الفصل الثالث
«… كل أشكال المثالية تَزيد من بؤس الحياة. ولإضفاء الجمال على الحياة، فيَنبغي أن تزيل عنها سمة التعقيد، فالتعقيد يدمر الحياة. دع هذا الأمر لدعاة الأخلاق يا بُني. التاريخ يصنعه الرجال، ولكنهم لا يصنعونه في أدمغتهم. تلعب الأفكار التي تتولَّد في وعيهم دورًا ضئيلًا في مسيرة الأحداث. إن التاريخ يكتبه ويسطره أصحاب العمل والإنتاج، بدافع من الظروف الاقتصادية. الرأسمالية صنعت الاشتراكية، والقوانين التي صنعتها الرأسمالية لحماية الممتلكات هي المسئولة عن اللاسلطوية. لا يُمكن لأحد أن يتنبأ بالشكل الذي سيتخذه النظام الاجتماعي في المستقبل. ثم ما الداعي للانغماس في الأوهام التنبؤية؟ أفضل ما يُمكنها فعله هو تفسير ما يجول في عقل المتنبئ، ولا يمكن أن يكون لها قيمة موضوعية. دع تلك التسلية لدعاة الأخلاق يا بني.»
كان ميكايليس — صاحب الإفراج المشروط — يتحدث بصوت مُعتدِل، صوت فيه أزيز وكأن صدره مثقل ومُرهق بسبب طبقة الدهون التي عليه. كان قد خرج من سجن تتوفَّر به جميع مقومات النظافة والصحة مُستديرًا مثل حوض استحمام، ببطن ضخمة ووجنتين مُكتنزتين ضمن بشرة شاحبة، تكاد تصبح شفافة من بياضها، كما لو كان خدام المجتمع الغاضب ظلُّوا يَعلفونه بأطعمة تسمين طيلة خمس عشرة سنة في زنزانة رطبة ومنعدمة الإضاءة. ومنذ ذلك الحين، لم يتمكَّن من إنقاص وزنه ولو بمقدار أونصة واحدة.
قيل إنه على مدى ثلاثة مواسم كانت سيدة عجوز ثرية ترسله للعلاج في مارينباد، وهناك كاد يشارك العامة فضولهم ذات مرة بشأن ملك متوج، ولكن الشرطة في تلك المرة أمرته بأن يغادر في غضون اثنتي عشرة ساعة. استمر عذابه الشديد بحرمانه من الوصول إلى المياه الشافية. ولكنه توقف عن العمل الآن.
من دون مفصل ظاهر في كوعه، الذي كان أشبه بانحناءٍ في أحد أطراف دمية، منطرحًا على ظهر كرسي، انحنى إلى الأمام قليلًا فوق فخذيه القصيرين والضخمين ليبصق في موقد المدفأة.
أضاف من دون تأكيد: «نعم! لقد توفَّر لديَّ الوقت للتفكير في الأمور قليلًا. منحني المجتمع الكثير من الوقت للتأمل.»
على الجانب الآخر من المدفأة، على كرسي بذراعين مكسو بشعر الخيل كانت والدة السيدة فيرلوك تحظى بامتياز الجلوس عليه عادةً، أطلق كارل يوندت ضحكة أخفت وراءها عبوسًا وتكشيرة خافتة وغامضة من فم خالٍ من الأسنان. كان الإرهابي — كما أطلق على نفسه — عجوزًا وأصلعَ وله خصلة من شعر أبيض مُدلَّاة من ذقنه. تكشَّف تعبير غير عادي من حقد خفي في عينيه المطفأتين. عندما نهض مُتألِّمًا رسمَ اندفاع مقدم يد نحيفة تتلمَّس طريقها ومُشوَّهة بتورمات النقرس صورةَ جَهِد قاتل مُحتضَر يستجمع كل ما تبقَّى لديه من قوة من أجل طعنة أخيرة. اتكأ على عصا سميكة، ارتعشت تحت يده الأخرى.
تكلَّم بشراسة: «لقد حلمتُ دومًا بعصبة من رجال لا يَحيدون عن عزمهم في نبذ كل تورع في اختيار الوسائل التي يتبعونها، أقوياء لدرجة أن يُطلقُوا على أنفسهم صراحةً اسم «المُدمِّرين»، ومُتحرِّرون من وصمة ذلك التشاؤم المستكين الذي يفسد العالم. لا يرحمون أي شيء على وجه الأرض — ولا حتى أنفسهم — ويُجنِّدون الموت من أجل الخير وكل ما يخدم البشرية، هذا ما أحببتُ أن أراه.»
اهتز رأسه الأصلع الصغير، مُضفيًا اهتزازًا مضحكًا على خصلة العثنون البيضاء. كان من شأن نطقه أن يكاد يكون غير مفهوم على الإطلاق لأي شخص غريب. لم يُسْعِف حماسَه المنهَك — الذي يُشبه في قوته الواهنة إثارة شهواني عجوز — حلقٌ جافٌّ وفمٌ خالٍ من الأسنان بدا وكأنه يُمسك بطرف لسانه. أطلق السيد فيرلوك، الذي كان يَجلس بثباتٍ في ركن الأريكة في الطرف الآخر من الغرفة، همهمتين تنمَّان عن مُوافقتِه من صميم قلبه.
أدار الإرهابي المسن رأسه ببطء على رقبتِه الضامرة من جانب إلى آخر.
«ولم أتمكَّن من أن أجمع ما يصل عدده إلى ثلاثة رجال من هذه النوعية. لقد اكتفيت من تشاؤمكم العفن.» أضاف مُزمجِرًا في وجه ميكايليس، الذي فصل ساقَيه المُكتنزتَين باللحم، اللتين كانتا تشبهان وسادتين أسطوانيتَين، بعضهما عن بعض وزلق قدمَيه فجأةً تحت كرسيِّه علامةً على سخطه.
هو مُتشائم! أخرق! صاح قائلًا إنَّ هذه التهمة كانت شائنة. كان بعيدًا للغاية عن التشاؤم لدرجة أنه رأى بالفعل أنه من المنطقي، ومما لا مفرَّ منه، أن تكون نهاية كل الملكيات الخاصة أمرًا وشيكًا بمجرد ازدياد الخبث المُتأصِّل فيها. لم يكن على أصحاب المُمتلكات مُواجَهة طبقة البروليتاريا التي تيقَّظت فحسب، بل كان عليهم أن يتقاتَلوا فيما بينهم. أجل. صراع، وحرب، كان ذلك هو حال الملكية الخاصة. كانت حربًا مُهلكة. آه! إنه لم يَعتمِد على الحماس العاطِفي للحفاظ على إيمانه، فلا مكان للتصريحات ولا مكان للغضب ولا مكان للتلويح بأعلام حمراء قانية أو شموس متوهِّجة ترمز إلى الانتقام فوق أفق مجتمع محكوم عليه بالهلاك. ليس هو! كان يَتفاخَر بأن التفكير المتجرِّد من المشاعر هو أساس تفاؤله. نعم، تفاؤله …
توقَّف أزيز تنفسُّه المُرهَق، ثم، بعد لهثة أو اثنتين، أضاف قائلًا:
«أتعتقدُون أنني، لو لم أكن مُتفائلًا كما هو حالي، ما كنتُ سأجد وسيلة لجز عنقي طيلة خمس عشرة سنة؟ وفي الحالة الأخيرة، كان يُمكنني دومًا أن أضرب رأسي في جدران زنزانتي.»
سلب ضيق تنفُّسه صوته من الحماس والحيوية؛ وتدلَّت وجنتاه الضخمتان الشاحبتان مثل كيسين ممتلئين، بلا حركة، وبلا اهتزاز؛ ولكن في عينَيه الزرقاوين، اللتين ضاقتا وكأنهما تحدقان فيما أمامهما، كانت توجد نفس النظرة التي كانت تنم عن ذكاء واثق، وعن شيء من الجنون في ثباتها، لا بدَّ أنها كذلك وقت أن قبع المتفائل مفكرًا في زنزانته ليلًا. ظل كارل يوندت واقفًا أمامه، ملقيًا إحدى جانبي معطفِه الهافلوك الباهِت المخضر خلف كتفِه بعجرفة. أمام المدفأة، جلس الرفيق أوسيبون، طالب الطب السابق، والكاتب الأساسي لمَنشورات حركة مُستقبَل طبقة العمال، مادًّا ساقيه القويتَين، وأبقى نعل حذائه متَّجهًا نحو لهب موقد المدفأة. اكتست رأسه بأجمة من شعر أصفر مجعَّد فوق وجهه الأحمر المليء بالنمش، الذي ضمَّ أنفًا أفطسَ وفمًا بارزًا تقَولَبا في قالب يشبه تقريبًا ملامح الزنوج. كانت عيناه اللتان تُشبهان اللوزتين تتألَّقان بهدوء فوق عظام الوجنتَين المُرتفِعة. ارتدى قميصًا خفيفًا رماديًّا، وتدلت نهايتا ربطة عنق حريرية سوداء إلى أسفل صدر معطفه المُزرَّر المنسوج من السيرج؛ وإذ استقرَّ رأسه على ظهر كرسيه، برزت حنجرته كثيرًا، ورفع إلى شفتَيه سيجارةً وضعها في مبسم خشبيٍّ طويل، وأخذ ينفث نفثات من الدخان مباشرةً نحو السقف.
تابع ميكايليس فكرته — فكرة عزلتِه الفردية — الفكرة التي كانت منحة أسرِه وظلَّت تَتنامى مثل إيمان تَكَشَّف في رُؤى. تحدَّث إلى نفسه، غير مُبالٍ بتعاطُف مُستمعيه أو عدائيتِهم، وغير مبالٍ حقًّا لوجودهم، وكان ذلك نابعًا من عادة التفكير بصوتٍ عالٍ التي كان قد اكتسبها في عزلة جدران زنزانته الأربعة المَطلية باللون الأبيض، وفي الصمت المُوحش الذي كان يخيم على كومة الطوب الصماء القريبة من نهر، يفوح منها الشؤم والقبح كأنها مُستودَع جنائزي ضخم لجُثَث الذين أغرقهم المجتمع.
لم يكن جيدًا في المناقَشات، ليس بسبب أن إيمانه كان يُمكن أن يَتزعزع بأي قدر من الحُجج، ولكن لأنَّ مجرد سماع صوت آخر كان يُربكه إرباكًا شديدًا، مُشتتًا أفكاره في الحال؛ هذه الأفكار التي ظلت لسنوات كثيرة في عزلة عقلية أكثر جدبًا من صحراء قاحلة، بلا أيِّ صوت لأي أحد يُقاوِم تلك الأفكار أو يُعلِّق عليها أو يُوافق عليها.
لم يقاطعه أحد حينئذٍ، وأعاد الاعتراف بإيمانه، الذي كان يُسيطِر عليه سيطرة طاغية وتامَّة كأنه نعمة أُنعم بها عليه؛ إنه سرُّ القدر الذي اكتُشِف في الجانب المادي من الحياة؛ الحالة الاقتصادية للعالم المسئولة عن الماضي وعن صياغة المُستقبَل؛ مصدر جميع أحداث التاريخ، وجميع الأفكار، المرشدة للتطور العقلي للبشر والدوافع الحقيقية لعاطفتهم …
قطعت ضِحكة قاسية أطلقها الرفيق أوسيبون الخطبة العصماء لصاحب الإفراج المشروط وتلعثَمَ لسانُه، وظهر تردُّد مذهول في عينَيه المهيبتَين قليلًا. أغمضهما ببطء للحظة، وكأنه يَستجمِع شتات أفكاره. خيَّم صمت على المكان؛ ولكن بسبب مِصباحي الغاز فوق المنضدة وتوهُّج موقد المدفأة أصبحت الحرارة في غرفة المعيشة خلف متجر السيد فيرلوك لا تُطاق. نهض السيد فيرلوك من فوق الأريكة مُتملمِلًا، وفتح الباب المؤدي إلى المطبخ لإدخال مَزيد من الهواء، فظهر ستيفي البريء جالسًا في اعتدالٍ تامٍّ وهدوء شديد على مائدة من خشب الصنوبر، يَرسم دوائر، دوائر، دوائر؛ دوائر لا حصر لها، متَّحدة المركز؛ وغير متحدة المركز؛ دوامة مُتداخلة من الدوائر، أوحت كثرة تشابُكها في منحنيات، واتحادها في الشكل، والتشويش الذي يحدثه تقاطع الخطوط، عن فوضى كونية، رمزية فن مجنون يَسعى إلى المحال. لم يُحَوِّل الفنان رأسه مطلقًا؛ وفي مثابرته التامَّة في عمله على المُهمَّة كان ظهره يَرتعِش، وبدت رقبته الرفيعة، الغارقة في تجويفٍ عميق في قاعدة الجمجمة، متهيئة لأن تنكسر.
بعدما أصدر السيد فيرلوك صوت نخير استنكارًا للمفاجأة، عاد إلى الأريكة. نهض ألكسندر أوسيبون، الذي بدا طويل القامة في بذلته الزرقاء الرثَّة من نسيج السيرج تحت السقف المُنخفض، ونفض عن نفسه تصلب جمود طويل، ومشى إلى المطبخ (المنخفض بمقدار درجتَي سلَّم) ليُلقي نظرة من فوق كتف ستيفي. عاد وقال بنبرة فيها تنبؤ: «جيد جدًّا. مميز للغاية، نموذجي تمامًا.»
تساءل السيد فيرلوك بتذمر: «ماذا تقصد بجيد جدًّا؟» بعدما عاد للاستقرار في ركن الأريكة. فسر الآخر ما يَقصدُه بلا مُبالاة وبشيء من التعالي وهو يُدير رأسه ناحية المطبخ.
«نموذجي لهذا الشكل من الانحطاط، أقصد هذه الرسومات.»
تمتم السيد فيرلوك: «تقول إنَّ هذا الفتى مُنحل، هل هذا ما تقصده؟»
التفَتَ الرفيق ألكسندر أوسيبون — الملقَّب بالطبيب؛ إذ كان يدرس الطب ولكنه لم يكمل دراسته؛ وبعد ذلك ظلَّ يتجوَّل ويلقي محاضرات لدى الجمعيات المهتمَّة بشئون العُمال عن الأنماط الاشتراكية في الصحة؛ وكذلك ألَّف دراسة شهيرة شبه طبية (في شكل كُتيِّب رخيص ولكن الشرطة صادرته على الفور) بعنوان «الرذائل التي تأكُل الطبقات المتوسِّطة»؛ وعمل مُفوضًا خاصًّا لدى «اللجنة الحمراء» الغامضة نوعًا ما، جنبًا إلى جنب مع كارل يُوندت وميكايليس لعمل الدعاية الأدبية — إلى هذا المتردِّد الغامض على سفارتين على الأقل ونظر إليه نظرة استعلاء لا تُحتمَل لا تنمُّ إلا عن أنه قامة في علم يُقدِّمه لعامة الناس.
«هذا ما يُمكن أن يُطلَق عليه علميًّا. إنه نموذج جيد جدًّا أيضًا، من ذلك الانحطاط. يَكفي النظر إلى شحمتَي أذنيه. إذا قرأت ما كتبه لومبروزو …»
استمرَّ السيد فيرلوك — مُتقلِّب المزاج والذي كان مُتمددًا شاغلًا جزءًا كبيرًا من الأريكة — في طأطأة رأسه ناظرًا إلى أزرار صدريته؛ ولكنَّ وجنتَيه توردتا بعض الشيء. مؤخرًا، كان أبسط اشتقاق من كلمة علم (مصطلح في حد ذاته ليس مسيئًا وليس له معنًى محدَّد) له قدرة غريبة على استحضار صورة ذهنية عدائية تمامًا للسيد فلاديمير، بشحمِه ولحمه، بوضوح شبه خارق. وهذه الظاهرة — التي تستحقُّ بإنصاف أن تصنَّف ضمن عجائب العلم — استحثت في السيد فيرلوك حالة عاطفية من الرهبة والسخط عادة ما كانت تظهر في صورة سباب عنيف. ولكنه لم يتفوَّه بكلمة. كان من تكلَّم هو كارل يوندت، الذي كان عنيدًا حتى النفس الأخير.
«لومبروزو هذا أحمق.»
قابل الرفيق أوسيبون صدمة هذا التجديف بنظرة مخيفة خالية من التعبير. وتمتم الآخر — بعينيه غير اللامعتَين ذواتَي الرموش الطويلة أسفل الجبهة الكبيرة البارزة — وهو يُمسِك طرف لسانه بين شفتَيه في كل كلمة وكأنه يمضغها غاضبًا:
«هل رأيتُم من قبل أبله كهذا؟ من وجهة نظره أن المجرم هو السجين. أمر بسيط، أليس كذلك؟ ماذا عن أولئك الذين قمعوه هناك، أجبروه على الدخول إلى هناك؟ بالضبط. أجبروه على الدخول إلى هناك. وما هي الجريمة؟ هل يَعلم، هذا الأبله الذي شقَّ طريقه في هذا العالم من الحمقى المتخمين عن طريق النظر إلى آذان وأسنان الكثير من الأشرار البؤساء العديمي الحظ؟ هل الأسنان والآذان هي ما يُوسم به المجرم؟ هل هي كذلك حقًّا؟ وماذا عن القانون الذي يسمُه على نحو أفضل، أداة الوسم الجميلة التي اخترعها المُتخمون كي يقوا أنفسهم من الجوعى؟ مرات وضع الأداة المتَّقدة على جلودهم البغيضة؛ أليس كذلك؟ ألا يُمكنك أن تشمَّ وتسمع من هنا صوت احتراق جلد الناس السميك وطشيشه؟ هكذا يُصنَع المُجرمون ليكتب عنهم أتباع نظرية لومبروزو كتاباتهم السخيفة.»
ارتعش مقبض عصاهُ وساقاه انفعالًا، بينما ظلَّ جذعُه، المُغطى بجناحَي معطفِه الهافلوك، ثابتًا على موقف التحدِّي الذي يتَّخذه دومًا. بدا وكأنه يَستنشِق الهواء الملوَّث بقسوة المُجتمع، ويُجهد أذنه لسماع أصواته البشعة. كان ثمَّة قوة غير عادية من الإيحاء في هذا الموقف. كان المعلم المخضرم في حروب الديناميت مُمثِّلًا عظيمًا في زمنه، مُمثِّلًا على المنصات وفي التجمُّعات السرية وفي اللقاءات الخاصة. لم يَسبق للإرهابي الشهير قط في حياته أن رفع شخصيًّا ولو حتى إصبعه البنصر في مواجهة الصرح الاجتماعي. لم يكن رجل أفعال؛ لم يكن حتى خطيبًا مُفوهًا يَكتسِح الحشود وسط الضجيج الصاخب وفورة الحماس الكبير. وبِنيَّة ماكرة إلى حد كبير، لعب دور محرض خبيث ووقح ذي دوافع خبيثة كامنة في الحسد الأعمى والتكبُّر الساخط النابع من الجهل، في المعاناة وبؤس الفقر، في جميع الأوهام المُتفائلة والنَّبيلة النابعة من الغضب والشفقة والثورة. كان ظلُّ موهبتِه الشرِّيرة لا يزال مُلتصقًا به مثل رائحة مخدِّرٍ مُميت في قارورةِ سمٍّ قديمة، فارغة الآن، وعديمة الجدوى، وجاهِزة للتخلص منها فوق كومة قمامة الأشياء التي انقضَت مدةَ صلاحيتِها.
ابتسم ميكايليس — صاحب الإفراج المشروط — ابتسامة غامِضة بشفتَيه المطبقتَين؛ وتدلى وجهه المستدير الشاحب تحت وطأة مُوافقة حزينة. كان هو نفسه سجينًا. كان جلده قد فح طشيشه تحت وطأة أداة الوسم المتَّقدة؛ ومِن ثَمَّ تمتم بصوت منخفض. ولكن الرفيق أوسيبون — الملقَّب بالطبيب — كان حينئذٍ قد تجاوز الصدمة.
استهل كلامه قائلًا بازدراءً: «أنت لا تفهم» ولكنه توقف فجأة، خوفًا من السواد المكفهر البادي في العينين الغائرتَين في الوجه الذي استدار نحوه ببطء محدقًا بنظرة عمياء، كأنما تَنقاد بالصوت فقط. توقف عن النقاش، بهزَّة خفيفة من كتفَيه.
كان ستيفي، الذي اعتاد على التحرُّك من دون أن يأبَهَ له أحد، قد نهض عن مائدة المطبخ، حاملًا رسوماته إلى السرير معه. كان قد وصل إلى باب غرفة المعيشة في الوقت المناسب ليتلقَّى الصعقة الكاملة لتصوير كارل يوندت البليغ. سقطت الورقة المُغطَّاة بالدوائر من بين أصابعه، وظلَّ يُحملِق في الإرهابي العجوز، وكأنَّ قدمَيه غاصَتا في مكانهما من رعبه المرَضي وخوفه من الألم الجسدي. لم يكن يَخفى على ستيفي أن وضع الحديد المتَّقد على بشرة الإنسان مُؤلم أشد الألم. تطاير شرر السخط والخوف من عينَيه؛ يُمكن أن يُسبِّب ألَمًا مُروعًا. وقف فاغرًا فاه.
كان ميكايليس قد استعاد ميله إلى ضرورة العُزلة من أجل أن يستمرَّ حبل أفكاره، بالتحديق بشرود ذهن في النار. كان تفاؤله قد بدأ يتدفَّق من بين شفتَيه. رأى أن الرأسمالية محكوم عليها بالفشل من مهدها، فقد وُلدت ومعها سُم مبدأ المنافسة في نظامها. فكبار الرأسماليِّين يَلتهمُون صغار الرأسماليِّين، وتركيز السلطة وأدوات الإنتاج في أيدي حشود كبيرة، وإتقان العمليات الصناعية، وجنون تعظيم الذات، كل ذلك لم يكن سوى تحضيرٍ للإرث الشرعي لطبقة البروليتاريا الكادحة وتنظيمه وإثرائه وتجهيزه. تلفظ ميكايليس بالكلمة العظيمة «الصبر»؛ واكتست عيناه الزرقاوان، اللتان ارتفعتا إلى السقف المنخفض لغرفة المعيشة في منزل السيد فيرلوك، بمسحة من صدق ملائكي. على عتبة الباب، بدا ستيفي هادئًا وغارقًا في بلاهته.
ارتعش وجه الرفيق أوسيبون غضبًا.
«إذن، لا فائدة من فعل أي شيء؛ لا فائدة على الإطلاق.»
اعترض ميكايليس بلطفٍ: «لا أقول ذلك.» كانت رؤيته للحقيقة قد اتَّضحت لدرجة أن تردد صوت غريب عجز عن أن يَقطع حبل أفكاره هذه المرة. ظل يَنظر أسفل إلى الفحم المتأجِّج. كان التحضير للمُستقبل ضروريًّا، وكان مستعدًّا للاعتراف بأن التغيير الكبير ربما يأتي في صورة اضطراب ثورة. ولكنه قال بأن الدعاية الثورية عمل يتطلَّب دقة وضميرًا حيًّا. كانت بمثابة التثقيف لسادة العالم. لا بدَّ من توخِّي الحذر مثلما هو الحال مع التثقيف الذي يُمنَح للملوك. كان يُريد أن تقدَّم مبادئها بحذر، بل بوجل؛ إذ نجهل التأثير الذي قد يُحدثه أي تغيير اقتصادي في سعادة البشرية وأخلاقياتها وتفكيرها وتاريخها. فالتاريخ تصنعه أدوات الإنتاج، ولا يُصنَع بالأفكار؛ وكل شيء تُغيِّره الظروف الاقتصادية — الفنون والفلسفة والحب والفضيلة — والحقيقة نفسها!
قبع الفحم في قاع موقد المدفأة مُصدرًا صوت تحطم طفيف؛ ونهض ميكايليس مندفعًا؛ ميكاليس الذي غرق كالنُّساك في الرؤى وهو في غياهب السجن. فتح ذراعَيه السميكتَين القصيرتَين مثل بالون منتفخ، وكأنه كان يحاول عبثًا أن يضم إلى صدره عالمًا يتجدد ذاتيًّا. وأخذ يلهث بحماس.
«المُستقبَل مؤكَّد مثل الماضي، العبودية، الإقطاعية، الفردية، الجماعية. هذا نص قانون، وليس نبوءة فارغة.»
أظهر بروز شفتَي الرفيق أوسيبون السميكتَين بازدراء السمة الزنجية لوجهِه.
«هراء.» قال ذلك بهدوء كافٍ. «لا يوجد قانون ولا توجد حقيقة مؤكدة. يُمكن تأجيل الدعاية التثقيفية. ما يَعرفه الناس لا يهم، فمعرفتهم بالأمور ليست دقيقة على الإطلاق. الأمر الوحيد الذي يُهمنا هو الحالة العاطفية لدى الجماهير. فلا أفعال من دون استثارة العواطف.»
توقف قليلًا، ثم أردف بإصرار معتدل:
«أنا أتحدث إليكم بطريقة علمية … علمية … ماذا؟ ماذا قلت يا فيرلوك؟»
قال السيد فيرلوك بصوت أجش من فوق الأريكة: «لا شيء.» وكانت قد استثارته الكلمة البغيضة إليه، فتمتم بكلمة «اللعنة».
سُمعت الهمهمة الخبيثة الصادرة من الإرهابي العجوز عديم الأسنان.
«هل تعرف التسمية التي يُمكنني أن أطلقها على طبيعة الظروف الاقتصادية الحالية؟ يمكنني أن أطلق عليها اسم آكلة لحوم البشر. هكذا هي! إنهم يُغذُّون جشعهم بلحوم الشعوب المرتعبة ودمائها الدافئة، ولا شيء غير ذلك.»
تلقف ستيفي العبارات المرعبة وسُمع وهو يبلع ريقه، وعلى الفور، وكأنما ابتلع سمًّا سريع المفعول، خر جالسًا على عتبة باب المطبخ.
لم يُظهِر ميكايليس ما يدلُّ على أنه سمع أي شيء. بدت شفتاه وكأن التصاقهما لم ينفكَّ قط؛ ولم تهتز وجنتاه المكتنزتان اهتزازةً واحدة. نظر بعينَين مُضطربتَين إلى قبعته الدائرية الصلبة، ووضعها فوق رأسه الدائري. بدا وكأن جسده المستدير والسمين يطفو على ارتفاع مُنخفِض بين الكراسي تحت كوع كارل يوندت المدبب. رفع الإرهابي العجوز يده التي تُشبه المخالب مترددًا، فأمال مُتبختِرًا قبعته المكسيكية السوداء التي غطت تجاويف وبروزات وجهه المنهك. مشى متباطئًا وهو يَضرب الأرض بعصاه مع كل خطوة. كان إخراجه من المنزل مسألة صعبة، إذ كان يتوقَّف، بين الفينة والأخرى، وكأنه يُفكر في أمر ما، ولا يبدي استعدادًا للحركة مرة أخرى حتى يدفعه ميكايليس إلى الأمام. أمسك صاحب الإفراج المشروط ذراعَه بعناية أخوية؛ وخلفهما، تثاءب أوسيبون القوي، وهو يضع يده في جيوبه، تثاؤبًا غامضًا. منحته قبعة زرقاء، ذات قمة من جلد لامع، استقرت على نحو جيد فوق شعيراته الشقراء، مظهر بحَّارٍ نرويجي سئم من العالم بعد مرحٍ صاخب. رافق السيد فيرلوك ضيوفه في طريقهم إلى خارج المبنى حاسر الرأس، ومعطفه الثقيل مفتوح الأزرار، وعيناه تنظران إلى الأرض.
أغلق الباب خلفهم بقوة مُنضبطة، وأدار المفتاح، وأغلق بالمزلاج. لم يكن راضيًا عن أصدقائه. ففي ضوء فلسفة السيد فلاديمير عن إلقاء القنابل، بدوا بلا جدوى على الإطلاق. كان دور السيد فيرلوك في السياسات الثورية هو المُراقبة؛ ومِن ثَمَّ لم يستطع أن يتخذ مبادرة الفعل دفعة واحدة، سواء في بيته أو في التجمعات الأكبر. كان عليه أن يتوخَّى الحذر. متأثرًا بسخط رجل تجاوز الأربعين، مهدِّدًا فيما هو الأعز عليه — راحته وأمنه — سأل نفسه بازدراء ما الذي كان يُمكن أن يتوقعه من مجموعة مثل كارل يوندت وميكايليس وأوسيبون.
انتوى السيد فيرلوك أن يُطفئ مصباح الغاز المتَّقد في وسط المتجر، لكنه توقف إذ انحدر في هاوية التفكير في الأخلاق. ببصيرة نابعة من حالة مزاجية مُشابهة، أعلن حكمه. جماعة كسولة؛ كارل يوندت هذا، كان رجلًا تعهدته امرأة عجوز، امرأة كان قد أغراها منذ سنوات وأبعدها عن صديق، وبعد ذلك حاول أكثر من مرة أن يتخلَّص منها. لحسن حظ يوندت أن تلك المرأة ما برحت الإتيان إليه بين الفينة والأخرى، وإلا لما وجد أحدًا يساعده على الخروج من الحافلة بجانب سياج جرين بارك، حيث كان هذا الشبح يبدأ جولة رياضة المشي في كل صباح يكون فيه الجو معتدلًا. عندما ماتت تلك الحيزبون العجوز، كان من الممكن أن يَختفي ذلك الشبح المتعجرف أيضًا، عندها كانت ستُصبح نهاية كارل يوندت متقد الحماس. كذلك تثبطت الروح المعنوية لدى السيد فيرلوك بتفاؤل ميكايليس، الذي احتوتْه السيدة العجوز الثرية التي كانت قد أخذت على عاتقها في الفترة الأخيرة أن ترسله إلى بيت لها في الريف. كان بوسع السجين السابق أن يتجوَّل في الأزقة الظليلة لأيام في خمول حلو وشاعري. أما أوسيبون، فكان ذلك المُتسوِّل واثقًا من أنه لن يَنقصه شيء طالَما أنه توجد في العالم فتيات ساذجات معهن دفاتر مدَّخرات بنكية. واستوعب السيد فيرلوك، الذي يتَّفق في مزاجه مع رفاقه، فروقًا دقيقة في عقله حول قوة اختلافات غير مهمَّة. استوعبها بقناعة تامَّة لأن غريزة الاحترام الفطري كانت قوية بداخله ولم يتغلَّب عليها إلا بغضُه لجميع أنواع العمل المعروفة، وهي نقيصة مزاجية تقاسمها مع نسبة كبيرة من الإصلاحيين الثوريين من وضع اجتماعي معيَّن. فمن الواضح أن المرء لا يثور على مزايا ذلك الوضع والفرص التي يوفرها، وإنما على الثمن الذي يجب دفعه مقابل ذلك على هيئة أخلاق مقبولة وضبط للنفس وكد. غالبًا ما يكون أكثر الثوريِّين أعداء الانضباط والكدح. يوجد أناس أيضًا لديهم إحساس بأن ثمن العدالة يبدو باهظًا للغاية ولا يخلو من القبح والقمع والقلق والمهانة والابتزاز وعدم التسامح. أولئك هم المتعصِّبون. النسبة الباقية من المتمرِّدين على المجتمع يسوقُهم التكبُّر؛ وهو أصل كل الأوهام سواء النبيلة أو الحقيرة؛ وهو رفيق الشعراء والمصلحين والدجَّالين والقادة المُلهمين والمخربين.
هوى السيد فيرلوك لمدة دقيقة كاملة في هاوية التأمل، ولكنه لم يَصِل إلى عمق تلك الأفكار المجردة. ربما لم يكن قادرًا على ذلك. لم يكن لديه الوقت على أيَّة حال. خرج من تلك الهاوية بطريقة مُؤلِمة لما تذكر فجأة السيد فلاديمير، وهو رفيق آخر من رفاقه، والذي تمكن، بحكم التقارب المعنوي الكبير، من الحكم على الأمور حكمًا صحيحًا. اعتبره خطيرًا. تسلَّل شيء من الحسد إلى أفكاره. كان التسكُّع حسنًا لهؤلاء الرجال، الذين لم يعرفوا السيد فلاديمير، وكان لديهم نساء يلجئون إليهن؛ أما هو فكان لديه امرأة يعولها …
عند هذه المرحلة، وبترابط بسيط بين الأفكار، واجهت السيد فيرلوك ضرورة أن يَأوي إلى الفراش في وقتٍ ما في ذلك المساء. فلماذا لا يخلد إلى النوم الآن وفورًا؟ خرجت من صدره تنهيدة. لم تكن تلك الضرورة عادة مُمتعة له كما ينبغي أن تكون لرجل في عمره ومزاجه. خشي من شيطان الأرق؛ إذ شعر بأنه يختص به لنفسه اليوم. رفع ذراعه، وأطفأ مصباح الغاز المتوهج فوق رأسه.
دخل بصيص نور من خلال باب غرفة المعيشة إلى جزء من المتجر خلف منضدة البيع. أتاح هذا البصيص للسيد فيرلوك أن يتأكَّد من نظرة واحدة من عدد العملات الفضية في الصندوق. كانت بضع عملات فحسب؛ ولأول مرة منذ افتتح متجره أجرى معاينة لقيمته التجارية. لم تكن هذه المعاينة إيجابية. فلم يكن قد دخل مجال التجارة من أجل أسباب تجارية. لقد دخل في هذا الدرب الغريب من الأعمال نتيجة ميل غريزي تجاه المعاملات المشبوهة التي يسهل فيها كسب الأموال. علاوة على ذلك، لم تُبعده هذه الأعمال عن عالمه، العالم الذي تراقبه الشرطة. على النقيض من ذلك، منحه هذا المتجر موقفًا معروفًا ومعلنًا في ذلك العالم، ولما كانت للسيد فيرلوك علاقات غير معروفة جعلته معروفًا لدى الشرطة ولكن من دون أن يأبه لذلك، فقد منحه هذا ميزة واضحة في هذا الوضع. ولكن المتجر في حد ذاته لم يكن وسيلة كافية لكسب الرزق.
أخرج صندوق النقود من الدرج، واستدار كي يُغادِر المتجر، وعندئذٍ أدرك أن ستيفي كان لا يزال في الطابق السفلي.
ماذا يفعل هناك بحق السماء؟ تساءل السيد فيرلوك بينه وبين نفسه. ما معنى هذه التصرفات الغريبة؟ نظر بارتياب إلى صهره، ولكنه لم يسأله عن شيء. اقتصر تواصُل السيد فيرلوك مع ستيفي على التمتمة المعتادة في الصباح بعد الإفطار، بأن يطلب «حذاءه» وحتى هذا كان عمومًا طلبًا أو أمرًا مباشرًا أكثر من كونه تواصلًا. أدرك السيد فيرلوك ببعض الدهشة أنه لم يعرف حقًّا ماذا يقول لستيفي. وقف ساكنًا في وسط غرفة المعيشة ونظر إلى المطبخ في صمت. كذلك لم يعرف ما الذي قد يَحدُث لو تلفَّظ بأي شيء. وبدا هذا للسيد فيرلوك غريبًا جدًّا في ضوء الحقيقة التي أدركها فجأة وهي أنه كان يجب أن يَنهض بأعباء هذا الفتى أيضًا. وحتى ذلك الحين، لم يكن قد فكَّر لحظة في ذلك الجانب من وجود ستيفي.
في الحقيقة لم يكن يعرف كيف يتحدَّث إلى الفتى. شاهدَه وهو يأتي بحركات بيديه ويُتمتم في المطبخ. كان ستيفي يحوم حول الطاولة مثل حيوان هائج في قفص. لما بادره السيد فيرلوك قائلًا: «أليس من الأفضل أن تأوي إلى الفراش الآن؟» لم يُبد أي تأثر بسؤاله؛ ولما أقلع السيد فيرلوك عن التفكير المُتحجِّر في سلوك صهره، عبر غرفة المعيشة مُضجرًا وصندوق النقود في يده. كان سبب التعب العام الذي شعر به أثناء صعوده الدرج عقليًّا بحتًا، وانزعج من طابعه الذي لا يُمكن تفسيره. تمنى ألا يكون مريضًا بأي مرض. وقف على البسطة المُظلمة كي يتفقَّد حواسَّه. لكنه سمع صوت شخيرٍ خافِت ومُستمر اخترق الظلام وتعارض مع صفائه. أتى الصوت من غرفة حماته. فكر في نفسه، شخص آخر يَنبغي الاعتناء به؛ ولما بدَرَت هذه الفكرة إلى ذهنه تابع سيره إلى غرفة النوم.
كان النعاس قد غلب السيدة فيرلوك والمصباح (لم يكن يوجد مِصباح غازي في الطابق العُلوي) متَّقد لأقصى حد فوق الطاولة بجانب السرير. سقط شعاع المصباح مكونًا ظلًّا فوق الوسادة البيضاء الغاطسة بفعل وزن رأسها وهي مُغمضة العينين وشعرها الأسود مضفور في عدة ضفائر من أجل النوم. أيقظها صوت يَهمِس باسمها في أذنَيها ورأت زوجها يقف عند رأسها.
«ويني! ويني!»
في البداية لم تتقلَّب، وظلَّت مُستلقية في هدوء تام وهي تنظر إلى صندوق النقود في يد السيد فيرلوك. ولكن لما فهمت أن أخاها «لا يكف عن اللعب في كل مكان بالطابق السفلي» نهضت في حركة مُفاجئة وجلست على حافة السرير. تلمَّسَت السجادة بقدميها الحافيتَين بحثًا عن النعل وهي تنظر إلى أعلى إلى وجه زوجها.
شرح السيد فيرلوك متذمرًا: «لا أعرف كيف أسيطر عليه. ليس مقبولًا على الإطلاق أن يُتْرَك وحده في الطابق السفلي مع المصابيح.»
لم تَقُل شيئًا، وعبرت الغرفة مسرعةً، وأُغلِق الباب خلف ردائها الأبيض.
وضع السيد فيرلوك صندوق النقود فوق المنضدة بجانب السرير، وبدأ في خلع ثيابه بأن رمى معطفه على كرسيٍّ بعيد. ثم خلَع سترتَه وصدريته. أخذ يسير في أنحاء الغرفة وهو يَرتدي الجورب في قدميه، وظل يَرُوح ويجيء — بجسده الضخم والقلق ينخر فيه وهو يضع يديه على حلقه — أمام المرآة الطويلة في باب خزانة ثياب زوجته. ثم بعدما أنزل الحزام من فوق كتفيه، رفع ستارة التهوية بقوة وأسند جبهته على زجاج النافذة البارد، طبقة رقيقة من الزجاج امتدَّت بينه وبين بشاعة تراكم بارد، ومُظلم، ومبلل، وطيني كريه من الطوب والألواح والحجارة، أشياء غير محبَّبة في ذاتها ويأنفها الإنسان.
شعر السيد فيرلوك بالعدائية الكامنة في كل شيء خارج الأبواب وبشِدة تقارب كربًا جسديًّا حقيقيًّا. لا توجد مهنة تخذل الرجل أكثر من مهنة عميلٍ سرِّي لدى الشرطة. إنها أشبه بسقوط حصانك من تحتك ميتًا فجأةً وسط سهل غير مأهول وليس فيه ماء. خطر التشبيه على عقل السيد فيرلوك لأنه كان سابقًا قد امتطى عديدًا من خيول الجيش، وكان لديه الآن إحساس بأنه على وشك السقوط. كان المستقبل أسودَ مثل زجاج النافذة التي أسند عليها جبهتَه. وفجأةً، لاح وجه السيد فلاديمير، الحليق والذكي، متوهجًا ببريق بشرته الوردية وكأنه ختم وردي، منطبع على الظلمة القاتلة.
كانت هذه الرؤيا المضيئة والمشوهة مروعة ماديًّا حتى إن السيد فيرلوك جفل مبتعدًا عن النافذة، تاركًا ستارة التهوية تسقط محدثةً صوتًا قويًّا. ووسط ارتباكه وذهوله لخشيته من أن يرى المزيد من تلك الرُّؤى، أبصر زوجته تعود إلى الغرفة وتدخل إلى الفراش في سكينة وهدوء جعلاه يشعر ببؤس وبأنه وحيد في هذا العالم. أعربت السيدة فيرلوك عن دهشتِها لرؤيته مُستيقظًا حتى هذا الوقت.
تمتم وهو يمرر يديه فوق جبهته المتعرِّقة: «أشعر أنني لستُ على ما يرام.»
«هل تشعر بدُوار؟»
«أجل. لست على ما يرام على الإطلاق.»
بهدوء الزوجة المحنَّكة، أعربت السيدة فيرلوك عن رأيها واثقةً في السبب، واقترحَت العلاجات المُعتادة؛ لكن زوجها، الواقف وسط الغرفة وكأن قدمه غاصت فيها، هزَّ رأسه المنكَّس حزنًا.
قالت: «ستُصاب بنزلة برد لو ظللتَ واقفًا هناك.»
بذل السيد فيرلوك جهدًا وأكمل خلع ملابسه ودخل إلى الفراش. في الأسفل بالشارع الضيق الهادئ، سُمع وقع أقدام يقترب من المنزل ثم تلاشى رويدًا رويدًا، وكأن المار قد بدأ يبتعد إلى الأبد، من مِصباحٍ غازي إلى آخر في ليل بلا نهاية؛ ثم أصبح صوت دقات الساعة القديمة عند بسطة الدرج مسموعًا بوضوح في غرفة النوم.
استلقَت السيدة فيرلوك على ظهرها وأخذت تُحملق في السقف، وأبدت ملاحظة.
«الإيرادات قليلة جدًّا اليوم.»
سعل السيد فيرلوك، مُستلقيًا في الوضعية نفسها، وكأنه سيقول شيئًا مهمًّا، ولكنه لم يفعل شيئًا سوى أن استفسر قائلًا:
«هل أطفأتِ مصباح الغاز في الطابق السفلي؟»
أجابت زوجته بانتباه: «أجل، فعلت.» بعد صمتٍ دام ثلاث دقات للساعة، تمتمَت قائلة: «ذلك الفتى البائس في حالة من الاضطراب الشديد الليلة.»
لم يهتم السيد فيرلوك على الإطلاق باضطراب ستيفي، ولكن شعر بأرق شديد، وخشي من مواجهة الظلام والصمت اللذَين سيعقبان إطفاء المصباح. دفعته هذه الخشية إلى القول بأن ستيفي تجاهَل اقتراحه بالخلود إلى الفراش. بدأت السيدة فيرلوك، بعدما وقعَت في الفخ، تُوضِّح لزوجها باستفاضة أن هذا التصرف لم يكن «وقاحة» من أي نوع، وإنما مجرد «اضطراب». وأكدت أنه لا يوجد في لندن شاب، في عمر ستيفن، أكثر وداعة وطاعة منه؛ ولا يوجد شاب أكثر حنوًّا ولا استعدادًا لإرضاء غيره منه ولا حتى مفيدًا أكثر منه، ما دام لم يبلبل أحد رأسه البائس. استدارت السيدة فيرلوك إلى زوجها المستلقي إلى جوارها، ورفعت جسدها على مرفقها، وأزعجته بحديثها إذ استولى عليها القلق من أن يُصدِّق أنه ينبغي أن يكون ستيفي عضوًا مفيدًا في الأسرة. ذلك الولع بعاطفة الحماية الذي تعاظَمَ لديها بإفراط في طفولتها، بسبب بؤس طفل آخر، جعل وجنتَيها الشاحبتين تَصطبِغان بحمرة داكنة خفيفة، والتمعت عيناها الكبيرتان تحت رموشها السوداء. حينئذٍ بدَت السيدة فيرلوك أكثر شبابًا؛ بدت شابةً مثلما كانت تبدو عندما كانت الآنسة ويني، ومفعمة بالحيوية أكثر من ويني أيام ما كانت تعيش في منزل بلجرافيا وتَسمح لنفسها بأن تظهر للمُستأجِرين. كانت مخاوف السيد فيرلوك قد منعتْه من إضفاء أي معنًى على ما كانت تقوله زوجته. بدا الأمر وكأن صوتها كان يصدر من الجهة الأخرى من جدار سميك جدًّا. وكانت تعبيرات وجهها هي ما جعله يستجمع شتات نفسه.
كان يُقدِّر تلك المرأة، ولم يُضِف الشعور بهذا التقدير — الذي حركه إظهار شيء يشبه العاطفة — إلا وجعًا آخر إلى معاناته التي كانت في غمار عقله. لما توقَّف صوتها، تحرك متململًا، وقال:
«لم أكن على ما يرام في الأيام القليلة الماضية.»
ربما كان يقصد بهذا أن يكون مدخلًا إلى أن يُوليها ثقةً تامة؛ لكن السيدة فيرلوك عادت ووضعت رأسها على الوسادة، وأخذت تُحدق في الأعلى، وتابعت قائلةً:
«ذلك الفتى يسمع أكثر مما ينبغي من الأحاديث التي تدور هنا. لو أنَّني كنتُ أعلم أنهم قادمون الليلة، كنتُ سأحرص على أن يخلد إلى النوم في الساعة التي نمتُ فيها أنا أيضًا. لقد أثار جنونه شيء سمعَه بالصدفة عن أكل لحوم البشر وشرب دمائهم. ما النفع من التحدُّث بتلك الطريقة؟»
كانت ثمة نبرة احتقار وسخط في صوتها. عندئذٍ أصبح السيد فيرلوك متجاوبًا تجاوبًا تامًّا.
تذمر قائلًا بعنف: «فلتسألي كارل يوندت.»
قالت السيدة فيرلوك، بحسم كبير، إن كارل يوندت «رجل مُسنٌّ يثير الاشمئزاز». وأعلنت صراحةً عن ميلها إلى ميكايليس. أما عن أوسيبون الضخم، الذي لم تشعر بالارتياح مطلقًا أثناء وجوده مُتحصِّنةً بموقف متحفِّظ شديد، فلم تَقُل شيئًا على الإطلاق. واستمرت تتحدث عن أخيها الذي ظل لسنوات عديدة محل رعاية وخوف:
«إنه ليس مؤهَّلًا لأن يسمع ما يقال هنا. فهو يعتقد أن كل ما يقال حقيقي. إنه لا يفقه غير ذلك. ومِن ثَمَّ فهو يتأثَّر بما يقال.»
لم يُعلِّق السيد فيرلوك بشيء.
«أخذ يُحدِّق فيَّ، وكأنه لا يَعرفُني، عندما نزلت إلى الطابق السفلي. كانت دقات قلبه عالية كالمطرقة. إنه لا يستطيع التحكُّم في انفعالاته. أيقظتُ أمي وطلبت منها أن تجلس معه حتى يخلد إلى النوم. هذا ليس ذنبه. إنه لا يُحدث مشاكل عندما يكون بمفرده.»
لم يعلق السيد فيرلوك بشيء.
أردفت السيدة فيرلوك بأسلوب فظ: «ليتَه لم يذهب إلى المدرسة. دائمًا ما يأخذ تلك الجرائد من فوق النافذة كي يَقرأها. يحمرُّ وجهه عندما ينكبُّ على قراءتها. إننا لا نتخلَّص من عشرات الأعداد في الشهر. وتشغل حيزًا في النافذة الأمامية فحسب. وكل أسبوع يحضر السيد أوسيبون كومة من نشرات حركة مُستقبَل طبقة العمال هذه كي يَبيعها بنصف بنس للنشرة الواحدة. ما كنتُ لأدفعَ نصف بنس في الكومة كلها. إنها نشرات سخيفة، نعم إنها كذلك. لا أحد يَشتريها. منذ بضعة أيام، وقعت يد ستيفي على إحداها، وكانت فيها قصة عن جندي ألماني قطع أذن أحد المُجنَّدين، ولم يُعاقَب على فعلته تلك. يا له من مُتوحش! ولم أستطع السيطرة على ستيفي عصر ذلك اليوم. كانت القصة وحدها كافية لجعل دم المرء يغلي. ولكن ما الفائدة من طباعة قصص كهذه؟ لسنا عبيدًا ألمانيِّين هنا، حمدًا للرب. هذا ليس شأننا، أليس كذلك؟»
لم يُجِب السيد فيرلوك بشيء.
أردفت السيدة فيرلوك بعدما تسلَّل إليها النعاس قليلًا: «كان يجب أن آخذ سكِّين النحت من الفتى. لم يكفَّ عن الصياح والنبش والبكاء. إنه لا يحتمل أي فكرة تنطوي على قسوة. ولو رأى ذلك الضابط حينها، لذبحه بالسكين كالخنزير. هذا حقيقي أيضًا! بعض الناس لا يستحقُّون الكثير من الرحمة.» انقطع صوت السيدة فيرلوك، وأصبح التعبير البادي في عينيها الساكنتين متأملًا ومحتجبًا أكثر فأكثر أثناء الصمت الطويل. سألت بصوت ضعيف وشارد: «هل أنت مرتاح يا عزيزي؟ هل أطفئ النور الآن؟»
قناعة السيد فيرلوك المخيفة بأن النوم سيُجافيه أسكتت لسانه وجعلته هامدًا بيأس وسط خوفه من الظلام. بذَلَ جهدًا كبيرًا.
وأخيرًا قال بنبرة جوفاء: «نعم، أطفئيه.»