الفصل الرابع
كان غالبية الطاولات — وعددها ثلاثون أو نحو ذلك — المُغطَّاة بمفارش حمراء عليها نقش أبيض تقف متراصَّة بزوايا قائمة مع الجدران الخشبية البُنية للقاعة الكائنة تحت الأرض. تدلت ثريات برونزية بها العديد من الكريات من سقف مُنخفِض مقوَّس بعض الشيء، وامتدت اللوحات الجدارية مُسطحةً ورتيبة على جميع الحوائط التي خلت من النوافذ، تعرض مشاهد الصيد واللهو الصاخب في الهواء الطلق بأزياء من العصور الوسطى. ويُلوِّح خدم، يرتدون سترات جيركين خضراء من دون أكمام، بسكاكين صيد ويرفعون عاليًا أكواب البيرة ذات الرغوة.
قال أوسيبون الضخم، مُتكئًا على الطاولة، ومرفقاه متباعدان عليها وقدماه مطويتان بالكامل تحت كرسيه: «إن لم أكن مخطئًا جدًّا، فأنت الرجل الذي يعرف ما تنطوي عليه هذه القضية المحيرة.» كانت عيناه تُحدقان بحماسٍ شديد.
فجأة، عزف بيانو كبير نوعًا ما، يقبع بالقرب من الباب، ووُضِع على كلا جانبيه نخلة في أصيص، بمعزوفة فالس ببراعة حماسية. كان الضجيج الذي أحدثه يصم الآذان. وحينما توقَّف، فجأةً كما بدأ، بدر بهدوء من الرجل القصير العبوس الذي كان يرتدي نظارة طبية ويجلس أمام أوسيبون على الطاولة وأمامه كوب زجاجي كبير مليء بالبيرة ما بدا أنه رأي عام.
«من حيث المبدأ، ما قد يعرفه أو لا يعرفه أحدنا فيما يتعلَّق بأي حقيقة معينة لا يمكن أن يكون مسألة تستدعي التقصي لدى الآخرين.»
وافقه الرفيق أوسيبون بصوت هادئ ومنخفض: «بالتأكيد لا. من حيث المبدأ.»
استمر في تحديقه الحاد ووجهه الكبير المشرب بالحمرة بين راحتيه، بينما ارتشف الرجل القصير ذو النظارة الطبية من البيرة بهدوء وعاد ووضع الكوب الزجاجي على الطاولة. برزت أذناه الكبيرتان المسطحتان على جانبَي جمجمته، التي بدت ضعيفة بما يكفي لأن يَسحقها أوسيبون بين إبهامه وسبابته؛ وبدت جبهتُه كأنها تستند إلى حافة النظارة؛ ولم يكن بالوجنتين المسطحتين، المتَّسمتين ببشرة دُهنية غير صحية، سوى قلة من شعيرات رفيعة داكنة. ما جعل الدونية المؤسفة لبنية الجسم بكامله مُثيرة للسخرية هو الثقة الفائقة بالنفس لدى هذا الشخص. كان حديثه مقتضبًا، وكان له أسلوب يُثير الإعجاب في التزام الصمت.
تحدَّث أوسيبون مرةً أخرى متمتمًا ورأسه لا يزال بين راحتيه.
«هل أمضيت وقتًا طويلًا بالخارج اليوم؟»
أجاب الآخر: «لا، ظللتُ في السرير طيلة فترة الصباح. لماذا؟»
«أوه! لا شيء» قال أوسيبون، محدقًا باهتمام وتعتصر قلبَه الرغبة في اكتشاف شيء ما، لكن كان من الواضح أن مسحة عدم الاكتراث التي كانت تكتنف الرجل القصير قد أرعبته. عندما كان أوسيبون الضخم يتحدث مع هذا الرفيق — وهو الأمر الذي لم يَحدُث إلا نادرًا — كان يعاني من شعور بالضآلة المعنوية وحتى المادية. ومع ذلك، تجرَّأ وطرح سؤالًا آخر: «هل أتيت إلى هنا سيرًا؟»
أجاب الرجل القصير بكل بساطة: «كلا، بل أتيت في الحافلة العامة.» كان يسكن بعيدًا في منزل صغير بمنطقة إزلنجتون، في شارع رديء، مليء بالقش والأوراق المتَّسخة، وكان يركض فيه مجموعة من الأطفال في غير ساعات المدرسة ويَتشاجَرُون بأصواتٍ ولغطٍ صاخب. استأجر غرفته الخلفية المُفرَدة، التي كانت تمتاز بوجود خزانة كبيرة للغاية، مؤثثةً من خياطتين عانستين مُسنَّتين متواضعتين أغلب زبائنهما من الخادمات. كان يضع قفلًا ثقيلًا على الخزانة، ولكن بخلاف ذلك كان نزيلًا مثاليًّا ولا يتسبَّب في أي مشاكل، ولا يتطلَّب أي عناية تقريبًا. من تصرُّفاته الغريبة أنه كان يُصرُّ على الوجود وقت كنس غرفته، ويوصد بابه عندما يخرج، ويأخذ المفتاح معه.
تخيَّلَ أوسيبون تلك النظارة ذات الإطار الأسود والعدسات المستديرة تتقدم في الشوارع في مقدمة حافلة نقل جماعي، وبريق الثقة بالنفس يسقط هنا وهناك على جدران المنازل أو فوق رءوس المارَّة غير الواعين على الأرصفة. لما شرد أوسيبون بعقله، غيَّر شبح الابتسامة الممتعضة التعبير الذي ارتسم على شفتَيه السميكتين عندما جالت بخاطره فكرة الجدران وهي تتهاوى والناس يفرُّون هربًا بحياتهم من مرأى تلك النظارة. لو كانوا يعلمون! يا له من هلع! تمتم متسائلًا: «هل أنت جالس هنا منذ مدة طويلة؟»
أجاب الآخر من دون اهتمام: «منذ ساعة أو أكثر»، وارتشف رشفة من البيرة الداكنة. كل حركاته — الطريقة التي أمسك بها الكوب وطريقة ارتشاف البيرة وطريقة وضع الكوب الزجاجي الثقيل على الطاولة وطي ذراعيه — كانت تنطوي على انضباط حازم ومؤكد، جعل أوسيبون الضخم مفتول العضلات ينحني إلى الأمام وهو يُحدِّق بعينَيه ويمد شفتيه إلى الخارج، وينظر إليه في تردد شغوف.
قال: «ساعة. إذن، ربما لم تسمع الأخبار التي وصلت إلى مسامعي للتوِّ … في الشارع. هل سمعتها؟»
هز الرجل القصير رأسه نفيًا. ولكن لما لم يُبدِ أي إشارة تدلُّ على الفضول، بادر أوسيبون وأردف أنه سمع هذه الأخبار قبل أن يدخل المكان مباشرة. صاح فتًى يبيع الجرائد بالأمر أمام عينَيه، ولما لم يكن مُستعدًّا لأي شيء من ذلك القبيل، شعر بالدهشة والانزعاج الشديد. ثم دخل إلى هنا وهو لا يكاد يستطيع الكلام. أضاف، هو يُتمتم بثبات، واضعًا مرفقيه على الطاولة: «لم أعتقد قط أنني سأجدك هنا.»
قال الآخر، محافظًا على هدوء مُستفز: «آتي إلى هنا في بعض الأحيان.»
أردف أوسيبون الضخم: «من المدهش أنك من بين الناس كلهم لم تسمع شيئًا عن الأمر.» كان يرمش بجفنيه بعصبية وهو ينظر إلى العينين اللامعتين. كرر متردِّدًا: «أنت من بين الناس كلهم.» كان هذا التحفُّظ الواضح ينم عن جبن هائل ولا يُمكن تفسيره من ذلك الشخص الضخم أمام الرجل الضئيل الهادئ، الذي رفَع الكوب الزجاجي مرةً أخرى، وشرب منه، ووضعه بحركات جافة وواثقة. وكان هذا كل شيء.
بعدما انتظر أوسيبون شيئًا ما — كلمة أو إشارة — لم يأتِ، بذل جهدًا ليتصنع عدم المبالاة نوعًا ما.
قال مخفضًا صوته أكثر: «هل تعطي أغراضك لأي شخص يطلبها منك؟»
أجاب الرجل الضئيل بحسم: «القاعدة الأساسية لديَّ هي ألا أردَّ طلب أي شخص؛ ما دام في إمكاني.»
علَّق أوسيبون: «هل هذا مبدأ؟»
«إنه مبدأ.»
«وهل تظنُّ أنه صحيح؟»
واجه الرجل أوسيبون بنظارته الكبيرة ذات العدستين الدائريتَين، التي أضفت مظهرًا يوحي بالثقة في النفس على وجه مُرتديها الشاحب، مثل محجرَي عينَين يقظتين، تلمعان بنار باردة.
«تمامًا. دائمًا. تحت أي ظرف. ما الذي يُمكن أن يوقفني؟ ولماذا لا أفعل؟ لماذا أعيد التفكير في الأمر؟»
شهق أوسيبون شهقةً أخرجها، إن جاز التعبير، بتكتُّم.
«هل تعني أن تقول إنك ستُعطي أغراضك لأي «شخص» من الشرطة السرية إن أتى وطلبها منك؟»
ابتسم الآخر ابتسامة خفيفة.
قال: «دعه يأتي ويُجرِّب وسترى. إنهم يَعرفونني، ولكنِّي أيضًا أعرف كل واحد منهم. لن يقتربوا منِّي، لن يفعلوا ذلك.»
أطبق شفتَيه الرفيعتين الشاحبتين بقوة. بدأ أوسيبون يجادل.
«ولكن ربما يُرسلون أحدًا؛ يحتالون عليك بأن يزرعوا عميلًا. ألا ترى ذلك؟ يأخذون منك الأغراض بتلك الطريقة، ثم يُلقون القبض عليك وفي أيديهم الدليل.»
«الدليل على ماذا؟ التعامل في المتفجِّرات من دون ترخيص ربما.» قُصِدَ من تلك العبارة سخرية تهكمية، على الرغم من أن ملامح الوجه النحيل المريض لم تتغيَّر، وانطوى الكلام على عدم مبالاة. ثم أردف: «لا أظن أن أحدًا منهم حريص على اعتقالي. ولا أظن أن أحدًا منهم سيتقدَّم بطلب للحصول على مذكرة اعتقال. أعني لا أحد من أفضلهم. لا أحد.»
سأل أوسيبون: «لماذا؟»
«لأنهم يعرفون جيدًا أنني حريص على ألا أتخلَّى أبدًا عن آخر حفنة من أغراضي. إنني أحملها دومًا معي.» تلمَّس سترته من عند منطقة الصدر برفق. وأردف: «في قنينة زجاجية سميكة.»
قال أوسيبون وفي صوته مسحة من تعجب: «ذلك ما قيل لي، ولكني لا أعرف إذا …»
بحدةٍ قاطَعَه الرجل الضئيل، مستندًا على ظهر الكرسي المستقيم الذي كان يعلو رأسه الهش: «هم يعرفون. لن يُقبَض عليَّ أبدًا. الفريسة ليسَت جيدة بما يكفي لأيِّ شُرطي منهم جميعًا. التعامل مع رجل مثلي يتطلَّب جسارة خالصة ومجرَّدة ولا تنتظر منها مجدًا.» مجددًا أطبق شفتيه بثقة في النفس. كظَم أوسيبون حركة تنمُّ عن نفاد صبره.
رد بسرعة: «أو تهور … أو ببساطة جهل. كل ما عليهم فعله لإنجاز تلك المهمة هو العثور على شخصٍ لا يعرف أنك تحمل مُتفجِّرات في جيبك تكفي لأن تَنسفك وتنسف أي شيء من حولك على مسافة ستين ياردة وتُحوِّلك إلى أشلاء.»
أجاب الآخر: «لم أؤكد مطلقًا أنه لا يُمكن القضاء عليَّ. ولكن ذلك لن يكون اعتقالًا. علاوة على ذلك، الأمر ليس سهلًا كما يبدو.»
اعترض أوسيبون: «هراء! لا تُبالغ في الثقة في ذلك. ما الذي يمنعهم من أن يُرسلوا خمسة أفراد منهم ينقضُّون عليك من الخلف في الشارع؟ عندما يُثبتون ذراعَيك على جانبيك فلن تستطيع فعل شيء، هل تستطيع؟»
قال الرجل الضئيل بلا انفعال: «نعم؛ أستطيع. نادرًا ما أخرج إلى الشارع بعد حلول الظلام، ولا أبقى لساعة متأخِّرة أبدًا. ودائمًا أمشي ويدي اليُمنى تحيط بالكرة المصنوعة من المطاط الهندي التي أحملها في جيب سروالي. الضغط على هذه الكرة يُشغِّل مفجِّرًا داخل القنينة التي أحملها في جيبي. إنه مبدأ المِصراع الهوائي الفوري لعدسة الكاميرا. الأنبوب يؤدي إلى …»
بحركة سريعة، سمح لأوسيبون بإلقاء نظرة خاطفة على أنبوب مصنوع من المطاط الهندي، ويشبه دودة صغيرة بُنية، ويمر من فتحة كُم صدريته ويصل إلى الجيب الداخلي للسترة في منطقة الصدر. كانت ملابسه، المصنوعة من نسيج بُني لا يُمكن وصفه، رثَّة ومُلطَّخة بالبقع، ويملأ الغبار طياتها وثقوب أزرارها مهترئة. شرح، بتعالٍ عفوي: «المفجر جزء منه ميكانيكي، وجزء منه كيميائي.»
تمتم أوسيبون، بارتعاشة خفيفة: «إنها تنفجر فورًا بالطبع، أليس كذلك؟»
اعترف الآخر، بامتعاض بدا أنه تسبب في انحراف فمه بحزن: «على العكس. يجب أن تمر عشرون ثانية كاملة من اللحظة التي أضغط فيها على الكرة حتى يحدث الانفجار.»
صَفَّر أوسيبون، مُرتعبًا تمامًا: «فيو! عشرون ثانية! يا له من رعب! تعني أن تقول إنه يُمكنك أن تواجه ذلك؟ سوف أجن …»
«لا يهم إن فعلت. بالطبع، هذه نقطة الضعف في هذا النظام الخاص، وهو لاستخدامي الشخصي فقط. الأسوأ أن كيفية الانفجار هي دومًا نقطة الضعف لدينا. إنني أحاول اختراع مفجر يُعدِّل نفسه حسب جميع ظروف العمل، وحتى حسب التغيُّرات غير المتوقَّعة في تلك الظروف. آلية متغيِّرة ولكنها دقيقة في الوقت نفسه. مُفجِّر ذكي حقًّا.»
تمتم أوسيبون مرةً أخرى: «عشرون ثانية. يا إلهي! ثم …»
لما استدار برأسه قليلًا، بدا وكأنه يَقيس، من خلف نظارته، مساحة صالون البيرة في الطابق السُّفلي لمطعم سيلينوس الشهير.
تلفظ بنتيجة ذلك المسح: «لا أحد في هذه القاعة يُمكن أن يأمل في الهرب. ولا حتى هذان الاثنان اللذان يصعدان الدرج الآن.»
تغيَّرت موسيقى البيانو القابع أسفل الدرج وجلجل بمعزوفة رقصة المازوكا بضجيج صارخ، كما لو أن شبحًا سوقيًّا وماجنًا كان يتباهى بعزفه. كانت مفاتيح البيانو تَنخفِض وترتفع بغموض. ثم ساد سكون تام. للحظة تخيَّل أوسيبون أن المكان المضاء تحول إلى ثقب أسود مخيف يقذف بأبخرة مروعة تختنق بنفاية شنيعة من طوب محطم وجثث مشوهة. كان لديه تصور واضح في مخيلته عن الخراب والموت لدرجة أنه ارتجف مرةً أخرى. راقب الآخر بشيء من السكون والرضا:
«في النهاية، شخصية الفرد وحدها هي التي تَكفُل سلامته. يوجد عدد قليل جدًّا من الناس في العالم ممن لديهم شخصية مستقرَّة مثل شخصيتي.»
تمتم أوسيبون: «أتساءل كيف اكتسبت تلك الشخصية.»
قال الآخر من دون أن يرفع صوته: «قوة الشخصية»؛ وإذ صدر هذا الزعم من فم ذلك الكائن الذي لا يَخفى بؤسه، عض أوسيبون الضخم شفته السفلى. كرر، بهدوء متفاخر: «قوة الشخصية. أمتلك الوسيلة التي تجعلني فتاكًا، ولكن ذلك في حد ذاته، كما تفهم، لا قيمة له على الإطلاق فيما يتعلق بطريقة الحماية. الأمر الفعَّال هو الاعتقاد الذي لدى أولئك الناس بأنني أمتلك إرادة استخدام هذه الوسيلة. ذلك هو انطباعهم. إنه قطعي. ولذلك أنا فَتَّاك.»
تمتم أوسيبون بتشاؤم: «يوجد أفراد يَمتلكون شخصية قوية من بين تلك المجموعة أيضًا.»
«ربما. ولكن من الواضح أن المسألة هي مدى قوة هذه الشخصية، لأنني، على سبيل المثال، لست منبهرًا بهم. ولذلك هم تابعون. ولا يُمكنهم أن يكونوا غير ذلك. شخصيتهم مبنية على الأخلاقيات التقليدية. إنها تركن إلى النظام الاجتماعي. أما شخصيتي فمُتحرِّرة من أي شيء مصطنع. إنهم مُقيَّدون بجميع أنواع الأعراف. إنهم يَركنون إلى الحياة، وهي، في هذا الصدد، عبارة عن حقيقة تاريخية محاطة بجميع أنواع القيود والاعتبارات؛ حقيقة منظمة ومعقدة ومعرضة للهجوم من كل نقطة فيها؛ في حين أعتمد أنا على الموت، الذي لا يعرف قيودًا ولا يمكن مهاجمته. إن تفوُّقي جليٌّ.»
قال أوسيبون، وهو يُراقِب لمعان النظارة ذات العدستَين المُستديرتَين: «هذه طريقة متعالية في توضيح المسألة. لقد سمعت كارل يوندت يقول الشيء نفسه تقريبًا منذ وقتٍ ليس ببعيد.»
همهم الآخر بازدراء: «لقد كان كارل يوندت — مفوَّض «اللجنة الحمراء الدولية» — ظِلًّا تابعًا طوال حياته. يوجد ثلاثةُ مُفوضين من بينكم، أليس كذلك؟ لن أذكر الاثنين الآخرين، لأنك واحد منهما. ولكن ما تقوله لا يعني شيئًا. أنتم المُفوَّضون المؤهَّلون للدعاية الثورية، ولكن المشكلة لا تكمن فقط في عدم قدرتكم على التفكير باستقلالية مثل أيِّ بقال أو صحفي محترم فحسب، وإنما أنتم لا تَمتلكُون أي شخصية على الإطلاق.»
لم يستطع أوسيبون كبح جماح غضبه.
صاح بصوت مكتوم: «ولكن ماذا تُريد منَّا؟ ما الذي تسعى إليه أنت نفسك؟»
أجاب على الفور: «مُفجِّر مثالي. لماذا ظهر على وجهك هذا التعبير؟ كما ترى، لا يمكنك حتى أن تتحمَّل ذكر شيء حاسم.»
انزعج أوسيبون وتمتم بأسلوبٍ فظٍّ: «لم يظهر على وجهي أي تعبير.»
أردف الآخر بروية نابعة من ثقته بنفسه: «أنتم الثوريُّون عبيد للأعراف الاجتماعية، التي تخشاكم؛ عبيد لها شأنكم شأن الشرطة التي تقف مدافعة عن تلك الأعراف. من الواضح أنكم كذلك، لأنكم تُريدون الثورة عليها. إنها تحكم أفكاركم، بالطبع، وأفعالكم أيضًا، ولذا لا يُمكن أن تكون أفكاركم ولا حتى أفعالكم حاسمة.» توقف عن الحديث، هادئ البال، وبدا وكأنه سيَصمُت تمامًا، ثم تابع حديثه على الفور. وقال: «أنتم لستُم أفضل، ولو قليلًا، من القوى المحتشدة ضدكم؛ لستم أفضل من الشرطة على سبيل المثال. منذ بضعة أيام قابلتُ بالصدفة كبير المفتشين هيت عند ناصية طريق توتنهام كورت. أخذ ينظر نحوي بثبات شديد. ولكنِّي لم أنظر إليه. لماذا أُوليه أكثر من نظرة؟ كان ذهنه منشغلًا بالعديد من الأمور — بمديريه، وبسمعته، وبالمحاكم، وبراتبه، وبالصحف — بمئات الأمور. ولكن لم أكن منشغلًا إلا بالمفجر المثالي الذي أسعى إليه. لم أكترث به. رأيته تافهًا مثل … لا يُمكنني أن أستحضر إلى ذهني أي شيء تافه بما يكفي لأن أقارنه به … ربما باستثناء كارل يوندت. إنهما صنوان. الإرهابي والشرطي كليهما يأتيان من المَعين نفسه. الثورة، الشرعية، حركات متضادة في اللعبة نفسها؛ أشكال من الخمول متماثلة في جوهرها. إنه يُمارس لعبته الصغيرة؛ وكذلك تفعلون أنتم أيها القائمون على الدعاية الثورية. لكنني لا ألعب؛ إنني أعمل أربع عشرة ساعة في اليوم، وأجوع في بعض الأحيان. وبين الفينة والأخرى، تُكلِّفُني تجاربي بعض المال، ومِن ثَمَّ أضطر إلى أن أبقى دون طعام لمدة يوم أو يومين. أنت تنظر إلى البيرة التي أحتسيها. نعم. تناولتُ كوبين، وسأشرب آخر بعد قليل. هذه عُطلة قصيرة، وأنا أحتفل بها وحدي. ولمَ لا؟ أمتلك الجرأة على أن أعمل وحدي، وحدي تمامًا، من دون مساعدة من أحد البتة. أعمل وحدي منذ سنوات.»
استحال وجه أوسيبون إلى اللون الأحمر الداكن.
قال ساخرًا بصوت منخفض للغاية: «على المفجر المثالي، أليس كذلك؟»
رد الآخر بسرعة: «نعم. إنه تعريف جيد. لن تجد أي شيء بهذا القدر من الدقة لتعريف طبيعة نشاطكم بكل لجانكم ومفوضيكم. أنا هو المروِّج الحقيقي.»
بمسحة من الترفع على الاعتبارات الشخصية، قال أوسيبون: «لن نناقش تلك النقطة. ومع ذلك، أخشى أن أُضطرَّ إلى تعكير صفو عطلتك. لقد فَجَّر رجل نفسه في جرينتش بارك هذا الصباح.»
«كيف علمت؟»
«إنهم يَصيحون بالخبر في الشوارع منذ الساعة الثانية. اشتريت الصحيفة وأسرعت إلى هنا. ثم رأيتك تجلس على هذه الطاولة. الصحيفة في جيبي الآن.»
أخرج الصحيفة من جيبه. كانت ورقة وردية بحجم كبير نوعًا ما، وكأنها تورَّدت بدفء ما كانت تحويه من القناعات، التي كانت مُتفائلة. أخذ يتصفَّحها سريعًا.
«آه! ها هو الخبر. قنبلة في جرينتش بارك. لا يوجد الكثير حتى الآن. الساعة الحادية عشرة والنصف. صباح ضبابي. شعر الناس بآثار التفجير حتى رومني رود وبارك بليس. حفرة هائلة في الأرض تحت شجرة امتلأت بالجذور المهشمة والأغصان المكسورة. في كل مكان حولها أجزاء من جثة رجل انفجرت إلى أشلاء. هذا كل شيء. الباقي مجرد هراء من الصحيفة. يقولون إنه لا شك في أنها محاولة شريرة لتفجير المرصد. هممم. ذلك غير قابل للتصديق.»
نظر إلى الصحيفة لمدة أطول صامتًا، ثم مرَّرها إلى الآخر، الذي، بعد التحديق في المطبوعة بشرود ذهن، وضعها جانبًا من دون تعليق.
كان أوسيبون هو من تحدَّث أولًا، وكان لا يزال مستاءً.
«أشلاء رجل «واحد» فقط، كما تُلاحظ. بناءً على ذلك: «هو» من فجَّر نفسه. ذلك يُفسد يوم عطلتك، أليس كذلك؟ هل كنتَ تتوقَّع تحركًا كهذا؟ لم تكن لديَّ أدنى فكرة، ولا حتى طيف فكرة عن أي شيء من هذا النوع يجري التخطيط لفعله هنا، في هذا البلد. وفي ظل الظروف الحالية، لا يمكن أن يوصف إلا بأنه مجرم.»
رفع الرجل الضئيل حاجبَيه الأسوَدَين بازدراء فاتر.
«مجرم! ما الذي يعنيه ذلك؟ ما «معنى» كلمة جريمة؟ ما الذي يُمكن أن يعنيه هذا التوكيد؟»
قال أوسيبون بنفاد صبر: «كيف يُمكنني أن أعبِّر عن نفسي؟ لا بد للمرء من استخدام الكلمات الدارجة. معنى هذا التوكيد أن هذا العمل من شأنه أن يؤثر على وضعنا سلبًا في هذا البلد. أليست تلك جريمة كافية من وجهة نظرك؟ أنا متأكد من أنك قد تخليت عن بعض من أغراضك مؤخرًا.»
حملق فيه أوسيبون بشدة. أما الآخر، فمن دون أن يَجفل، أخفض رأسه ورفعها ببطء.
انفجر محرِّر منشورات حركة «مستقبل طبقة العمال» بنبرة هامسة شديدة اللهجة: «لقد فعلت! كلا! وهل حقًّا تمنحها دون قيد هكذا لمن يطلبها، لأول أحمق يأتي إليك؟»
«بالضبط! لم يُبنَ النظام الاجتماعي المدان بالحبر والورق، ولا أتصور أن كومة من الحبر والورق ستضع حدًّا يومًا ما لهذا الأمر، بصرف النظر عما قد تحسب. أجل، أسلم هذه الأغراض طوعًا لكل رجل أو امرأة أو أحمق يود أن يأتي إليَّ. أعرف ما تفكر فيه. ولكني لا أتلقى توجيهًا من «اللجنة الحمراء». ربما أراكم جميعًا مُطارَدين من هنا، أو معتقلين، أو ضُربت أعناقكم من أجل ذلك الأمر، من دون أن تهتزَّ لي شعرة. ما يحدث لنا نحن الأفراد ليس له أدنى أهمية.»
كان يتحدث من دون اكتراث، ومن دون انفعال، وربما من دون مشاعر، وحاول أوسيبون — الذي تأثَّر كثيرًا من طرفٍ خفيٍّ — أن يُحاكيَ هذا التجرُّد من المشاعر.
«لو أن رجال الشرطة هنا كانوا يَعرفُون عملهم، لأطلقوا عليك الرصاص وملئوا جسدك ثقوبًا بمسدساتهم، أو لحاولوا أن يضربوك من الخلف ويُفقدوك وعيك في وضح النهار.»
بدا أن الرجل الضئيل كان قد فكر بالفعل في وجهة النظر تلك بطريقته الرزينة الواثقة.
بأقصى درجات الاستعداد، وافقه قائلًا: «نعم. ولكن من أجل أن يفعلوا ذلك سيكون عليهم مواجهة مؤسساتهم. أترى؟ ذلك يتطلب جرأة غير عادية. جرأة من نوع خاص.»
طرفت عينا أوسيبون.
«أتصور أن ذلك ما من شأنه أن يَحدُث بالضبط لك لو كنت أنشأت مختبرك في الولايات المتحدة. إنهم لا يصرُّون على اتباع الإجراءات الرسمية مع مؤسساتهم هناك.»
أقر الآخر قائلًا: «ليس من المحتمل أن أذهب إلى هناك وأرى. ومع ذلك فإن ملاحظتك منصفة. إنهم يتمتعون بشخصية أقوى هناك، وشخصيتهم في المقام الأول لا سُلطوية. إن الولايات المتحدة أرضٌ خصبة لنا، أرض جيدة جدًّا. تمتلك تلك الجمهورية العظيمة جذور الدمار في داخلها. المزاج العام هو مخالفة القانون. ممتاز. قد يقتلونَنا رميًا بالرصاص، ولكن …»
تذمر أوسيبون بقلق واضح: «إنك مُتعالٍ عليَّ للغاية.»
قال الآخر معترضًا: «منطقي. المنطق له عدة أنواع. ويَندرِج هذا ضمن النوع التنويري. لا بأس بأمريكا. تتمثَّل الخطورة في هذا البلد، بمفهومه المثالي عن الشرعية. الروح الاجتماعية لهذا الشعب تكتنفها أحكام مسبقة صارمة، وذلك يضرب عملنا في مقتل. تتحدث عن إنجلترا باعتبارها ملاذنا الوحيد! وهذا أمر بالغ السوء. كابوا! ما حاجتنا إلى ملاذات؟ هنا، أنت تتحدَّث وتَطْبَع وتَحيك المؤامرات ولا تفعل شيئًا. أعتقد أن هذا ملائم لشخص مثل كارل يوندت.»
هز كتفَيه قليلًا، ثم أردف بنفس القناعة والتروِّي: «يجب أن يكون هدفنا تفكيك الخرافات وعبادة الشرعية. لا شيء سيَسرُّني أكثر من رؤية المفتش هيت ومن هم على شاكلته وهم يُردُوننا قتلى في وضح النهار بمباركة العامة. عندئذٍ، نكون قد ربحنا نصف المعركة؛ وربما يحدث تفكُّك الأخلاقيات القديمة في معبدها نفسه. ذلك ما يجب أن تستهدفوه. ولكنكم أنتم أيها الثوريون لن تَفهموا ذلك أبدًا. إنكم تخططون للمستقبل، وتُضيِّعون أنفسكم في أحلام الأنظمة الاقتصادية المستمَدة مما هو قائم؛ في حين أن المطلوب هو النسف التام وإرساء مفهوم جديد للحياة على أسس جديدة. سيعتني هذا المستقبل بنفسه لو أنكم فقط أفسحتم له المجال. لذلك لو كان لديَّ ما يكفي من المتفجرات، لزرعتها في أكوام على نواصي الشوارع؛ وبما أنني لا أمتلك ما يكفي، فإنني أبذل ما بوسعي بإتقان صنع مفجر يمكن الاعتماد عليه حقًّا.»
تمسك أوسيبون، الذي كان قد غرق في أفكاره، بالكلمة الأخيرة وكأنها طوق نجاة.
«نعم. المفجرات التي تصنعها. لن أستغرب أن تكون واحدة من المفجرات التي تصنعها هي التي نسفت الرجل في الحديقة.»
اكفهر غضبًا وجه الرجل النحيل الحازم الجالس في مواجَهة أوسيبون.
«تكمن الصعوبة التي أواجهها على وجه التحديد في إجراء التجارب العمَلية لمختلف الأنواع. لا بد من تجربتها في نهاية المطاف. علاوة على ذلك …»
قاطعه أوسيبون.
«من هذا الشخص يا تُرى؟ أؤكد لك أننا في لندن لم نكن نعرف أي شيء، ألا يُمكنك أن تصف الشخص الذي أعطيتَه المتفجرات؟»
استدار الآخر بنظارته إلى أوسيبون وكأنها زوج من الكشافات.
كرر ببطء: «أصفه. لا أظن أنه سيكون ثمة أي اعتراض الآن. سأصفه لك في كلمة واحدة؛ فيرلوك.»
انتاب الفضول أوسيبون فقام عن كرسيِّه بضع بوصات، ثم خر جالسًا، وكأن أحدًا ضربه على وجهه.
«فيرلوك! مستحيل.»
أومأ الرجل الضئيل رابطَ الجأش برأسه مرةً واحدة.
«نعم. إنه هو. لا يُمكنك أن تقول في هذه الحالة إنني كنتُ أعطي مُتفجراتي لأول أحمق يأتي إليَّ. لقد كان عضوًا بارزًا في جماعتك حسب فهمي.»
قال أوسيبون: «أجل. عضو بارز. كلا، ليس بالضبط. كان مركز الاستخبارات العامة، وعادةً ما كان يستقبل الرفاق الذين يأتون إلى هنا. إنه مفيد أكثر من كونه مُهم. رجل بلا أفكار. منذ عدة سنوات كان يتحدث في الاجتماعات؛ في فرنسا، حسبما أظن. ولكنه لم يكن جيدًا جدًّا. وثق فيه رجال مثل لاتور وموسير وكل تلك المجموعة القديمة. الموهبة الوحيدة التي أظهرها حقًّا كانت قدرته على التملص من انتباه الشرطة بطريقة ما. هنا، على سبيل المثال، لم يبدُ أن أحدًا كان يراقبه كظله. كان متزوجًا زواجًا قانونيًّا، كما تعلم. أظن أنه أنشأ ذلك المتجر من مالها. وعلى ما يبدو أنه كان مربحًا أيضًا.»
توقف أوسيبون فجأة وتمتم في نفسه: «يا ترى ما الذي ستَفعله هذه المرأة الآن؟» وغرق في أفكاره.
انتظر الآخر وهو يتظاهَر بعدم الاكتراث. لم يكن أحد يعرف مَن أبوَيه، وكان يُعرف عمومًا بلقبه وهو «البروفيسور». اكتسب هذا اللقب لأنه كان في السابق يعمل معيدًا مساعدًا في الكيمياء في أحد المعاهد الفنية. ثم تشاجر مع السلطات على خلفية تلقيه معاملة غير عادلة. بعد ذلك شغل وظيفة في معمل يتبع مصنع أصباغ. وفي تلك الوظيفة أيضًا، عومل بظلم شديد. كفاحه وعوزه واجتهاده في العمل من أجل أن يرتقي بنفسه في السلم الاجتماعي، كل ذلك ملأه بقناعة راسخة في قدراته، التي صعَّبت على مَن حوله أن يعاملوه معاملة عادلة؛ يعتمد معيار هذه الفكرة اعتمادًا كبيرًا على صبر الفرد. كان البروفيسور عبقريًّا، ولكنه كان يفتقر إلى الفضيلة الاجتماعية الكبرى وهي الخضوع.
أفاق أوسيبون فجأة من تأمله العميق حول فقد السيدة فيرلوك لزوجها وعملها، وجاهر بقوله: «إنه تافهٌ فكريًّا. صاحب شخصية عادية تمامًا.» ثم أردف بنبرة توبيخ: «أنت مخطئ في عدم الاستمرار في التواصُل مع الرفاق أيها البروفيسور. هل قال لك أي شيء، أو أعطاك أي فكرة عن نواياه؟ فأنا لم أرَه منذ شهر. يبدو أنه من المستحيل أن يكون قد هلك.»
قال البروفيسور: «أخبرني أنه ستُقام مظاهرة أمام مبنى. كان عليَّ أن أعرف ذلك القدر لتحضير القنبلة. أوضحت له أنني لا أكاد أمتلك كمية كافية من أجل الحصول على تفجير مدمر كليًّا، ولكنه ضغط عليَّ بشدة كي أبذل قصارى جهدي. وإذ أراد شيئًا يُمكن أن يحمله علانيةً في يده، اقترحت عليه أن نستخدم عبوة ورنيش قديمة بسعة جالون واحد تصادَف أنها كانت معي. سُر بالفِكرة. واجهت بعض الصعوبات، لأنَّني اضطُررت إلى قطع القاع أولًا ولحمه مرةً أخرى بعد ذلك. عندما كانت العبوة مُعَدَّة للاستعمال، احتوت العبوة على وعاء من الزجاج السميك له فوَّهة واسعة ومحكم الغلق بالفلِّين ومُلئَ ما حولها ببعض الطين الرطب واحتوت على ست عشرة أوقية من مسحوق «إكس تو» الأخضر. وُصِّل المُفَجِّر بالقمة المُلَولبة للعبوة. كان ابتكارًا عبقريًّا، يجمع بين ضبط الوقت وإحداث صدمة. شرحت له عمل النظام. احتوت العبوة على أنبوب رفيع من القصدير يلتف حول …»
كان انتباه أوسيبون قد تشتت.
قاطعه: «ما الذي تظن أنه قد حدث؟»
«لا يُمكنني أن أخمِّن. ربما أحكم ربط الجزء العلوي، وهو ما من شأنه أن يُحدِث التوصيل، ثم نسي الوقت. كان الوقت مضبوطًا على عشرين دقيقة. وعلى الجانب الآخر، بانتهاء عداد الوقت، تؤدي صدمة حادة إلى حدوث الانفجار على الفور. إما أنه ضبط الوقت على توقيت أقل مما ينبغي أو ببساطة ترك القنبلة تسقط. لقد حدث التوصيل كما يجب، ذلك واضح لي على أيِّ حال. لقد عمل النظام كما ينبغي تمامًا. ومع ذلك قد تظنُّ أنه من الأرجح أن أحمقَ عاديًّا في عجلة من أمره قد ينسى تمامًا أن يُجريَ التوصيل. غالبًا ما كنت أنشغل بهذا النوع من الفشل. ولكن هناك أنواع حمقى أكبر مما يُمكن للمرء أن يحترز منهم. لا يُمكنك أن تتوقَّع أن يكون المُفجِّر مُحصَّنًا من الحمقى.»
أشار إلى النادل. كان أوسيبون يجلس جامدًا، تعلو وجهه نظرة شاردة تُوحي بعناء ذهني. بعد أن ذهب الرجل بالنقود نهض وعليه أمارات استياء شديد.
قال مُتأملًا: «هذا لا يسرني البتَّة. لقد كان كارل طريح الفراش بسبب الالتهاب الشعَبي طيلة أسبوع. بل إنه ثمة احتمال ألا يُشفى من مرضه أبدًا. ميكايليس يعيش مُترفًا في مكان ما في البلد. عرض عليه ناشرٌ عصريٌّ خمسمائة جنيه مقابل كتاب. سوف يفشل الكتاب فشلًا ذريعًا. لقد فقد عادة التفكير المُتسلسِل في السجن كما تعلم.»
وقف البروفيسور على قدمَيه، وزرَّر معطفه، ناظرًا فيما حوله بلا مبالاة تامة.
سأل أوسيبون بضجر: «ماذا ستفعل؟» كان يخشى من لوم اللجنة الحمراء المركزية، وهي هيئة لم يكن لها مقرٌّ دائم، ولم يكن مُحيطًا بجميع المعلومات المتعلقة بعضويتها. إذا تسبَّبت هذه الحادثة في وقف الإعانة المتواضعة المخصَّصة لنشر كتيبات حركة مستقبل طبقة العمال، عندئذٍ سيندم أشد الندم على حماقة فيرلوك التي لا يمكن تفسيرها.
قال بنبرة خشنة نوعًا ما: «التضامن مع أقصى الأفعال تطرُّفًا شيء، والتهور السخيف شيء آخر. لا أعرف ما الذي حدث لفيرلوك. ينطوي الأمر على لغز. ولكنه رحل. يُمكنك تفسير المسألة كما يحلو لك، ولكن في ظل الظروف الحالية، فإن السياسة الوحيدة للجماعة الثورية المسلحة هي إنكار أي صِلة بهذا الأرعن. ولكن ما يُؤرِّقني هو كيفية جعل الإنكار مُقنعًا بما يكفي.»
انتصب الرجل الضئيل واقفًا على قدمَيه، ومعطفه مزرَّر ومُستعدٌّ للذهاب، ولم يكن أطول من أوسيبون الجالس. ضبط نظارته بمستوى وجه الأخير مباشرةً.
«يمكنكم أن تطلبوا من الشرطة شهادة حُسن سير وسلوك. إنهم على علم بالمكان الذي أمضى فيه كل واحد منكم ليلة أمس. وربما لو طلبتُم منهم، فسيوافقون على نشر بيان رسمي.»
همهم أوسيبون بمرارة: «لا شك في أنهم على دراية بأنه لا يد لنا في ذلك. ما سيقولونه شيء آخر.» ظل مستغرقًا في التفكير، متجاهلًا الشخص القصير، الجاد الذكي ذي النظارة، رث الثياب الواقف بجانبه. «يجب أن أعثر على ميكايليس في الحال وأجعله يتحدث من أعماق قلبه في أحد اجتماعاتنا. فالعامة يُكنُّون نوعًا من التقدير الوجداني لذلك الرجل. اسمه معروف. وأنا على اتصال ببعض الصحفيين في الصحف اليومية الكبرى. ما سيقوله سيكون كلامًا فارغًا تمامًا، ولكن له طريقة مميزة في الحديث، تجعله مقبولًا للغاية.»
قاطعه البروفيسور، بصوت منخفض نوعًا ما، وتعبير عدم المبالاة لا يزال على وجهه: «مثل العسل.»
واصل أوسيبون المتحير في التحدث مع نفسه بصوت مسموع نوعًا ما، على طريقة رجل يتأمل في عزلة تامة.
«أحمق ملعون! ترك عملًا أحمقَ بين يدي. ولا أعرف حتى إن كان …»
جلس وهو يَضغَط على شفتَيه في توتُّر. لم تكن فكرة الذهاب إلى المتجر مباشرةً والحصول على الأخبار بالفكرة الجذابة. تصور أن متجر فيرلوك ربما يكون قد تحوَّل بالفعل إلى فخ من صنع الشرطة. سيكونون مُلزَمين بالقيام ببعض الاعتقالات، فكر في ذلك بطريقة تنطوي على سخط يتسم بالاستقامة؛ لأن مسار حياته الثورية كان مهددًا بخطأ لم يرتكبه. ومع ذلك، إذا لم يذهب إلى هناك، فإنه يُخاطر بالبقاء على جهل بما قد يكون من المهم جدًّا له أن يعرفه. ثم فكر في أنه إذا كان الرجل في الحديقة قد انفجر إلى أشلاء كما قالت الصحف المسائية، فلن يكون مُمكنًا التعرف على هويته. ولو كان الأمر كذلك، فلن يكون لدى الشرطة أي سبب خاص يدعوها لمراقبة متجر فيرلوك عن كثب أكثر من أيِّ مكان آخر معروف أنه يتردَّد عليه اللاسُلطويون المرصودون؛ مثلما لا يوجد سبب، في الواقع، لمراقبة أبواب سيلينوس. ستَنشر الشرطة أعينها في كل مكان، بصرف النظر عن المكان الذي يذهب إليه. ولكن …
تمتم، وهو يتشاور مع نفسه: «يا تُرى ما أفضل شيء أفعله الآن؟»
قال صوت أجش من عند مرفقه، بازدراء هادئ:
«وطِّد علاقتك مع المرأة فهي تستحق.»
بعد التفوه بتلك الكلمات، سار البروفيسور مُبتعدًا عن الطاولة. أجفل أوسيبون، الذي باغتته تلك الفكرة، وظل ساكنًا، تعلو وجهه نظرة توحي بانعدام الحيلة، وكأنه تسمَّر في الكرسي الذي كان جالسًا عليه. عزف البيانو الوحيد، من دون مقعد عازف يُساعده، بعض الألحان الحماسية، وبدأ بمختارات من ألحان وطنية، وفي النهاية عزف له لحن «بلو بيلز أوف سكوتلاند». أخذت الألحان الموسيقية غير المترابطة تتلاشى من خلفه وهو يصعد الدرج ببطء، ويعبر القاعة، ويخرج إلى الشارع.
أمام الباب الكبير، اصطفَّ عدد من بائعي الجرائد بعيدًا عن الرصيف يُوزِّعُون بضاعتهم من صحف تافهة. كان يومًا باردًا وقاتمًا من أيام أوائل الربيع؛ وتوافَقَت السماء الملبدة بالغيوم والشوارع المبتلَّة بالطين والرجال ذوو الأسمال البالية تمام الاتفاق مع اندفاع أوراق الصحف الرطبة المليئة بهراء ملطَّخ بأحبار الطباعة. كانت المُلصَقات، الملطَّخة بالأوساخ، تُزيِّن حجارة الرصيف مثل بساط حائط. كان بيع صحف بعد الظهيرة منتعشًا، ولكن بالمقارنة بالحركة السريعة المتواصلة لسير المارة، كانت النتيجة هي عدم الإقبال عليها، وقلة التوزيع. نظر أوسيبون بتعجل إلى كلا الاتجاهَين قبل أن ينخرط مع تيارات المارة عبر الشارع، ولكن البروفيسور كان قد اختفى بالفعل عن الأنظار.