِّز ركنٌ بها بأجهزة إلكترونية دقيقة تعلوها شاشات تليفزيونية يظهر فوقها الوحش الآلي. وقد انهمك أحدُ الأشخاص وهو ذو شعرٍ بنيٍّ غامق وجسد عريض قوي يرتدي بنطلونًا وفانلة كشفَت عن حجم عضلاته الهائلة … في تحريك بعض الأزرار بالأجهزة الإلكترونية فيتحرك الوحش الآلي تبعًا لحركة الأزرار، وراقب «أحمد» حركة أصابع الرجل صمتًا … واستدار ذلك الشخصُ أخيرًا نحو «أحمد» فوجده ذا ملامحَ غليظة؛ وجهٍ عريض وفكٍّ ضخم، وأنفٍ مستطيل، وجبهةٍ بارزة، وعينَين جاحظتَين للأمام، وراح ذلك الرجل يحدِّق في «أحمد» ثم ارتسمَت ابتسامةٌ كريهة فوق وجهِه كشفَت عن صفِّ أسنانه، وأشار إلى الحراس فغادروا القاعة على الفور وانغلق الباب خلفهم، وإن كان «أحمد» واثقًا أنهم يقفون خارج القاعة على أهبة الاستعداد للتدخل في أية لحظة …
أشعل الرجل الغليظ الملامح سيجارًا وهو يقول ﻟ «أحمد»: إنني «جوتو» وهم هنا يدعونني ﺑ «جوتو الغليظ» … وبنظرة خبيثة أكمل: إنني لم أنعم بمعرفتك بعد …
ردَّ «أحمد» بهدوء وبلغة إنجليزية بلهجة أمريكية: إنني أدعى «جاك» … ويُطلقون عليَّ «جاك النطاط»؛ لأنني لا أستقر فوق سفينة أو باخرة أو ميناء. أعشق البحر والسفر … و… رفع «جوتو» يدَه بإشارةٍ أوقفَت «أحمد»، وبهدوءٍ ضغط فوق زرٍّ تحت شاشة أخرى على يساره فظهرت فوق الشاشة «إلهام» و«زبيدة» وهما جالستان مقيدتان داخل زنزانتهما، وقد انطلق تيارٌ ساخن من كلِّ أنحاء الحجرة، وبدَا على الفتاتَين التألُّمُ الشديدُ لدرجة الحرارة التي لا تُطاق.
تقلَّصَت ملامح «أحمد»، وجاهد محاولًا كبْتَ غضبِه، فقال بصوت هادئ: لا أدري المعنى من ذلك كله … إننا لسنا سوى مجموعة من البحارة هاجم وحشٌ بحريٌّ سفينتنا فحطَّمها، وسبحنا حتى استطعنا الوصول إلى هذه الجزيرة بعد مشقة …
رمق «جوتو» «أحمد» بعينَيه الجاحظتَين وقال بصوت أجش غليظ: أترغب في التفاهم الحقيقي أم أنك ستستمر في أكاذيبك كما فعل بقيةُ رفاقك … في هذه الحالة فإنني سأضطر إلى أن أجعلك تُواجه نفسَ ما يواجهون.
ردَّ «أحمد» بهدوء: لن تحصل على أيِّ شيء آخر يا سيدي؛ لأن ما ذكرتُه لك هو الحقيقة.
جوتو: لم أكن أعرف أن مهنة البحارة صارَت تستهوي الفتيات! إن مجموعتكم تضمُّ فتاتَين!
أحمد: وما المانع؟ إن إحداهن خطيبتي، والأخرى خطيبة زميل آخر.
جوتو: وحتى لو سلَّمنا بذلك … فأكاد أقول إنه من المستحيل عليكم سباحة ما لا يقل عن مائة كيلومتر من موقع سفينتكم المحطمة … لتصلوا هنا خلال ساعتين فقط!
لم ينطق «أحمد» … كانت تلك نقطة ضعف في روايته …
وابتسم «جوتو» ابتسامةً خبيثة وأكمل: هذا إلى أننا لسنا بالغباء الذي تظنونه … لقد كنَّا نعلم أنكم آتون؛ ولذلك انتظرناكم … أما غواصتكم فقد صارت في قبضتنا …
دقَّ قلبُ «أحمد» بعنف وهو يرمق «جوتو» بتساؤل، تُرَى هل كان ما ينطق به هو الحقيقة، وأنهم استولوا فعلًا على الغواصة أم أنه يُناور لحثِّ «أحمد» على الاعتراف؟
وقرر «أحمد» أن يمضيَ في خطته، فقال: لا أدري عمَّا تتحدث يا سيدي …
قال «جوتو» وهو يزفر دخان سيجاره: في الحقيقة كانت خطتكم بارعة، ولم نكتشف حقيقتَها إلا بعد أن دمر «توكي» سفينتكم … ولا بد أنك خمنت أن توكي هو وحشنا الآلي …
أحمد: عن أية خدعة تتحدث؟
جوتو: عن الصناديق المليئة بالحجارة … إنني حقيقةً أسجِّل إعجابي بمهارتكم؛ فمَن كان يرصدكم في ميناء «نيويورك» لم يخالجه أدنى شك في أن حمولتكم على درجة عالية من الأهمية والسرية، هذا بالإضافة إلى المعلومات السرية التي سربتموها بذكاء عن حمولتكم الثمينة … ولستُ أشك في أن سفينةً أخرى كانت تنقلُ حمولةً هائلة قد غادرت الميناء بدون أن تلفت انتباهَ أحد … وكنتم أنتم بمثابة الطُّعم الذي قصدتم أن يشتبك بصِنَّارتنا.
لم يردَّ «أحمد»، وعرَف أن موقفهم مكشوف جدًّا … ومن الأفضل له الصمت والاستماع إلى نهاية الحديث …
جوتو: في الحقيقة إننا اندهشنا لمغامرة بلادكم العربية بإرسال شحنة ثالثة بعد ما حدث للشحنتَين الأوليَين، وأرسلنا «توكي» ليحصل على الشحنة ويأتينا بها كالمعتاد …
اندهش «أحمد»، وقال «جوتو» باسمًا: أتظنُّ أننا كنَّا نضحِّي بالشحنة الثمينة لكل سفينة نُغرقها؟ لا … إن الشحنة الأولى يصل ثمنُها إلى عشرات الملايين، فكان لا بد من إنقاذها بعد تحطيم السفينة، وكان توكي يقوم بهذه المهمة خيرَ قيام، وبواسطة شبكة ضخمة من الصلب فإنه ينقذ الشحنة من الغرق ويسحبها خلفه إلى هنا حيث نضعها في مخازننا … ولكنه هذه المرة لم يجد سوى الحجارة، وكان لا بد لنا أن نشكَّ بعدها في المسألة كلها، خاصةً عندما هاجمتم «توكي» بالمدافع الرشاشة وصواريخ البازوكا … ولقد شاهدنا المعركة بالكامل، فإن «توكي» يمتلك أجهزةَ إرسالٍ واستقبال وبثٍّ تليفزيوني عالي القوة … وهكذا انتظرناكم وتحقَّقَت ظنونُنا.
قال «أحمد» بهدوء: لستُ أدري عمَّا تتحدث يا سيدي …
واصل «جوتو» كأنه لم يستمع إلى عبارة «أحمد»، وقال: إن هذا المشروع تكلَّف عشرات الملايين من الدولارات وقد عوضناها بحصولنا على الشحنتين، وسوف نُعيد بيعها في أماكن أخرى بعد أيام عندما يتناسَى الناس ما حدث لسفينتَي الشحن، وبذلك نعوض ما أنفقناه على مشروعنا، والأهم من ذلك أننا منعنا وصولَ هاتين الشحنتَين الثمينتَين إلى بلادكم … فمن المؤكد أنهما كانتَا ستخلَّان بموازين القوى في المنطقة لصالح بلادكم … وهذا ما لا نسمح به أبدًا … وقد أنفقنا مئاتِ الملايين في سبيل عدم تحققه … وها نحن نسترد ملاييننا بمنتهى السهولة من بضائعكم وشحناتكم …
وارتسمَت ابتسامةٌ ساخرة فوق الوجه القبيح، وأحسَّ «أحمد» أن الدماء تغلي في عروقه، ولكن ملامحه لم تكشف أيَّ مشاعر.
وحدَّق «جوتو» في «أحمد» بعينَيه المفزعتَين وقال له: ألَا زلتَ مصرًّا على أنكم مجموعةٌ من البحارة بعد كلِّ ما أخبرتُك عنه؟
ردَّ «أحمد» باحتقار: ليس لديَّ من كلمات سوى أنكم مجموعةٌ من اللصوص والمخادعين.
ضحك «جوتو» قائلًا: ومَن قال غير ذلك؟! إن الحرب خدعة يا صديقي … وإن كانت ظروفنا لا تسمح لنا بشنِّ حرب علنية ضدكم؛ فإن هناك آلافًا من الحروب غير المعلنة والتي نسعى لكسبها … ورفع أصبعًا غليظة وهو يُشير ﻟ «أحمد» قائلًا: سوف تمكث مجموعتُكم قليلًا في ضيافتنا؛ فلستُ أشكُّ في أن لكم بقية سوف تأتي لمساعدتكم، وسيسرُّنا أن نقتنصَ هذه البقية مثلما اقتنصناكم … وإلى هذا الحين فلا بد أن نُكرم وفادتكم … بأساليبنا الخاصة …
وضغط فوق زرٍّ بجهاز صغير بجانبه فانفتح الباب واندفع مجموعة من الحراس أحاطوا ﺑ «أحمد» شاهرين أسلحتهم، واقتادوا «أحمد» إلى حجرة صغيرة تُجاور القاعة، ولم يكن بها سوى مقعد كبير من الصلب في منتصف الحجرة تخرج من مقبضَيه أسلاكٌ عديدة … وأجلس الحراس «أحمد» وقيَّدوا يدَيه وقدمَيه بقيود من الصلب تتصل بذراعَي وساقَي المقعد، ومدُّوا الأسلاك الكهربائية حول ذراعَي وساقَي «أحمد» …
وأمسك «جوتو» بعجلة معدنية صغيرة يعلوها مؤشر، وأدار العجلة ببطء فأحسَّ «أحمد» بتيار خفيف من الكهرباء يسري في جسده … ومع استدارة العجلة ببطء وحركة المؤشر بدأ التيار الكهربي يقوى فأحس «أحمد» كأنَّ هناك صاعقةً أصابَته وأخذ جسده يرتجف بشدة، ولكنه كبت ألمَه وجزَّ على أسنانه حتى لا تصدرَ منه آهةُ ألمٍ أو صرخة … والتمعَت حبات العرق فوق جبهته وهو يتحمل ما لا طاقة لبشر على تحمُّلِه، وقد تقلَّصَت كلُّ عضلاته فصارَت مثل قطعة من الصلب … وقهقه «جوتو» ساخرًا وهو يقول: لنرَ إلى أيِّ مدى يتحمل جسدُك هذه الكهرباء.
وزاد من قوة التيار المار في الأسلاك حول جسد «أحمد» الذي انتفض بقوة وشهق بصوتٍ عالٍ، ثم مالَت رأسُه على المقعد …
وعلى الفور أوقف «جوتو» سريان الكهرباء، ومال نحو «أحمد» يتحسَّس نبضَه فوجدَه ضعيفًا خافتًا، فقال: إنه لا يزال حيًّا … ألقوه في زنزانته وسيُفيق بعد ساعات …
حمل الحراس قيودَ «أحمد»، وحمله أحدهم فوق كتفه متجهًا به إلى زنزانته …
وقال «جوتو» في سخرية وهو يشاهد «أحمد» الفاقد الوعي فوق كتف الحارس: سوف تكون الحفلة رائعة عندما أشحنهم جميعًا بتيار يصعق فيلًا لو لمسه … ومن المؤكد أن جهات الأمن العربية ستفكر بعدها ألف مرة قبل أن تغامر بإرسال أحد خلفنا مرة أخرى!