الضحية الأولى
تكهن ساحرة
في ليلة من ليالي شهر ديسمبر عام ١٦٥٧، رَسَت عربة خالية من الزخرف الذي امتازت به عربات الأشراف في ذلك العصر أمام منزل من منازل شارع هوتفوي بباريس، وكان أمام ذلك الباب عربتان أخريان راسيتين، فترجَّل — حال وصول العربة القادمة — خادمُها، واقترب من باب العربة ليفتحه لراكبيها، ولكن أوقفه رخيم صادر من داخل العربة يقول: انتظر لأرى هل هذا هو البيت المقصود!
ثم أطلت من نافذة العربة سيدة مقنعة ومرتدية برداء من القطيفة السوداء قد سترها حتى رأسها، فرفعت عينيها تنظر إلى المنزل الذي وقفت أمامه العربة كأنها تبحث عن علامةٍ عليه، ثم ما لبث أن التفتت لرفيقتها التي كانت معها في العربة، وقالت لها: قد وجدنا ما ننشده، فهذا هو المنزل، وتلك هي اللوحة.
مدام فوازين قابلة.
وولجت السيدتان باب المنزل؛ إذ وجدتاه مفتوحًا نصف فتحة، فإذا هما في دهليز طويل يكاد يكون مظلمًا لولا ضوء قنديل ينير لسالكه السبيل، فسارتا في الدهليز حتى بلغتا دَرَجَ المنزل فرقيتاه، وكانت إحداهما تتقدم الأخرى. ولم تقصد الزائرتان الطبقة الثانية التي عُلِّقت على نوافذها اللوحة، بل صعدتا إلى الطبقة التي فوقها.
ولما بلغتاها استوقفهما رجل من الأقزام أحدب غريب الزي قد كُسي كسوة السخريين من أهل البندقية في القرن السادس عشر. وسألهما الأحدب عما تريدان، فقالت إحداهما، وهي ذات الصوت الرخيم: نريد أن نستشير الروح.
وكان في صوت المتكلمة بعض الاضطراب، فقال لها الحارس ولصاحبتها: ادخلا وانتظرا.
ثم رفع بيده ستارًا، وأدخل السيدتين في غرفة انتظار.
ولبثت السيدتان تنتظران، ومضت عليهما نصف ساعة لم تنظرا أو تسمعا فيها شيئًا، وبينما هما على تلك الحال إذ أُزيح ستار وفُتح باب خفي، وسمعتا صوتًا يقول: ادخلا.
فانتقلت السيدتان إلى غرفة كُسيت جدرانها بالسواد، يضيئها مصباح ذو ثلاث فتائل، قد عُلِّقَ في وسط السقف.
وقُفل الباب وراءهما ونظرا، فإذا هما في حضرة الساحرة.
وكانت الساحرة فتاة بين الخامسة والسادسة والعشرين، تميل بحركاتها وكلماتها إلى أن تظهر في سن أكبر من سنها الحقيقي — بعكس سائر بنات حوا — فكانت مرتدية لباسًا أسود، مسترسلة الشعور ضفائر حول رأسها وعارية الجيد والأطراف، وكانت ممنطقة بمنطقة من الجلد ذات قفل مُحلى بحجر من العقيق.
وكانت الساحرة قائمة على منبر تنبعث منه روائح عطرية شديدة.
ولم تكن الساحرة بارعة في الجمال، بل كان جمالها عاديًّا، إنما كانت عيناها تظهران للناظرين أنهما واسعتان اتساعًا غير عادي؛ لكحل كانت تكتحل به فتنبعث منهما بروق خلابة للأبصار، فكأنهما حجران من عقيق كالحجر الذي في منطقتها.
ولما دخلت الزائرتان وجدتا الساحرة ملقية برأسها على يدها وكأنها غارقة في لُجَّة من الأفكار، فخشيتا أن تخرجاها مما هي فيه، فانتظرتا أن يروق لها أن تخاطبهما. ومضت عشر دقائق، ثم رفعت الساحرة رأسها ونظرت إلى القادمتين كأنها لم تتنبه لوجودهما إلا تلك اللحظة، وقالت تسألهما: ماذا تريدان مني؟ أفما قُدِّر لي أن أستريح إلا في اللحد؟!
فقالت ذات الصوت الرخيم: عفوًا يا مولاتي! إنما أريد أن أعلم …
ثم نزلت الساحرة عن منبرها، ودخلت غرفة أخرى، وما لبثت أن عادت منها باهتةً شاحبة اللون، وبيمناها موقد مشتعل، وبالأخرى ورقة حمراء. وفي تلك اللحظة تضاءل الضوء المنبعث من فتائل المصباح حتى كاد ينطفئ المصباح، ولم يبقَ في الغرفة إلا ضوء الموقد المنبعث من لهيب النار، فتغيرت ألوان الأشياء، واكتسبت صبغة تؤثر على الأنظار فتجعلها كأنها تنظر إلى خيالات لا حقائق، فاضطربت الزائرتان وودَّتا لو لم تأتيا هذا المكان.
ووضعت الساحرة الموقد وسط الغرفة، وقدَّمت الورقة للسيدة التي كانت تخاطبها وقالت لها: اكتبي ما تريدين أن تعلميه.
هل أنا فتاة؟ وهل أنا جميلة؟ أعذراء أنا أم ذات زوج أم أرملة؟ تلك أسئلتي عن ماضيَّ.
هل قُدِّر لي أن أتزوج؟ أم أترمل ثم أتزوج؟ وهل حياتي طويلة أم قدر لي أن أموت في سن الشباب؟ تلك أسئلتي عن مستقبلي.
ثم قالت السيدة للساحرة: ماذا عليَّ أن أصنع الآن؟
قالت لها: اطوي الورقة حول هذه الكرة.
وقدمت لها كرة من الشمع واستمرت قائلة: ستلتهم النار الكتاب والكرة بحضرتك، وقد عَلِمَتِ الروح أسرار سريرتك، وسيصلك الجواب قبل انقضاء ثلاثة أيام.
فقذفت الطالبة بالكرة والكتاب في موقد النار، فقالت الساحرة: تم المراد.
ثم نادت: يا كوموس.
فدخل الأحدب فقالت له: رافق هذه السيدة حتى عربتها.
فخرجت الزائرة تتبع الأحدب بعد أن تركت على مائدة الساحرة كيسًا مملوءًا بالدراهم.
وسار الأحدب بالسيدة ورفيقتها، وما كانت رفيقتها إلا وصيفتها وأمينتها، فنزل بهما من درج غير الذي كانتا رقيتاه معدٍّ لخروج الطالبين وموصل للمنزل من طريق غير الذي أتيتا منه. وكان سائق العربة قد نُبِّهَ إلى انتظارهما عند هذا الباب، فوجدتاه في الانتظار.
وصعدت السيدتان إلى العربة، وسارت بهما نحو شارع دوفين.
•••
إلى البروفنسية الحسناء.
وكان الورق المسطر عليه الجواب من جنس الورقة التي كُتب عليها السؤال.
فاضطربت السيدة، وانبعث من صدرها صوت ضعيف دل على رعبها، ورأت أن الإجابة عن ماضيها سديدة صادقة، فخشيت أن يصدق كذلك تكهن الساحرة عن مستقبلها.
البروفنسية الحسناء
إن السيدة التي قصدت الساحرة لتعلم ما خُبِّئ لها في المقدور، كانت أجمل نساء عصرها وأشهرهن في الجمال، وإليك قصتها:
كانت السيدة تدعى ماري ده روسان، وكانت قبل زواجها تدعى مادموازيل شاتو بلان، باسم إحدى المزارع التي كانت لجدها — أبي أمها — يوانيس ده نوشير بمقاطعة بروفنسة، وكانت ثروة جدها تربو على خمسمائة ألف دينار، ولما بلغت ماري الثالثة عشرة (عام ١٦٤٩) تزوجت بالمركيز ده قسطلان، من كبار أشراف عصره، وسليل حنا ملك قسطلة ابن بطرس القاسي من محظيته حنه ده كسترو.
وكان المركيز ضابطًا في المدرعات الملوكية، فبادر بتقديم عروسه إلى حاشية الملك لويس الرابع عشر، فاحتفى بها الملك، وأدهشه جمالها الرائع، وكان الملك إذ ذاك في العشرين من عمره، وبلغ احتفاؤه بعروس تابعه أن رقص معها مرتين في ليلة واحدة، حتى بلغت غيرة السيدات منها مبلغًا عظيمًا.
واتفق أن كانت كريستين ملكة أسوج ضيفة في بلاط لويس الرابع عشر إذ ذاك، فلما شاهدت ماري قالت: إنه لم تقع عيناها في جميع الممالك التي زارتها على امرأة يقاس جمالها بجمال هذه «البروفنسية الحسناء»، فأيد مديحُ الملكة مديحَ الناس، وتمت به شهرة المركيزة ده قسطلان، فلم تعد تُعرف بين الناس إلا باسم «البروفنسية الحسناء».
واشتهر جمال المركيزة، وتحدث به الناس، فقصدها الرسام مينار أشهر مصوري زمانه، وطلب منها أن تسمح له بأن يصورها فسمحت، ولا تزال الصورة باقية ممثلة لهذا الجمال بعد أن فني هيكله.
كانت المركيزة ذات بياض ناصع مشرب بحمرة، وقد امتزج اللونان على بشرتها امتزاجًا لا يتمكن أمهر مصور أن يؤديه على جماله الطبيعي، وكان بياض محياها يزيده بهاءً ونورًا سوادُ شعورها، وقد كللت جبينًا كأنه اللجين. أما عيناها فكانتا نجلاوين وكأنهما شُقَّتا في مرمر، وكانتا في لون شعورها، وينبث منهما بريق لطيف يخترق القلوب؛ فلا يتمكن الناظر أن يطيل فيهما النظر. وقد أبى الله أن يخلق لفمها مثيلًا؛ إذ دق الفم فكان كالخاتم، وارتسم الحسن بكل معانيه على شفتيها، فإذا ابتسمت انجلت الشفتان عن عقدين من اللؤلؤ. وكان أنفها جميلًا، وقد صوره الباري فصور فيه معاني الرفعة والعظمة والشمم. وكان وجهها مستديرًا كأنه البدر في ليلة تمامه، وقد تمثلت فيه الحياة والصحة والشباب بأجمل تمثيل، وأراد الله أن يكملها بالحسن، فجعل في كل حركة من حركاتها ونظرة من نظراتها ما يستميل أنفر القلوب وأبعدها عن التصديق بآية الحب. وكانت قامتها متممة بجمالها لجمال محياها. أما يداها وساعداها ووقفتها ومشيتها فما كانت إلا لتزيد جمالها جمالًا، فلا يلبث رائيها أن يقر بقدرة الباري عز وجل؛ لإبداعه في شخص هذه المركيزة، أجمل مخلوقة في أكمل صفات الجمال.
ولا يخفى أن امرأة حباها الله من الحسن ما حبا هذه المركيزة، لا تَسلمُ من ألسنة الوشاة وأقوال الحساد في حاشية أحزابها تدبرها النساء، وللنساء فيها الكلمة الكبرى والقول المسموع، ولكن لم يبلغ الوشاة في المركيزة غرضًا؛ لأنها كانت في جميع أحوالها، وخصوصًا عند غياب بعلها عنها، حريصة على شرفها، أمينة على عرضها، محتشمة في أقوالها وأفعالها رغمًا عن رقة ألفاظها ولطيف نكاتها أو رشاقة حركاتها، ولما عجز الوشاة عن إصابتها في عرضها تعرضوا لصفاتها، فقالوا: إن جمالها غير جذاب، فكأنها صنم من الأصنام؛ وجهٌ من مرمر، وقلب من رخام.
ولكن أبى الله إلا أن تخسر الوشاة وتسودَّ وجوههم إذا أقبلت المركيزة على مجلس هم فيه، فتراهم سكنوا في حضرتها، وكذبت أقوالها وأفكارها مفترياتهم في وجوههم، فيقبل عليها الحضور يمتعون العين بجمال مرآها، والأذن برقة حديثها ورخامة صوتها، والقلب بعذوبة ألفاظها ودقة معانيها؛ فتستهوي القلوب وتجتذب الأفئدة، فيعترف كل من لم يكن رآها قبل ذلك أنه لم يرَ مخلوقًا قرَّبه الله من الكمال في كل شيء مثلها.
ولبثت المركيزة في قومها محبوبة محترمة الجانب، لا تصل إليها ألسنة الواشين، ولا يبلغ فيها كيد الكائدين، حتى بلغ القومَ خبرُ غرق المدرعات الملوكية في مياه صقلية، وموت المركيز ده قسطلان أميرها وقائدها.
وما أثَّرَ هذا المصاب على ما امتازت به المركيزة من صفات التقوى؛ فظهرت في الناس صبورةً على أحكام الدهر، راضخة لما قدر الله. وكان قد مضى على زواجها بالمركيز سبع سنين لم يتمتع بقربها فيها إلا قليلًا، فلم يتعلق قلبها به تعلقًا يورثها اليأس من بعده أو يفقدها الرشد لفقده، إلا أنها اعتزلت المحافل والمآدب عقب هذا المصاب، كما تقضي به الآداب، وآوت إلى زوجة أبيها مدام دمبوس، فأقامت لديها.
وأقامت المركيزة عند مدام دمبوس ستة شهور؛ فأرسل لها جدها المسيو يوانيس يستقدمها إليه بأفينيون لتمضي لديه أيام حدادها. وكان للجد منزلة ومحبة ثابتة في قلب حفيدته؛ لأنه رباها صغيرة وعني بأمرها كبيرة، فلهذا أسرعت في تلبية دعوته، وتجهزت للرحيل إلى بلدته.
وكانت ظهرت في تلك الأثناء فوازين الساحرة وشاع أمرها؛ فتحدث الناس بعلمها، وذهبت سيدات من صاحبات المركيزة إلى تلك الساحرة لتكشف لهن خفايا المقدور، فتكهنت لبعضهن تكهنًا أظهرت الأيام صدقه، ولا ندري أخدمَتها الصدف وساعدتها المقادير في صحة تكهنها، أم تمكنت بفراستها ومهارتها من تبين الغيب من صفات قاصديها لاستشارتها.
ودفع المركيزةَ حبُّ الاطلاع إلى زيارة هذه الساحرة؛ لِمَا سمعته عن علمها وقدرتها، فقصدتها كما رأينا في الفصل السالف، وكان ذلك قبل سفرها إلى أفينيون بأيام قلائل، وقد علمنا الإجابة التي أرسلتها لها الساحرة طي الخطاب.
ولم تكن المركيزة ممن يعتقدن بالكهانة، إلا أن تكهن الساحرة ترك في قلبها أثرًا سيئًا، وارتسم في ذاكرتها ارتسامًا ثابتًا لم تتمكن من محوه رؤيا وطنها العزيز وقد عادت إليه، ولا ملاطفة جدها وحنوه وقد رجعت إلى أحضانه، ولم تتمكن من إزالة تلك الوساوس الملاهي والألعابُ أو المقامُ الذي نالته المركيزة بآدابها وجمالها بين الناس. ولما عجزت عن صرف هذا الشاغل طلبت من جدها أن يُؤذن لها بالدخول إلى دير لتقضي فيه ما بقي لها من شهور الحداد.
آل جنج
ولبثت المركيزة بالدير أيامًا، سمعت في خلالها باسم رجل له من الشهرة بالجمال بين الرجال ما لها بين النساء، وهو السيد لونيد مركيز ده جنج بارون لنجدوك وحاكم سنت أندريه بأبرشية أوزيس، وكانت رفيقات المركيزة من الراهبات يقلن لها عندما يحدثنها عن هذا السيد: كأن الله خلقكما يا مولاتي ليكون أحدكما للآخر.
فما لبثت المركيزة أن اشتاقت لرؤيا ذلك الرجل، وودت لو تجمعها الظروف به.
وبلغ المركيز ده جنج عن مدام قسطلان ما بلغها عنه؛ فتاقت نفسه إلى رؤياها، فتحايل حتى حمَّله جدها رسالة إليها، فتوجه للدير الذي آوت إليه، وطلب أن يقابلها بقاعة الاستقبال، فحضرت إليه ولم تكن نُبِّئَت عن اسمه، إلا أنها عرفته عندما وقع نظرها عليه؛ لأنها لم تنظر في حياتها رجلًا أجمل من زائرها ذاتًا، فحدثها قلبها أنه هو الذي طالما حدثوها عنه، وأطنبوا في مديحه، ولم يبالغوا.
وإذا أراد الله أمرًا هيأ له أسبابه، والمقدور لا بد من نفاذه، فما نظرت المركيزة المركيز حتى تبادل قلباهما الغرام.
وكانا في مقتبل الشباب، وللمركيز من جاهه وكرم أصله، وللمركيزة من مالها وجمالها ما جعل كلًّا منهما كفؤًا لصاحبه، وجديرًا بأن يصبح زوجه وأليفه، إنما روعيت لعقد القران واجبات الحداد؛ فأُجِّلَ إلى انقضاء أيامه.
ثم احتُفل بزواجهما في أوائل عام ١٥٥٨، وكان سن المركيزة إذ ذاك لا يزيد عن العشرين، وعمر المركيز أكبر من ذلك بسنتين.
وكانت السنين الأولى لهذا القران سعيدة مباركة؛ فشعرت المركيزة بحبها لزوجها حبًّا صحيحًا لم تكن تشعر به نحو زوجها الأول، وأراد الله أن يتمم أسباب هنائها؛ فرزقها ولدًا وبنتًا طابت بهما نفسها وقرَّت عينها.
ونسيت المركيزة تكهُّن الساحرة، وكانت كلما خطرت ببالها تعجب لنفسها؛ كيف ساغ لها أن تصدقها أو تجزع لها.
وكأني بك أيتها المركيزة وقد جهلتِ أن هذه الدار شقاء، وأن ليس لسعادة فيها بقاء:
فيا ليتك لم تستعذبي طعم الهناء؛ حتى لم تستعظمي مرارة الشقاء، بل ليتك لم تخطبي ود هذه الدار؛ فطبعها غدار، ويا ليتك قنعت بالعزلة في الديور، فما وراء معاشرة الناس إلا الويل والثبور، ولكن قدَّر الله فكان، وما لمخلوق أن يعاند ما قدَّره الرحمن.
وملَّ المركيز من سعادةٍ تأتيه في المساء بما تأتيه في الصباح، وفُطِر الإنسان على حب التنقل حتى في السعادات، ألا قُتل الإنسان ما أكفره! فأسف المركيز على لهو الشباب والتقلب في اللذَّات بين الأصحاب؛ فعاد إلى هواه القديم، ونسي أن بجانب زوجه النعيم المقيم.
ولا تلومنَّ فتاة تركها زوجها أن تركته، أو أهمل شأنها أن أهملته؛ فإن المركيزة لما تولَّى حب زوجها الغِيَر هجرته، وقصدت المحافل والمآدب حيث يقدرها الناس قدرها ولا يهمل المعجبون بها أمرها؛ فثارت لذلك غيرة المركيز، ولكنه خشي أن يصبح أمثولة في الناس أن تعرض لزوجها في ائتلافها بهم؛ لأن مجالس النساء الأديبات كانت في ذلك الحين مجتمع أهل الفضل والآداب من العلماء والكتَّاب. فكتم المركيز أمره، ولكن لم يطِق صدره أن يحمل سره، فصار كلما خلا إلى زوجته يوجعها بقارص الكلام ويذيقها من معاملته أشد الآلام، فحل الكدر محَلَّ الصفاء، وعقبه الهجر بعد الوفاق؛ فأصبحت المركيزة لا ترى زوجها إلا في ساعات معدودات لا مندوحة لهما فيها عن اللقاء. ثم ما لبث المركيز أن أصبح يحتج بأسفار تضطره للغياب، ثم صار يغيب دون أن تبدو لغيابه أسباب، وهكذا مضت على المركيزة تسعة شهور لم ترَ لبعلها فيها وجهًا أو تعلم له ميعاد أوبة.
وقد أجمع الكتَّاب على أن المركيزة صبرت على هجر زوجها وسوء عشرته صبر أولي العزم؛ فلم يَبدُ عليها ملل أو انكسار، وقلما أجمع الجمهور على الشهادة بمثل ذلك على إحدى بنات حواء.
وكان المركيز لمَّا ملَّ من معاشرة زوجته دعا لمنزله شقيقين له، أحدهما فارس والآخر راهب، وكان له أخ ثالث أميرالاي في فرقة لنجدوك، إلا أننا أهملنا ذكره في هذه القصة؛ لأنه لم يتداخل في حوادثها، ولم يشترك في مكائدها.
ولم يكن الراهب في الحقيقة من رجال الكهنوت؛ إنما اتخذ هذا اللقب ليتمتع بما له من المزايا بين الناس، وكان به لمحة من الجمال، وقطرة من الذكاء، وله اشتغال في أوقات الفراغ بنظم الشعر وتسجيع الكلام، وكان إذا غضب انبعثت من عيونه بروق تدل على قساوة في الطبع وغلظ في القلب، وكان مع ذلك ميَّالًا للَّذَّات مستعبَدًا للشهوات، لا يخشى منكرًا ولا ينفر عن معصية، كأنه حقيقة من رجال الدين في ذلك الحين.
أما الفارس فكان له نصيب أيضًا من هذا الجمال الذي اختصت به عائلته، إلا أنه كان عديم الإرادة خمول الذكر، من أولئك الناس الذين يفعلون ما يؤمرون، ولا يدرون أخَيرًا أم شرًّا يفعلون. وهكذا كان الفارس آلة في يد أخيه الراهب؛ يأتمر بأمره ويسمع لمشورته، ولا يستطيع أن يصرف نفسه عن اتباع أوامره، بل يعجز لضيق فكره أن يدرك مغزاها أو مرماها، فكان ينفذها كالآلة الصماء؛ ولذا كان ضرره أشد مما لو كان يدرك ويعقل.
وكان لإرادة الراهب سلطان على المركيز كما لها على أخيه، وكان الراهب صعلوكًا لا مال له؛ لأنه ليس أكبر أولاد أبيه، وكان الميراث للأكبر في الأولاد شريعة ذاك الزمن، فرأى أخاه المركيز قد استولى على ثروة أبيهما، وضاعفتها ثروة زوجته، وعن قريب تضم إليهما ثروة جدها ده نوشير؛ إذ هي وريثته بعد موته. فطمع القس في ذلك المال واحتال للوصول إليه، فأفهم أخاه أنه لا بد له من معين في إدارة شئون بيته وأمواله، وقدَّم له نفسه مستعدًّا لهذه الخدمة، فتقبل المركيز هذا الاقتراح بالارتياح؛ خصوصًا لملله الإقامة مع زوجته، وليس لديه في القصر رفيق.
وهكذا تمت للراهب أولى أمانيه؛ فحضر للقصر يرافقه أخوه الفارس مرافقة الظل أينما تسير يتبعك وأنت لا تهتم به ولا تفكر فيه.
وطالما أسرَّتِ المركيزة لصاحباتها أنه داخلها شيء من الفزع عند رؤيا أخوي المركيز، ولو أن ظاهرهما يؤخذ منه ما يجعل لسوء الظن بهما سبيلًا، إلا أنه عادت لها ذكرى تكهن الساحرة بعد أن كانت تناستها، وأبت أن تنصرف عنها.
أما أخوا المركيز فاندهشا لأول وهلة من جمال امرأة أخيهما؛ فوقف أمامها الفارس مبهوتًا لحسنها معجبًا به كرجل يعجب بتمثال من رخام لا يستطيع تحويل نظرة عنه؛ لإتقان صنعه، ولم يتعدَّ إعجابه بها هذا الحد، بحيث لو تمهد له السبيل إليها لما زاد عن هذا الإعجاب شيئًا، ولم يُخْفِ الفارس عن امرأة أخيه ما شعر به منها، فهنأها على ما أوتيت من اللطف والجمال.
أما الراهب فما كاد يقع نظره على امرأة أخيه حتى اشتهاها، وتمكنت منه هذه العاطفة الحيوانية، فعقد عليها نيته، لكنه أخفى — لخبثه ولؤمه — ما خالج فؤاده، وكان كتومًا لعواطفه بقدر ما كان أخوه الفارس بائحًا بها، فلم يلفظ في حضرة المركيزة إلا كلمات أوحى إليه بهن الرياء والدهاء، فلا فضح أمره ولا كشف سره، ولا جعل لامرأة أخيه سبيلًا إلى الارتياب فيه، وخرج من حضرتها — لعنه الله — موطِّد العزم على اغتيال أقدس ما منحها الله: وهو شرف العرض.
أما المركيزة فقد علمنا ما خالج قلبها من الوسواس عند رؤية سِلفيها، إلا أن مجاملات الراهب وجهل الفارس طمناها نوعًا؛ فأمنت جانبهما. وكانت المركيزة من أولئك الذين لا يتصورون ابن آدم قادرًا على الشر لطيب قلبهم، ويغترون بالظواهر فيظنون النفاق إخلاصًا، ويترقبون ولو كلمة لتردهم إلى حسن الظن إذا شاب قلبهم الريب أو داخَلَهُ الشك ممن يظنون فيه الصلاح، ولو كان من المجرمين.
مناصبة العداء
وعاد للدار البِشرُ عند مقدم الأخوين؛ فابتسمت فيها الثغور، وأشرقت الوجوه، وعجبت المركيزة لِمَا طرأ من التغير حتى في أحوال زوجها؛ فإنه عاد إليها مقبلًا عليها كأنه نادم على ما فرط منه، وحسنت ألفاظه في محادثتها بعد أن كان يغلظ لها في القول، فطابت عشرته، وفرحت زوجته، ولم يكن قلبها في تلك الفترة تغيَّر عليه، بل ما فتئت المركيزة مخلصة له الود، باقية على العهد؛ فقابلت هجره بالجلد والصبر، وقابلت إقباله عليها بالفرح والشكر، ومضى عليهما مؤتلفين ثلاثة شهور ذَكَّرَتهما بشهور القران السعيدة الأولى، بعد أن كادت تمحو الحوادثُ أثرَ ذكراها من قلب المركيزة الكليم.
وإذا ابتسم الدهر لامرئ في مقتبل العمر تعلَّقَ بالدنيا وأَحَبَّ الحياة؛ فتراه فرحًا طروبًا يطلب المزيد من السرور، ولا يهمه في الحياة إلا أن يكون سعيدًا. وكانت تلك حال المركيزة؛ فإنها رأت أن نجمها أشرق بعد الأفول، وأقبلت عليها السعادة، وصادفها القبول، فلم تهتم بالبحث عن الأسباب التي صفا بها عيشها وانصلح أمرها.
ودعيت المركيزة ذات يوم لتقضي بضعة أيام عند جارة لها ذات ضيعة، ودُعيَ معها زوجها وسِلفاها، فرافقوها إلى مكان الدعوة. وكانت صاحبة الضيعة قد جهزت معدات القنص إكرامًا لمدعويها، فما أقبل المدعوون حتى أخذوا يستعدون لما يقتضيه الصيد من أعمال.
وكان الراهب — لدهائه — قد تمكن من اجتذاب القلوب إليه، فصار في مقدمة المدعوين إلى كل حفلة أو مأدبة، فلمَّا دُعيَ إلى هذا القنص ووزعت الأعمال على المدعوين، طلب أن يكون رفيق المركيزة. ومن عادات الغربيين أن يلازم كل رجل منهم في الصيد سيدة؛ حتى لا تضل السبيل أو تعرض بنفسها إلى خطر إذا تفرق القوم عند مطاردة الصيد، فلما قدَّم الراهب نفسه لهذا الغرض لم يسع المركيزة — للطفها المعهود — إلا أن تقبله زميلًا لها مبتسمة شاكرة، واختار كل من المدعوين زميلةً له، ثم انطلق القوم إلى حيث تواعدوا على الملتقى. والصيد عند وجهاء الغربيين من ضروب اللهو التي تقام إكرامًا للزائرين، وقد يُدعى إليه من لا يستطيع أن يصيد عصفورًا أو أرنبًا؛ فيحضر الصيدَ ولا يصطاد، بل تُطلق الكلاب وراء الفريسة إذا لاحت، ويتبعها بعض غواة الصيد من الحضور، ويتفرق وراءهم القوم، فيقضون اليوم في مطاردة الوحوش والتجول في الفلوات أو الغابات.
وهكذا تم في الصيد الذي دُعيَ له آل جنج، فأُرسلت الكلاب، وتفرق الحضور في كل وجهة وطريق.
أما الراهب فلم يفارق المركيزة لحظة؛ لأنها زميلته، واحتال بدهائه حتى انفرد بها عن الناس، وكان ذلك ما يسعى وراءه منذ شهر ولا تُيَسِّرُ له المركيزة أسبابه. ولمَّا أدركت المركيزة أن انفرادها مع الراهب كان حيلة منه، أرادت أن تفسد تدبيره بأن تطلق لجوادها العنان في طريق غير التي ساقها إليها الراهب؛ فأدرك قصدها، وأمسك بلجام الجواد.
ولم ترد المركيزة أن تقابل سلفها بالعداء، فصبرت وسكتت منتظرة أن يفاتحها الكلام، وتظاهرت أمامه بالكبرياء والشمم؛ لتظهر له بوقفتها احتقارها له، وتفهمه أنها ليست ممن تذل إلى مثله أو ممن تعالى إليها المطامع.
وساد بينهما السكوت لحظة، فقطع حبله الراهب قائلًا: مولاتي، أسألك العفو إذا اتخذت هذه الوسيلة لأحدثك على انفراد، ولقد كنت أود بصفتي أخًا لزوجك أن تيسري لي ذلك السبيل إذا طلبته، إنما وجدتك تَتَّقينه وتقيمين دونه الحوائل، فرأيت أن خير واسطةٍ لنَيلِ هذا الغرض أن أسعى لتدبيره بنفسي، حيث لا تستطيعين أن ترفضيه إذ ذاك.
فأجابته المركيزة قائلة: يلوح لي يا سيدي أنك ما ترددت في مُفَاتَحتي على انفراد بالحديث الذي تريده، ولا عمدت إلى كل هذه الوسائل لتجبرني على سماعه إلا لأنك عالمٌ أنه حديث لا يليق بي سماعه؛ ولهذا أرجوك أن تطيل التفكر والتأمل فيه قبل أن تفاتحني به. واعلم أنني حافظة حقي في إسكاتك، سواء كنا هنا أو في أي مقام، حينما أشعر أنك خرجت في حديثك عن حد الاحتشام.
فقال الراهب: أظن يا مولاتي أني حر أقول ما أريد، وأيًّا كان حديثي فستسمعينه لنهايته، ومع ذلك فليس حديثي مما يدعوك إلى هذا التحفظ والاحتراس؛ فالموضوع بسيط، وكل ما أريد معرفته منك هو: هل لاحظتِ تغيُّرًا في سلوك زوجك نحوك؟
قالت: نعم، ولا يمضي يوم إلا أشكر فيه عناية الله على هذا التوفيق الذي عاد بيننا.
فتبسم الراهب ابتسام الجاحد، وقال لعنه الله: لقد أخطأت يا مولاتي؛ فليس لله يدٌ في هذا الأمر، فلك أن تشكريه على أنه حباك صفات الجمال وكمَّلك في معاني الحسن؛ فكنتِ من أبدع ما خلق وصوَّرَ، إنما لا تبخسيني حقي وتشكريه على فضل كان مني.
فأجابته المركيزة ببرود قائلة: إني لا أفهم ما تعنيه.
قال: إذن فسأفصح لك يا مولاتي العزيزة، فاعلمي أني أنا الذي تمت على يدي المعجزة التي تشكرين الله عليها اليوم، فاشكريني واعترفي بفضلي، أما الله فله منن كثيرة، فهو ليس في احتياج إلى مشاركة بعض خلقه فيما يعود لهم من الفضل والشكر.
فأجابته: أصبت يا صاح، فإذا كان هذا التوفيق قد تم على يديك — كما تقول — وكنت لا أعلم لمن يرجع هذا الفضل فأقدم لك واجب الشكر أولًا، ثم أشكر الرحمن؛ إذ وفقك إلى هذا المسعى المشكور.
قال: نعم، إنما إذا كان الله وفقني إلى هذا السعي المشكور ولا يمتعني بالثمرة التي أترقبها، فهو قادر على أن يوفقني إلى سعي غير مشكور.
فسألته المركيزة قائلة: وما معنى ما تقول؟
فأجابها: معناه أنه لم يجعل الله في أسرتي إرادة فوق إرادتي، ولا قدرة فوق قدرتي، وإن قلب أخويَّ في يدي أصرفه كيف أشاء، وإنَّ امرأً قدر على النار أن يزكيها لقادر أن يطفئها.
قالت: ما زدتني إلا غموضًا فأفصح عما تريد.
قال: حيث سمحت يا مولاتي العزيزة بطلب البيان، فسأكون أبلغ في التعبير، وأفصح في اللسان، فاعلمي أن أخي إنما كان ابتعاده عنك وهجره إياك لشدة غَيْرته عليك، فأردت أن آتيك برهانًا من سلطاني عليه، فرددته من أقصى الهجر إلى أدنى الحب، وأفهمته أن لا محل لغيرته عليك وسوء ظنه بك، فأنا قادر على أن أُقصيَه بعد الدنو، وما ذلك عليَّ بعزيز، فأُبدي له أنني إنما كنت مخطئًا في اعتقادي بطهارتك وحكمي ببراءتك، ولست في حاجة يا مولاتي على إثبات ما أقول؛ فأنت تعلمين أني صادق الوعد والوعيد.
فسألته: وما هَمُّك من هذه المساعي؟
قال: أن أثبت لك أني قادر على أن أجعلك مسرورة أو حزينة، محبوبة أو مكروهة، سعيدة أو شقية. والآن فاعلمي أني أهواك.
فاحمرَّ وجه المركيزة من الغضب وقالت لمحدثها: إنك لتهينني!
ثم حاولت أن تستخلص من يديه عِنان الجواد، فأمسك به الراهب وقال: لا تظني أن كلماتك تثنيني، فاعلمي أني امرؤ لا يهتم بالأقوال، وما عهدنا رجلًا سب امرأة؛ إذ قال لها إنه يهواها، وقد يقدر الرجل على ألف حيلة يضطر بها المرأة إلى الإذعان لحبه، وما عليه من عار أن يعمد إلى حيلة منها مهما كبرت، إنما من العار أن يخيب أو يفشل فيها.
فسألته المركيزة وهي تبسم تبسمة احتقار وازدراء: وهل لي أن أعلم إلى أيَّةِ حيلة عمدت؟
قال: إن الوسيلة الوحيدة التي يمكن نجاحها مع امرأة ساكنة رزينة قوية الإرادة مثلك هو إقناعها بأن من مصلحتها الإذعان لهذا الحب.
فأجابته المركيزة وهي تحاول عبثًا تخليص العنان من يد هذا اللئيم: حيث إنك تزعم معرفة صفاتي وخلالي التي ذكرتها، فسأزيدك علمًا بنفسي، وأريك كيف تعامل امرأةٌ مثلي رجلًا يفاتحها بمثل هذا الكلام، أما الآن فسأتركك لِتُسائل نفسك عما كان من الواجب عليَّ أن أقابلك به من الألفاظ ردًّا على ألفاظك، وعما يجب عليَّ أن أبلغه لزوجي.
فتبسم الراهب وقال: أنت حرة فيما تقولين يا سيدتي، فبلِّغي زوجك ما تريدين، بل أعيدي على مسمعه حديثنا كلمة كلمة، وبالغي ما شئت أن تبالغي، بل وزيدي في حديثك ما توحيه إليك ذاكرتك إنْ صدقًا وإنْ كذبًا، تجسيمًا لجريمتي في عينيه، ثم إذا أنت غيَّرت قلبه عليَّ، وأبلغته مني، ووثقت أنه صدق حديثك وسينتقم لك، فسألقي عليه كلمتين تكذبان ما تقولينه وتهدمان ما تبنينه.
والآن قد تم حديثي، فلا أضطرك إلى البقاء؛ فتدبري فيما قلت، ولك مني إما حبيب مخلص وإما عدو لدود.
ثم ترك الراهب عنان الجواد، فوخزته المركيزة، وسارت به غير مسرعة؛ حتى لا يظنها الرجل هاربة منه أو خائفة، ثم تبعها الراهب، ووافيا القومَ حيث يصيدون.
عدو جديد
صدق الراهب وما كان قوله لغوًا؛ أمَّا المركيزة فطالما شاهدت ما لهذا الرجل من السلطة على زوجها، وقد رأت برهان ذلك مرارًا، فسكتت ولم تبلغ زوجها شيئًا مما دار بينها وبين أخيه، وظنت أخاه إنما كان يهددها فقط، وأنه لا تطاوعه مَكارِمُه أن يفعل ما يقول، كأن لمثل هذا اللئيم مكارم أو فيه مروءة.
أما الراهب فأراد بعد افتراقه من المركيزة أن يعلم هل رفضت حبه لكراهةٍ شخصية فيه أم لعفة صادقة فيها، وكان أخوه الفارس جميلًا كما أسلفنا القول، وله معرفة بآداب اجتماعية تعودها من معاشرة عِلْية القوم، فنابت عنده مناب الذكاء، والجهول أقرب الناس للادعاء بالعلم، وأدناهم إلى التصديق بما يصفه به المنافقون من الفضائل التي ليست فيه، فعزم الراهب أن يقنعه بأنه — أي الفارس — يحب المركيزة، وأن حبه لها دليل على حسن ذوقه وإصابة اختياره، ولم يتعسر على الراهب إقناعه بذلك؛ فقد علمنا شدة التأثير الذي وقع على الفارس عند رؤيته المركيزة لأول مرة. وكان الفارس ملاحظًا تمسك المركيزة بواجباتها لكرامة نفسها؛ فلم يتجاسر على أن يتقرب منها تقرب عاشق، بل أثَّر فيه جمالها وكمالها، فجعله لها من أخلص الخدم. ولاحظت المركيزة إخلاصه فقربته منها تقريب صديق، ونزعت من بينها وبينه التكليف إلى الحد الذي تسمح به درجة قرابته لها.
واختلى الراهب بأخيه الفارس على انفراد، وقال له: أخي، لقد قُدِّرَ علينا — ونحن أخوان — أن نتعلق بهوى امرأة واحدة، وهذه المرأة هي زوجة أخينا، وإني أخشى أن يكون حبنا لها مجلبة للعداء بيننا، فأما أنا فقوي على نفسي قادر على كبح جماح شهواتي؛ فلذا تراني مستعدًّا أن أخلي لك المكان، وأتنازل لأجلك عن هذا الحب، خصوصًا لعلمي أنك المفضل فينا عند فاتنتنا، والمقرب لديها؛ فاعمل إذن على مكانتك، وتعهد هذا الحب وارْعَه حتى يدوم لك، فإذا تم لك ما تشتهي أنجلي أنا إذ ذاك عن هذا الميدان. أما إن خفق مسعاك فأخلِ لي المكان لأعمل على خطب هذا الود المستعصي على الخاطبين، وأصيد هذا القلب النَّفورَ عن الطالبين، وأتيقن هل هذا القلب من الجافين، أم أحيط — كما يقولون — بسياج العفاف حصين.
وما خطر على قلب الفارس قبل حديث أخيه إمكان التطاول إلى المركيزة، ولكن لمَّا حدثه الراهب عنها وقرب إلى ذهنه منالها، أوحى إليه فكرُهُ القاصر أنه قد يكون محبوبًا لديها، وظن نفسه جديرًا بأن يحب ويهوى؛ فحل في قلبه الزهو والطمع، وضاعف في عنايته بشئون المركيزة واهتمامه بها. ورأت المركيزة من زيادة اهتمامه دليلًا جديدًا على إخلاصه، ولم يخامرها من جهته ارتياب؛ فعظُمت منزلته لديها بقدر ما صغرت في عينيها منزلة أخيه الراهب. فظن الفارس أن تقريبها له لشغفها به، فطرق الباب الذي طرقه أخوه من قبل؛ فاندهشت المركيزة وأوجست خيفة، ولكن تركته يفصح لها عن كل ما يضمره قلبه حتى تجلت لها مقاصده وعلمت غايته، فأوقفته عند حده كما أوقفت أخاه، وقرعته بكلمات كالكِلام من تلك الكلمات التي يوحي بهن للمرأة احتقارُها للرجل، وبفصلها له، قبل أن يوحي بهن واجبُ الانتقام لعرضها وشرفها.
ولما أخفق الفارس فيما قصد، وكان ضعيف الهمة، تولاه اليأس؛ ففقد كل آماله، وعاد إلى أخيه يندب سوء حظه، وخيبة مسعاه، وضياع أتعابه، وشقاءه في هواه، وكان الراهب مترقبًا لهذه النتيجة؛ ليتعزى بها أولًا على ما ناله من الطرد والحرمان، وثانيًا ليتخذها سبيلًا لتنفيذ ما عزم عليه من المكائد، فما زال بالفارس يؤنبه على إخفاق مسعاه، ويستثير غضبه على المركيزة، حتى أوغر صدره عليها، وجعل منه عدوًّا لها ليكون له عونًا عند الحاجة. ثم شرع الراهب في تنفيذ ما صمَّم عليه، فكان أول ما ظهر من نتيجة مكائده أن تغيرت أحوال المركيز على زوجته، وانصرف عنها قلبه، وكان السبب الظاهر في ذلك أن المركيزة كانت تحادث فتًى في مأدُبةٍ وتصغي لحديثه؛ لذكائه واتساع مداركه، فاتخذ المركيز ذلك سببًا للخصام، وآلم زوجته بقارص الكلام. ولكن فطنت المركيزة لليَد المدبرة لهذا الشر، وعلمت أنها يد الراهب الفاجر، فلم يقربها هذا الإنذار منه، بل زادها ابتعادًا عنه، وصارت لا تُهمِلُ فرصة تبدي له فيها شدة احتقارها له وازدراءَها به.
ودامت هذه الحال بضعة شهور والمركيزة تشاهد زوجها يزداد كل يوم نفورًا منها وهجرًا لها، ورأت أن العيون مبثوثة عليها في كل مكان تستطلع حتى الخفي من شئونها الخصوصية.
أما الفارس والراهب فلبثا كما كانا، ولم يغيرا معاملتهما للمركيزة كما شاهدها أهل القصر منذ قدومهما، فأخفى الراهب ما أضمره وراء ستار من النفاق، وكمد الفارس غيظه لقلة حيلته وضعف إرادته.
ومات في هذه الأثناء المسيو يوانيس ده نوشير جد المركيزة، مُخَلِّفًا لها ثروة تنوف عن ستمائة ألف دينار، ضمتها إلى ثروتها الواسعة.
وكان من الأصول المرعية في الشريعة الرومانية المعمول بها في ذلك الحين بتلك البلاد أن مثل هذا الميراث يكون ملكًا خاصًّا للمرأة؛ لأنه حادث بعد الزواج، فلا ينضم إلى المهر الذي آتته المرأة زوجها عند العقد، فللمرأة إذن حق التصرف المطلق في هذا المال، فلها أن تهبه أو توصي به لمن تشاء، ولها حق الانتفاع به، وليس لزوجها حق في ذلك، بل وليس له أن يدير شئون هذا المال إلا بتوكيل صادر له منها.
وعلم المركيز وأخواه أن المركيزة دعت لديها أحد المُوَثِّقين — والموثق موظف عمومي مختص بإجراء العقود الرسمية — فعلم زوجها أنها عازمة على أن تقرر بأن ما ورثته عن جدها خارج عن الأموال المشتركة بينها وبين زوجها، ورأى المركيز أن لا سبب يدعوها إلى هذا الإقرار إلا معاملته لها تلك المعاملة، التي طالما أنبأه ضميره أنه معتدٍ عليها وظالم لها فيها.
الوصية
وذات يوم أَعَدَّ المركيز وليمة، فكان مما قدِّمَ للمدعوين نوعٌ من المأكول يُعرف لدى الغربيين بالكريمة، وهو مصنوع من البيض واللبن والسكر، فانحرفت صحة كل من أكل من هذا النوع خصوصًا المركيزة؛ فإنها كانت تناولت منه دفعتين. أما المركيز وأخواه فإنهم لم يصابوا بشيء؛ لأنهم امتنعوا عن هذا المأكول.
واشتبه الآكلون في الكريمة؛ فاحتفظوا على ما تبقى منها وأرسلوه للتحليل، فقرر الكيماويون اشتماله على جوهرٍ سُمِّيٍّ هو الزرنيخ، إلا أنه لاختلاطه باللبن وهو ضده قد فقد جزءًا من مفعوله، ولم يحدث إلا نصف التأثير المنتظر منه.
ولم يعقب هذه الحادثة ضرر لأحد؛ فألقوا المسئولية فيها على خادم اتهموه بأنه خلط بين السكر والزرنيخ، ونسي القوم الحادثة أو تظاهروا بنسيانها.
وعاد المركيز عقب هذه الحادثة إلى الإقبال على زوجته والتودد إليها، ولكنها لم تغتر بهذه الظواهر الودية، وعلمت أن للراهب يدًا فيها، وقد أصابت الظن، فإن هذا اللئيم أقنع أخاه بوجوب مداراته للمركيزة؛ ليكتسب رضاها طمعًا في ميراث جدها الذي آل لها. فأخذ المركيز يتقرب لها متظاهرًا بالحب؛ كيلا يخطر ببالها أن تحرر وصية تحرمه فيها من هذا المال.
وقد رأى أهل القصر عند حلول الخريف أن يذهبوا إلى بلدهم جنج؛ ليقضوا فيه هذا الفصل وتاليه، وجنج مدينة صغيرة في إقليم لنجدوك السفلي تابعة لأبرشية مونبلييه، وعلى مسيرة سبعة فراسخ من مدينة مونبلييه، وتسعة عشر فرسخًا من مدينة أفينيون.
وكان المركيز بحق الوراثة سيدًا لهذه المدينة، وله فيها قصر مشيد؛ فلا غرابة إذا ارتأى أهل القصر أن يقصدوا زيارتها أو الإقامة فيها، إلا أن المركيزة اعتراها انقباض عندما أُنبئت بهذا العزم، وحضرت لديها حالًا ذكرى تكهن الساحرة، ثم تذكرت شروعهم في سمِّها حديثًا وكيف خاب قصدهم، وتفهت معاذيرهم؛ فازداد بالطبع خوفها وقوي رعبها.
ولم تتهم المركيزة سِلفيها مباشرة بهذه الجريمة الأخيرة، إنما كانت واثقة بأن لها منهما عدوين زنيمين، ورأت أن رحيلها لتلك المدينة القَصيَّةِ، وإقامتها في قصر منقطع وفي وسط قوم لا تعرفهم من قبلُ أمر لا يطمئن له الخاطر، ولا ينشرح له الصدر، لكنها رأت أن امتناعها عن السفر بلا عذر واضح موجب للتهكم عليها والاستخفاف بها، وإذا امتنعت فأي عذر تبديه دون أن تتهم زوجها وسِلفيها فيه.
ولما حارت المركيزة في أمرها كتمت سرها في صدرها وسلمت أمرها لله، إلا أنها لم تشأ أن تترك أفينيون قبل أن تحرر الوصية التي طالما فكرت فيها عقب موت جدها، فدعت إليها سرًّا أحد الموثقين، وأَمْلَت عليه أنها توصي لوالدتها مدام ده روسان بمالها من بعدها، وعلى أمها أن توصي به بعدها لمن تختاره من ولدَي المركيزة وتفضله على أخيه. وكان للمركيزة إذ ذاك ولدان من زوجها: غلام في السادسة من عمره، وابنة في الخامسة.
ولم تكتفِ المركيزة بما فعلت لما رسخ في مخيلتها من أن سفرها لن يكون إلا شؤمًا عليها؛ فدعت سرًّا في الليل قضاة أفينيون وجمعًا من وجهائها، وقررت أمامهم بصوت جهوري أنها حررت بالأمس وصية، وطلبت منهم أن يعتبروا هذه الوصية آخر وصاياها، حيث حررتها وهي بكامل الصفات المطلوبة شرعًا، بحيث إذا ماتت وقُدمت لهم وصية أخرى بخطها أو ممضاة منها فلا يعتبروها صحيحة، وأكدت لهم أن كل ما يدعى بصدوره منها بعدها يكون إما مزورًا أو تكون هي مرغمة عليه.
ثم تناولت المركيزة قلمًا وقررت كتابة ما قررته أمام الحاضرين شفهيًّا، وأمضت الإقرار وسلمته للحاضرين، واستودعتهم إياه وديعة لدى ذي شرف شهيد.
وحدا هذا الإقرار وكل هذا الاحتياط بالحاضرين إلى استطلاع سر الأمر، فطرحوا على المركيزة جملة أسئلة فلم تجاوبهم عليها بما يفيدهم أو يزيدهم علمًا بالأمر، وغاية ما أبلغتهم أن لديها أسبابًا خصوصية لا تستطيع إبداءها تدعوها إلى فعل ما فعلت.
وبقي سر هذا الاجتماع مكتومًا بعد أن تعهد كل من حاضريه للمركيزة أن لا يبوح بما سمعه منه أو رآه.
وفي الصباح، وهو اليوم السابق على يوم السفر إلى جنج، زارت المركيزة جمعيات أفينيون الخيرية وأماكنها الدينية، ووزعت فيها الصدقات الواسعة، طالبة من أهلها أن يقيموا الصلاة لأجلها ويستمطروا رحمة الله وبركاته عليها، حتى إذا ما ماتت تموت شهيدة مأجورة.
وفي المساء زارت جميع أصدقائها ومحبيها، وودعتهم والدموع تسيل على وجناتها وداع من لا يعود.
وقامت المركيزة ليلتها تصلي، ولما دخلت عليها وصيفتها لتوقظها عند الصباح وجدتها راكعة في المكان الذي تركتها فيه بالعشي.
وسافر آل جنج إلى مدينتهم دون أن يحدث حادث لهم في الطريق، ولما وصلت المركيزة إلى القصر وجدت فيه حماتها، فرأت منها سيدة كاملة نقية؛ فائتنست بوجودها، وهدأ لها روعها، ولم تعلم أنها لن تلبث في صحبتها إلا قليلًا.
وأعد القوم للمركيزة أجمل غرفة في القصر، وكانت الغرفة في الطبقة الأولى منه، ومطلة على حوش لا منفذ له محاط من الخارج بإصطبلات القصر.
وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها في الغرفة عند الرقاد حتى عاد إليها روعها، فقامت تسبر جدران الغرفة وتبحث وراء أستارها وتحت فرشها بكل دقة وانتباه، فلم تدع مكانًا للريب إلا فحصته.
ولم تمضِ بضعة أيام حتى بارحت القصرَ أمُّ المركيز عائدة إلى مونبلييه. وفي اليوم الثالث لسفرها احتج المركيز بأعمال هامة تدعوه للسفر إلى أفينيون، فبارح القصر أيضًا، وبقيت المركيزة في صحبة سِلفيها وخوري يدعى بيريت، وهو رجل مضى عليه في خدمة آل جنج نيف وعشرون سنة، ولم يكن في القصر عدا من ذكرناهم سوى الخدم.
واهتمت المركيزة عند حلولها في المدينة بالتعرف بأهلها واستخلاص نخبتهم أصدقاء لها، وهان عليها الأمر؛ حيث كان لها من مركزها وآدابها ما يدعو كل إنسان إلى التقرب لها والتشرف بمعرفتها، فائتنست بأصدقائها الجدد، وزال عنها بعض الضجر من عزلتها في القصر.
وقد أحسنت المركيزة باتخاذها الأخدان؛ حيث تسلت بهم في وحدتها وساعدوها على قضاء أوقاتها، خصوصًا بعد أن كتب لها زوجها بوجوب بقائها في جنج فصل الشتاء أيضًا.
أما الراهب والفارس، فتظاهرا بنسيان ما مضى، وعاملا المركيزة باللطف والأدب؛ فاطمأنت من جهتهما، وكان أخوهما لم يزل غائبًا. ورغمًا عن كل الحوادث التي انتابت المركيزة لم يزل في قلبها بقية حب وحنان لزوجها، فمع اطمئنانها من جهة أخويه ما فتئ قلبها يذكره ويتألم لبعده.
ودخل الراهب بغتة ذات يوم على المركيزة، ففاجأها وهي تبكي قبل أن تتمكن من مسح دموعها، فعرف سرَّها، وهان عليه حملها على الاعتراف له بما يبكيها، فقالت له: إنها لن يزول همها وينكشف غمها ما دام زوجها يعاملها هذه المعاملة الدالة على البغض والعداء. فحاول الراهب أن يعزيها ويصبرها، وقال لها في كلامه: إنها الجانية على نفسها بنفسها؛ فإنها نفرت قلب زوجها من نحوها وأثَّرت في صداقته لها بعمل الوصية التي حررتها على يد موثق، فجاء إشهارها بهذه الكيفية مشهرًا بزوجها، ثم أبلغها أن لا تنتظر لزوجها عودة ما دامت هذه الوصية باقية.
ودخل الراهب بعد بضعة أيام لدى المركيزة حاملًا كتابًا يدعي أنه أتاه من أخيه، وأن به أشياء يُسرُّهَا إليه، فتناولت المركيزة الكتاب وقرأته، وإذا به شكوى من زوجها لسوء معاملتها له، وأَسَفٌ لفقد ثقتها منه، وكان الكتاب مشحونًا بعبارات تشف عن حبه الخالص لها وكدره لضياع حظه عندها؛ مما تؤثر على كل ذي إحساس قراءتُه.
وقد تأثرت المركيزة فعلًا من قراءة هذا الكتاب، ورقَّ قلبها، ولكنها عادت فرأت أنه مضى من يوم محادثتها للراهب المحادثة الأخيرة وبين تاريخ هذا الكتاب زمن يكفي لإعلام المركيز بنتيجة هذا الحديث، ولهذا أخفت المركيزة ما خطر لها فعله ريثما تتضح لها حقيقة الأمر بأجلى برهان، فترى هل العواطف التي تضمنها الجواب صادقة أم موعز بها توصُّلًا إلى غاية يرجونها.
وأخذ الراهب يسعى لدى المركيزة محتجًّا بأنه يعمل على التوفيق بينها وبين زوجها، فيعطف في حديثه على ذكر الوصية، ويُلِحُّ على المركيزة بإبطالها، وطال إلحاحه حتى ارتابت المركيزة من أمره، وعادت إليها مخاوفها القديمة، وزاد ضغطه عليها حتى إنها اضطرت أن تجيبه إلى طلبه؛ فتستريح من جهته وتأمن جانبه، ورأت أن الإشهاد الذي احتاطت ففعلته أمام رجال أفينيون قبل مبارحتها لها يبطل ما تقرره فيما بعد.
وعندما حضر إليها الراهب أعاد ذكر الوصية. أجابته أنها مستعدة لإبطالها إكرامًا لخاطر زوجها، وليكون هذا العمل دليلًا جديدًا على صدق حبها له، وسببًا في تقريبه منها. ثم أرسلت فأحضرت أحد الموثقين وأَمْلَت عليه إقرارًا في حضرة سلفيها توصي فيه بجميع مالها لزوجها من بعدها، وكان صدور هذا الإقرار بتاريخ ٥ مايو سنة ١٦٦٧؛ فأبدى سلفا المركيزة لها جزيل فرحهما بزوال سبب الشقاق الذي كان مستحكمًا بينها وبين أخيهما، وأكدا لها أن سيعود زوجها إلى أحسن مما كان عليه، ومضت على ذلك بضعة أيام والمركيزة تساورها الآمال وتتوسم تحسين الحال، ثم أتى خطاب من المركيز يبشرها بالصفاء، وَيَعِدُهَا بقرب العودة واللقاء.
الغدر والوقيعة
أَثَّرَتِ الحوادث في نفس المركيزة فاعتلَّت صحتها، ولم تشأ أن تتناول دواءً يساعدها على الشفاء علَّها تنتهي من حياة كلها شقاء. ولكن لما طال عليها الحال — والنفس عزيزة على كل حال — عزمت على المداواة تخفيفًا لما هي فيه، فأوصت الصيدلي أن يجهز لها من الأدوية ما لا يمجه الفم ولا يأنف منه الأنف، وأن يرسل لها ما يجهزه في الصباح، فأطاع الصيدلي الإشارة، وما كادت تشرق الغزالة حتى وافاها بالشراب المطلوب، إلا أنها نظرت إليه فرأته شرابًا قد اسود لونه وغلظ قوامه، تأباه العين قبل الفم، وتعافه النفس قبل اللسان؛ فكتمت ما رأته، ورفعت الشراب فاستودعته خزانتها، وتناولت بعض حبوب سهلة التناول قد اعتادت عليها من قبل.
وما كادت تمر الساعة التي يجب على المركيزة أن تتناول فيها الشراب حتى أرسل الراهب والفارس يستفسران على صحتها، فأجابتهما أنها بخير، ودعتهما إلى وليمة خفيفة أعدتها عصرًا لبعض صاحباتها، ومضت ساعة فأرسل الرجلان يسألان أيضًا عن صحتها، فأبلغتهما أنها على أحسن ما ترجو، ولم تفطن إلى سبب اهتمامهما بها لهذا الحد، فظنته مجاملة ولطفًا.
ولبثت المركيزة في فراشها تستقبل المدعوين ببشرها المعهود، ورأت في نفسها نشاطًا وخفة لم تعهدهما من قبل، ودخل الراهب والفارس فانضما إلى الحضور، وصُفَّت الموائد إلا أنهما لم يمدا لها يدًا، بل أخذ الراهب مكانه من المائدة دون أن يذوق من ألوانها شيئًا، واستند الفارس إلى قوائم السرير المضطجعة عليه امرأة أخيه، وكانت علائم الانشغال بادية على محيا الراهب، وكأن فكرة تساوره وهو يهتم في إبعادها عنه، إلا أنها ملكت ناصيته فأطرق طويلًا مشغولًا عن الحاضرين كأنه في حلم، حتى اندهش الحاضرون لحالته وما عهدوه في مثل هذه المحافل إلا ضحوكًا طروبًا.
أما الفارس فكانت عيناه لا تنصرفان عن وجه المركيزة، فلم يستلفت إليه — كأخيه — الأنظار، ولا بدع فقد كانت المركيزة ذاك المساء تستهوي بجمالها القلوب وتستوقف الأبصار. ولما تمت الدعوة أخذ الحاضرون في الانصراف فشيع الراهب السيدات إلى باب القصر، ولبث الفارس لدى المركيزة. ولكن ما كاد يختفي الراهب حتى حانت التفاتة من المركيزة نحو الفارس، فوجدته باهت اللون شاحبه لا يتمالك نفسه من الوقوف، وقد سقط على مقعد عند مؤخر السرير، فوجلت المركيزة عليه، وسألته عما به، وقبل أن يتمكن من الإجابة تحولت عنه أنظار المركيزة إذ استلفتها منظر مريع: رأت الراهب داخلًا غرفتها شاحب اللون كأخيه بيده كأس وغدارة، فأغلق وراءه الباب بالقفل مرتين، فاستوت المركيزة على ركبتيها فوق السرير وقد ارتبط لسانها فلم يبدُ منها صوت، ولم تخرج من بين شفتيها كلمة، فاقترب منها الراهب وشفتاه ترجفان وشعوره قائمة وعيناه يكاد يخرج منهما الشرر، فقدم لها الكأس والغدارة قائلًا بعد سكوت رهيب: مولاتي، تخيري بين السم والنار.
ثم قال مشيرًا لأخيه إذ سحب سيفه: وحد الحسام!
وبرق للمركيزة بارق أمل إذ رأت الفارس يستل حسامه فظنته يدفع عنها، ولكنها ما لبثت أن خاب ظنها فرأت نفسها بين عدوين، ضعيفة بين قويين، فهبطت من فوق السرير جاثية تخاطبهما: رباه! ماذا صنعت لكما؟ وبماذا أذنبت نحوكما حتى تحكما بإعدامي وقد كنتما حكمي، فكيف أصبحتما من أخصامي، ولا أرى لي ذنبًا أتيته إلا صيانتي لواجباتي نحو زوجي، وهو أخوكما وشقيقكما.
ورأت المركيزة الراهب مغضبًا عن كلامها، وَوَقْفَتُهُ وحركاته وأنظاره تدل على عزم ثابت ونية راسخة، فحولت أنظارها نحو أخيه قائلة: وأنت أيضًا يا أخي، يا ألله! يا ألله! وأنت أيضًا، ألا فأشفق عليَّ لوجه الله.
فضرب الفارس الأرض بقدمه، ووضع سن حسامه على صدر المركيزة قائلًا: كفى أيتها السيدة كفى، فأسرعي باختيار ما تستهونين من أنواع المنون، وإلا فلنا الخيار.
فالتفتت المركيزة نحو أخيه مرة أخرى فصادف فم الغدارة جبينها الطاهر، فعلمت أنها ميتة لا محالة، فاختارت أخف أسباب الموت حملًا، وقالت لقاتلَيها: أعطياني كأس السم، وليغفر الله لكما قتلتي.
ثم تناولت الكأس ولكن لم تجسر على شربه؛ إذ وجدت فيه شرابًا أسود غليظ القوام فمجته نفسها. وطمعت في استرحام عدويها؛ فحاولت أن تستلين قلبهما القاسي، فصاح بها الراهب صيحة وعيد، وأشار لها الفارس إشارة تهديد نَزَعَا منها كلَّ أمل في البقاء، فرفعت الكأس إلى شفتيها، وتمتمت قائلة: رباه يا مولاي ارحمني!
ثم تجرعت ما في الكأس وسقط أثناء انسكابه في فمها بعض نقط على صدرها العاري فحرقت بشرته كأنها جمرة نار، وكان ما تجرعته مزيجًا من الزرنيخ والسليماني الأكال ممددًا في ماء النار.
فصبرت المركيزة على أحكام القدر وفتحت فمها فتناولت الراسب من رأس السكين، ولكن لم تبتلعه، بل أخفته في فمها، واستلقت على السرير صارخة تعض بأسنانها في الفراش من شدة الألم، واغتنمت هذه الفرصة فألقت بما في فمها بين الوسائد على غفلة من قاتليها، ثم التفتت لهما قائلة ويداها مضمومتان إلى صدرها: ناشدتكما الله حيث عزمتما على إهلاك جسمي في الدنيا أن لا تفقداني أمل نجاة روحي في الأخرى، فأرسلا إليَّ بقسيس معرف.
وكان الراهب والفارس قد سئما النظر إلى ضحيتهما وعوامل الموت والحياة تتنازع في صدرها، ورأيا أن مهمتهما قد تمت بتجرع المركيزة كأس السم وأنه لم يعد لها في الوجود إلا نفس معدود، فخرجا عند سماع رجائها الأخير وأغلقا وراءهما الباب.
وما كادت المركيزة أن تخلو بنفسها حتى تهيأ لها إمكان الهروب من هذا القصر المشئوم، فأسرعت نحو النافذة فوجدتها تعلو عن سطح الأرض اثنتين وعشرين قدمًا، ورأت تحتها كومًا من الأحجار والأنقاض، وكانت ملابسها قد انحلت فأصبحت بالقميص، فارتدت تنورة فوقه، وما كادت تنتهي من ربطها على خصرها حتى أحست بأقدامٍ آتيةٍ نحو غرفتها، فظنت أن قاتليها عائدان إليها فأسرعت نحو النافذة كمجنونة، وعندما لمست قدماها حافتها فُتِحَ الباب فألقت المسكينة برأسها من النافذة دون أن تحسب لسقطتها حسابًا، وكان الداخل خوري القصر، فلما رآها على حافة النافذة أسرع فتمكن من إمساكها من تنورتها عندما ألقت بنفسها، ولكن كان قماش التنورة خفيفًا فتمزق في يدي الخوري، وسقطت المركيزة، إنما تغير لهذه المقاومة وضع جسمها عند السقوط، فبدلًا عن أن تنزل على قمة رأسها سقطت على قدميها فوق الأنقاض فأصيبت فيهما ببعض رضوض ليس إلَّا. ورغمًا عن دهشتها من السقطة أُلهِمَت أن تنتقل من المكان الذي وقعت فيه، وكأنها شعرت بأن شيئًا أُلقِيَ وراءها من النافذة، فقفزت قفزة من مكانها وإذا بالساقط جرة عظيمة مملوءة ماءً ألقاها الخوري اللئيم وراءها ليسحق رأسها لمَّا رآها قد فرت من يديه، ولكن قَدَّرَ اللهُ أن تسقط الجرة عند قدمي المركيزة فتتهشم دون أن تصيبها بسوء.
ورأى الخوري خيبة مرماه فقفل راجعًا نحو الراهب والفارس ليُعلمهما بهروب المركيزة من القصر.
أما المركيزة فما نالت قدماها الأرض حتى خطر لها خاطر أوحى إليها به ذكاؤها الحاضر، فأدخلت خصلة من شعرها إلى حلقها لتتقايأ ما تجرعته، وسَهُلَ عليها الأمر لأنها شربت السم بعد الأكل، ومنع الأكلُ السُّمَّ أن يؤثر في جدران المعدة؛ لعدم مباشرته لها. وكان حلوف منزلي على مقربة منها، فأسرع بابتلاع ما تقايأته فسقط في الحال يضطرب ويتقلص وما لبث أن نفق لوقته.
وقد ذكرنا في وصف القصر أن غرفة المركيزة مطلة على حوش مقفول الجهات، فلما ألقت المركيزة بنفسها من النافذة إلى ذلك الحوش ورأته بلا منفذ ظنت أنها إنما انتقلت من سجن إلى سجن، ولكنها ما لبثت أن رأت نورًا يضيء من إحدى طاقات الإصطبلات المحيطة من الخارج بهذا الحوش، فأسرعت نحوها ونظرت فوجدت سائسًا للخيل يهيئ مضجعه لينام فخاطبته قائلة: بربك يا صاح نجني، إنهم سموني ويريدون قتلي؛ فأرجوك أن لا تتركني وأشفق عليَّ وارحمني، وافتح لي هذا الإصطبل لأخرج منه وأنجو بنفسي.
فلم يفقه السائس قصة محدثته إنما رأى أمامه امرأة تستنجده وهي محلولة الشعر ممزقة الثياب تكاد تكون عريانة، فرفعها بين يديه واخترق بها الإصطبلات ثم فتح لها بابًا، فإذا هي في الطريق، وكانت امرأتان مارتين فدفعها إليهما السائس دون أن ينبئهما بخبرها؛ لعدم علمه به، ولم تجد المركيزة ما تحدثهما به غير قولها: بربكما خلصاني، إني مسمومة فنجياني.
ثم تركتهما فجأة، وأخذت تعدو في الطريق كالمجنونة، فرأت على بُعد خطًا منها باب القصر الذي خرجت منه، ورأت قاتليها ففرت من وجهيهما؛ فاندفعا وراءها وهي تصيح أنها مسمومة، وهما يصيحان أنها مجنونة، والناس في طريقهم لا يفهمون الخبر فيفسحون لهم السبيل.
وأكسب الخوف والجزع المركيزة قوةً فوق قُوَّتها، فصارت تعدو حافية تُدمي قدميها الأحجار والصخور بعد أن كان ملبسها الخز والديباج، وصارت تستغيث بالناس، وما من مغيث؛ لأن كل من كان يراها وهي على هذا الحال محلولة الشعور ممزقة الثياب حافية الأقدام تجري في الطرقات لا يظن إلا أنها مجنونة كما يقول سلفاها.
وتوصل الفارس أخيرًا إلى اللحاق بها، فجرها وهي تصيح إلى أقرب منزل منه، فأغلق وراءها الباب، ووقف الراهب حارسًا عليه وبيده غدارة يهدد بها كل من يحاول الدخول أو الاقتراب.
وكان المنزل الذي جرَّ إليه الفارسُ المركيزةَ لرجل يدعى ديبرا، وكان الرجل غائبًا في ذلك الحين ولدى زوجته زائراتٌ مجتمعات، فدخل الفارس والمركيزة يتقاتلان حتى وصلا إلى حيث اجتمع النساء، وكان من بينهن كثير من صاحبات المركيزة، فقمن لهذا المشهد مندهشات غاية الاندهاش يردن أن يخلصنها من يد هذا الوحش الضاري، فردهن الفارس قائلًا: إنها أصيبت بالجنون، وكان من منظر المركيزة ما يحمل على تصديق هذا الافتراء، أما هي فأظهرت للقوم صدرها المحروق وشفتيها المسودتين من السم الذي تجرعته، وأخذت تصيح مكذبة دعواه وتعض ساعديها من الألم، وتقول: إنها مسمومة وإنها ستموت، وتلح عليهم بطلب لبن أو ماء ليطفئ اللهيب المتأجج في صدرها، فتقدمت إحدى الحاضرات وهي مدام برونيل زوجة أحد القسوس البروتستنت، فاقتربت من المركيزة ودسَّت في يدها علبة بها لعوق، فتناولت منها المركيزة بعض قطع، وابتلعتها تلو بعضها بينما كان الفارس يلتفت وراءه، وقامت سيدة غيرها فقدمت لها قدحًا من الماء، فالتفت الفارس عندما رفعت المركيزة القدح إلى فمها فكسره بين أسنانها، وقطعت إحدى شظايا الزجاج شفتيها؛ فأهاج هذا الفعل النسوة الحاضرات فقمن يردن الانقضاض على الفارس، لكن خشيت المركيزة أن يزدنه جراءة وأملت أن تضع من حدته فطلبت من الحاضرات أن يتركنها معه فتركنها بعد إلحاح ودخلن غرفة مجاورة للتي كن فيها، وكان هذا قصد الفارس.
وما كادت تختلي المركيزة بالفارس حتى ضمت يديها إلى صدرها وجثت أمامه على ركبتيها وقالت بصوت لين تسترحمه: أيها الفارس، بل أيها الأخ العزيز، أمَا بَقِيَ في قلبك ذرة من الشفقة عليَّ، أنا التي كنت أخلص لك الود ولا أزال إلى هذه اللحظة أقدم دمي لآخر قطرة منه لخدمتك، أنت تعلم أني صادقة، فلماذا تعاملني بهذا العداء؟ وماذا يقول الناس عنك؟! أخي ما أشقاني إذ عاملتني بهذه القسوة، ومع ذلك فإذا أشفقت عليَّ ووهبتني الحياة فأقسم لك إني أنسى ما مضى ولا أنسى فضلك، بل أعتبرك إلى الأبد مخلصي وصديقي الحميم.
ثم استوت المركيزة فجأة على قدميها صارخة ورفعت يدها إلى صدرها؛ ذلك لأن الفارس اللئيم اغتنم فرصة انشغالها باسترحامه فسل حسامه على غفلة منها وكان الحسام قصيرًا كالخنجر فما كادت تتم حديثها حتى طعنها به في صدرها ثم أتبع الطعنة بأخرى في كتفها فمنعتها الترقوة أن تنفذ إلى داخل الجسم فحملت الطعنتين وأخذت تعدو نحو الغرفة التي انسحب إليها النساء صارخة: أَغِثْنَنِي، أغثنني، فقد قتلني.
وفيما هي تجري تمكن الفارس من طعنها بحسامه خمس طعنات في ظهرها، وأراد أن يزيد لولا أن انكسر السلاح في الطعنة الخامسة لشدة الضربة، وبقي طرفه غائرًا في كتف المركيزة، فوقعت المركيزة على وجهها فوق الأرض مضرجة بدمائها، اندفعت ودماؤها تسيل من كل صوب حتى غمرت أرض الغرفة.
وَظَنَّ الفارسُ أنه قضى عليها، ورأى النساءَ آتياتٍ لنجدتها فترك الغرفة، ووافى أخاه بباب الدار فوجده مكانه والغدارة بيده، فجره من ساعده، فتوقف الراهب عن المسير، فقال له أخوه: هيا بنا فقد قضي الأمر.
فسار الراهب مع أخيه بضع خطوات، ولكن فُتحت نافذة من المنزل، وأطلت منها النسوة يصرخن ويستنجدن؛ إذ نظرن المركيزة تُحتضَر، فوقف الراهب وأمسك بذراع أخيه قائلًا: كيف تقول قضي الأمر أيها الفارس؛ فاستنجاد النسوة دليل على أنها لم تزل حية.
فأجابه الفارس: اذهب وتحقق الأمر بعينيك إن شئت، أما أنا فقد انقضى دوري، قال: صدقت، وعلى هذا عزمت.
ثم عاد مسرعًا للمنزل ورقي الدرج وهجم على الغرفة التي فيها النسوة، فوجدهن يتعاونَّ على رفع المركيزة إلى الفراش، وهي لضعفها وكثرة ما فقدت من الدماء لا تستطيع القيام، فدفعهن الراهب وتقدم نحو المركيزة، ووضع فم الغدارة على صدرها، ولكن أسرعت مدام برونيل — التي مر بنا ذكرها — فرفعت ماسورة الغدارة عندما أطلق القاتل، فصعد العيار إلى السقف بدل أن يصيب المركيزة، فاغتاظ الراهب وأمسك الغدارة من ماسورتها وضرب بها مدام برونيل على رأسها ضربة كادت تفقدها الرشد فتسقط على الأرض، وأراد أن يُثَنِّيَ لولا أن تكاثرت عليه النسوة، ودفعته خارج المنزل تشيعه اللعنات والشتائم، ثم أغلقن وراءه الباب.
واغتنم القاتلان فرصة الليل فبارحا المدينة سرًّا، ووصلا إلى أوبيناس على مسير فرسخ من جنج نحو الساعة العاشرة مساءً.
وفي أثناء ذلك كانت النسوة مهتمات بالمركيزة، فرفعنها إلى الفراش، وأردن أن يرقدنها، فحال دون ذلك نصل الحسام الغائر في كتفها، وحاولن أن يستخرجنه فلم يفلحن؛ لأنه كان ساكنًا في العظم متمكنًا فيه؛ فأرشدت المركيزة — على عظم ما بها — مدام برونيل إلى ما يجب عليها عمله، فجلست هذه السيدة فوق السرير وعاون النساءُ المركيزةَ على الوقوف بجواره، ثم أمسكت مدام برونيل بقطعة النصل بكلتا يديها واتكأت بركبتيها على ظهر المركيزة ثم جذبت النصل ورفعت المركيزة بقوة؛ فنجحت العملية وتمكنت المسكينة أخيرًا من الاضطجاع فوق السرير، وكانت الساعة التاسعة مساءً؛ أي مضت عليها ثلاث ساعات، فكن في عذاب لم يعذبه أحد، من أَمَرِّ ما مرَّ على مخلوق.
شهيدة
وعلم حُكَّامُ جنج بما تم فابتدءُوا يصدقون أنها جريمة قتل دبرت ثم نفذت، فانتقلوا بأنفسهم ومعهم قوة من الجند إلى حيث آوت المركيزة، فلما نظرتهم جمعت قواها واستوت على فراشها ضامة يديها إلى صدرها تتوسل إليهم أن يأخذوها تحت حمايتهم؛ لأن خوفها كان عظيمًا، وكانت تتصور في كل لحظة أن أحد قاتليها داخلٌ عليها فطمنها ولاة الأمر وخرقوا الجنود المسلحة لتحرس الطرقات المؤدية للمنزل. ثم أرسلوا إلى مونبلييه حالًا يستحضرون الأطباء والجراحين. ورفعوا تقريرًا عن الحادثة إلى البارون «ده تريسان» حاكم لنجدوك العام، وأرسلوا له أسماء وأوصاف القاتلين، فبث وراءهما العيون والأرصاد، ولكنهما كانا قد أفلتا من يديه؛ إذ علم أن الراهب والفارس باتا ليلة الجريمة في أوبيناس وأخذا يعنفان بعضهما على سوء تدبيرهما وخيبة مساعيهما، وتطاولا في الكلام حتى كادا يقتتلان، ثم بارحا المدينة قبل الصباح فاستقلا ظهر البحر.
وكان المركيز ده جنج بأفينيون يحاكم أحد خدامه جنائيًّا على سرقته مائتي رِيال، فبلغه خبر الحادثة فبهت لونه واضطرب عندما تلا الرسول على مسامعه القصة، واشتد به الغضب على أخويه فأقسم أن لن يقتلهما سواه، ورغمًا عن انشغاله على صحة المركيزة لبث بأفينيون إلى عصر الغد، وقابل فيها بعضًا من أصحابه دون أن يكلمهم مطلقًا في موضوع الحادثة.
ووصل المركيز إلى جنج وقد مضت أربعة أيام على الحادثة، فقصد منزل ديبرا، وطلب أن يقابل زوجته، وكان قد سبقه إليها قوم من الرهبان الصالحين، فصبَّروها على أمرها، وشجَّعوها لمقابلة زوجها؛ فلهذا أذنت له بالدخول لديها عندما بلغها قدومه، فدخل عليها والدمع يتساقط من عينيه وهو يقطع شعوره ويبدي أقصى علائم الحزن واليأس.
واستقبلت المركيزة المركيز استقبال زوجة محسنة لزوج مسيء، بل استقبال مؤمنة حضرها الموت لعدو تسامحه وتصفح عما جناه، فلم توجه له لومًا على ما أتاه نحوها، بل عاتبته عتابًا لطيفًا على هجره لها، وكان المركيز قد اشتكى لبعض القسوس من تعنيف زوجته له على تركه إياها، فأبلغ القسيس شكواه للمركيزة، فدعت المركيزة زوجها وكان محاطًا بالعوَّاد، فاعتذرت له على رءوس الأشهاد عما فرط منها في حقه، واستسمحته، والتمست منه أن لا ينسب ما صدر منها إلا إلى ما قاسته من الآلام لبعده لا إلى نقصٍ في درجة اعتباره لديها، أو تقصير في واجب احترامه المفروض عليها، فصدق عليها قول الشاعر:
ولما اختلى المركيز بزوجته أراد أن يغتنم فرصة انعطافها إليه ليدفعها إلى إلغاء الإشهاد الذي نطقت به أمام حكام أفينيون؛ لأن نواب هذه المدينة وقضاتها الذين حضروا ذلك الإشهاد رفضوا تسجيل الهبة التي حررتها المركيزة بجنج باسم زوجها بناءً على إلحاح أخيه، وكان أخوه قد أرسلها له لتسجيلها عقب تحريرها، فرفضت المركيزة في هذا الموضوع طلب زوجها، وأفهمته أنها لن تغير عزمها؛ لأن هذه الثروة ثروة أولادها، فمن واجباتها المحافظة عليها، أما الإشهاد الذي نطقت به أمام رجال أفينيون فهو آخر وصاياها ولن تغير فيه حرفًا.
ورغمًا عن هذا التصريح لَبِثَ المركيز لدى زوجته يحيطها بعنايته ويرعاها رعاية زوج مخلص ودود، وحضرت مدام روسان والدة المركيزة بعد يومين من حضور المركيز، فاندهشت لمَّا رأته قائمًا بخدمة ابنتها، وكانت تعتبره — كما أشيع — أحد قاتليها، وكانت المركيزة لا تعتقد ذلك ولا تصدقه، فعملت على محو ما علق بذهن والدتها نحو زوجها من أقوال الناس، واضطرتها إلى تقبيله كما تقبل الوالدة ولدها، فتألمت مدام روسان أشد الألم؛ لتعامي ابنتها وإخلاصها هذا الإخلاص الأعمى لزوجها، ورغمًا عن كل حنوها عليها عزمت على تركها ولمَّا يمضِ عليها لديها يومان. وألحت المركيزة عبثًا على أمها بالبقاء فلم تستطع تغيير عزمها، وتركتها أمها على فراش الموت وسافرت.
وقد أثَّرَ في نفس المركيزة سفرُ أمها وأحزنها، فطلبت أن تنقل إلى مونبلييه، ولم يعد لها صبر على احتمال البقاء في المكان الذي أصيبت فيه؛ حيث تهيج رؤيتُها له أشجانَها، وطالما تصور لها فيه أنها ترى قاتليها يطاردانها فتقوم من رقادها مذعورة تصرخ وتستغيث، ولكن رأى الأطباء أن صحتها لا تساعدها على الانتقال، فقرروا أن الحركة تؤذيها وتزيد حالتها خطرًا. فلما سمعت المركيزة قرارهم استسلمت له وصرفت عن فكرها السفر، وأخذت تهتم بما يهيئها لملاقاة ربها لتموت ميتة الأبرار كما عُذبت في الحياة عذاب الشهداء. فأرسلت تستحضر الزاد الأخير «القربان المقدس»، ثم جددت لزوجها معاذيرها، وأعادت على مسامعه مسامحتها لأخويه على ما جنيا نحوها بلفظ عذب يسيل رقة كما يسطع وجهها نورًا، فكانت في جمالها أشبه بالملائكة منها بالبشر.
ولما دخل الكاهن يحمل القربان تغيرت المركيزة، وارتسمت على وجهها علائم الرعب الشديد حيث عرفته، إنه ذلك اللئيم بيريت الذي أراد أولًا أن يمنعها من الهرب من القصر، ثم قصد أن يسحق رأسها عندما ألقى وراءها جرة الماء لما أفلتت من يديه، ثم ذهب فأبلغ سلفيها أمر هروبها، وهو الآن يأتيها بالأشياء المقدسة التي تقربها من الله!
وكمدت المركيزة غيظها، ولما رأت الكاهن يقترب منها غير هيَّابٍ لم تشأ أن تُشهر أمره وتكدر صفو الساعة الرهيبة التي هي فيها بإظهار جرمه للناس، بل مالت إلى جهته، وألقت إليه هذه الكلمات: أيها الأب، ما أظنك إلا ذاكرًا ما فات، فأتعشم أن تزيل ما بي من الشك بمشاطرتي في تناول هذا القربان.
فطأطأ الكاهن رأسه علامة الإيجاب، وتناولت المركيزة برشانة القربان فاقتسمتها معه مبرهنة له بذلك أنها سامحته كما سامحت شركاءه، وأنها ترجو من الله والناس أن يغفروا لها كما غفرت.
وانقضت الأيام وحال المركيزة على ما هي عليه، بل زادتها الحمى جمالًا؛ فتوردت وجنتاها وأشرق وجهها، فقوي أمل الناس في شفائها. أما هي فكانت أدرى بحالها من غيرها فلم تغتر بظواهر الصحة الكاذبة التي تبدو عليها، وأيقنت أن ساعتها قريبة، فدعت إليها ولدها وكان قد بلغ السابعة، وألزمته جانب فراشها طالبةً منه أن يطيل النظر إلى وجهها ليتذكره ما حيي ولا ينساها في صلواته، فبكى الغلام وعاهدها أن لا ينساها ولا ينسى أن ينتقم لها من قاتليها إذا بلغ سن الرجال، فراجعته أمه قائلة له: إن الانتقام بيد الله في السماء وبيد الملك في الأرض، وإنه يحسن بالمؤمن العاقل أن يَكِلَ أمره إليهما على كل حال.
وفي الثالث من شهر يونيو، وصل إلى جنج المسيو كتلان المستشار المنتدب من قبل برلمان تولوز لتحقيق واقعة المركيزة، وبصحبته الموظفون اللازمون لقضاء مهمته، لكنه لم يتمكن في مساء وصوله من رؤية المركيزة؛ لأنها كانت في دور إغماء طويل لبث بضع ساعات وعقبه استرخاء في أعصاب المخ لا يحتمل معها الوثوق في حديثها؛ فَأَجَّلَ القاضي مقابلتها إلى الغد.
وفي الغد انتقل المستشار إلى منزل «ديبرا»، فدخله بلا استئذان ولا سابقة إخطار، وقصد الغرفة التي بها المركيزة رغمًا عن معارضة القائمين على بابها له عند الدخول، فقابلته المركيزة وحادثته بذهن حاضر وتعقل تام، حتى ظن أن ما بلغه بالأمس عنها فرية يقصدون بها أن يمنعوه عن استجوابها.
وامتنعت المركيزة أولًا عن حكاية الواقعة قائلةً: إنها لا تريد أن تعفو وتتهم في آن واحد، ولكنْ أفهمها القاضي أنَّ الواجب عليها قبل كل شيء احترامًا للعدل أن لا تنكر شيئًا مما حصل، وأن تذكر الحقيقة على وجهها؛ خشية أن يضل المحققون فيأخذوا بجريرتها مظلومًا أو يحكموا على بريء بدلًا عن أن تنال يد العدالة المجرمين الظالمين، فاقتنعت المركيزة بهذه الحجة، وأخذت تشرح للقاضي وقائع الحادثة مفصلة، فلبثت مختلية معه ساعة ونصف ساعة أحاطته فيها علمًا بكل ما تم لها مع زوجها وأخويه.
وعاد القاضي في الغد فوجد المرض قد اشتد على المركيزة وتأكد بعينيه حالتها فتركها خشية أن يتعبها بالحديث، وكان قد حصل منها على كل ما تهمه معرفته فلم يطلب المزيد.
وابتدأت الآلام من ذلك اليوم تتناوب المركيزة فلم تُطِق صبرًا على أمرها، وكانت تود أن تتظاهر بالصبر والثبات إلى آخر لحظة من حياتها فخانتها قواها، وصارت تصرخ من الألم صراخًا قد اختلط بدعواتها، وانقضى عليها اليوم الرابع من شهر يونيو وصباح الخامس منه وهي في هذه الحال، ثم فاضت نفسها في الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم، وكان يومَ أحد، فارتدت الروح إلى بارئها تاركة دار الشقاء والفناء إلى دار النعيم والبقاء.
المحاكمة
وما كادت تسلم المركيزة الروح، حتى صدر الأمر بتشريح جثتها، فقرر الأطباء أنها ماتت بتأثير السم وحده؛ حيث لم تكن إحدى طعنات الحسام السبع التي طُعنتها بالغة مقتلًا منها، ووجد الأطباء معدة المركيزة وأحشاءها محترقة ومخها مسودًّا، وقد جاء في محضر التحقيق، كما روته إحدى الرسائل التي نُشرت عن مقتل المركيزة، أنهم وجدوا كمية السم التي جرعتها كافية لقتل لبؤة في بضع ساعات، ومع ذلك قاومت المركيزة مفعول ذلك السم تسعة عشر يومًا، كأنه كان عسيرًا على الموت أن يختطف ذلك الجسم الجميل، وقد كان زينة الحياة.
ولما علم المسيو كتلان بوفاة المركيزة أنفذ سرية من الجند إلى قصر جنج، وأمرهم بالقبض على المركيز والراهب وخدم القصر جميعًا عدا السائس الذي أعان المركيزة على الهروب. ووجد قائد السرية المركيز يتمشى في ردهة القصر الكبرى حزينًا مضطربًا، فأبلغه الأمر المكلف بتنفيذه، فلم يُبدِ المركيز معارضة فيه؛ كأنه كان مترقبًا له، وسلم نفسه إلى الجنود طائعًا، قائلًا إنه على كل حال يريد الذهاب إلى البرلمان لمحاكمة قاتلي زوجته. واستحوذ قائد السرية على مفاتيح القصر ومفتاح مكتب المركيز، ثم أمر بترحيل المقبوض عليهم، ومنهم المركيز، إلى سجون مونبلييه.
وما كاد يصل المركيز إلى هذه المدينة، وكان وصوله إليها ليلًا، حتى شاع فيها خبر قدومه بأسرع من البرق، وتناولته الأفواه في أنحائها، فكنت ترى النوافذ تنفتح في طريقه ويطل منها القوم ينظرون إليه وهو سائر تحتاط به الجند، وحوله صبية الطريق والسوقة يحملون المشاعل، فيضيء وجهه للناظرين، وكان المركيز والراهب على حصانين مهزولين تحتاط بهما الجنود، ولولا الجنود لفتكت بهما الناس؛ إذ كنت ترى الرجلَ يثير الرجلَ على هذين المُجرمَينِ ليقطعاهما إربًا، ولولا دفع الجند لقضى الناس فيهما أربًا.
ولما علمت مدام ده روسان بوفاة المركيزة، استحوذت على ما خَلَّفَت من مال وعقار، ثم انضمت إلى الدعوى الجنائية، وقالت: إنها لن ترجع عنها حتى تنتقم العدالة من قاتلي ابنتها.
وشرع القاضي في التحقيق، فاستجوب المركيز أولًا، ولبث يناقشه إحدى عشرة ساعة، ثم استجوب الباقين، وأصدر قرارًا بترحيلهم جميعًا من سجون مونبلييه إلى سجون تولوز مقر البرلمان.
وقد قدمت مدام روسان إلى المحكمة مذكرة تتهم فيها صهرها، وتبدي فيها بأوضح بيان كيفية اشتراك المركيز مع القاتلين، إن لم يكن في الفعل ففي النية والعزم والتمهيد.
وكان دفاع المركيز بسيطًا، قال فيه: إن ربه ابتلاه بأخوين لئيمين شَرَعَا أولًا في إصابته في عِرضه، ثم أصاباه في نفس زوجة كانت عزيزة لديه، فأماتاها ميتة شنيعة، وما يدهشه إلا اتهامه في هذه الجريمة الفظيعة.
ورغمًا عن دقة التحقيق لم يتمكن المحقق من إيجاد أوجه إدانة قوية ضد المركيز، وكانت الشُّبَهُ الموجهة إليه لا تكفي لإصدار الحكم بإعدامه.
وفي ٢١ أغسطس سنة ١٦٦٧، صدر الحكم غيابيًّا ضد الراهب والفارس بأن تفصص أعضاؤهما وهما حيين، وحضوريًّا ضد المركيز ده جنج بنفيه نفيًا أبديًّا خارج المملكة، ومصادرة أمواله، وتجريده من ألقابه، وحرمانه من وراثة أولاده. أما الخوري بيريت فَحُكِمَ عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة بعد أن جُرِّدَ من ألقابه الدينية، وَطُرِدَ من الطوائف المنتمي إليها.
وتحدث الناس بهذا الحكم وانتقدوه طويلًا، ولم تكن الظروف المخففة معروفة في قانون ذلك الزمن، فأخذ القوم يقولون: إن المركيز إما شريك لأخويه أو غير شريك، فإن كان شريكًا فالحكم الصادر ضده خفيف جدًّا، وإن لم يكن فالحكم شديد.
وكان الملك لويس الرابع عشر من رأي الجمهور في هذا الحكم، حيث لم ينسَ جمال المركيزة الفتَّان، حتى إنهم لما طلبوا منه العفو عن المركيز ده دنز المتهم بسم امرأته ظانين أن الملك نسي قصة آل جنج، أجابهم الملك قائلًا: ليس المركيز في حاجة إلى عفوي، حيث إن قضيته منظورة أمام محكمة تولوز، فله من رأفة قضاتها ما يغنيه عن عفوي، كما استغنى عنه المركيز ده جنج.
مصير الظالمين
أمَا وقد علم القراء ما تم للمركيزة، فلعلهم يتساءلون عما تم لقاتليها، فَلْنَروِ لهم عنهم خبرًا، فأما الخوري بيريت فكان أول من ذهبت روحه منهم إلى سقر لتناقش الحساب عما جنته يداه؛ إذ مات وهو مقيَّدٌ في الأغلال وسائر من تولوز إلى برست ليقضي عقوبته في ليماناتها كما سلف القول.
أما الفارس فقصد مدينة البندقية، وانخرط في سلك جنودها، وكانت جمهورية البندقية في حرب مع الأتراك، فَأُرسل مع من أرسل إلى كنديا «بجزيرة كريت»، وكان المسلمون محاصرين لها منذ اثنين وعشرين عامًا. وبينما هو يتمشى ذات يوم بعد وصوله بأيام قلائل فوق أسوار المدينة ومعه ضابطان، إذ ألقيت قنبلة وانفجرت تحت أرجلهم فقتلت إحدى شظاياها الفارس ولم يصب رفيقاه بسوء؛ ولذا يرى الناس في هذه الحادثة يد انتقام من لا يغفل ولا ينام.
أما الراهب فحديثه طويل، وما تم له أعجب مما تم لأخيه؛ إذ ترك الراهب أخاه في ضواحي مدينة جنوة، وسافر مخترقًا إيتاليا وسويسرا وألمانيا حتى أتى هولندا، فدخلها متنكرًا، وَسَمَّى نفسه لا مارتليير. وتردد الراهب في اختيار البلد الذي يلقي إليه عصا ترحاله، حتى قر عزمه على أن يقصد مدينة فيان، وكان أميرها في ذلك الحين يدعى الكونت ده ليب، وتعرف فيها الراهب برجل من الأشراف توصل به إلى الأمير، فقدمه له الرجل بصفة غريب من الفرنساويين الذين أقصتهم الحروب الدينية عن بلادهم.
ورأى الأمير من ذلك الغريب الذي آوى إلى مملكته نابغة في العلوم والمعارف، وبحرًا في الآداب، فعهد إليه بتربية ولي عهده، وكان غلامًا في التاسعة من عمره، ورأى الراهب في ما أُسند إليه السعادة والرفعة، فقبل الوظيفة شاكرًا ممتنًّا.
وكان الراهب ده جنج ذا عزيمة لا تفل وذا سلطان على نفسه لا يُغلب، فلما رأى سعادته بل حياته متوقفة على سيرته، اجتهد فأخفى ما به من رذيلة وسوء خلق، وتجلى في الناس متظاهرًا بما ليس فيه من فضل ومن كرم.
وقد تَقُوم العزيمةُ مقامَ الفضيلة، بل كلُّ الفضيلة في العزيمة، وقد توصل الراهب إلى تقوية إرادة تلميذه وتقويم أهوائه بما غرسه فيه من مبادئ العزم والحزم في الأمور، حتى جعله على صغر سنه كهلًا في فن السياسة والإدارة، ورأى الأمير ليب ثمرة هذه التربية، فأراد أيضًا أن يقتبس من جَنْيِهَا، فصار يستشير معلم ولده في كل شأن من شئون ملكه، حتى أصبح «لا مارتليير» — الموهوم — روح هذه الإمارة ولمَّا يمضِ عليه فيها حين طويل.
وكان لدى الأميرة — زوجة الأمير — ابنة عم فقيرة، لكنها ذات نسب رفيع، تربيها وتحبها محبة الولد، فما لبثت الأميرة أن رأت انعطافًا من الفتاة نحو مربي ابنها، وميلًا له لا يليق بمكانتها وشرفها، وكان الراهب قد توصل — بدهائه — إلى إلقاء الفتاة المسكينة في شَرَكِ حبه، فاستدعت الأميرة ابنة عمها إليها، وتحايلت حتى اعترفت لها الفتاة بحبها ﻟ «مارتليير»، فقالت لها الأميرة: إنها وزوجها يقدران ذلك الرجل حق قدره وفي عزمهما أن يكافئاه على خدماته لابنهما وللمملكة بأن يرفعاه مكانًا عليًّا، ولكن هذا الرجل ليس له لقبٌ شريف يُعرَفُ به، ولا عائلةٌ ظاهرة يفخر بالانتساب إليها، فما له أن يطمع في مصاهرة الأمراء والملوك. وزادت الأميرة قائلة: إنها لا تشترط أن يخطب ابنة عمها أمير من آل بوريون أو روهان، إنما لا تتنازل عن أن يكون خاطبها من الأشراف ولو كان فتًى قرويًّا.
وأعادت الفتاة على سمع حبيبها ما دار من الحديث بينها وبين الأميرة كلمة كلمة، وظنت أنه يتكدر له، لكنه أجابها قائلًا: إن الأمر ممهد إن لم يكن إلا انتسابه العائق. وكان الراهب يظن أن إقامته ثماني سنين لدى الأمير أمينًا لأسراره ومحفوفًا بعنايته وإكرامه قد تجعل له مكانة لديه حتى إذا باح له باسمه لم يجد منه سخطًا عليه، فطلب من الأميرة أن تسمح له بمقابلتها، فصرحت حتى إذا تمثل بين يديها طأطأ أمامها رأسه تحية واحترامًا، ثم قال: مولاتي، أراني سعيدًا إذ تشرفت باكتساب رضاء سموكم، ولكن مولاتي تحول دون إتمام أسباب سعادتي، فابنة عمها تنازلت بقبولي بَعْلًا لها، ومولاي الأمير الصغير يعززني في آمالي ويصفح عن جراءتي، فما لمولاتي تعترض سبيل هذا القران؟ وهل أتيت ذنبًا أؤاخذ عليه في السنين الثماني التي قضيتها في خدمة سموها؟
فأجابته الأميرة: إنك لم تأتِ شيئًا تؤاخذ عليه يا سيدي، إنما أنا لا أريد أن أوافق على عقد قران تؤاخذني عليه الناس، وكنت أظنك ذا فكر وتبصر فلا تضطرني إلى تنبيهك إلى حدودك، فاعلم أن طلباتك مجابة ما لم تخرج عن حد اللياقة، فاطلب إن شئت ضعف ما تقتضي من المال يصرف لك، واطلب إن شئت مركزًا أسمى مما أنت فيه تُمنحه، لكن لا تطمح أنظارك إلى عقد قران لا تؤهلك مكانتك إليه.
فقال الراهب: ومن أنبأ مولاتي أن نسبي لا يسمح لي بالحصول على هذا الشرف؟
قالت مندهشة: أنت على ما يظهر لي، فإن لم ينبئني لسانك فقد أنبأني اسمك.
فأجابها وقد تجرأ: وإذا كان هذا الاسم غير اسمي وقد اضطرتني الحوادث إلى استعارته، أفلا تتنازل مولاتي بتغيير رأيها نحوي؟
فقالت الأميرة: لقد تقدمت في حديثك بما لم يعد لك أن تعدل عنه فأتمم حديثك، وأعلمني من أنت، وإني أقسم لك إن كنت من بيت كريم كما تلمح لي إني لا أخيب لك أملًا، ولا تظن أن فقرك يحول دون إتمام أمنيتك.
فخر الراهب على ركبتيه أمام الأميرة وقال: آهٍ يا مولاتي، إن اسمي مشهور ومعروف لديك، ويا ليت لي أن أفقد نصف دمي دون أن ألفظ به في هذه الساعة، ولكنك قلت: إنه لم يعد لي سبيل إلى العدول عن إتمام حديثي، فاعلمي يا مولاتي أني ذلك الراهب التعيس الذي بلغت مسامعك أخبار جرائمه ورآك تعيدينها على مسمع منه، فأنا ذلك الراهب ده جنج.
فصاحت الأميرة منذعرة قائلة: الراهب ده جنج، الراهب ده جنج؟! أأنت ذلك الراهب اللعين الذي تقشعر من اسمه الأبدان، وإليك عَهِدنا بتربية ولدنا الوحيد؟ ولكن لا، لا أظنك إياه يا سيدي، وأرجو أن تكون كاذبًا فيما تدعيه؛ لأنني لو كنت واثقة أنك ذلك الراهب لأمرت الآن بالقبض عليك وإرسالك إلى فرنسا لتلقى فيها جزاء ما جنته يداك، والآن فاسمع: إن كنت صادقًا فيما تقول فخيرٌ لك أن تبارح حالًا هذا القصر، بل هذه المدينة، بل هذه الإمارة، وكفاني عذابًا فيما بقي من أيامي أن أذكر أنه ضمني وضمك بيت واحد، فلبثت معك فيه سبع سنين لا أدري من أنت.
وحاول الراهب أن يجيب، ولكن علا صوت الأميرة على صوته، وكان الأمير الصغير واقفًا بالباب مستعدًّا لمساعدة أستاذه في بلوغ مرامه، فلما رأى الجدال قد علا بينه وبين أمه دخل ليصلح ذات البين، ولكنه وجد أمه وقد بلغ منها الرعب مبلغًا عظيمًا، حتى إنها عندما رأته داخلًا جذبته إليها كأنما تحتمي به، فأخذ يلاطفها ويسترحمها، فلم يتمكن إلا أن ينال لمعلمه مفتاح النجاة بنفسه، حيث سمحت له الأميرة بالانسحاب إلى أية بلدة شاء من بلاد الأرض على أن لا يريها وجهه بعد هذا الحين.
وانسحب الراهب إلى مدينة أمستردام، واشتغل فيها بتعليم اللغات، ولحقت به في هذه المدينة حبيبته فتزوجته، وصار تلميذه يمده بالمال رغمًا عن علمه بحقيقة اسمه وسيرته. ولبث الراهب على هذا الحال حتى بلغت زوجته سن الرشد، فاستولى على مالها من عقار خاص بها وكان قليلًا.
وسار الراهب في الناس سيرةً مُثلَى، واشتهر بينهم بعلمه، فأدخله البروتستنت في مجمعهم، ولبث فيه إلى أن قُبض مذكورًا بالخير، وربك يعلم إن كانت استقامته في نهاية أيامه توبة صادقة أو نفاقًا.
عاشق كنته
علمنا أن المركيز ده جنج قُضيَ عليه بالنفي والتجريد، فرحلوه إلى حدود السافوا من فرنسا، وهناك تركوه، فقضى ثلاث سنين غريبًا ريثما يتناسى القوم حديثه، ثم عاد إلى فرنسا متنكرًا، وكانت حماته مدام ده روسان قد ماتت، فلم يَبْقَ من يهمه إبعاده. وعاد إلى قصره بجنج، فلبث فيه مختفيًا، لكن علم المسيو ده بافيل حاكم لنجدوك بعودته من منفاه، فأراد أن يحاكمه على ذلك، لولا أن قيل له: إن المركيز منتصر للمذهب الكاثوليكي يجبر أتباعه على حضور القداس مهما كانت مذاهبهم، وكان ذلك العصر عصر اضطهاد ديني للبروتستنت، فرأى المسيو ده بافيل أن اهتمام المركيز بنصرة المذهب تكفر عن جرمه، فصرف النظر عن محاكمته، بل وراسله سرًّا، وضَمِنَ له بقاءه في فرنسا ما دام قائمًا بنصرة الكاثوليكية، ومضى اثني عشر عامًا على هذه الحال.
وكان ابن المركيز، وهو الذي رأيناه جالسًا يبكي لدى أمه المركيزة وهي على فراش موتها، قد شب وبلغ في ذلك الحين العشرين من عمره، وأصبح غنيًّا بما ورثه عن والده من أملاكه المصادَر فيها، وما ورثه مع أخته عن أمه بعد موت جدته، وكان المركيز الصغير قد تزوج بفتاة ذات حسب ونسب ومال وجمال تدعى «مادموازيل ده مواساك»، فلبث معها حتى دُعي للخدمة العسكرية فسافر بزوجته إلى قصر جنج. وهناك عهد بها إلى أبيه وأوصاه عليها كل التوصية، ثم لحق الجيش تاركًا لها تحت رعاية المركيز.
وكان المركيز ده جنج في الثانية والأربعين إلا أن ناظره لا يظنه جاوز الثلاثين، وكان من أجمل رجال عصره وجهًا وهيئة، فعشق زوجةَ ابنه، وأمل أن تبادله الغرام، فاحتال لذلك، وكان مع المركيزة الصغيرة فتاة ربيت معها في المهد، فابتدأ المركيز بإبعادها عنها محتجًّا بمخالفتها لها في المذهب الديني، وكانت المركيزة شديدة التعلق بهذه الفتاة فآلمها فراقها جدًّا، ولم تدرك له مغزًى، وما كان حضورها لهذا القصر عن رضًا بل اضطرارًا؛ لعلمها بما ارتُكِبَ فيه من الفظائع التي رويناها، وساءها حلولها في الغرفة التي سقيت فيها حماتها السم، ورقادها على السرير الذي كانت عليه، ورؤيتها للنافذة التي ألقت بنفسها منها، وكانت كل هذه الأشياء تذكرها بهذه الحادثة المحزنة، وتشخص لها حوادثها المريعة مفصلة، وزاد رعبها وانقباضها لما انكشفت لها نوايا حميها، فرأت نفسها محبوبة من رجل كان مجرد اسمه يرعبها وهي طفلة، ورأت نفسها تخلو به ساعات من النهار، ولما سكنت أَلسِنَةُ النَّاسِ عن اتهامه في مقتل زوجته. ولو كانت الفتاة في غير هذا القصر وهذا المكان لكانت شجعت نفسها وسلمت أمرها لله، ولكنها قالت في نفسها: إن الله قدر على هذا القصر وساكنيه بلاءً متواصلًا، فماتت المركيزة غدرًا وهي من أجمل خلق الله وأطهرهم نفسًا، ولم يمد لها الله يدًا لدفع الكيد عنها كأن صواعق غضبه حاقت بآل جنج ومن يتصل بهم.
ولبثت المركيزة الصغيرة تحتاط بها المخاوف، وتزداد بمرور الأيام، فأصبحت لا تستطيع أن تخلو بنفسها، فكانت تجمع لديها في النهار سيدات أهل المدينة لتأتنس بوجودهن، ولكن كان بعضهن ممن شهدن مقتل حماتها، فكن يُعِدنَ على مسامعها تفصيل هذه الواقعة، وهي تستزيدهن علمًا بما تم لها، فما كان يزيدها قولهن إلا انزعاجًا، أما لياليها فكانت تقضي معظمها جاثية بملابسها ترتعب لأقل حركة، وترقب انبثاق ضوء الصباح، حتى إذا لاح تقوم إلى فراشها لترقد رقادًا مشوبًا بمزعجات الأحلام.
وأصبحت وقاحة المركيز ظاهرة ونواياه الخبيثة مفتضحة، فلم يعد لكنته صبر على حالها، وصممت على أن تعمل بيدها على الخلاص منه، فخطر لها أن تكتب لأبيها فتخبره بأمرها وتطلب منه المعونة، ولكنها رأت أن أباها حديث الدخول في المذهب الكاثوليكي، وقد لاقى أشد العذاب لنصرة الإصلاح «مذهب البروتستنت»، فلا يبعد أن يحتج المركيز بدعوى المذهب عند ورود جواب أبيها، فيفضه ويطلع على ما فيه، فتكون كالساعية إلى حتفها بظلفها، فاختارت أن تكتب لزوجها وزوجها عريق في الكاثوليكية وضابط في الجندية فلا تُفَضُّ كتبه، فكتبت له وشرحت له حالها، واستكتبت العنوان يدًا غريبة، ثم أرسلت بالكتاب إلى مونبلييه حيث عهد به إلى البريد.
وكان ابن المركيز في مدينة ميس عند استلامه لكتاب زوجته، فثار غضبه، وتذكر قصة أمه، وتذكر عهده لها أن لا ينساها وهو غلام يبكي لدى سريرها وهي تحتضر، ثم رأى زوجته المحبوبة في موقفها بتلك الغرفة المشئومة تهددها الحوادث التي انتابت أمه من قبل، فلم يُطق صبرًا، وقام في الحال فركب البريد إلى قصر الملك لويس الرابع عشر بفرساليا، والتمس المثول بين يديه، فأذن له، فجثا لدى قدمي الملك وكتاب زوجته في يديه، والتمس منه أن يأمر بإعادة أبيه إلى منفاه، وأقسم أن يصله بما يكفيه.
وكان الملك يجهل أن المركيز ده جنج عاد من منفاه، فعلم ذلك بصفة لا تجعل للعفو سبيلًا، فأصدر أمره بالقبض على المركيز أينما وُجِدَ بأرض فرنسا ومحاكمته بمنتهى الشدة.
وكان للمركيز أخ بفرنسا ذو منصب سامٍ في بلاط الملك، ولم يشارك إخوته الآخرين في لؤمهم، فما كاد يبلغه أمر الملك حتى سافر من فرساليا مسرعًا إلى جنج، فأعلم أخاه بالخطر الذي يتهدد حياته، وسافر به حالًا إلى أفينيون، فوجد المركيز ابنته مدام دور بان، فحاولت إبقاءه لديها، فخشي أن تصل إليه يد الملك بأذًى إن هو عصاه، فسافر من هذه المدينة إلى كونتينة فينسيك، وكانت هذه الكونتينة من الأملاك البابوية بفرنسا ومعتبرة لذلك أرضًا غريبة عن هذه المملكة، وآوى المركيز فيها إلى جزيرة ليل، وهي قرية صغيرة قائمة في وسط نهر السرج ذات ظلال وعيون ومنظر يبهج النواظر.
ولبث المركيز في هذه القرية، وانقطعت عن الناس أخباره من ذلك الحين.
قال المؤلف: زرت جنوب فرنسا في عام ١٨٣٥، فحاولت أن أهتدي إلى ما تم للمركيز ده جنج بعد حلوله في هذه القرية، فلم أجد من ينبئني خبره، كأن الله أراد أن يموت هذا المركيز موتًا خفيًّا بعد حياة اشتهرت بالمنكرات.
زوج لا كالأزواج
حيث ذكرنا اسم مدام دور بان ابنة المركيز، فلا مندوحة لنا عن أن نروي طرفًا من قصتها لنختم بها سيرة آل جنج؛ فإن في قصتها عجبًا، وقد قضى الله أن يجعل سيرة هذه العائلة موضوع أحاديث الناس بفرنسا نحو قرن من الزمن، لِمَا احتوت عليه من العجائب والفظائع.
كانت ابنة المركيزة ده جنج في السادسة من عمرها عندما انتقلت والدتها إلى دار البقاء، فاحتضنتها جدتها والدة أبيها، فأقامت لديها حتى بلغت الثانية عشرة، فعقدت لها جدتها على المركيز ده بيرو خليلها في صباها، وكان المركيز شيخًا قد ناهز السبعين، لكن لم يُثنِهِ سنه عن مغازلة الحسان، وكان مقربًا عند الملوك الذين عهد دولتهم محبوبًا لديهم. وكانت الفتاة لا عهد لها قبله بالرجال، فرأت زوجها رءوفًا بها، فارتضت به وعدت نفسها سعيدة؛ إذ لقبوها باسمه، فأصبحت تدعى المركيزة ده بيرو.
وكان المركيز واسع الثروة وله أخ أصغر منه سنًّا قد خاصمه وعاداه واستحكم بينهما العداء، حتى إن المركيز لم يتزوج إلا ليحرم أخاه من ميراثه إذا رُزق بمولود، لكن رأى المركيز أن الواسطة التي اتخذها لحرمان أخيه ضئيلة الجدوى؛ لكبر سنه، فانتظر سنةً بل سنتين عسى أن يمن الله عليه بمعجزة كما منَّ على زكريا من قبل، فأبى الله إلا أن تجري قدرته على أحكام العادة، وازداد بغض المركيز لأخيه، وخشي أن يموت بلا عقب، فعمد إلى طريقةٍ وحشيةٍ هي أليق بالبهائم منها بابن آدم الراقي حسًّا ومعنًى، ولكن هي النفس قد ترفع المرء إلى مقام الملائكة أو تضعه إلى منزلة الأبالسة. وقد كانت تلك الطريقة وسيلة قدماء أهل إسبرطة في الحصول على مولود من زوجاتهم بواسطة شخص غريب، إذا عجز الزوج عن الحصول عليه بنفسه.
ولم يجهد المركيز نفسه في إيجاد ذلك الشخص الغريب؛ إذ كان في قصره فتًى ربيب بين السابعة والثامنة عشرة، وهو ابن أحد أصدقائه المتوفين عن غير مال، كان قد عهد به إلى المركيز ليربيه وهو على فراش موته. وكان هذا الفتى أكبر من خريدته بعام وقريبًا منها في أكثر الأوقات، فما لبث أن شغف بها حبًّا، وحاول أن يخفي هواه، فنمت عليه به أحواله، ولم يخفَ أمره عن عين المركيز النقادة، فوجم المركيز أولًا لما شغل قلب الفتى وخشي على زوجته منه، ولكن لما خطر له خاطر الانتقام من أخيه بالوسيلة التي ذكرناها رأى في تعلق الفتى بزوجته تمهيدًا لبلوغ مناه.
وكان المركيز لا يعزم إلا بعد تدبر طويل، فإذا صمم أسرع في تنفيذ عزمه، فلما تم له اختيار الوسيلة التي ارتآها استدعى ربيبه لديه، واستعهده كتمان ما يسره إليه، ووعده خيرًا كثيرًا إذا هو حفظ عهده وصان سره، ثم عرض عليه ما يرجوه منه، فظن الفتى أنها حيلة من المركيز ليعترف له بهواه، فاضطرب وكاد يرتمي على قدمي المركيز يقبلهما ويسأله الصفح، فأدرك المركيز ما يجيش بصدر ربيبه، فطمنه وأقسم له — بشرفه — أنه صادق فيما يقول، ومصرح له أن يفعل ما يشاء للوصول إلى الغاية التي يرجوها، فما وسع الفتى — طبعًا — إلا القبول، وأقسم لدى سيده أيمانًا مغلظة أن لا يبوح بالسر الذي استؤمن عليه، وصرف له المركيز من المال ما يساعده على نوال المأمول، معتقدًا أن المرأة مهما بلغت من الفضيلة لا تلبث أن يفتنها المال والشباب والجمال. ولكن خاب اعتقاده؛ إذ كانت زوجته ممن لا يهمهن إلا الشرف.
وما أسرع ما شرع الفتى في تنفيذ وصايا مولاه، فرأت منه المركيزة من أول يوم اهتمامًا بشئونها فوق ما كانت تعهده فيه من قبل، وإسراعًا في تنفيذ أوامرها فوق ما تؤمل منه، فما كان يغيب عنها لحظةً لقضاء حاجتها حتى يعود إلى جانبها. ولم تدرك المركيزة لهذا الاهتمام مغزًى، فشكرت لبساطتها الفتى عليه. وبعد يومين تمثل لديها الفتى متحليًا بأفخر اللباس، فأعجبت بحسن زيه، وامتدحت جميل ذوقه، وأخذت تتأمل في أجزاء مَلبوسه قطعة قطعة، وتسأله عنها، وتقلبها بين يديها كأنها طفلة وكأنه «عروسة» تلهو بها، وكانت المركيزة تعامل ربيب زوجها معاملة الأخ، ولا تتكلف في حديثها معه، فما كانت معاملتها إلا لتزيد الفتى ولوعًا بها، وكان مع فرط غرامه يهاب أن يفاتحها به؛ فيبقى أمامها خافق القلب ملجم اللسان. وكان يسأله مولاه كل ليلة عما وصل إليه، فيقول له الفتى إنه لم يتقدم في يومه شيئًا عن أمسه، فيؤنبه المركيز ويوبخه ويهدده بأخذ التحف والملابس التي أعطاه إياها وإخلاف الوعود التي وعده بها. ولما كاد أن ييأس منه أبلغه أنه إن لم يفعل ما أمره به يعهد به إلى غيره، وكفى بهذا التهديد الأخير إيقاظًا لراقد همة الفتى؛ فتشجع وتجرأ ووعد المركيز أن يكون في لَيلِهِ أَجرَأَ منه في أمسه، فصار يتقرب للمركيزة ويروي لها أحاديث حب وغرام لينبه فيها عاطفة الميل إليه، فكانت تصغي المركيزة لأحاديثه بقلب طاهر ونية سليمة، ولا تفقه ما يرمي إليه الفتى. حتى إذا كان ذات يوم رأت المركيزة الفتى يطيل النظر في وجهها، فسألته عما به فاعترف لها بهواه، فوجمت في الحال وتبدلت سحنتها، ثم التفتت للفتى وأمرته بالخروج من غرفتها.
وأطاع المحب المسكين، فخرج من لديها قاصدًا مولاه يبثه شكواه، فأبدى المولى تأثرًا لحاله وصبره عليه، وقال له إنه أخطأ في اختيار الفرصة التي كاشف فيها مولاته بهواه؛ فإن للنساء أوقاتًا للقبول لا يرددن فيها الطالب، وأخرى تخيب لديهن فيها المطالب، فالسر في اختيار الأوقات التي تعرض فيها عليهن الحاجات. ونصح المركيز لربيبه أن ينتظر يومين ريثما تتناسى مولاته فيهما ما بدا منه وتتصالح معه، وأوصاه أن لا ييأس إذا انخذل أول مرة؛ فإن الفضل في الثبات. ثم أعطاه كيسًا مملوءًا بالذهب ليرشو به وصيفة المركيزة إذا اقتضى الحال.
واهتدى الفتى بنصائح المركيز التي أوحتها إليه خبرته، فتمثل لدى مولاته آسفًا نادمًا، لكن المركيزة عاملته بالشدة مدة يومين، فشفعت فيه لديها وصيفتها وقالت لها: إن الشاب يُعذر إذا رأى مثل جمال مولاته فَعَشِقَه، وله من حداثة سنه وطهارة حبه عذر آخر، فليس جرمه مما لا يقبل التوبة، وليست المركيزة ممن يرفض العفو؛ فخفضت المركيزة من شدتها، واستدعت الفتى لديها، فألقت عليه درسًا من النصائح والآداب، تلقاه وهو خافض الرأس مسبل العين، ثم مدت يدها وصافحته صافِحَةً عنه، وعادت إلى سابق عهدها معه.
ومر عليهما في هذه الحال أسبوع لم يرفع الفتى فيه عينه إلى مولاته، ولم يفتح في حضرتها فاه، حتى تأسفت على ما كان منها نحوه.
وإذ كانت المركيزة ذات يوم في غرفتها منشغلة بزينتها، اغتنم الفتى فرصة انفرادها وقد تركتها وصيفتها فولج إلى الغرفة، وارتمى على قدمي المركيزة قائلًا: إنه حاول عبثًا كتم هواه فأصبح لا طاقة له بإخفائه، حتى لو قدر له أن يموت تحت قدميها مسخوطًا عليه منها فلن يرجع عن أن يعترف لها بأن هواه عظيم، شغل قلبه وَبَالَهُ، وأصبح أقوى من كل عاطفة فيه، فأرادت المركيزة أن تطرده من حضرتها كما فعلت أول مرة، لكنه أبى الخروج، وعمل بوصية مولاه، فهجم على المركيزة وضمها إلى صدره؛ فصرخت المركيزة وصاحت، وقطعت حبال الأجراس فلم تجبها وصيفتها، ولم تحضر واحدة من الخادمات؛ لأن الوصيفة كانت قد صرفتهن عملًا بأمر المركيز، فلما رأت المركيزة نفسها وحيدة لا مغيث لها عملت على دفع القوة بالقوة، فاجتهدت حتى تخلصت من أيدي الفتى وأسرعت نحو غرفة زوجها مختلة الهندام عارية الصدر محلولة الشعور وقد احمرت وجنتاها وثار غضبها، فزادت جمالًا على جمال، ووجدت المركيزة زوجها راقدًا فألقت بنفسها عليه تستغيث به من شر ربيبه وتشكوه حيث أهانه في عرضه وشرفه، ولكن أدهشها ما رأته من عدم اهتمام زوجها بالأمر؛ إذ قال لها ببرود: إن ما تروينه غير معقول، ولم ينفعل غيرةً على عرضه، وزاد قائلًا: إنه عَهِدَ هذا الفتى عاقلًا كاملًا فلا يبدر منه هذا الفعل، وإنه لا بد أن يكون لدى المركيزة أسباب تحملها على اتهامه ظلمًا سعيًا لإخراجه من القصر، وإنه رغمًا عن حبه واحترامه لها لا يسعه طرد هذا الفتى؛ لأنه ربيبه وابن صديقه، فهو في منزلة ولده لديه. فخرجت المركيزة من لدى زوجها حائرة لا تدري بما تُؤَوِّلُ أقواله، ورأت نفسها بلا معين فصممت أن تحتمي وراء ستار العفاف تقابل ربيب زوجها بالشدة حتى تفقده كل أمل في الوصول إليها.
وأصبحت المركيزة من ذلك الحين لا تعامل الفتى العاشق إلا بالصد والجفاء، ولولا أن مولاه وراءه يشجعه ويعشمه لمات الفتى كمدًا؛ لفرط حبه وميل المركيزة عنه، وضجر المركيز لحرص زوجته على عرضها، وازداد همه كما يزاد هم امرئ شريف لا تحرص زوجته على عرضه.
ولما يئس المركيز من إذعان زوجته طوعًا لحب فتاه، عزم أن يطرق سبيل الحيلة أو الإكراه، فأخفى الفتى في خزانة ملاصقة لغرفة المركيزة وزوده بتعليماته، ثم رقد بجانب امرأته، حتى إذا مضى ثلث الليل انسحب من مرقده بدون أن تشعر به وخرج من الغرفة بعد أن أغلقها بالمفتاح ينصت إلى ما يحدث فيها.
ومضت عليه عشر دقائق في موقفه، ثم سمع حركة كبيرة في الغرفة وربيبه يحاول إبطال صوتها، فتعشم المركيز أن ينتصر الفتى، لكن زادت الحركة؛ فعلم أن الحيلة التي دبرها قليلة الجدوى. وما لبث أن سمع صراخًا من داخل الغرفة والمركيزة تستغيث وتنادي، وكان زوجها قد رفع الأجراس من مكانها؛ حتى لا تتمكن زوجته من قرعها استدعاءً للخدم، ولما لم يحضر لإغاثتها أحدٌ سمعها المركيز وقد وثبت عن سريرها وأسرعت نحو باب الغرفة وحاولت فتحه فوجدته موصدًا، فأسرعت نحو النافذة فأدرك المركيز أن السيل قد بلغ الزبى وأن لم يبقَ في الأمر حيلة، ففتح الباب خاشيًا أن يحدث حادث أو تبلغ أصوات المركيزة أحد المارين، فتصبح القضية في الغد حديث المتكلمين.
ولما رأت المركيزة زوجها داخلًا عليها أقبلت وألقت بنفسها على صدره، وقالت مشيرة إلى ربيبه: لعلك مصدق بعينيك ما كذبته أذناك، فهل تأبى الآن إخراج هذا الفتى من القصر؟
قال: نعم، ما يصنعه هذا الفتى منذ ثلاثة شهور يصنعه بإذني، بل بأمري.
فاندهشت المركيزة لهذا الجواب وخرست، وأخذ زوجها يشرح لها بحضور ربيبه سر الأمر، ثم رجاها أن ترضخ لما يرجوه عساها ترزق بمولود يتخذه ولدًا، فأجابته المركيزة بعزة نفس وطلاقة لسان تستكبر على من كانت في سنها، فقالت له: إن القوانين جعلت حدًّا لسلطته عليها، فليس له أن يتعداه، وإنه مهما بلغت منها الرغبة في إرضائه فلن تطيعه فيما يمس بكرامتها وعرضها.
فاضطر المركيز وهو في السبعين أن ينصاع لقول زوجةٍ لم تبلغ العشرين، وما الكبيرُ كبيرٌ بسنه بل بقلبه وعقله. وصرف المركيز آماله عن الحصول على وارث له، ولم يُخلف عهده مع ربيبه؛ إذ لا ذنب له، فأنجزه ما وعد واشترى له وظيفة سامية في الجيش، وصبر على حكم الله إذ ابتلاه الله بأطهر النساء ذيلًا وأصونهن عرضًا، وأراد الله أن لا يطول عذابه، فقبضه إليه بعد ثلاثة شهور من الحوادث التي سردناها، فمات بعد أن قص على مسمع صديقه المركيز دوربان سر أحزانه وسبب أشجانه.
فتنة وخديعة
وكان للمركيز دوربان ولدٌ قد بلغ سنَّ الزواج، فلم يرَ له زوجةً أفضل من تلك التي زانها عفافها وقد تألبت عليها أسباب الفتنة؛ ألا وهي أرملة صديقه بيرو. فانتظر حتى انقضت أيام حدادها المحدودات، ثم تقدم لها يخطبها لولده، ورأت المركيزة خطيبها حائزًا صفات الكمال؛ فارتضت به بَعْلًا وتم لهما عقد القران.
وصادف السعد ابن دوربان فرُزق من عروسه في ثلاثين شهرًا بثلاث من الأولاد، فكان أكمل حظًّا من سلفه وأتمَّ نعمةً، وأقام الزوجان لا تكدر صفو عيشهما الحوادث حتى قدم إلى أفينون فارس يدعى ده بوليون.
وكان هذا الفارس من دهاة عصره؛ فتًى جميلًا متصل النسب بأحد كرادلة روما ذوي السلطة والجاه في ذلك الحين، فكان معجبًا بنفسه فخورًا بنسبه، قد خلع العذار وترك الوقار وسار بين الناس سيرة الفساق حتى اهتزت لسيرته المجامع التي كان يتردد عليها، وخصوصًا في دار «مدام منتنون» أديبة عصرها حيث كانت مجمع الظرفاء والأدباء.
وقال للفارس يومًا أحد أصدقائه: إني أرى الملك مستاءً منك، فلا تَرِدُ سيرتك حتى يكشر عن نابه.
وكان الملك لويس الرابع عشر قد بلغ عِتيًّا في ذلك الحين، فتظاهر بالتقوى، وأصبح لا ترضيه سيرة الفساق، فقال الفارس لصاحبه: وإني لمستاء أن يكشر الملك عن الناب الوحيد الباقي له في فمه.
فسارت الكلمة في الناس وبلغت مسامع الملك، وعلم الفارس بعدها بقليل أن الملك ينصح له أن يسافر لتبديل الهواء في القرى؛ ففهم الفارس مغزى النصيحة، وسافر مفضلًا أن يستنشق في القرى هواء الحرية عن أن يستنشق في الباستيل هواء الذل والحبس، وأتى الفارسُ إلى أفينيون تصحبه الخيلاء يظن نفسه سيدًا حل في ضيعة فشرفها.
وكانت شهرة مدام دوربان بالعفاف في أفينيون تعادل شهرة الفارس بالفسق في باريس، فرأى منها الفارس خصمًا لا تطيق شهرته احتماله، فعزم على منازلتها حتى يفوز بها فيفوز عليها، فصار يترقب حضورها في كل مكان فيحضر فيه، ولا يدع فرصة تمر بدون أن يبدي نحوها انعطافًا ويكشف لها عن حبه. وكان المركيز دوربان واثقًا بطهارة زوجته وأمانتها على عرضها، فكان مطلِقًا لها الحرية تفعل ما تشاء وتذهب أنى تريد، وشاءت الأقدار أن تدق ساعة المركيزة ولا تدري أأعمتها الشهوات أم فتنها الفارس بجماله أو نسبه، فخلعت عنها ثوب العفاف واستسلمت لهواه، فاستبدلت عزة الطهارة بذُلِّ الفحش، فهوت من عرش الصيانة إلى حضيض الابتذال.
وكانت غاية الفارس الاشتهار، فأسرع بإعلان فوزه في المدينة، فكان الناس بين مصدق ومكذب، فأراد أن يقنع المكذبين؛ فأمر أحد خدامه أن ينتظره بعد نصف الليل على باب المركيزة بمشعل وجرس، وفي الساعة الأولى بعد نصف الليل خرج الفارس من قصر خليلته يتقدمه الخادم بالمشعل يضيء له الطريق ويقرع بالجرس، فَيَهُبُّ القومُ من مراقدهم لصوت الناقوس ولم يعهدوه، فيطلون من نوافذهم يتساءلون عن الخبر، فيرون المركيز سائرًا وراء خادمه في الطريق الموصل بين بيته وقصر المركيزة، فيدركون المراد حيث أصبحت القصة أشهر من علم. وخشي الفارس أن يبقى في القوم منكر، فكرر هذا العمل ثلاث ليالٍ متعاقبات حتى لم يبقَ في المدينة من لم يبلغه الخبر إلا المركيز.
وجرت العادة ألا يعلم الزوج بخيانة زوجته إلا آخر الناس، وهكذا علم المركيز من بعض أصدقائه أن اسمه أصبح مضغة الأفواه، فحرَّم على امرأته أن تلقى خليلها، ولما سمع خليلُها القصةَ أخذ يحاول بزلاقة لسانه أن يوقع اللوم عليها قائلًا: إن سوء تصرفها وتدبيرها فضح سرها، فظنت المسكينة أنها هي المخطئة، وأقبلت على عشيقها تبكي وتطلب السماح.
وبلغ المركيز في هذه الساعة — وكان قد بث على زوجته الرقباء — أن خليلها لديها، فأمر بغلق الأبواب وكمن له في ردهة الدار مع بعض الخدام ليقبض عليه وهو خارج، وكان الفارس مشغولًا عن دموع خليلته بنجاة نفسه، فسمع قفل الأبواب وشعر في الدار بحركة غير معتادة، ففطن إلى أنهم يقصدونه بسوءٍ؛ فهمَّ من ساعته وفتح نافذةً ووثب منها إلى الطريق، وكانت النافذةُ على ارتفاع ثلاثة أمتار منها فسقط ولم يصب بسوء، ولم يهتم بالقوم الناظريه والطريق مملوءة بالناس؛ إذ كان الوقت ظهرًا، وعاد الفارس إلى بيته بقدم ثابت بطيء كأنه لم يفر من موت ولم ينجُ من كمين.
وأراد الفارس أن يذيع ما حدث له في الناس، فدعا جمعًا من أصدقائه إلى مائدةٍ وشراب أعدهما عند بائع حلوى وفطير شهير في المدينة يدعى لكوك (وتعريب لفظه: الديك).
وكان لكوك معروفًا بحسن طعامه وجودة شرابه، فأعد لقاصديه مائدة جمعت أشهى الألوان وأغلى الخمور، وقام عليها بنفسه يسقي ويخدم، فأكل المدعوون وشربوا وطربوا ولعبوا حتى ولى الليل وأقبل الصباح، وكان الفارس قد أذاع فيهم ما أذاع.
ولما همَّ القومُ بالخروج وقد لعبت برأسهم بنت الحان، لاحت منهم التفاتة، فوجدوا صاحب المكان واقفًا يحييهم بالباب مشرق الوجه ضاحك السن، فاقترب منه الفارس وسكب له كأسًا ودعاه أن يقرع معهم الكأس، فامتنع الخمار أدبًا، فألحوا عليه؛ ففعل وشرب نخبهم شاكرًا فَضلَهُم وتنازلهم بمنحه ذلك الشرف، فقال له الفارس: إني أراك يا صاح مفرط السِّمَن ويدعونك الديك ولا يكون الديك سمينًا إلا أن يخصى، فمن الواجب أن أخصيك.
فهلل أصحاب الفارس لهذا الاقتراح الغريب، وكانوا قومًا لا يهتدون بهدًى وهم برشدهم، فكيف وقد ذهبت برشدهم بنت الكروم؟! فأمسكوا بالخمار المسكين وربطوه في المائدة وشرعوا بتنفيذ اقتراح صاحبهم، فمات الخمار بين أيديهم وهم لا يشعرون.
وسمع بعض الخدم صياح صاحب الحان فأسرع إليه؛ فوجده مضرجًا في دمائه والسكارى حوله يضحكون، فتوجه في الحال وأبلغ الأمر لنائب الرسول البابوي حاكم المدينة، فأراد النائب أن يقبض على الفارس ليذيقه الجزاء الأوفى، ولكن رأى ما لعمه الكردينال من المكانة العليا بروما؛ فخشي أن يغضبه إن أساء إلى ابن أخيه، فرأى خيرًا أن يأمر الفارس بالرحيل من المدينة قبل أن تمتد له يد العدالة وإلا أمر بالقبض عليه ومحاكمته، وكان الفارس قد بلغ من أفينيون ما أَزْهَدَهُ فيها، فما كاد يبلغه الأمر حتى أوصى بإعداد المركبة والخيل.
وعرض للفارس قبل الرحيل أن يتزود بوداع خليلته، فقصد منزلها ولم يصادف عقبة في سبيل الوصول إليها؛ إذ كانت وصيفتها أمينة له بفضل درهمه. ولما رأت المركيزة الفارس مقبلًا فرحت بمقدمه فرح المحب بلقاء حبيبه إذا حرم عليه لقاؤه، فرحبت به وأكرمته، ولكنه ما لبث أن قال لها: إنه يزورها زيارة مُودِّعٍ لا مُقيم، وأخذ يشرح لها الأسباب التي اضطرته إلى الرحيل، فعجبت المركيزة وهي من بنات الأشراف كيف يهددون فتًى شريفًا لقتل رجل من صعاليك الناس!
وارتبك الفارس في ساعة الوداع فلم يدرِ ما يقول وليس في قلبه عاطفة ليعبر عنها، فخطر له أن يشتكي لبعده عن المركيزة ولمَّا يتزود بما يُذَكِّرُهُ بها فَيذْكُرهَا به، فأسرعت المركيزة وتناولت صورة لها كبيرة كانت معلقة على الحائط، فنزعت عنها بروازها ولفتها وأعطتها للفارس تذكارًا منها، فترك الفارس الصورة على المائدة ولم يهتم بها عند الخروج. وانشغلت المركيزة عنها بوداعه، فلم تفطن إلى تركه إياها إلا بعد نصف ساعة من مبارحته لها، فتأثرت وظنت أن صاحبة الصورة شغلته عن الصورة، وتمثل لديها الفارس آسفًا لنسيان هذا التذكار الثمين؛ فاستدعت أحد الخدم وأَمَرَته أن يأخذ فرسًا فيطير وراء الفارس ليعطيه الصورة، فأسرع الفارس وامتطى فرسًا تُسابق الريح، وما لبث أن رأى ركب الفارس عن بعد فصاح به وأشار له بالوقوف، فالتفت سائق العربة للفارس قائلًا: إن رجلًا يلحق بهم مطلقًا لجواده العنان ويشير لهم بالوقوف، فظن الفارس أنه بعض رجال الشحنة، فأمر السائق أن يضاعف السير؛ فأسرع الركب، واندفع وراءه الخادم المسكين وقد ضاقت الأنفاس به من كثرة التعب، وما لبث أن لحق بالعربة بعد فرسخ ونصف من ذلك، فأوقف السائقَ وترجل ثم اقترب من باب العربة وأبلغ المركيز بكل أدب واحترام رسالة سيدته، وقدم له الصورة، فاطمأن الفارس لمَّا علم غرض الخادم، وقال له: إنه لا يدري ماذا يصنع بالصورة، فخير له أن يعود بها لمولاته، فقال الخادم: إنه لا يستطيع أن يعود بها؛ إذ أَمْرُ مولاته صريح بتسليم الصورة له، فلما رأى الفارسُ إصرار الخادم أمر سائق العربة أن يحضر له حدادًا كان كورُهُ على مقربة منهم، فأمره أن يدق الصورة على مؤخر العربة بأربعة مسامير، ففعل الحداد ثم صعد الفارس إلى العربة، وسارت به وخادم المركيزة باهتٌ ينظر ما آلت إليه صورة مولاته، ولا يملك ضرًّا ولا نفعًا.
وكان من عادة البريد أن تغير خيله درجًا له في كل محطة، فلما بلغ ركب الفارس المحطة التالية طلب السائق أجرته ليعود، فقال له الفارس: إنه ليس لديه دراهم ليعطيها له، فألح السائق فترجل الفارس ونزع صورة المركيزة من مؤخر العربة، ودفع بها إليه قائلًا: إنه لو عرضها للبيع في أفينيون وروى قصتها لأتت له بضعف عشرة أمثال أجرته، فاضطر السائق أن يقتنع بالصورة، وعاد إلى المدينة، فعرضها في الغد على باب دكان لأحد الباعة وذكر تحتها قصة وصولها إليه، فاشتُريت الصورة قبل أن ينقضي النهار بخمسة وعشرين دينارًا.
وذاعت القصة طبعًا في المدينة، وفي الغد اختفت المركيزة ولم يعلم أحد بمكانها. واجتمع أهل المركيزة فقرروا فيما بينهم أن يسألوا الملك إصدار أمره بالقبض على الفارس وسجنه، وسافر مندوب منهم إلى باريس لهذا الغرض، ولكن لم يبلغ غايته؛ إما لتقصير منه في السعي أو لعدم التشهير بالمركيزة لدى الملك.
أما المركيزة فإنها قصدت بعض قريباتها فأقامت لديها، وسعت في الصلح لدى زوجها، فنجحت مساعيها، وعادت بعد شهر إلى قصر زوجها وقد صفح عما آتته.
أما أهل الخمار فكانوا قد رفعوا شكواهم إلى أولي الأمر، فأرسل لهم الكردينال ده بوليون بمائتي دينار، فعادوا عن الشكوى مقررين بأنهم تسرعوا فيها وقد علموا بعدُ أن صاحبهم مات بالسكتة موتًا فجائيًّا.
وأزال هذا الإقرار ما كان في صدر الملك من الفارس؛ إذ ظنه صدقًا، وبذلك تمكن الفارس أن يعود إلى باريس بعد أن قضى سنتين يجوب البلاد ترويحًا للنفس وسعيًا وراء اللذات.
وهكذا تمت سيرة «آل جنج». وطالما تناولتها أيدي المؤلفين فكتبتها قصصًا للناس أو عرضتها في المراسح على المتفرجين، لكنها اقتصرت فيها على حياة المركيزة سليلة آل روسان، فأراد إسكندر دوماس أن يتمها فضم إليها سيرة أفراد هذه الأسرة وولدي المركيزة، فتمت بذلك قصتهم وفيها عبرة للناس.