الفصل السادس
تحررت ستسكو من الخيالات وأيضًا من الإحساس بالذنب، والآن حتى ذلك الطلب الذي طلبته بنفسها لا يوجد شعور بالندم عليه.
وضع الاثنان في الاعتبار عمل تسوتشيا وتعاهدا على السفر في رحلة معًا في شهر مايو، وكذلك بالنسبة لستسكو كان ضروريًّا لها ذلك الوقت للاستعداد، فقد كان يجب عليها التفكير في حجج عديدة ورسم خطط ووضع سيناريو.
كان تسوتشيا حنونًا بدرجة لا يمكن التعبير عنها، ولقد سكرت ستسكو في ذلك الحنان حتى اليوم التالي، وفي غمرة ذلك السُّكر ذهبت في الصباح الباكر إلى الطبيب، وفي غمرة ذات السكر أنهَت العملية. هل علم الطبيب أنها كانت في درجة لا تستدعي حتى حقنها بالبنج؟
ولقد تولدَت داخل ستسكو، ستسكو الحقيقيةُ واستيقظَت؛ فلقد اكتشفَت الرجل الذي يجب أن تحبه، والأمر العجيب أن منذ الليلة التي اتفقا فيها على السفر في رحلة معًا وتسوتشيا بدأ يتصرف معها بسلوك الحبيب، وكأنه منذ ذلك اليوم قد وجد الدور الذي يجب عليه أن يقوم به.
كانت يده وكلماته الآن مرتبطة الآن بشكلٍ ما بالغنج. كان يلمح بسرعة شديدة ما إذا كانت ستسكو مرهقة قليلًا، أو متعكرة المزاج قليلًا، ولقد كان من العجيب بالنسبة لستسكو التفكير أين وكيف كان يُخفي هذا الفتى حتى الآن هذه الدرجة من سرعة البديهة وقوة الملاحظة بشكل كامل.
صار الاثنان على الفور على علاقة قوية بحيث يتواصل قلباهما من مجرد النظر. لم تشعر ستسكو من قبلُ بشهوانية أنوار المدينة كل ليلة في شهر أبريل كما تشعر بها هذا العام.
في إحدى الليالي، تواعد الاثنان وشاهدا فيلمًا سينمائيًّا انتهى قبل الساعة التاسعة، وعندما خرجا من دار العرض، حدث انقطاع كبير للتيار الكهربائي نادرًا ما يحدث. انطفأت كل أنواع الإضاءة في المدينة، وأنوار النيون انطفئت وهي ترتعش. بعد مرور ثوانٍ قليلة أضيئت مرة أخرى، وعادت أنوار النيون ترتعش مرة أخرى لتضيء، وأضيئت نوافذ مبنى إحدى الجرائد في وقت واحد. ولكنها بعد أن أضيئت عادت لتنطفئ مرة ثانية، وبقيت فقط إضاءة المباني التي تمتلك مولدات كهربائية خاصة بها.
المدينة التي كانت حتى تلك اللحظة مليئة بالأضواء، كان منظرها وهي تختفي فجأة في الظلام، مؤلمًا وقاسيًا. حتى إشارة المرور في تقاطع الطريق انطفأت، وبدأ عساكر المرور في استخدام فوانيس ومصابيح يدوية لتنظيم المرور، وفي طريق سير السيارات، كانت إضاءات السيارات الأمامية فقط هي التي تُشع وتتلألأ وتمرُّ السيارات مخترقة الظلام اعتمادًا على هذا الضوء غير المستقر فقط.
كان هذا الإحساس بالفوضى يناسب كثيرًا ما يُحسَّان به في قلبيهما، وكأن المدينة قد أحدثت تغيرات في نفسها من أجلهما، من أجل أن تتناسب معهما بجعلِهما يشعران بحظ سعيد بشكلٍ ما لم يكن يُتوقع. كانت أمنية ستسكو في الأيام الأخيرة هي حدوث شيءٍ ما، وقوع كارثةٍ ما غير متوقعة. في الشوارع الضيقة هنا وهناك، خرج الناس من المحلات جماعات وأفرادًا مُحدِثين جلبة. هذا الإحساس المقلق زاد من قوة دفء تلك الليلة المبكر عن موعده بأكثر من شهر حسب التقويم.
مرَّ الاثنان من أمام فرع التوزيع لإحدى الجرائد. داخل فرع التوزيع سيطرَ الظلام كاملًا وكأنه كهف، وتتوقف عدة شاحنات سوداء في الداخل. ويوجد ما ينمُّ على أن عددًا كبيرًا من الرجال يعملون في الداخل وسط الظلام الدامس. صرخ أحد هؤلاء الرجال بصوتٍ عال: «لقد وُضعت مفرقعات في محطة توليد كهرباء إيناواشيرو. حدث انفجار. لقد انفجرت محطة توليد الكهرباء!»
وعلى الفور أضاء نور مشع تسلط على العين، وكانت شاحنة توزيع الطبعة الأولى من النسخة المسائية للجريدة قد أنارت الأنوار الأمامية لها وبدأت الحركة في عجالة ومبالغة.
بعد أن تخطيا ذلك المكان نظر تسوتشيا وستسكو بعضهما لبعض. هل تلك الصرخة التي دوَّت في الظلام حقيقة؟ ولو كانت حقيقة، هل هي تعبر عن حدوث ثورة أو اضطرابات وعنف قريب من نوع الثورات؟
«أسرِع بشرب خمر الساكي المعتَّق في الظلام وقبل حلول الضوء!»
هذه المرة كانت الصرخة القادمة من فرع التوزيع بهذا الحال، وبعدها حدث هرج ومرج عبارة عن ضحكات لرجال عديدين بصوت قوي وكبير.
تأثرت مشاعر ستسكو، والقلق الذي لا يمكن التعبير عنها أصبح مرتبطًا بالجسد في التو والحال. ولأن في وسط ظلام المدينة هذا لا حاجة لأخذ عيون الناس في الاعتبار، ولكن كان قلق من نوع آخر هو الذي جعل ذلك القلق يذهب، وأصبحت مشاعر ستسكو واضحة ومكشوفة. وأحست ستسكو أنها في لقاءاتها المتتابعة مع تسوتشيا لم يسبق لها من قبل أن سارت في المدينة بمثل هذه المشاعر الممتلئة بالرضا.
وصلت حرارة ذراع تسوتشيا إلى ذراع ستسكو المنعقدة بها، واتضح تمامًا أن ذراع الرجل التي كانت تظهر مرات عديدة على فترات متقطعة في ذاكرتها هي تلك الذراع. طلبت ستسكو من تسوتشيا لأول مرة أن يقبِّلها في وسط طرقات المدينة. توقف تسوتشيا وقام بتقبيلها خلف ظلال لافتة دعاية مجاورة.
لا يمكن إعفاء ستسكو من سباب قبيح لتشبثها بنظرة الاستعلاء الاجتماعي حتى في ذلك الوقت، ولكن لم يكن ذلك بلا علاقة بالمشاعر التي سيطرت عليها وقتها والأحاسيس التي حثتها عليه. في وسط الجلبة والفوضى التي حدثت في المدينة بسبب انقطاع الكهرباء الكبير، ومع رؤية حلم الثورة والاضطرابات، عنصرية ستسكو المتخلفة عن العصر حقًّا، جعلتها ترسم بوضوح أفكارًا أن موقفها هو موقف الضحية لتلك الأحداث. كانت تلك الأوهام والخيالات هامة في تشجيع شهوانية ستسكو التي لا يوجد ما تعتمد عليه.
واصلت ستسكو أوهامها في التساؤل من هو يا تُرى الفتى الواقف أمامي، من هو عشيقي هذا؟ لم يكن يمثل لها عدوًّا، وكذلك وفي نفس الوقت لم يكن مطلقًا حاميها الذي يعتمد عليه. إنه الفتى الذي يوافق ذوق وهوى ستسكو في الرجال، رجل من نفس بيئتها .. بمعنى أنه أيضًا أحد الضحايا.
ارتعد قلبها بالأفكار «هذا الشخص أيضًا ضحية» وبهذا الشكل اكتملت شروط هوايتها القصصية.
ألَا يحدث مرة ويصل عقل ذلك الفتى الذي يدعى تسوتشيا إلى فكرةٍ ما؟ كانت ستسكو هذه المرة أيضًا هي التي طرأت عليها الفكرة. فكرت أنها تريد الذهاب لرؤية الحديقة الواسعة القريبة من منزلها في ليلة انقطاع الكهرباء الكبير هذه.
أوقف الاثنان سيارة أجرة، ثم نزلا أمام مدخل تلك الحديقة بعد حوالي عشر دقائق من السير بالسيارة الأجرة. لم تكن تلك الليلة هي التي تظهر فيها هذه الغابة عملاقة. تنتشر السحب في السماء فلا يمكن رؤية القمر أو النجوم.
سارا فوق النجيل تحت أشجار أَرز الهيمالايا. كانت الأضواء الأمامية للسيارات ترسم بلا انقطاع ظلالًا قلقة، وتنتقل ظلال الأشجار من مكان لآخر. تطلق أضواء السيارات الأمامية التي تأتي من على بعد مائتي متر، أشعتها العنيفة على العيون، ولكن على الفور ومع انحناء السيارة مع الطريق تضعف تلك الأشعة لتذهب فجأة بعيدًا.
ومع تردد صافرة التنبيه لسيارة في أفق الغابة بعيدًا، وفجأة بوضوح تام، تسمع صوت قبقاب ياباني أو صوت أحذية غربية تقترب. نهض الاثنان على عجل. ثم بعدها عرفا أن ذلك على غير المتوقع بعيد جدًّا عنهما. وأثناء احتضانهما فوق الأعشاب، لمس الاثنان لأول مرة جسد كل منهما الآخر بأناملهما. وعرفت ستسكو جيدًا أن جسد تسوتشيا ملتهب بالحرارة. ولكن لأن ستسكو طيبة القلب، فقد ظلت تلمس جسد تسوتشيا الصامت مع علامة الحرارة المظلمة في رأفة يمكن تقريبًا القول عنها إنها مشاعر شفقة. لقد نسيت تمامًا حتى ذلك الوقت أن ذلك الرجل به مقومات الطيش والتهور.
بعد فترة قصيرة، أُنيرت أعمدة الإنارة العديدة الموجودة في الحديقة في وقت واحد. ومع نفس اللحظة نهض الاثنان واقفَين، وسارا صامتَين لفترة طويلة. وفجأة أرادت ستسكو أن ترى منبت الشعر في قفا تسوتشيا فتوقفت، وجعلته يسبقها. بعد أن سار تسوتشيا خطوتين أو ثلاث خطوات توقف وسألها عن السبب، ردت ستسكو وهي تضحك قائلة: لا شيء.
هل وقعت الثورة حقًّا؟ لا لم يكن الأمر كذلك. في الصباح التالي وأثناء جلوسها على المائدة مع زوجها لتناول طعام الإفطار، قرأت ستسكو خبرًا في الجريدة أن سبب انقطاع التيار الكهربائي ليلة أمس هو وقوع صاعقة على محطة توليد كهرباء إيناواشيرو.
سألت ستسكو: «هل يا ترى حدثت صواعق ليلة أمس؟»
رد زوجها: «لا لم يحدث.»