فليغنِّ العالم جميعه!
كانت الشوارع تتبدى تدريجيًّا للبصر في ضوء الفجر الهارب؛ ومن حولها ترقد الأسطح والحقول العبقة بنضارة الربيع. وكانت البغال التي تحمل اللبن ترى وهي تسير خببًا وأغطية جرار اللبن تصلصل من فوقها، يستحثها البغَّالون على السير قدمًا بالضربات وباللعنات. وسطع نور الصباح على الأبقار الواقفة للاستحلاب أمام أروقة منازل من هم أيسر حالًا، أو في نواحي الطرقات في الأحياء الفقيرة، بينما الزبائن، وبعضهم في طريق النقاهة والآخر في طريق الهلاك، وأعينهم لا يزال السبات يغطيها، ينتظرون بقرتهم المفضلة ويذهبون إليها لاستحلابها، وهم يميلون الجرة في براعة كيما يحصلوا على قدر من الحليب أكثر من الرغاوي. وكانت النسوة اللاتي يوزعن الخبز على البيوت يمشين ورءوسهن منحنية على صدورهن، محنيات الظهور، يجاهدن في حر سيقانهن، حافيات الأقدام، يسلكن طريقهن بخطوات قصيرة متعثرة تحت وطأة سلالهن الضخمة. كانت السلال مكومة الواحدة فوق الأخرى على هيئة الأهرامات، مخلِّفة في الهواء عبير الفطائر المغطاة بالسمسم المحمص والسكر. وأعلنت الساعات الدقاقة بداية يوم عطلة رسمية، وأثارت بذلك أطيافًا من المعدن والهواء، سيمفونية من الروائح وانفجارًا من الألوان، في حين صدرت عن الكنائس، فيما بين الظلمة والفجر، دقات الناقوس معلنًا القداس الأول، في وجل وجسارة في نفس الوقت، ذلك أنه إذا كانت دقاته توحي في أيام الأعياد بفطائر الشيكولاتة والبسكويت الكنسي، فإنه في أيام العطلة الرسمية يفوح برائحة الفاكهة المحرمة.
عطلة رسمية …
وفي الشوارع، مع عبير الأرض الطيبة، ارتفع حبور السكان وهم يفرغون أحواضًا من المياه من نوافذهم كما يترسَّب الغبار الذي تخلف عن قوات الجنود التي مرَّت تحمل الراية نحو قصر السيد الرئيس، الراية التي لها رائحة المنديل الجديد؛ أو عن عربات علية القوم المرتدين أفخر ثيابهم: أطباء في معاطف «الفراك»، جنرالات في حللهم الرسمية المتألِّقة التي تعبق برائحة «النفتالين»، والمدنيون في قبعات عالية لامعة، والعسكريون في قبعات مثلَّثة الأطراف يعلوها الريش، أو عن خبب جياد الموظفين الأقل شأنًا، الذين تقاس الخدمات التي يؤدونها بالمبلغ الذي ستدفعه الدولة يومًا ما لتغطية نفقات جنازتهم.
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
وسمح الرئيس بأن يراه الشعب، مسرورًا من استجابته التي لقيتها جهوده التي يبذلها في سبيل رفاهيته، فظهر في الشرفة طويلًا وسط كوكبة من أصدقائه المحببين.
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
ولكن، إذا كان الفنانون قد اعتقدوا أنهم في أثينا؛ فقد تخيل أصحاب البنوك اليهود أنهم في «قرطاجنة»، وهم يتجولون خلال صالونات رجال الدولة الذين وهبهم ثقته وأوكل مدَّخرات الأمة إلى صناديقهم التي لا قرار لها بفائدة صفر أو لا شيء في المائة، مما نتج عنه أنهم أثروا ثراءً فاحشًا، واستعاضوا عن عمليات الختان بالعملات الذهبية والفضية!
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
وشق ذو الوجه الملائكي طريقًا لنفسه وسط المدعوين (كان جميلًا وماكرًا كالشيطان): الشعب يطلب ظهورك في الشرفة يا سيدي الرئيس!
– … الشعب؟
ووضع القائد نبرة استفهام في هذه الكلمة. وساد الصمت من حوله. ونهض من مقعده وتوجه إلى الشرفة، تحت ضغط حزن عميق كتمه في نفسه بغضب حالما شعر به لئلا يظهر في عينيه.
وظهر أمام الجماهير محاطًا بكوكبة من محبوبيه. وكانت بعض النسوة قد جئن ليهنئنه بالذكرى السعيدة لنجاته من محاولة للاغتيال، وبدأت واحدة منهن، أوكل إليها مهمة إلقاء خطبة، تقول حالما رأت الرئيس:
«يا ابن الشعب البار …»
وازدرد القائد لعابه المرير، ربما وهو يذكر أيام كان طالبًا، حين كان يعيش في فقر مُدقع مع أمه في مدينة لم يجد فيها أي متنفس لهما، ولكن المحبوب تدخَّل قائلًا في رنة خفيضة: مثل يسوع، ابن الشعب …
وردَّدت صاحبة الخطبة: «يا ابن الشعب البار، أقول ابن الشعب. في هذا اليوم الساطع البهاء، تتلألأ الشمس في كبد السماء، وتُلقي بضوئها على عينيك وفي روحك. وإذ أمتثل بالتعاقب المبارك للنهار والليل في قبة السماء، فإن سواد تلك الليلة لا ينسى، حين عمدت الأيادي المجرمة — بدلًا من الاقتداء بك سيدي الرئيس في زرع البذور الصالحة في الحقول — إلى وضع قنبلة في طريقك، ولكنك خرجت منها سالمًا مُعافًى، رغم كل الدقة العلمية الأوروبية التي صنعت تلك القنبلة.»
وغرق صوت «لسان البقرة» — كما كانت ألسنة السوء تُسمي السيدة التي قالت الخطبة — في غمار تصفيق حاد من الجمهور إلى الهواء لدى الرئيس وحاشيته.
– عاش السيد الرئيس!
– عاش السيد رئيس الجمهورية!
– عاش السيد رئيس الجمهورية الدستوري!
– «فلتتردد أصداء هتافنا وتصفيقنا في العالم كله إلى الأبد، عاش السيد رئيس الجمهورية الدستوري، حامي حمى الوطن، رئيس الحزب الليبرالي العظيم، المدافع عن الشباب المجتهد!»
واستطردت لسان البقرة تقول: «إنه لو كانت خطط أولئك الأشرار قد نجحت، أولئك الذين كان يُعاونهم أعداء السيد الرئيس في محاولتهم الإجرامية، لكانت راية بلادنا قد تلطخت بمئات الشوائب الشائنة. إنهم لم يتوقفوا لحظة ليتدبروا أن يد الله كانت معكم تحمي حياتكم الغالية، مقرونًا بتأييد كل أولئك الذين يسلمون بأنكم جديرون بأن تكونوا المواطن الأول للأمة، والذين أحاطوا بكم في تلك اللحظة العصيبة، الذين يحيطون بكم الآن وسوف يحيطون بكم طالما دعت الحاجة إلى ذلك. أجل!»
أيها السادة، أيتها السيدات والسادة، إننا ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه لو كانت تلك الخطط الدنيئة قد نجحت في ذلك اليوم ذي الذكرى المُفجِعة في تاريخ أمتنا — التي تقود اليوم الشعوب المتحضِّرة — لحرم وطننا من أبيه وحامي حماه، ولسقط تحت رحمة أولئك الذين يشحذون خناجرهم في الظلام ليطعنوا بها صدر الديمقراطية في الصميم، كما قال يومًا ذلك السياسي العظيم «خوان مونتالفو».
«وبفضل نجاتكم، لا تزال رايتنا تخفق عالية دونما شوائب. وهذا هو السبب الذي نجتمع هنا من أجله أيها السادة، لتكريم حامي حمى الطبقات الفقيرة المجيد، الذي يسهر علينا بعطف الأب، والذي جعل أمتنا — كما سبق أن قلت — في طليعة ذلك التقدم الذي أطلق «فالتون» شرارته الأولى باكتشافه البخار، والذي دافع «خوان سانتا ماريا» عنه ضد القرصنة عن طريق إشعال النار في الديناميت المشئوم في «لمبيرا». عاش وطننا! عاش رئيس الجمهورية الدستوري، رئيس الحزب الليبرالي، حامي حمى الأمة، معزز النساء والأطفال العُزَّل، والتعليم!»
وضاعت هتافات «لسان البقرة» وسط سعير من الهتاف أطفأه بحر من التصفيق.
ورد السيد الرئيس ببضع كلمات، ويده اليمنى تقبض على سور الشرفة المرمري، والتفت جانبًا حتى لا يعرض صدره للخطر، وحرك رأسه من اليسار إلى اليمين ليحيط بالجمهور، وقد قطَّب جبينه، وعيناه ترقبان كل شيء. ومسح الرجال والنساء على حدِّ سواء دمعات تساقطَت من عيونهم.
وقال ذو الوجه الملائكي حين رأى الرئيس وقد انسدَّ أنفه بعض الشيء: هلا تفضلت بالدخول سيدي الرئيس؟ … إن الجمهور يؤثر عليكم تأثيرًا شديدًا …»
واندفع المدعي العسكري العام نحو الرئيس الذي عاد من الشرفة تتبعه ثلة من أصدقائه، كيما يقدم إليه تقريرًا عن هروب الجنرال «كاناليس» ويهنئه على خطبته قبل أي شخص آخر، ولكنه — مثله في ذلك مثل جميع الذين تقدموا إلى السيد الرئيس لنفس الغرض — توقف فجأة وقد شلَّه شعور غريب بالوجل، ناتج عن قوة خفية خارقة للطبيعة، وحتى لا يبقى ممدود اليد في الهواء، تقدم ليصافح ذا الوجه الملائكي.
بيد أن المحبوب أدار له ظهره. وسمع المدعي العسكري العام، ويده ممدودة في الهواء، أول انفجار في سلسلة من الانفجارات التي توالت في ثوان قليلة كأنما هي طلقات مدفعية. وعلى الفور، انطلقت الصرخات، وتقافز الناس يجرون هنا وهناك ويركلون المقاعد في طريقهم، بينما أُغمي على كثير من النساء، وسرعان ما كانت فرق الجنود تهرع لتنتشر وسط الجمهور كحبات الأرز، وأيديهم على زناد بنادقهم المحشوة، وسط المدافع الرشاشة، والمرايا المحطومة والضباط والمدافع …
واختفى كولونيل فوق الدرجات ومسدسه في يده، بينما هبط آخر من الدرجات ومسدسه في يده. لم يكن هناك شيء. لم يكن هناك شيء. بيد أن الهواء كان باردًا. وانتشرت الأنباء بين الجمهور المضطرب. لم يحدث شيء. وتجمع الضيوف تدريجيًّا في مجموعات، وبعضهم قد بال على نفسه من الخوف، والبعض الآخر أضاع قفازاته. وكان أولئك الذين عاد اللون إلى وجوههم، لم يستعيدوا بعد القدرة على الكلام، بينما كان أولئك الذين استعادوا القدرة على الكلام قد غاض اللون من وجوههم. وكان السؤال الوحيد الذي لم يستطع أحد الإجابة عنه هو أين ومتى اختفى السيد الرئيس.
وعلى الأرض، تحت سلَّم صغير، كان يرقد قارع الطبول الأول في الفرقة الموسيقية العسكرية. كان قد سقط من على السلَّم هو وطبلته، مما سبب كل ذلك الفزع والهلع!