في سجن «كاسا نويفا»
في حوالي الساعة الثامنة صباحًا (ما أسعد ما كان الناس عليه في عهد الساعات المائية، حين لم يكن هناك ساعات دقاقة تحسب الوقت بالقفزات والارتداد!) سجنت «نينيا فيدينا» في زنزانة كالقبر على شكل الجيتار، بعد اتخاذ الإجراءات المعهودة والقيام بتفتيش شامل لكل شيء معها. لقد فتَّشوها من الرأس إلى القدم، أظافرها، ما تحت إبطَيها، كل شيء، وهي عملية مزعجة للغاية، بل وزادوا التفتيش حدة حين عثروا في ثنايا قميصِها على خطاب كتبه الجنرال كاناليس بخطِّ يده، وهو الخطاب الذي كانت قد التقطتْه من على الأرض في البيت.
وأحست بالتعب من الوقوف في الزنزانة، ولم يكن هناك مكان للمشي ولو خطوتين فقط، فجلست، فالجلوس أفضل على كل حال. ولكنها نهضت واقفة بعد برهة. لقد نفَّذت برودة الأرض إلى كفليها وعظام ساقيها وإلى يديها وأذنيها، فالجسم البشري حساس تجاه البرودة. وظلت واقفة بعض الوقت، ثم جلست مرة ثانية، ووقفت، وجلست، ووقفت … وهكذا …
وكانت تسمع السجينات الأخريات حين أخرجوهنَّ من زنازينهن لشم الهواء، يتغنَّين بأغانٍ غضة كالخضروات النيئة، برغم الغليان الذي يشعرن به في الصدور. وكن أحيانًا يُهمْهِمْن بعض هذه الأغاني وهن ناعسات، أغانٍ ذات رتابة قاسية، توحي بإحساس بالظلم المحتوم، تقطعه فجأة صرخات يأس، وكفر «وسباب» وشتائم.
ومنذ اللحظة الأولى لدخول «نينيا فيدينا» السجن، أحسَّت بالخوف من صوت متنافِر النغمات يعيد هذه الأغنية مرارًا وتكرارًا كأنه يتلو مزمورًا:
لم يكن البيتان الأولان من الأغنية يتمشيان مع بقيتها، ومع ذلك فإن هذا الأمر بدا كأنما يؤكد العلاقة الوثيقة بين البيوت سيئة السمعة وبين سجن «كاسا نويفا». كان وزن كلمات الأغنية مكسورًا كيما تعبر عن واقع الحال المؤلم، وهو ما جعل «نينيا فيدينا» تَرتعد خوفًا من أن يغمرها الخوف، الآن وهي ترتعِد ولم يغمر الخوف كيانها كله بعد، ذلك الخوف الغامض المرعب الذي شعرت به بعد ذلك، حين تسرب إلى عظامها ذلك الصوت الذي يشبه الأسطوانة المشروخة والذي يُخفي أكثر الأسرار جرمًا. كان ظلمًا ألا تجد ما تفطر به سوى تلك الأغنية المريرة. إنهم لو سلَخوها حية لما شعرت بعذاب أكثر مما كانت تشعر به الآن من سجنها؛ إذ تُصغي إلى كلام ربما تعتبره السجينات الأخريات — دون أن يُدركن أن فراش العاهرة أشد برودة من السجن — أملهنَّ الأسمى في الحرية والدفء.
وأخذت تفكِّر ثانية في طفلها، في استغراق سعيد جعلها لا تلاحظ أنها تُحدِّق دون أن تشعر إلى شبكة من الرسوم الإباحية المحفورة على حائط الزنزانة، مما جعلها تضطرب من جديد، رسوم صلبان، عبارات، أسماء رجال، تواريخ، أرقام العلوم السرِّية، مختلطة وسط رسوم جنسية من كل حجم ونوع. كانت ثمة كلمة دينية إلى جوار رسم لعضو جنسي، ورقم «١٣» على رسم خصيتين هائلتين، شياطين ذوو أجسام معقوصة كالشمعدانات، زهور صغيرة لها أصابع بشرية بدلًا من الأوراق، كاريكاتور لقضاة ومحامين، قوارب صغيرة، مراسٍ، شموس، أَسرَّة أطفال، شموس ذات شوارب لرجال الشرطة، أقمار لها وجوه عوانس، نجوم ثلاثية وخماسية، ساعات، صفارات، قيثارات ذات أجنحة، سهام.
وغلبها الفزع فحاولت الهروب من عالم الجنون والضلال هذا، كيما تسقط في الإباحية فحسب التي تُغطي الجدران الأخرى في الزنزانة. وأغلقت عينيها وقد أخرسها الفزع، كانت كامرأة بدأت تهوي من على مُنحدَر شاهق، تتفتَّح حولها مهاوٍ بدلًا من النوافذ، والسماء تستعرض نجومها كما يستعرض الذئب أنيابه.
وعلى أرض الزنزانة، كانت ثمة مجموعة من النمل تحمل صرصارًا ميتًا. وجال في خاطر «نينيا فيدينا»، إذ كانت لا تزال تحت تأثير الرسوم الإباحية، أنها تُحدق إلى عضو جنسي أنثوي يجرُّه شعره إلى فراش الخطيئة.
وأخذت الأغنية مرةً أخرى تحكُّ لحمها الحي برفق بشظايا زجاج صغيرة، كأنما هي تُزيل تدريجيًّا تواضُعها الأنثوي.
وفي المدينة، كانت الاحتفالات على شرف السيد الرئيس لا تزال تجري على قدم وساق. وفي الأمسيات، كانوا يَنصبون شاشة سينما كأنها المشنقة في «الميدان الرئيسي»، يعرضون عليها أجزاء غير واضحة من الأفلام على الجمهور، الذي كان يُشاهدها كأنه يشاهد حكم إعدام لمحاكم التفتيش. وكانت المباني الحكومية الغارقة في الضوء تشمخ تجاه السماء الداكنة، وثمة سيل من العابرين يلفُّون أنفسهم كالعمامة حول السور المدبب الأطراف الذي يُحيط بالحديقة العمومية المستديرة. كانت صفوة المجتمع تتجمَّع هناك للتنزُّه حول الحديقة في الأمسيات، في حين ترقب العامة السينما في صمت ديني تحت النجوم. وكان الشيوخ، عزابًا وأزواجًا، مكدَّسين جنبًا إلى جنب كالسردين، قد أخذوا يتثاءبون في ملل ظاهر، ويرقبون المارة من مقاعدهم ومنصاتهم المنصوبة في الميدان، يُرسلون بالإطراء لكل فتاة تمر، وبالتحايا إلى أصدقائهم ومعارفهم … ومن آنٍ لآخر، كان الأغنياء والفقراء على السواء يرفعون أبصارهم إلى السماء: يَرقُبون صاروخًا ملونًا ينفجر وتتساقط خيوطه على شكل قوس قزح حريري.
إن الليلة الأولى في السجن لشيء رهيب حقًّا. يشعر السجين أنه مقطوع عن الحياة في عالم من الكوابيس، هناك في الظلمات. الجدران تختفي، والسقف يتلاشى، والأرضية تَحتجب عن البصر، بيد أن ذلك لا يجلب معه إحساسًا بالحرية، وإنما بالموت.
وبدأت «نينيا فيدينا» تتلو صلاة سريعة: «أيتها العذراء مريم الرحيمة، معروف عنك أنك لا تخذلين أي مخلوق يَنشُد عونك ويتضرَّع طلَبًا لمساعدتك ويرجو حمايتك! ولهذا فإني أتحوَّل إليك عن ثقة، يا عذراء العذارى، وألقي بنفسي على قدميك، أبكي خطاياي. لا ترفضي صلواتي، أيتها العذراء مريم، بل أنصتي لي بأذن صاغية مجيبة. آمين!» كانت الظلمة تخنقها. لم تَعُد تستطيع الصلاة بعد. وانزلقت إلى الأرض، باسطة ذراعَيها اللتين بدتا لها طويلتين جدًّا، طويلتين جدًّا، كيما تحتضن الأرضية الباردة، كل الأرضيات الباردة لجميع السجناء الذين يُضطهَدون باسم العدالة، المُحتَضَرين، المشرَّدين …
وردَّدت الابتهالات باللاتينية:
واعتدلت جالسة ببطء. كانت تشعر بالجوع. من سيُرضع ابنها؟ واتجهت إلى الباب على يديها وقدميها وظلت تقرعُه عبثًا.
وعلى البُعد، سمعَتْ ساعة تدقُّ الثانية عشرة.
في العالم الخارجي، حيث كان ابنها …
وأحصَت الدقات الاثنتي عشرة. واستجمعت قواها لتتخيَّل أنها مطلقة السراح، ونجت في ذلك. وتصوَّرت نفسها في بيتها وسط حاجاتها وأصدقائها، وهي تقول لـ «خوانيتا»: «مع السلامة، لقد سعدنا برؤيتك.» وهي تخرج لتُصفِّق منادية «غابرييليتا»، وهي تُعنى بالموقد، وهي تنحني للسيد «تيموتيو». كانت تبدو كأنها ترى حانوتها كما لو كان عضوًا حيًّا، جزءًا منها ومن الآخرين.
وفي الخارج، مضت الاحتفالات قدمًا، وشاشة السينما تقوم كالمشنقة والناس تسير حول الحديقة كالعبيد حول عجلة رفع المياه.
وفتح باب الزنزانة بعد أن يئست من ذلك. وجعلتها جلبة فتح القفل على الباب تجفل كأنَّما هي تقف على شفا حفرة من النار. ودخل رجلان يبحثان عنها في الظلام، ودفعا بها عبر ممرٍّ ضيق مكشوف عصفت به رياح المساء، وعبر حجرتَين مظلمتين إلى حجرة أخرى مضاءة بالأنوار. وحين دخلت، كان المدَّعي العسكري العام يتحدَّث مع كاتبه بصوت خفيض. وقالت «نينيا فيدينا» في سريرتها: «هذا هو السيد الذي يعزف على الأرغن في عيد عذراء الكرمة! لقد بدا لي أنني أعرفه حين قبضوا عليَّ، لقد رأيته مرارًا في الكنيسة، لا يُمكن أن يكون رجلًا شريرًا!»
وثبت المدَّعي العام عينيه عليها فترة طويلة، ثم سألها بعض الأسئلة العامة: اسمها، عمرها، حالتها الاجتماعية، عملها، عنوانها. وأجابت زوجة «روداء» في صوت ثابت، ثم أضافت سؤالًا من عندياتها حين فرغ الكاتب من كتابة آخر إجاباتها — وهو سؤال لم يردَّ عليه أحد لأنه في نفس اللحظة دقَّ جرس الهاتف وسمع صوت أجش لامرأة تقول في صمت الحجرة المجاورة: «أجل، كيف حالك؟ إنني مسرور لذلك! لقد أرسلت إلى «كاندوتشا» أسألها هذا الصباح … الفستان؟ … الفستان جميل، أجل، إن قصته حلوة … ماذا … كلا، كلا، إنه لم يتلوَّث … أقول إنه لم يتلوث! … أجل، ولكن دون تأخير … أجل، أجل، أجل … تعالوا دون تأخير … مع السلامة … تُصبحون على خير مع السلامة.»
وفي هذه الأثناء كان المدَّعي العام يرد على سؤال «نينيا فيدينا» في رنة عادية من السخرية القاسية: «لا تقلقي، إننا هنا لذلك الغرض، كيما نقول للناس من أمثالك، ممَّن لا يعرفون، أسباب القبض عليهم.»
ثم أردف قائلًا بصوت مختلف، وعيناه الضفدعيتان تبرزان من محجرَيهما: «ولكنك لا بدَّ أن تخبريني أولًا ماذا كنت تفعلين في منزل «إيوسبيو كاناليس» هذا الصباح.»
– لقد ذهبت — لقد ذهبت لأقابل الجنرال في مهمَّة ما.
– هل لي أن أسألك ما هي تلك المهمة؟
– مسألة بسيطة ليس إلا يا سيدي! مهمَّة اضطلعت بها … كي … اسمع يا سيدي، سوف أقول لك كل شيء: لقد ذهبت كي أخبره أنهم سيَقبضون عليه بتهمة قتل ذلك الكولونيل (لقد نسيتُ اسمه) الذي لقي مصرعه في رواق الرب.
– ثم تسمحين لنفسك بعد هذا أن تسأليني عن سبب وجودك في السجن؟ هل يبدو لك ذلك شيئًا هينًا، شيئًا هينًا أيتها العاهرة؟ هل يبدو لك ذلك شيئًا هينًا، شيئًا هينًا؟
وكان غضب المدعي العام يزداد مع كل مرة يقول فيها «هينًا».
– على مهلك يا سيدي، دعني أشرح لك، على مهلك يا سيدي، إن الأمر ليس كما تَعتقِد. انتظر، اسمع، بحق السماء! حين وصلت إلى منزل الجنرال، لم يكن الجنرال هناك، إنني لم أره، إنني لم أر أحدًا هناك، كانوا قد رحلوا جميعًا، وكان المنزل خاليًا، ما عدا الخادمة التي كانت تجري هنا وهناك.
– وهل يبدو لك ذلك شيئًا هينًا؟ شيئًا هينًا، وأي ساعة كنت هناك؟
– كانت ساعة كنيسة «لا مرسيد» تدقُّ السادسة صباحًا يا سيدي.
– إنَّ ذاكرتك قوية! وكيف عرفت أنه سيقبض على الجنرال؟
– أنا؟
– أجل أنت.
– سمعت ذلك من زوجي.
– وما اسم زوجك؟
– خينارو روداس.
– وممن سمع هو بذلك الأمر؟ كيف عرف؟ من أخبره؟
– أحد أصدقائه يا سيدي، يُدعى لوسيو فاسكيز، أحد أعضاء الشرطة السرية. هو أخبر زوجي، وزوجي …
وقاطعها المدعي العام صائحًا: وأنت أخبرت الجنرال؟
وهزت «نينيا فيدينا» رأسها كيما تقول: ليس صحيحًا، لا.
– وإلى أين ذهب الجنرال؟
– ولكن، بحق السماء، كيف لي أن أعرف وأنا لم أر الجنرال مطلقًا؟ ألا تفهم، إنني لم أره مُطلقًا، لم أره مطلقًا! ولماذا أكذب؟ خاصة وأن هذا السيد يكتب كل كلمة أقولها.
وأشارت إلى الكاتب، الذي حملق فيها بوجهِه الشاحب المليء بالنمش، الذي بدا كورقة نشاف بيضاء عليها بقع حبر كثيرة.
– ليس لك شأن بما يكتب. أجيبي عن سؤالي! أين ذهب الجنرال؟
وساد صمت طويل. ثم انفجر صوت المدعي العام بنبرة أحد: أين ذهب الجنرال؟
– لا أعرف. كيف لي أن أجيب عن هذا؟ لا أعرف، إنني لم أرَه على الإطلاق — لم أتحدث إليه.
– إنك تخطئين إذ تنكرين ذلك؛ لأن السلطات تعرف كل شيء، بما في ذلك أنك قد تكلمت مع الجنرال.
– إنك تجعُلني أضحك!
– اسمعي، ليس في الأمر ما يضحك. إنَّ السلطات تعرف كل شيء، كل شيء، كل شيء. وكان يجعل المنضدة تهتز عند كل «كل شيء». «إذا كنت لم ترَ الجنرال، كيف إذن حصلت على هذا الخطاب؟ أظن أنه قفز إلى قميصك من نفسه؟»
– إن هذا هو الخطاب الذي عثرت عليه في المنزل. لقد «التقطتها» من على الأرض قبل أن أخرج. ولكن لا فائدة من قول أي شيء ما دمت لا تصدقني وتعتبرني كاذبة.
ودمدم الكاتب قائلًا: «التقطتها»! إنها لا تعرف حتى كيف تتحدث بلغة سليمة. يجب أن تقولي «التقطتهُ».
– اسمعي، لا تكذبي يا سيدتي واعترفي بالحقيقة؛ لأن الكذب سوف يجرُّ عليك عقابًا ستذكرينني به طوال حياتك.
– ولكني قلت الحقيقة، وإذا كنت لا تُصدقني فإني لا أستطيع أن أجعلك تفهمني بضربك بالعصا كالأطفال!
– سوف يُكلفُك هذا غاليًا، سوف ترين! وشيء آخر: ما شأنك أنت بالجنرال على أية حال؟ ما علاقتك به؟ هل أنت أخته أم ماذا؟ ماذا أخذت منه؟
– أنا … من الجنرال … لا شيء. إنني حتى لم أره سوى مرتين في حياتي. ولكن ما حدث هو أن ابنته قد وعدتني أن تكون إشبينة طفلي يوم تعميده.
– ليس هذا سببًا.
– إنها إشبينة ابني يا سيدي!
فقال الكاتب من الخلف: كلها أكاذيب!
– وإذا كنت قد اضطربت وفقدت أعصابي وهرعت إلى منزل الجنرال فذلك لأن لوسيو أخبر زوجي أن ثمة رجلًا يعتزم اختطاف ابنة الجنرال.
– كفاكِ أكاذيب. أفضَل لك أن تُفرغي كل ما في صدرك وتقولي لي أين يختفي الجنرال؛ لأنني أعلم أنك تعرفين، وأنك الشخص الوحيد الذي يعرف، وأنك سوف تقولين لنا هنا والآن، تقولين لنا. كفاكِ بكاءً وتكلمي، إنني مُصغٍ إليك.
وأضاف في نبرة رقيقة، كأنما هو قس الاعتراف: «إذا أنت قلت لي الآن أين الجنرال — انظري، اسمعيني: إنني أعلم أنك تعرفين وستقولين لي — إذا أنت قلت لي أين يختبئ الجنرال سوف أفرج عنك، سوف أطلق سراحك ويمكنك الذهاب إلى بيتك مباشرة في سلام. فكري في ذلك. فكري في ذلك فحسب!»
– آه يا سيدي العزيز، لو كنت أعرف لأخبرتك. ولكني لا أعرف، لا أعرف لسوء الحظ. أيتها العذراء المقدسة، ماذا أفعل؟
– لماذا تنكرين؟ ألا ترين أنك تضرِّين نفسك بنفسك؟
وفي الفترات التي قطعت بين كلام المدعي العام، كان الكاتب يُسلِّك أسنانه.
– حسنًا، إذا كانت لا تجدي معك المعاملة الطيبة، «إذا كنت ماكرة إلى هذا الحد» ونطَق المدعي العام بهذه العبارة الأخيرة بسرعة وبضيق متزايد كالبركان الذي يُوشك على الانفجار «فسنجعلك تعترفين بوسائل أخرى. إنك تُدركين أنك قد اقترفت جريمة بالغة ضد أمن الدولة، وإنك في يد العدالة لمسئوليتك عن فرار أحد الخونة المتمرِّدين الثائرين القتَلة أعداء السيد الرئيس … وفي هذا الكفاية، الكفاية تمامًا، الكفاية تمامًا!»
ولم تَعرف السيدة روداس ماذا تفعل. كانت عبارات هذا الرجل الشيطاني تخفي وعيدًا ملحًّا مريعًا، قد يكون الموت ذاته. وارتعد فكاها، وأصابعها، وساقاها … وحين ترتعد اليدان تبدوان كما لو كانتا بدون عظام وترتعدان كالقفاز الفارغ. وحين يرتعد الفكان ويعجز المرء عن الكلام، يبدو كما لو كان يبرق بآلامه وأشجانه. وحين ترتعد الساقان، يبدو المرء جالسًا في عربة يجرُّها جوادان مارقان، كروح ذاهبة إلى الشيطان.
وتضرَّعت قائلة: سيدي!
– إني لا أمزح! هيا، أسرعي الآن. أين الجنرال؟
وانفتح باب على مبعدة وانبعث منه صراخ طفل. صراخ دافئ، يائس …
وحتى قبل أن يقول المدَّعي العام ذلك، كانت «نينيا فيدينا» قد مدت عقلها تبحث في كل الأنحاء من أين ينبعث ذلك الصراخ.
– «إنه يَبكي من حوالي ساعتين، وعبثًا تحاولين البحث عنه … إنه يبكي من الجوع، وسوف يموت جوعًا إذا لم تقولي لي عن مكان الجنرال.»
واندفعت نحو الباب، غير أن ثلاثة رجال أوقفوها، ثلاثة متوحشين تبدو عليهم الشراسة، لم يجدوا صعوبة في التغلب على مقاومتها الأنثوية. وتهدَّل شعرها أثناء نضالها الذي لم يكن ثمة طائل من ورائه، وخرجت بلوزتها من تحت تنورتها وتهدل قميصها الداخلي. ولكن ماذا يُهمها من سقوط ملابسها. وعادت تزحف على ركبتيها شبه عارية تتضرع إلى المدَّعي العام أن يتركها تُرضع وليدها.
تضرعت قائلة وهي تقبل حذاء المدَّعي: «بحق عذراء الكرمة يا سيدي، أجل، عذراء الكرمة، دعني أُرضع وليدي، إنك ترى أنه لم يعد يقوى على الصراخ، إنك ترى أنه يموت. يُمكنك بعد ذلك أن تقتلني إن شئت.»
– لن تنفعك أي عذراء كرمة هنا! إذا أنت لم تقولي لي أين يَختبئ الجنرال، ستبقين هكذا، وابنك، إلى أن يموت من الصراخ.
وركعت كالمجنونة أمام الرجال الذين يحرسون الباب. ثم تعاركت معهم ثم عادت تركع أمام المدعي العام، وتحاول تقبيل حذائه.
– سيدي، من أجل ابني!
– حسنًا، من أجل ابنك: أين الجنرال؟ لا فائدة من أن تركعي وتمثلي عليَّ هكذا، لأنك إن لم تُجيبي عن سؤالي لن يكون هناك أي أمل لك أبدًا في أن ترضعي طفلك.
وبعد أن قال المدعي العام ذلك، وقف على قدميه بعد أن تعب من الجلوس. وكان الكاتب لا يزال يسلك أسنانه، حاملًا القلم في حالة تأهُّب لكتابة الاعتراف الذي لن يَخرُج من بين شفتي الأم التَّعِسة.
– أين الجنرال؟
واستمر الطفل يبكي، شاكيًا باكيًا، كما تبكي المياه في الميازيب في ليالي الشتاء.
– أين الجنرال؟
بقيت «نينيا فيدينا» صامتة كالحيوان الجريح، تعضُّ شفتَيها ولا تدري ماذا تفعل.
– أين الجنرال؟
ومرَّت خمس، عشر، خمس عشرة دقيقة على هذا الحال.
وأخيرًا، مسح المدعي العام فمه بمنديل أسود الحافات وأضاف وعيدًا جديدًا إلى قائمة أسئلته: حسنًا، إذا لم تردِّي سنجعلك تأكلين بعض الجير الحي ونرى ما إذا كان ذلك سيُذكِّرك أين ذهب الجنرال.
– سأفعل كل ما تريد، ولكن دعني أولًا دعني أرضع طفلي الصغير. لا تكن ظالِمًا هكذا يا سيدي، إن الرضيع الصغير لم يرتكب ذنبًا. بإمكانك أن تُعاقبني أنا كما تشاء.
وجذبها أحد الرجال الذين يحرسون الباب إلى الأرض بخشونة، ووجه إليها آخر «ركلة» طرحتها أرضًا. ومحت الدموع والسخط الذي شعرت به مناظر الجدران والأشياء من ناظريها. ولم تَعُد تشعر بشيء خلاف صراخ طفلها.
وكانت الساعة الواحدة صباحًا حينما بدأت تبتلع الجير حتى لا يستمروا في ضربها. وكان طفلُها يبكي …
وكان المدعي العام يردِّد بين آونة وأخرى: أين الجنرال؟ أين الجنرال؟
الواحدة صباحًا …
الثانية …
وأخيرًا، الثالثة … ورضيعها يبكي …
الثالثة، حين كان يجب أن تكون الخامسة على الأقل … ومتى تأتي الرابعة؟ ورضيعها يبكي …
– أين الجنرال؟ أين الجنرال؟
وتأوَّهت «نينيا فيدينا» من الألم وهي ترفع الحجر وتُدحرجه على الجير الحي كيما تذروه مسحوقًا، ويداها مغطَّاتان بالشقوق العميقة، تنفتح أكثر مع كل حركة تقوم بها، وأطراف أصابعها متسلخة، كلها قروح، دامية الأظافر. وحين كانت تتوقَّف ضارعة بالرحمة لطفلها وليس لآلامها هي، كانوا يضربونها.
أين الجنرال، أين الجنرال؟
لم تكن مُصغية لصوت المدعي العام؛ فقد كان نواح طفلها، الذي يخفت مع مر اللحظات، يملأ كل أسماعها.
وفي الخامسة إلا ثلثا تركوها ممددة على الأرض وقد أغمي عليها، كان ثمة لعاب مخاطي يسيل من شفتَيها، بينما لبن أشد بياضًا من الجير نفسه يسيل من ثديَيها اللذَين كانا يسلطان بسياط شبه خفية. ومن آن لآخر كانت ثمة دمعات مسترقة تطفر من عينيها المنتفختين.
وبعد ذلك، حين كان يطل أول خيط من الفجر، أعادوها إلى زنزانتها. وهناك، استيقظت فوجدت طفلها بين يديها، يُحتضر، باردًا، دونما حياة، كأنه دمية من قش. وانتَعش الرضيع شيئًا ما حين أحس بنفسه في حجر أمه، ولم يضع وقتًا للهجوم على ثدي أمه في نهم، بيد أنه حين وضع فمه عليه وأحس بطعم الجير الحريف، ترك ثديها وأخذ في الصراخ، ولم يُفلح كل ما فعلته بعد ذلك في إغرائه بالعودة إلى الثدي.
وصرخت وأخذت تقرع الباب والطفل بين ذراعيها، كان جسده آخذًا في البرودة، لا يُمكن أن يتركوا طفلًا بريئًا يموت هكذا. وبدأت ثانية تقرع الباب وتصرخ.
– «آه، إن ابني يموت! آه، إن ابني يموت! آه، حياتي، صغيري، حياتي! تعالوا بحق الله! افتحوا بحق الله، افتحوا الباب! إن ابني يموت! يا للعذراء المقدسة، يا للقديس أنطونيو المبارك، يا يسوع القديسة كاترين!»
وفي الخارج، كانت الاحتفالات تمضي قدمًا. كان اليوم الثاني كاليوم الأول، بشاشة السينما كالمشنقة، والناس يتجوَّلون حول الحديقة كالعبيد حول عجلة رفع المياه.