الفصل السادس عشر
لقد اختفت الملامح العاطفية تمامًا من عشق ستسكو، وكذلك ملامح الشاعرية التي تكوِّن منبعًا لسرورها كامرأة. لقد فقدت كذلك ما يصبغه العشق من ظلال وبهجة على أجزاء من حياتها. تسلطت أشعة الشمس الساطعة المتلألئة بوضوح على كل شيء وملأتها بحوافَّ جلية واضحة لحد الرعب. لقد شعرت أنه لا يوجد شيء أكثر من بشاعة أشعة الشمس المضيئة في نهار يوم خريفي من تلك الأيام الأخيرة. تفوح الروائح والألوان وتتطاير. كانت مشاعرها تستعطف وتستجدي بلا توقف مثل مريض بلغ به الجوع مداه.
كانت تحاول النظر حولها باحثة عن مكان يمكن أن يستكين فيه قلبها ويرتاح، ثم وجدت مكانًا شبيهًا بذلك؛ حفلات الخريف الاجتماعية المتنوعة. يوجد حفل الحدائق الترفيهي حيث يتم إضاءة المشاعل ليلًا وإقامة ما يشبه المحلات التجارية في أرجاء الحديقة. توجد كذلك حفلات الرقص، ومآدب الطعام، وتوجد دعوات لعروض مسرحية، وتأتيها أيضًا دعوات متنوعة حتى داخل إطار علاقات أسرة والديها، ولكن عندما جرَّبت وذهبت لمرة واحدة فقط، عرَفت أنها إذا لم تذهب مع تسوتشيا؛ فلن تجد المتعة أينما تذهب.
بدأت ملامح وجه ستسكو الوافرة التعبير التي تقترب من ملامح الأطفال، تتشوَّه تدريجيًّا وبدت كما لو كانت تتحول إلى الجمود، والآن اختفت على الأغلب البراءة التي تتميز بها. ربما كان نسيانها صفة النفاق التي تميزها وأن أصبحَت مخلصة أكثر من اللازم في كل الأمور على العكس؛ هو سبب اختفاء تلك البراءة في الظل، وهي التي كانت تبدو وكأنها الأكثر إشعاعًا داخل الشهوانية.
أخيرًا لجأت ستسكو إلى الموسيقى لتنقذها، فذهبت بمفردها إلى حفل عزف موسيقي لعازف مشهور جاء لزيارة اليابان في ذلك الوقت، ولكنها بعد أن فعلت ذلك اندهشت رغم مرور كل هذا الوقت من قحط قوة الخيال لديها. فلم يَنسَب الصوت ولو قليلًا داخلها، بل كان ينغرز كالأشواك في الأذن كما لو كان قطعًا من الزجاج، فلم تحصل على راحة القلب داخل الموسيقى، بل على العكس دفعتها الموسيقى بعيدًا محاولةً إرجاعها بقوة شديدة إلى القلق وعدم الأمان خارج عالم الموسيقى. أحيانًا ما تنساب بتلقائية قطعة موسيقية جميلة لترسَخ في القلب، ولكن ذلك لم يواسِها، ولكنه جعل أكثر ذكريات لديها والتي ترغب في عدم تذكرها هي التي تتدفق، بالضبط مثل الكلمات المعسولة المليئة بالسموم التي تظل تغازل الأذن دائمًا.
صارت ستسكو تشعر بالوحدة، رغم حبها ورغم أنها كانت تعتقد بترابط جسدها مع جسد تسوتشيا بعمق أكثر من أي وقت مضى. كانت وحدة واضحة جلية حقًّا؛ الوحدة التي من الطبيعي أن تشعر بها لو سارت في العلن وفي وضح النهار عارية تمامًا ولا تجد مكانًا تختفي فيه. تشعر أنه حتى المخابئ، والاستراحات، والزوايا الدافئة التي يستطيع فيها القلب الراحة … تشعر أن كل تلك الأماكن قد انعدمت تمامًا من العالم.
ماذا عن كيكو؟ لقد أعطت ستسكو بالفعل لكيكو دور تأنيبها بالصمت. ربما كانت تلك لعبة ستسكو الخيالية بمفردها، ولكن هذه الأم الواقعة في براثن الوحدة كانت على الدوام تشتكي ذلك لطفلها بعينيها، حتى لو كان حديثها معه عن الحضانة، أو عن حديقة الحيوانات.
«يا كيكو! هل تغفر لوالدتك؟»
كان الطفل كيكو يبتسم فقط، ولكن داخل تلك العيون الصافية المبتسمة، كانت ستسكو تقرأ بلا انقطاع الجملة التالية: «لا، لن أغفر لكِ أبدًا!»
فترتعد ستسكو رعبًا، وفي نفس الوقت يطمئن قلبها.
«لو حدث أن قال هذا الطفل إنه يغفر لي، لا شك أنني سأقتله وقتها على الفور.»
إنه شيء عجيب، فلقد بدأت ستسكو تفكِّر. يتولَّد التفكير وتحليل الذات، وكل تلك الأمور بسبب الحاجة إليها. لقد فقدت ستسكو بالفعل، ثقتها المولودة معها في أنها تنتمي إلى قبيلة السعداء.
تشتعل مع كل لقاء غرامي فرحة الجسد أكثر وأكثر ومصاحبًا لذلك، انتبهت ستسكو أن أحاديث تسوتشيا تزداد فقرًا أكثر وأكثر، وأصبح في وضوح ظاهر للعالم، وكأنه يحمل وجهًا بلا مشاعر على الإطلاق، أو يُظهر حالة من اللامبالاة التامة وغياب الوعي. هل تغير تسوتشيا إلى هذا الحد؟ من المفترض أن ستسكو انتبهت أكثر من مرة عندما كانا لا زالا في بداية حبهما، أن تسوتشيا كان أثناء صمته، يبدو في حالة من الملل التام بدون أن يراعي مشاعر أحد، بل ورغم أن نفس حالة الملل تلك، كانت السبب في ذلك الوقت في جعلها تطمئن؛ إلا أنها الآن هي سبب معاناتها.
يصمت تسوتشيا، وفي نفس وقت صمته تنشط مؤخرًا قوة خيال ستسكو كأنها إبَر تنغز فيها، وعندما انتبهت كانت قد احتوتها الغيرة بالفعل، ولأنها لا تتحمل نفسها على تلك الحالة، أصبحت عادتها الدائمة هي إخفاء غيرتها، ولكن انتبهت ستسكو أيضًا إلى أن إخفاء غيرتها والابتسام بشكل مفتعل، لا يختلف عن سلوك العبيد، ومع تنبهها لذلك لم يكن في وسعها القيام بأي فعل حيال ذلك.
ومرة أخرى يصمت تسوتشيا. تحكي ستسكو بصوت أجوف عن حكاية مشوقة وممتعة بحثت عنها بتسرع ولهفة، ولكن مع نبرة صوتها المأساوية تلك، لا تُسمع أي حكاية بشكل ممتع حتى لو كانت مشوقة وممتعة، وفي بعض الأحيان يبتسم تسوتشيا ابتسامة خفيفة ويقول ما يلي: «لقد سمعت هذه القصة من قبل بالفعل.»
يكره هذا الفتى الغِر بذل مجهود في التلطف مع الآخر وسماع نفس الحكاية مرتين.
ظلت ستسكو في وقت الإفطار من صباح أحد الأيام، تحملق في تفاصيل وجه زوجها باهتمام. كانت تعتقد أن زوجها قد أصبح يحمل صفة الغريب تمامًا عنها، فقط لأنه لا يتحمل مناصفة معها عبء الأحمال إلى هذه الدرجة ولا يشاركها الآلام الشديدة إلى تلك الدرجة التي سقطت فيها، ولكن فكرة أنه غريب عنها جعلت هناك ألفة من نوع آخر تنبعث منطلقة، مما جعل ستسكو تعاني من رغبة مغرية وخطرة أن تبوح له بكل شيء في أريحية وتفانٍ، ورغم قول ذلك، ففي أعماق قلبها، تريد أن تحتفظ بمعاناة ودهشة زوجها الشديدة عندما يعرف بكل شيء، كآخر حلم لها؛ لأنها عند النظر إلى حالة معاناة الفكر تلك ربما تكتشف ستسكو التي ليس لها حتى الآن من يحنو عليها، ربما تكتشف في زوجها صديقًا مخلص القلب بشكل غير متوقع؛ لأنه ربما ترى فيه ذلك الشخص الوحيد في العالم الذي يتألم ويعاني من أجلها.
ولكنها كانت تشكُّ هل زوجها النائم على الدوام لا يزال يتبقى في داخله قدرة على المعاناة حتى لو كان له عشيقة، فلا جدال في أنه قد اختار من البداية عشيقة لا خوف من أن تسبب له أية معاناة. كان زوجها بشكل عام إنسانًا دافئ المشاعر بشدة، ولكن على العكس حالَ دفء المشاعر هذا بينه وبين كل أنواع رهافة الإحساس. كان ينام قرير العين خالي البال في مكان ما لا تصل إليه العاطفة البشرية مطلقًا.
أحيانًا ما تتخيل ستسكو لحظة علمها أن زوجها في الواقع كان مدركًا لكل شيء، ولكنه بسبب ضعف شخصيته أو ربما بسبب الكسل، أو ربما بسبب خبثه، ظل صامتًا. تعرف ستسكو حالات مثل ذلك. بل وتعرف حالات أكثر من ذلك مأساوية، وأكثر من ذلك سوءًا. تعرف أحد الأزواج، كان سمين الجسم بليد الحس، طيب القلب، في الغالب يُحب زوجته حبًّا حارًّا، لم ينتبه ولو قليلًا إلى خيانة زوجته، وظل كما هو لا يدري، ولكنه على الأرجح ظل في اللاوعي يتحمل صابرًا، وفي النهاية صرخ الجسد عاليًا تجاه قدرة تحمل الجسد بهذا الشكل، وبدأ يُنهك مع مرور الأيام ويصل في النهاية إلى الضعف، ثم مات منذ عدة أشهر بمرض يمكن توقعه. بل لم يُظهر، وهو على مشارف الموت، أي شك أو ارتياب ناحية زوجته.
اعتقدت ستسكو، على العكس وبشيء من التمني، أنه من المستحيل أن يكون زوجها هكذا، ولكن لو كان قد انتبه إلى كل شيء ولا يُحس بأي معاناة؛ فلسوف ينهار الحلم الوحيد والإنقاذ الوحيد الذي ترتكِن عليه ستسكو هنا.
تفكر ستسكو في حالة ما إذا فقدت تسوتشيا؛ لا يوجد أمامها إلا العودة إلى هذا البيت حيث يوجد زوجها وابنها. إذا حدث ذلك، فكيف سيستقبلها زوجها يا تُرى؟ وقتها بالذات ربما يرفضها زوجها هذا الذي لا يطلب أي شيء. ربما سيصبح عليهما العيش معًا تحت سقف واحد كزوجين كل منهما يحمل روحًا وجسدًا منفصلَين.
انتفض قلبها رعبًا من الوحدة، ولذا في إحدى الليالي قامت ستسكو بالتقرب لزوجها. كانت تحاول التأكد من مكانٍ تعود إليه، إذا ما تحتَّم عليها العودة.
فتح زوجها الذي كان على وشك النوم، فجأة عينيه على اتساعهما. كانت عيناه تقولان: «ماذا حدث لكِ بالضبط؟» ثم نطق فمه بالتفصيل: «أمر غريب! ألم أصبِح مكروهًا لك منذ زمن بعيد؟»
يبدو أنه قد فقدَ بشكلٍ ما ثقته في نفسه، ويبدو أنه ظل في الفترة الماضية يواصل النوم دون أن يحاول ولو غصبًا استعادة ثقته في نفسه التي فقدها إلى عنفوانها.
لم تُجب ستسكو تجاه ذلك السؤال الغبي المباشر بالكلمات بل بالابتسام. كان كتفها ظاهرًا من قميص نومها ذي اللون الأزرق الفاتح. لم يسبق لستسكو أن حاولت أن تكون مثل العاهرات كما حاولت بشدة في تلك اللحظة. يجب أن تكون عاهرة بلا أي عيب، ثم بدون أن تغرق في أية عاطفة ولو قليلة، يجب أن تستحث فقط ما في زوجها من عناصر ذكورية خالصة.
تشع رطوبة أطراف عيونها النصف مفتوحة، لمعانًا من خلال ضوء مصباح الفراش، وكانت الرموش عميقة للغاية، كانت بدون حركة تقيس المسافة بين جسدها وجسد زوجها في الوقت الحالي.
سحب الزوج يد ستسكو بحنان، ثم مد يده بشيء من الخوف فوق هذا الجسد الذي لا يعلم إلى أي مدى تملؤه أفكار بلا حياء.
وأخيرًا تغلبت ستسكو على درجة أخرى من درجات الحياء، فقد أصدرت تأوهات كاذبة بصوت عالٍ، وأظهر زوجها بوادر دهشته من تلك الحالة التي يواجهها للمرة الأولى، ثم رفع من حرارته بشكل صادق وحقيقي وأصبح يجتهد ويجدُّ في مداعبتها ولمسها.
يبدو أن زوجها لم ينسَ طعم تلك الليلة، فبدأ اجتهاده الذي لم تكن تتوقعه، وإذا استمر ذلك في المستقبل القريب مرتين أو ثلاث مرات فعندها لن تقدر ستسكو أن تستمر في لعب دور العاهرة إلى الأبد، لم تعُد قادرة أو راغبة في إصدار التأوهات الكاذبة، وبهذا الشكل عادت ستسكو إلى طبيعتها الدائمة، وهدأ تردد الموجات .. واختفت تلك العادة الجديدة الغريبة.
لم يزِد الأمر عن أن ستسكو حصلت بصعوبة على بعض ملامح من سلوك العاهرات. يتردد صدى الصوت ثم يختفي في الهواء. المقارنة قد أصبحت واضحة بالفعل، ووضعها وسط مثل تلك البيئة التي بلا مشاعر، وعندما تتذكر موعدها مع تسوتشيا في الغد يرتعش جسدها.
بدأت بوادر قدوم الشتاء. كانت ستسكو ترغب في الذهاب مرة أخرى إلى أماكن اللقاءات التي ذهبا إليها معًا في الصيف؛ لذا توجها معًا في الظهيرة إلى ذلك الفندق الذي يبعد عن طوكيو بمقدار ساعة سفر، بدون أن يحملا معهما أية أمتعة. لا يوجد ظل إنسان على الشاطئ، وكانا هما الاثنان نزلاء الفندق الوحيدين. كان الجو باردًا أثناء التنزه على الشاطئ. كانت الطائرة التي تطير خلف الغيوم الكثيفة، ذات صوت موتور يتردد صداه شاحبًا وخفيفًا، ويُسمع في كل أرجاء الشاطئ الخالي من الناس. شاهد الاثنان خيوط شمس الغروب في البحر تغطيها الغيوم جميعها، تحت الغيوم السوداء، وهي تنبعث عرضيًّا ملامسة خط الأفق.
قضيا حوالي خمس ساعات في غرفة الفندق ثم عادا معًا في آخر قطار متجه إلى طوكيو.
من اليوم التالي بدا وكأن الشتاء حصل على دفعة فجائية، في تلك الليلة وفي وقت متأخر، هبَّت الرياح الشمالية بعنف، وزاد برد الصباح بصفة خاصة.
بحثت ستسكو عن شخص تعتمد عليه. شخص ما ليس له علاقة بالأمر وفي نفس الوقت تستطيع الوثوق به لتبوح له بالأمر، لكي تأخذ منه نصيحة، حتى لو لم تصل معها إلى حل واقعي، فعلى الأقل تساعدها على تحديد وجهة قلبها. لا تفِي يوشيكو بالغرض. ما تبحث عنه ستسكو الآن ليس نصيحة شخص خبير في خبايا المجتمع المخملي، ولكنها تريد تجربة وخبرة أكثر صرامة وأخلاقية. تريد أفكارًا أكثر قوة، تزلزل كيانها ووجودها ذاته، وليس مجرد تعلُّم طرق المساومات في الغرام؛ فهي تعتقد أنها إذا لم تحصل على فرصة مقابلة مثل هذا الشخص وتتكئ عليه، فسيتفكك قلبها ويهرول ناحية التلاشي والاندثار مرة واحدة.
تذكرت ستسكو صديقة قديمة جادة الشخصية، تلك الصديقة لديها الكثير من المعاناة، وتذكرت اسم أحد الأشخاص متقدم في العمر تذهب الصديقة تلك إليه أحيانًا كثيرة لكي تبوح له بما تعانيه. العجوز الذي يسمى ماتسوكي، له عدد من المؤلفات المشهورة لدى الناس، ولكنه منذ وقت بعيد مضى يعيش منعزلًا في منطقة يصعب الوصول إليها في ضاحية من ضواحي طوكيو، ومعه خادمة عجوز. يعيش كما لو كان مثل الإنسان الأبدي «سِن نين» في الأساطير القديمة ولكنه كان في شبابه قد قضى بضعة عشر عامًا هائمًا مترحلًا في بلاد أوروبا وأمريكا، ويعلم أسرار وخبايا العديد من البلاد. وقتها كان ماتسوكي له علاقة بالسياسة أيضًا، ولكنه في النهاية ترك العمل السياسي. وتعرف على أنواع عديدة من النساء في جميع أنحاء العالم، ثم أخيرًا استغنى عن النساء، وفي الفترة الأخيرة ابتعد عن الكتابة كذلك، ويعيش بتواضع في كنف ثروته التي تجمَّعت له من حيث لا يحتسب.
لقد كان أيضًا له خبرة وعلم حتى بعالم الجريمة ذاته! فلقد ركب في مرة سفينة قراصنة في بحر جنوب الصين، وحدث أن شارك مرة في عمليات تهريب، واشترك مرة في اكتشاف أماكن نائية وخطرة، وتعرَّض مرات عديدة في حياته لمخاطر السجن أو الموت، ويحتقر ماتسوكي الآن أي عمل من أعمال الجريمة مهما عظُم شأنه.
طلبت ستسكو من صديقتها القديمة كتابة خطاب تعارف لماتسوكي وطلبت موعدًا لزيارته، وزارته حاملة في يدها هدية في ظهيرة أحد الأيام الباردة التي تتسلل فيها أشعة باهتة للشمس. من محطة صغيرة لقطار في ضواحي طوكيو، سارت لفترة وسط حقول البصل. أخيرًا ظهر طريق صاعد لهضبة. أثناء السير داخل غابة لأشجار الصنوبر الحمراء تضيء أشعة شمس خفيفة بقعًا في سطحها، بيت من بعيد يحيط به سور قديم. هذا البيت هو بيت ماتسوكي. كانت مسافة الطريق من محطة القطار حوالي فرسخًا، ولكنها عندما فكرت أن انعزال المكان إلى هذا الحد، يجعله بيئة مناسبة تمامًا لحديث البوح بأسرار القلب، زالت كل متاعبها.
كان ماتسوكي نائمًا، ولكن بعد وصول ستسكو إلى جوار وسادته، نهض ليجلس على سريره. اندهشت ستسكو عندما وجدت أن الرجل الذي عاش حياة مليئة بالتجارب والتقلبات إلى هذا الحد ضعيف البنية نحيف الجسم قصير القامة إلى هذه الدرجة، وعندما قالت له لم أكن أعلم أنك على فراش المرض، قال الرجل العجوز إذا لم يعالجني طبيب فلا يجب تسمية ذلك مرضًا، وأنا لن أعرض نفسي على طبيب أبدًا. انجذبت ستسكو لقوة وشجاعة وشباب ذلك الصوت. حكت اعترافاتها بيسر وسلاسة. قال ماتسوكي: «ذلك أمر مزعج فعلًا .. إنه حقًّا أمر مزعج .. شخص مثلكِ من المفترض أن يعيش حياة سعيدة رائعة بلا أي منغصات ولا معاناة، أيكون مصيره هو المعاناة بهذا الشكل؟ إنه لأمر مزعج حقيقة.
هذا الشخص الذي يُسمى تسوتشيا هو الآن على الأرجح لا يحبك، ولكن في هذا العالم أقوى الناس قدرةً إنسانٌ لا يحب؛ فمثل هذا الإنسان لا توجد طريقة للتعامل معه، بل وأنت أخذت فقط من هذا الشخص علامات الحب. صار هذا الرجل يتصرف معك بكل قوته، وليس له اهتمام إلا بتجريب تأثير هذه القوة فقط. إذا أخذنا إذَن كل أفعال الجسد على أنها أكاذيب فسيكون الأمر سهلًا، ولكن إذا تحوَّل ذلك إلى عادة، فالعادة لا يوجد فيها كذب ولا صدق. إن الذي يستطيع التفوق على الروح وقهرها هو ذلك الوحش المسمى «العادة». لقد أصبحتِ أنتِ وعشيقك طُعمًا لذلك الوحش، ولكن هذا أمر لا يجب الخجل منه في حياة البشر؛ فليس بالضرورة أن تكوني أنت الخاسرة، وليس بالضرورة أن يكون الرجل هو الفائز.
لنفكر في الأمر بعد إبعاد قضية الحب. سأعلِّمكِ طريقة علاج تلك العادة.
آه يا سيدة كوراقوشي، تكون غرائز البشر في الأصل بخيلة. في الحقيقة المفروض أنكِ بالفعل قد شُفيتِ من الغريزة. لقد شفيتُ منها أنا في بدايات شبابي الأول، أما باقي حياتي فقد كنتُ أعيشُ فقط هاربًا من العادة. وعندما علمتُ أن الإنجازات العظيمة التي حققها البشر، كلها — مثلي تمامًا — تشير إلى ظلال الهروب، أحسستُ بالتقزز من ذلك. الهروب إلى العمل التجاري، الهروب إلى السياسة، الهروب إلى المجد. إن ذلك هو الذي كان سندًا للتاريخ حتى الآن.
آه .. أجل .. كان من المفروض أن أعلِّمكِ طريقة العلاج من العادة، ولكن ذلك أمر في غاية الصعوبة. من يعيش الحياة كائنًا حيًّا، لا يقدر على الاستغناء عن عادة الطعام على أقل تقدير، ولذا فالأمر في منتهى الصعوبة، وهنا أعتقد أنا أن الإنسان بدأ يفكر في الأخلاق.
ربما تضحكين إذا سمعتِ أنني أنا الذي خبر طريق الفسوق حتى منتهاه، أتلفظ بكلمة الأخلاق، ولكن ما أشير إليه أنا بالأخلاق يختلف قليلًا عما يقصده الناس بالأخلاق. إنها القفص الذي يخدع به الإنسان نفسه لكيلا يستطيع الهرب إلى أي مكان من أجل ألا يستطيع الهرب حتى من أكثر العادات رعبًا.
حذار من القفز إلى النتائج يا سيدة كوراقوشي؛ فأنا لا أنصحكِ، كما ينصح الناس المريض بالتعايش مع مرضه، لا أنصحكِ بمصاحبة العادة والعيش معها في ود؛ فالأخلاق لا تعترف بالهروب من العادات، ولكن في نفس الوقت الأخلاق لا تعترف أيضًا بالهروب إلى العادات أكثر من ذلك؛ فالأخلاق هي عبارة عن إغلاق الدائرة المفرغة الشريرة بين البشر وبين العالم، هي عبارة عن قوة تحاول أن تجعل كل الأشياء وكل اللحظات هي مرة واحدة فقط لا يمكن تكرارها للأبد. القفص يكون بعد رقم اثنين، ولكن لأن الإنسان خُلق ضعيفًا، فمن أجل أن يمتلك تلك القوة، فالقفص ضروري على أي الأحوال، ولكن المجتمع ينظر فقط إلى ذلك القفص ويعتقد أن الاسم الآخر للقفص هو الأخلاق.
يجب جعل كل لحظة من لحظات العادة تكون مرة واحدة فقط، آه يا سيدة كوراقوشي، أنا لا أُلقي إليك بمعضلة بكلامي هذا، ولكن هذا العالم مستمر إلى ما لا نهاية، فلليوم غد، وللغد بعد غد، وهكذا يستمر إلى الأبد، بعد الصحو تأتي الأمطار، وبعد الأمطار تتألق الشمس ساطعة. من الأهمية بمكان إعطاء ظهركِ بالكامل إلى القوانين المادية للطبيعة تلك. مع اعتياده على قوانين الطبيعة وتحوُّل عينه معها ينسى الإنسان كونه إنسانًا فيصبح إما عبدًا لعادته، أو ملك الهروب. الطبيعة تتكرر مرة ومرات. الإنسان هو الوحيد صاحب امتياز المرة الواحدة فقط. ألا تعتقدين في ذلك يا سيدة كوراقوشي؟
إن أخلاقي لا تنصحكِ بالعودة إلى بيتك وأسرتك. على العكس إذا فعلتِ ما أقوله لكِ، لربما تكتشفين المتعة بإيجابية منك في جسد ذلك الرجل الذي يسمى تسوتشيا؛ فالمتعة بالتأكيد شيء رائع يجب استنشاقها وتذوقها كما يحلو لك. ربما تقولين إنك قد عرَفتِ بالفعل تلك المتعة، ولكن المتعة التي يُخشى معها من الغد هي متعة زائفة، يجب الخجل منها، أليس كذلك؟
إذا قمتِ باكتشاف المتعة بشكل إيجابي منكِ بعد ذلك ستستطيعين الحكم بحرية تامة هل تستمرين في امتلاكها أو الاستغناء عنها. إن فكرة الهروب من العادة هي فكرة كئيبة سوداء، ويبدو أنني أحتقر البشر ولكن الرغبة في الاستغناء عن المتعة تغازل كرامة الشخص، ولذا من السهل أن يتقبلها كبرياؤه. إنه كذلك يا سيدة كوراقوشي.
لذا أنا أنصحكِ باستخدام الأخلاق، وإذا كانت الأخلاق كلمة سيئة، أنصحكِ باستخدام قوة أخرى وليدة تضعه في مأزق أكثر وأكثر. هذا هو ما أريد قوله لك.»
بعد أن انتهى ماتسوكي من قول ذلك، أسلم رأسه إلى الوسادة، ثم أخيرًا ذهب في نعاس حقيقي. ظلت ستسكو غارقة في الأفكار وهي جالسة بجوار تلك الوسادة حتى غروب الشمس، تتأمل بلا حراك، وجه ماتسوكي النحيف النائم. ما علَّمني إياه هذا الرجل هو بالطبع أفكار رجل، ولكن ما أحتاجه أنا الآن هي أفكار امرأة.