الفصل الثامن عشر
مرت على ستسكو الساعات والأيام والشهور، وخفَّت حدة الشتاء في لمح البصر. اختفى تهديد إيدا دون أن يحدث أي شيء، كما يقول المثل تمخض الجبل فولدَ فأرًا. هذا الرجل النقي داخليًّا، كان يتجاهل حسابات الربح والخسارة بدرجة زائدة عن الحد، تبعده من أن يتقن التهديد بأعصاب من حديد.
وستسكو التي تعلمَت أن إنهاء العلاقة الغرامية يمكن أن يتوقف قبل النهاية بخطوة ويتحول إلى اتجاه آخر، حتى إنها صارت تعتقد أنه من الأفضل الانتظار ببرود أعصاب حتى يغرق حدث من الأحداث، ثم يطفو على السطح حدث آخر.
وقد حرَصت على ألا تخبر يوشيكو بزيارة إيدا. ويوشيكو كذلك لم تتحدث عن إيدا بعد ذلك مطلقًا، وبدت ملامح وجهها صافية منعشة بعد زوال كل الأمواج والأعاصير. عندما ترى ستسكو ذلك الوجه الهادئ في سلام تتمنى لو أنها أطاعت إيدا وقتها وجعلته يقابل يوشيكو.
وكما هو المعتاد في العشر الأوائل من شهر مارس، في الصباح تهطل الثلوج مثل ندف القطن، ولكن بعد الظهيرة يصفو الجو ويعتدل بدفء شمس الربيع، ولكن بعد ذلك يجيء إعصار قوي مفاجئ، يجعل الجو باردًا قليلًا على البشرة. استمرت لقاءاتها مع تسوتشيا بشكل آلي، وقد صارت ستسكو محظية تسوتشيا.
وقد صار عزمها على ضرورة عدم اللقاء معه ثانية، بعد انتهاء كل لقاء، عادة ستسكو الشكلية مثل صلوات قبل النوم، ثم بعد ذلك عندما يصل تفكيرها مرة إلى «وداع»، يكون مختلفًا على قرار حازم يتم الوصول إليه اليوم وتنفيذه في نفس اليوم، بل هي تعتبره كأنه مثل قرار هام للغاية تظل تفكر فيه منذ عام كامل مضى ولكن في النهاية لا يصل الأمر إلى تنفيذه. مثل هذه الأفكار تكبر مثل كرة الثلج، وتتضخم بمغالاة مثل الأعمال البدنية حتى تصبح لا تضاهيها قوتها الذاتية، وتستخدمها ستسكو بلا فائدة كحجة عديمة الجدوى لمرور الزمن. ربما لم يكن الأمر يحتاج إلا طاقة ضئيلة، الطاقة التي تحتاجها حركة تقريب علبة الثقاب الموضوعة فوق المنضدة للجهة الأخرى. ربما كانت حركة هينة تنتهي بمجرد تحريك أناملها قليلًا.
ولكن تلك الأفكار أرعبتها.. أخافتها فكرة أن ذلك الحدث الهائل يمكن أن ينتهي بمجرد تحريك أناملها فقط. كانت الفكرة الأكثر إثارة لخوفها أكثر من أي شيء آخر هي، إذا كانت حركة الأنامل البسيطة تُنهيه، فهذا يعني أنه لم يكن بتلك الأهمية والضخامة!
لا يثير تنبؤ الربيع فقط القلق، ولكن تمتلئ ستسكو بالقلق عندما تسمع أصوات رياح بداية الربيع المتربة المفاجئة التي تجعل النافذة تصرخ، تصل في النهاية لدرجة التفكير أنها نذير شؤم للموت. كانت براعم الحشائش الضئيلة الذابلة التي توجد على حوافِّ حديقة المنزل تثير الاشمئزاز. يمتلئ غيم السماء بصور مريبة مبهمة، وأحست أن المطر الذي يضرب زجاج النافذة فجأة في أواخر الليل ليس اعتباطًا. كان الربيع الذي على وشك المجيء، فقط لمجرد أن فصلًا جديدًا سيبدأ، يعطى ستسكو إحساسًا ما بالكراهية، وكذلك أن يأتي بلا أدنى اعتبار لرغبتنا في ذلك، كان ذلك عدوًّا بالنسبة لستسكو أيًّا كان سواء كان ربيعًا أم شيئًا آخر.
في صيف العام الماضي، تصالحت ستسكو من كل قلبها مع الطبيعة. دخل ذلك البحر، وغيوم السماء، والرياح جسد ستسكو بحرية، واستنشقتها بحرية، وصارت ورغبتها الجسدية شيئًا واحدًا، ولكن كل ذلك الآن تغير وأصبح عدوًّا لها. الآن أصبح كل ما يحيط بها من تغيرات الطبيعة في الربيع مشئومًا.
هجم القيء على ستسكو في صباح أحد الأيام، وبدون أن تجعل زوجها ينتبه هرعت نحو الحمام، وتقيأت. بعد أن أخفت شحوب وجهها بوضع مسحوق الوجه الوردي عليه، عادت لها شهيتها، ولكنها للأسف تقيأت أيضًا فطور الصباح الذي تناولته.
وهذا لم يكن أمرًا يصعب التنبؤ به، وبدأت ترتاب هل يا ترى كان من الصحيح أن تكون مخلصة دومًا تجاه قانون الطبيعة، وتكره بحقد الأشياء المصنَّعة، وقد وصل بها الحال إلى الاستياء والتقزز من تفاني وإخلاص جسدها بشكل لا يمكن مقارنته، وهو يكرر نفس الأمر تكرارًا وحشيًّا وقاسيًّا بهذا الشكل، ولكن عندما هدأت بعد أن ودعت زوجها الذاهب إلى عمله عند مدخل المنزل، كانت ستسكو قد قررت قرارها. ففي النهاية كان ذلك هو الصحيح. ربما يقوم الجسد — بمعنى تقوم الطبيعة — بما يبدو للوهلة الأولى انتقامًا قاسيًا عديم الرحمة في التصرف وإيجاد حل لما ترى أنه صعب المراس وغير قابل للحل بقلبها فقط. انتهى حديث القلب، ولا توجد في النهاية أية فائدة، وبهذا الشكل فجأة تبدأ الطبيعة كما هي الآن تصرخ بنبرة قوية وعالية بشكل غير متوقع، وكان يجب على ستسكو الاستماع لها.
اتخذت ستسكو لجسدها وضع التأهب. يجب عليها تقبُّل هذا الضعف والهزال حتى النهاية، وقد فهمت مع مرور الأيام أن غثيان الوحم هذه المرة سيكون ثقيلًا وعلى درجة كبيرة من القوة والعنف رغم أنه لا يوجد مثال سابق جاء خفيفًا للمقارنة معه. كان الغثيان الذي يستمر على مدار اليوم ولا يمكن تحمُّله، جحيمًا من الرماد الأبيض، ولكن عرفت ستسكو أنه لا يوجد مخبأ جيد لآلام القلب أفضل من الغثيان الفسيولوجي. ليس الاستياء ذاته هو ما يسبب الضيق، ولكن وجوب إخفائه. البحث عن حجة ما ورفض التعامل بمفردها على العكس كان أسهل، ولكن في ليلة ما تم دعوة زوجها من أجانب لهم علاقة بعمله للاحتفال بعيد ميلاده، وعند خروجهما معًا، لاقت ستسكو متاعب مرعبة.
ولأنها كانت قد شكَت من ألم في معدتها، فلم يتم إجبارها على تناول الطعام، ولأن الطعام كان بوفيهًا مفتوحًا؛ فسار الأمر دون تكلُّف أكل ما لا ترغب في أكله، ويبدو أنها بشكل ما ستجتاز هذه الليلة بسلام، هكذا اعتقدت ستسكو.
انتهى الطعام. تحلَّق الجميع في تلك الليلة الباردة من ليالي الربيع حول المدفأة يشربون خمر بعد الطعام. كان فوق رفِّ تلك المدفأة، زوجان متشابهان من الشموع الحمراء كبيرتا الحجم مضاءتان.
لم تهاجم ستسكو أعراضُ القيء في تلك الليلة وحتى ذلك الوقت، وتناولت الطعام بشكل لم تكن تناولته به في الفترة الماضية، وبعد العشاء انتقلت إلى غرفة أخرى، وجلست على مقعد وثير، وفجأة لمحت رفَّ المدفأة، رأت ستسكو الشموع الحمراء.
بمجرد رؤيتها أحست على الفور بدوار، وارتفعت مشاعر القيء، وفار داخل الفم شيء ذو حموضة. رغم أنه في الوضع العادي لا تمثل الشموع الحمراء أي شيء مطلقًا، ولكن مجرد رؤيتها الآن تجلب لها الاستياء والحزن. ظنت ستسكو أنها قد أُجبرت على قضم الشموع بأسنانها .. لمعة تلك الشموع الخافتة، وذلك اللون الأحمر المسموم، أحست أن لسانها قد أجبر على تذوق طعمها.
على الفور قامت ستسكو بسدِّ فمها بمنديلها، وأسرعت إلى الحمام ثم تقيأت.
ولكن لم يهدأ صدر ستسكو حتى بعد تقيؤها. كانت مرعوبة من العودة إلى الغرفة التي بها تلك الشموع. رغم أنه توجد هناك أصوات الأحاديث والموسيقى، ويوجد بضع عشرة من الرجال والنساء؛ إلا أنه لم يكن في عقل ستسكو إلا الشموع الحمراء، وأتاها إحساس أنها ستعود وحيدة إلى الغرفة التي تقف فيها تلك الشموع الحمراء بثبات تنتظرها بتلهف.
هل تستدعي زوجها؟ فتحت ستسكو باب الغرفة قليلًا، ورأت ظهر زوجها العريض وهو يتحدث مع الحضور على الجانب الآخر من الغرفة. لا يبدو أن صوتها يمكنه الوصول إليه. على كل الأحوال هذا الأمر ليس من الأمور التي يجب عليها الاعتماد فيها بقوة على مساعدة من زوجها. استجمعت ستسكو شجاعتها ودخلت الغرفة.
حرصت على أن توجد في أبعد مكان ممكن من رفِّ المدفأة، وحرصت على ألا تنظر ناحيتها، وضحكت بوضوح على جهدها ذلك. كان فستان الحفلات الذي ترتديه، هو نفسه الذي ذهبت به عندما صنعته لتناول الطعام مع تسوتشيا.
تحاول بكل جهدها ألا تنظر إلى الشموع الحمراء. تحاول ألا تنظر ولكنها في النهاية تنظر. يتراقص اللهب، وترى الشمع الملتهب بلون النهار الذي يوشك على الذوبان. هجم شعور الرغبة بالقيء على ستسكو مرة أخرى. وبعد أن تقيأت للمرة الثانية أصبحت ستسكو على وشك الإغماء في الحمام.
طلبت ستسكو من الخادمة التي قابلتها في الممر أن تنادي زوجها.
اعتذار سريع ومرتبك، كلمات الأجانب المتحذلقة التي ترجو السلامة … داخل سيارة العودة، اختفى شعور القيء تمامًا من ستسكو وكأنه كان كذبًا، ولكن ستسكو تصنعت الإعياء تماشيًا مع زوجها الذي مع مراعاته لها، اضطرب بسبب اعتقاده بفشل الحفل.
– «ما الذي حدث لك؟ هل حدث مكروه لجسدك يا ترى؟»
أخيرًا بدأ زوجها الكلام. لم تبلغ ستسكو بشكواها من القيء ولكن أخبرته أنها تعاني من ألم المعدة.
– «هل أقوم بمَسككِ من جنبكِ ناحية المعدة؟»
– لا .. لا، على العكس لو فعلتَ ذلك فأنا … أعتقد أنه ربما ليس بسبب مرض المعدة ولكن بسبب الأعصاب.»
ردد زوجها مرات عديدة أنه يجب أن يراها طبيب، ولذا وعدته أنها في الغد ستستدعي المدلِّك، لأنها خافت أن يدعو زوجها الطبيب دون علمها. كان زوجها يحترس من أن تعتقد زوجته أنه يقلق من فشل علاقاته في العمل فقط، ولذا فمن حين لآخر، يبالغ في أن يُظهر قلقًا حميميًّا عليها، وكانت ستسكو تستطيع تفهم ذلك؛ إلا أن ستسكو أحست أن غروره الظريف هذا بعيد جدًّا عنها، وكأنه حقيقة نفسية ليس لها أية علاقة بها. واندهشت ستسكو من نفسها عندما تبينت أنها لا تحمل أي حُكم سواء جيد أو سيئ تجاه أفعال زوجها، وأخيرًا يئس زوجها وقال: «إذا كان الأمر كذلك، فلا بأس بالمدلِّك، فأنت لا تؤمنين أبدًا بالطب الحديث، أليس كذلك؟»
في الصباح التالي، جاء المدلك بعد خروج زوجها لعمله مباشرة. لم تشتكِ له ستسكو من أعراض معينة. بل قالت له فقط إنها تريد علاجًا طبيعيًّا لإصابتها بالإجهاد الشديد.
حرك ذلك الرجل الذي يرتدي نظارة سوداء وبدون ملامح ونحيف مثل شجرة ذابلة، أصابعه بلا توقف بقوة شديدة تقترب من عدم الحياء، وأثناء ذلك يتلفظ بكلمات غاية في التأدب. أثناء تدليكه صامتًا لفترة من الزمن، أحست ستسكو بعد غياب طويل بنفسها التي لا تفكر في أي شيء. اللحم الذي يتم تدليكه هنا، منحنيات الجسد الذي يتم ضغطه … إذا كانت تملك ذلك فقط فهو يكفي.
فجأة سألها المدلك بما يلي بطريقة مؤدبة: «معذرة يا سيدتي ولكن هل أنتِ حامل؟»
تجمدت ستسكو، وزاد خفقان قلبها، وبدون وعي احتوت كلماتها على غضب: «لا، أبدًا هذا مستحيل. ليس كذلك أبدًا.»
– «أعتذر بشدة عن ذلك. إذَن هو خطأ مني في التفكير. عندما أقول شيئًا معتمدًا على حاستي التي تبلغ أعوامًا طويلة، أحيانًا أقع في أخطاء فادحة .. أنا حقًّا أعتذر بشدة.»
عقدت ستسكو عزمها على ضرورة الإجهاض بأسرع وقت ممكن.
خلال أسبوع كامل، لم تأكل ستسكو أي طعام تقريبًا، وظهر الهزال على جسدها كلها، وتتقطع أنفاسها عندما تصعد درجات قليلة من السلم.
فحصت الطبيبة جسدها واندهشت لذلك الهزال، وقالت لها إن التخدير سيكون خطرًا على القلب، ولذا يجب إجراء العملية بدون تخدير، وسألَتها هل تقبل بذلك؟ وأجابت ستسكو أنها تقبل.
قالت الطبيبة لها: «إذا لم تستطيعي التحمل، فأصدري صوتًا بلا تردد. عندها سأضع لك مخدرًا موضعيًّا. لأن المخدر الموضعي لا يوجد له تأثير على القلب.»
ولقد عرفت ستسكو أن الجحيم الذي كانت في انتظاره يتربص بها في هذا المكان. قُيدت ستسكو التي استلقت على الفراش من يديها ورجليها بقوة. من قبل أن تبدأ العملية بدأت يداها تعرقان عرقًا باردًا كثيفًا.
أنا بالتأكيد سأموت داخل العار ووسط الخزي، بالتأكيد سأموت، هكذا كانت ستسكو تفكر. كتبت في سجلات المستشفى عنوان صديقة واسمًا مكذوبًا. أكيد الصديقة ستأتي على عجل بعد استدعائها وتلتقي مع جثتي. وأخيرًا يأتي زوجي ليستلم الجثة. بالرغم من ذلك لا ينتبه لخطيئتي. سيبكي كيكو، وبالتأكيد سيغفر لي ذلك.
تحاول ستسكو ألا تتذكر تسوتشيا مطلقًا، ورغم ذلك كان وجهه هو الذي يتبادر إلى ذهنها صافيًا حيويًّا، وكانت اليد التي تتمنى أن تقبض عليها وهي تحتضر هي بالتأكيد يده، ولكن كان الأكثر راحة من تخيله يبكي عند علمه بموتها، تخيله يصفِّر بفمه عندما يعلم بموتها، ثم يخرج في نزهة إلى حقول الربيع. كان من المستحيل أن يليق على هذا الشاب الحزن والألم والمعاناة، تمامًا مثلما لا يليق عليه رباط العنق بأي حال.
عند الموت يصير الخزي والعار رمادًا. ربما أوكل أمر جثتي إلى حقول الربيع. ربما يختلط رمادي داخل الرماد الأسود بعد حرق بواقي قش الأزر في الحقول. وتُذيب الأمطار رماد الحشائش الذابلة مع رمادي، وتتقبلني الطبيعة. ظلت ستسكو تفكر فقط في الموت. انتهت عملية الإجهاض، وعاد كل شيء إلى أصله، وتحسنت صحتها، حسنًا ماذا بعد ذلك، لم تكن تستطيع بأي حال التفكير في المستقبل.
«سأقوم بوضع المطهر.»
سمعَت صوت الطبيبة الهادئ المتزن وهي تقول ذلك. شيء علمَت به فيما بعد، تستخدم الطبيبة تلك الكلمة في خداع المريض وإزالة توقعه الألم.
يوجد في وضوح الألم فائدة ما للروح. لا يمكن لأية أفكار وكذلك لا يمكن لأية أحاسيس الوصول إلى درجة وضوح الألم العنيف. سواء كان ذلك أمرًا جيدًا أم سيئًا ولكنها تجعلك ترى العالم مباشرة.
فكرت ستسكو في هذا فيما بعد، ولكنها كانت قد تهيأت لديها تدريجيًّا القوة التي تتحمل بها تلك الدرجة من الألم، ولكن من خلال هذا الألم كله وكذلك من خلال تحملها له، أزالت ستسكو تمامًا أحد ملامح شخصيتها التي ظلت تعاني منها طويلًا وهي كونها امرأة عادية وصارت امرأة غير عادية. أثناء معاناتها من الألم الشديد، لم تطلق صوتًا واحدًا يعبر عن الألم. ولذا أعرضت الطبيبة عن استخدام المخدر الموضعي الذي كانت قد جهزته للاستعمال.
«حسنًا، سأقوم بوضع المطهر مرة أخرى.»
سمعت ستسكو تلك الكلمات الرقيقة وهي في أقصى حالات التألم، حالة فقدان معايير الأحاسيس لدرجة عدم الإحساس بأشد أنواع الألم إلا وكأنه حلو المذاق، ولكن ورغم ذلك لم تعتقد ستسكو أن ذلك هو الموت. علاقة الألم مع قدرتها على احتماله، كافية وممتلئة مثل أشعة ما متألقة، ولم تعتقد أن ذلك يتواصل كما هو بحالته تلك إلى خمول الموت. توجد ستسكو، ويوجد الألم. العالم كله ملآن ومكتفٍ بهذا فقط. ولا يطفو على سطح الوعي والتفكير الجنين الذي سيتم التخلص منه، وعلى العكس لم تستدع ذاكرة ستسكو حتى اسم تسوتشيا.
في تلك الليلة غرقت ستسكو في نوم عميق دون أن ترى أي أحلام مطلقًا، وفي الصباح التالي اعتقدت أن السماء أكثر زرقة من المعتاد.
في الليلة التالية ظلت تتلوى بحلم «جاثومي» تسير فيه هاربة، تلاحقها أبقار من مكتب إلى مكتب.
علاوة على ذلك في الليلة التي تليها أخيرًا ظهر الجنين. رأت حلمًا فيه جنين ملطخ بالدماء يزحف إليها خارجًا من مقابر الشهداء التي تم نبشها.
كانت القوة التي حصلت عليها ستسكو من خلال تلك الآلام جعلتها لا تتلاشى مع ضعفها وهزالها الحالي، ليس هذا فقط بل وشعرت أن ثقتها في قوتها الذاتية تزداد أكثر وأكثر، ووصلت إلى أن تدرك أن هذه القوة بحق هي القوة التي تحثها على قرار الفراق، وظلت تستدعي كلمة «الفراق» بديلًا عن اسم تسوتشيا مائة مرة في اليوم، وكان ذلك يدخل وعيها كقوة لها، ولكن في الواقع، ربما كان ذلك غريزة الدفاع عن النفس الطبيعية الموجودة في الكائن الحي الذي أصبح لا يحتمل الاستغلال لتلك الدرجة. الآن بعد أن أفلتت من الموت بصعوبة أصبحت تخاف الموت.
ولكن على العكس الذاكرة البالغة الطزاجة والجدة لتلك الآلام وهذه المعاناة أصبحت بذرة للتعلق به وعدم القدرة على نسيانه؛ وذلك لأنها عندما تفكر أن ذلك الألم وتلك المعاناة في النهاية كان أصلهما وسببهما تسوتشيا، ففراق تسوتشيا الآن لا يعني إلا فراق ذاكرة الآلام التي تفخر بها التي هي بالفعل آخذة تدريجيًّا في أن تصبح الجزء الأكثر حيوية وجدَّة لتلك الذاكرة السرية الحلوة المظلمة.
لم تنتبه ستسكو إلى نفسها وهي تقوم بمحاولة تبديل ماهرة. لم تنتبه إلى نفسها وهي تحاول تبديل علاقتها الحميمية الممتعة مع تسوتشيا التي يصعب البعد عنها بعلاقة مع الألم أكثر مهابة أو أكثر رسوخًا.
فجأة جاء اتصال هاتفي من أحد الأصدقاء، يُبلغها بنعي ماتسوكي. لم تنشر جريدة واحدة في الصفحة الأولى نبأ موت هذا الرجل الذي ابتعد منذ زمن طويل عن أضواء المجتمع.
ستسكو التي أصبحت سريعة التأثر بكت عند سماع ذلك النبأ، وتعجبت من مصادفة تزامن موت ماتسوكي مع إجرائها للعملية في نفس اليوم بالصدفة. وأحست أن ذلك العجوز الغارق في الوحدة قد فداها ومات عوضًا عنها، ثم لم يكن هناك شيء يجبر ستسكو على الفراق أكثر من هذه التخيلات، وكذلك نشرت جريدة أحد الأيام نبأ حادثة انتحار أحد الأشخاص الذين أثاروا إعجاب الدنيا، بسبب نشر إحدى صحف الفضائح لتفاصيل الفوضى داخل أسرته. كانت تلك الحادثة طعامًا لنقد المجتمع لضعف شخصية المنتحر، ولكن في ذات الوقت ارتفعت أصوات تمدحه قائلة إنه فعل أخلاقي ندُر وجوده في العصر الحالي، ولكن كانت شخصية ذلك المنتحر في غاية الاستقامة وكان شديد المراس مع نفسه ومع الآخرين، وعند اكتشاف هذا التناقض، من المحتمل أنه لم يستطع تحمل ذلك، ثم إن موضعه في المجتمع كان موضعًا يحتِّم عليه أن يكون قدوة للمجتمع، لدرجة لا يمكن معها التسامح مع أي عار أخلاقي ولو ضئيل.
كانت ستسكو مدعوَّة بالصدفة منذ اليوم السابق على مأدبة غداء مع والدها. هناك حيث كانت مأدبة لوالد وابنته منفردين، من الطبيعي أن يتطرق الحديث إلى أنباء الصباح تلك.
والدها كاغياسو فوجي قد أصبح في الخامسة والستين من العمر. كبير العائلة ذو الشعر الأبيض الجميل والأخلاق العالية والشخصية الرصينة كان موضع احترام وتبجيل المجتمع. مهما استخدمنا المنظار المكبر وبحثنا في طول حياته وعرضها، لن نجد أي إخلال أو خروج عن مبدئه السياسي ولا أي سقطات أخلاقية شخصية. وكنتيجة لذلك، فهو حاليًّا، رغم اختلاف مسار المجال الوظيفي عما كان عليه فيما مضي، فهو بحق يحمل صفات شخصية لا غبار عليها مهما نظرنا إليها من أي اتجاه ويشغل وظيفة تمثل عدالة الوطن بعدما طُلب منه ذلك بصفة خاصة.
ولكنه لم يكُن أبدًا ذا شخصية صعبة المراس تسيطر وتتحكم في الآخرين. كان حليمًا عطوفًا تجاه الناس. كان من نوع الناس الذين لو سقط عليهم أخطاء وذنوب الأخرين ينسحبون بأنفسهم في نقاء وهو يعتقد أنه ذلك من سوء أخلاقه هو.
لقد كانت ستسكو محبوبة بشكل خاص من والدها. لم يكن أبدًا أبًا يحابي وينحاز لأحد، ولكن كانت ستسكو تقترب منه أكثر من باقي بناته الكثيرات، وكذلك من وجهة نظر والدها تبدو له ستسكو ضعيفة من الدرجة الأولى وفي احتياج دائم لحماية من نوع ما.
وسط مشاغله الكثيرة في عمله، عندما يصادف أن يكون لديه يوم ليس هناك مواعيد محددة في وقت الغداء يستدعي كاغياسو بناته واحدة بعد أخرى من بيوت أزواجهن المختلفة لدعوتها على الغداء، وأصبح ذلك أكبر متع الحياة. وسبب دعوتهن كل واحدة بمفردها هو حرصه على ألا تعرف الواحدة منهن المشاكل الأسرية التي تواجه أخواتها الأخريات، ولكن رغم ذلك ولأن كاغياسو لديه ضبط النفس تجاه كل الأمور فهو لم يسبق له أن أخذ موقف السؤال من نفسه ومحاولة التقدم واستخراج الأسرار الأسرية لهن أثناء الحديث. تزوجت إحدى بناته عالمًا محبًّا للعلم ولكنه فقير، وهو في الواقع يعطيها مع هدية الغداء مبلغًا ماليًّا بشكل غير ملحوظ.
دُعيت ستسكو في ذلك اليوم وذهبت إلى مكان هادئ كان في الماضي قصرًا لمالك إحدى كبريات المجموعات الاقتصادية السابقة، وقد أصبح اليوم ناديًا اجتماعيًّا بنظام العضوية. داخل نطاق القصر الواسع يوجد عدد من المباني الصغيرة. وفي كلٍّ منها حجرتان أو ثلاث حجرات على الطراز الغربي مع غرف تدخلها الشمس، وهناك استطاعا تناول الطعام بمفردهما في روية وتؤدة.
وكل مبنى صغير يحتوي على حديقة واسعة، وعلى حوافِّ الحشائش توجد زهور الكاميليا الوفيرة. وتوجد شجرة كرز قديمة عملاقة، ولكنها لا زالت براعم ولم تزهر بعد، وكذلك مظهر الأشجار المتعددة الفاخرة، يجعلك تتذكر ماضي مدينة القصور في طوكيو التي نجت من الحرق في الحرب. لم يأتِ الوالد بعد. أسلمت ستسكو جسدها لمقعد طويل عتيق ولكنه رصين. عدم وجود نار في المدفأة، يجعل الجو يبدو بدرجة تُحس معها بالوحشة الضئيلة. لا يجعلك المكان تُحس بأنه في مركز ووسط العاصمة طوكيو. لا يُسمع صدى أصوات السيارات من أي مكان.
مع تأملها الحديقة ذات الحشائش الزابلة الجميلة تحت أشعة الشمس، تذوقت ستسكو هذه اللحظات من الراحة التي تغلغلت فيها. ستسكو التي ارتدت بذلة سوداء تماشيًا مع ذوق والديها، مدَّت رجلها ذات الشكل الرائع، ناحية المدفئة التي لا يوجد بها أي أثر للنار. جمال الشكل هذا لا زال على حاله ولم ينكسر مطلقًا.
وسط تلك الراحة غير المتوقعة، لم تأتِها اليوم حالة الشعور بالمرض التي تشع خمولًا وإجهادًا فوريًّا. كانت راحة اليوم بها شيء ما حيوي منعش يشمل الجسم.
انتبه الوالد الذي دخل أخيرًا المكان على الفور لملامح وجهها الصافية. «رائع أنك تبدين بخير.» هكذا قال الأب لابنته التي أسقطت بذرة الخطيئة من أسبوع فقط لا غير. ثم تابع كلامه: «ولكن ماذا حدث؟ يبدو لي أنك نحفتِ بشدة، أم هو ظن خاطئ مني؟»
تحدث الاثنان بأحاديث كثيرة غير مثيرة. كان العيب الوحيد الذي يجب ذكره لكاغياسو، هو انعدام الفكاهة واللباقة في حديثه، وتذكرت ستسكو وهي تجاريه في حديثه جو منزل عائلة فوجي الرتيب. فهمت ستسكو أنها قد أرهقت من اللباقة بعد انغماسها طوال العام الماضي كله في غرامها غير الأخلاقي؛ فمهما كانت اللباقة رائعة وجميلة، أليس من الممكن أن تكون ستسكو قد خُلقت غير مناسبة للباقة؟
تم إخبارهما بأن الطعام قد تم تجهيزه، وجلس الاثنان على مائدة تطل على الحديقة. فرد على الركبة منديلًا منشًّى للغاية. ثم انتظرا لأن تُحمل أطباق المقبلات، وحينها تطرَّق الحديث إلى موضوع الخبر الذي نشرته صحف الصباح.
قال كاغياسو: «أنا كنت أعرف الرجل رغم أننا لم نكن بهذه الدرجة من الألفة والمعرفة. كان رجلًا عظيمًا. رجلًا ليس به أية عيوب ولا عليه أية ملاحظات، ورغم ذلك كان رجلًا تعسًا بدرجة لا يمكن تبريرها.»
– «ولكن هل حدث شيء لدرجة أن يُقدِم على الانتحار؟»
– «لا حيلة في ذلك، فهو أمر يعتمد على شخصية كل فرد على حدة.»
جاءت أطباق المقبلات فبدأ الاثنان تناول الطعام. أحست ستسكو بطزاجة شهيتها العادية للطعام، واحتواها توقُّع أنها يمكنها مواصلة الحياة وتخطيها حتى لو فقدت هدفها الأول في الحياة.
ولكن ستسكو في تلك اللحظة، أحست بصدمة عنيفة فجأة من موضوع المنتحر الذي طُرح توًّا، وانفصلت عن مشاعر الراحة والهدوء التي سقطت فيها لوهلة. فجأة لم يعُد هذا الموضوع مجرد خبر في جريدة، ولكنه تحوَّل ليصبغ العلاقة بينهما كأبٍ وابنة. جربت ستسكو لأول مرة أن تربط بين غرامها وبين ضمير والدها الوظيفي بخيط واحد مستقيم؛ فهجم رعب شديد عليها.
«مثلًا … نفترض جدلًا، لو حدث شيء شبيه بذلك حولكَ يا أبتِ، ماذا أنت فاعل؟ هل فعلًا ستقوم بالانتحار؟»
كان صوت ستسكو يرتجف قليلًا، وأجاب كاغياسو على الفور: «لا لن أنتحر .. فالانتحار في اعتقادي ذنب عظيم، ولذا لن أنتحر، ولكن ماذا أقول … أجل، لو فرضًا أنه حدث مثل ذلك لي فربما أتقدم باستقالتي في نفس اليوم. ليس في عائلتي فحسب. فلو أخطأت أي من بناتي المتزوجات، فلم يكون ذلك مستساغًا في مهنتي هذه، وبالنسبة لي لا فرق بين ظهور ذلك في العلن من عدمه، بل يكفي أن أعلم أنا فقط بذلك. عندها سأتقدم باستقالتي في نفس اليوم، وأعزم على الاختفاء من الحياة العامة، ولحسن الحظ لا يمكن وقوع شيء مثل ذلك في محيطي، ومقارنة نفسي بذلك الرجل الذي انتحر، أعتقد أنني قد أُعطيت فوق ما ينبغي. يوجد الكثير من الإجهاد والمعاناة في عملي، ولكن يا ستسكو سأقول لك كلمة واحدة: أنا الآن أعيش في سعادة كبيرة.»
كانت تلك على الأحرى كلمة امتنان وشكر، وبسبب تلك الكلمة ثارت زوبعة من الأفكار داخل عقل ستسكو؛ فهي لم تكن امرأة وُلدت لتكون علكة تُمضغ في الجرائد. عائلة فوجي الهادئة الوادعة المشرقة، ذات الأخلاق السامية، عائلة لا تحاول خرق القواعد والقوانين، ولا تسيطر عليها الغريزة، قلب لا يعاني ولا يتعب من الملل، والحقيقة أنها عائلة لا تقامر بنفسها على أشياء غير ملتزمة، وكذلك من المفروض أن ستسكو أيضًا تحتويها تلك الصفات، والحقيقة أن ستسكو لم تشعر أبدًا بأي مقاومة لتلك الصفات، قبل وقوعها في الغرام.
في غداء ذلك اليوم أخذت ستسكو بكل وضوح قرار الفراق.
كانت ستسكو بالفعل تعِي النفاق، وكانت تحبه وهي التي اختارته، والنفاق كذلك له وجهه جيدة عديدة. إذا سكن الإنسان داخل النفاق فقط، يصبح لا يستطيع تذكر ظمأ القلب تجاه ما يُدعى الفضيلة، والأمل أن ذلك أيضًا يُوقف كل أنواع الظمأ.