الحسابات والشيكولاتة
فرغ المدَّعي العسكري العام من التهام قدح الشيكولاتة بالأرز، بعد أن أمال القدح مرتين كيما يفرغه حتى الثمالة، ثم مسح شاربه الأشهب بردن قميصه، واقترب من المصباح ينظر في القدح على ضوئه ليرى ما إذا كان قد فرغ حقًّا. لم يكن سهلًا تبيُّن ما إذا كان هذا الحقوقي، بعد أن خلَع عنه بنيقة قميصه المنشأة، رجلًا أم امرأة؛ إذ هو يجلس وسط أوراقه الرسمية وكتب القانون المتَّسخة، صامتًا قبيحًا، قصير النظر، شرها، مثله مثل شجرة قوامها الأوراق الرسمية المختومة — شجرة تستمدُّ غذاءها من جميع الطبقات الاجتماعية انتهاء بأدناها وأشدها فقرًا. وحين انتزع عينيه من قدح الشيكولاتة، الذي فحَصه بإصبعه ليرى ما إذا كان قد ترك فيه شيئًا، رأى الخادمة تدخل من باب حجرة مكتبه الوحيد، وهي عجوز ذات مظهر طيفي تجر قدميها في بطء الواحدة بعد الأخرى، كأنما حذاؤها أكبر من قدمها.
– «لا تقل لي إنك قد احتسيت قدح الشيكولاتة بالفعل؟»
– أجل، وليُباركك الله عليه، كم كان لذيذا! إني أحب دائمًا أن أحس بآخر قطرات فيه تنساب في حلقي.
فقالت الخادمة وهي تُفتِّش وسط الكتب التي تلقي ظلالها على المائدة: وأين وضعت القدح؟
– هناك، ألا ترينه؟
– على فكرة، أرجو أن تُلقي نظرة على تلك الأدراج المليئة بالأوراق الرسمية المختومة. غدًا إن شئت سأذهب إلى السوق وأرى إذا ما كان بإمكاني بيعها.
– حسنًا، ولكن حاذري أن يعرف أحد ذلك. إن الناس أشرار.
– إني لست بلهاء. هناك ما لا يقل عن أربعمائة ورقة، مضروبة في ٢٥ مليمًا، ومائتين أخريين في ٥٠ مليمًا. لقد قمت بإحصائها هذا الأصيل بينما كانت المكواة تسخن على النار.
وقطع كلامها دقٌّ شديد على الباب الخارجي. وهمهم المدعي العام: يا لها من طريقة لدق الباب! هؤلاء الحمقى!
– أجل. إنهم يقرعون الباب دائمًا هكذا. مَن يكون هذه المرة؟ إنني دائمًا أسمعهم حين أكون في المطبخ.
ونطقت هذه العبارة الأخيرة؛ إذ كانت تتَّجه بالفعل لترى من بالباب. كانت هذه المخلوقة المسكينة تبدو كالمظلة برأسها الصغير وتنورتها الطويلة الماحلة.
وصاح بها المدعي العام: إنني لستُ بالبيت. انتظري لحظة، من الأفضل أن تنظري من النافذة …
وبعد عدة لحظات عادت المرأة، وهي لا تزال تجرُّ قدميها، وناولته خطابًا.
– إنهم بانتظار الرد.
وفتح المدعي العام المظروف في حدة، وتطلع إلى البطاقة الصغيرة التي كانت بداخله، ثم قال في لهجة أرق: قولي إنني قد تلقيت المذكرة.
وذهبت تجرجر قدميها لتقول ذلك للصبي الذي أحضر الخطاب، وبعد ذلك أغلقت النافذة بإحكام.
ولم تعدْ إلا بعد وقت، فقد كانت تتأكد من إغلاق جميع الأبواب. ولم تكن قد أزاحت بعد قدح الشيكولاتة.
وفي تلك الأثناء، كان سيدها يسترخي في المقعد الوثير، يعيد بعناية قراءة البطاقة الصغيرة التي تلقاها لتوِّه، حتى آخر نقطة فيها. كانت البطاقة مرسلة من أحد زملائه يقدم له فيها عرضًا.
كتب المحامي «فيدالتاس» في بطاقته: «إن كونسبسيون ذات السن الذهبية، وهي صديقة للسيد الرئيس وصاحبة محلِّ دعارة مشهور، قد زارتني هذا الصباح في مكتبي لتُخبرَني أنها قد شاهدت سيدة فتية جميلة في سجن «كاسانويفا»، وهي تَعتقِد أنها مناسبة للعمل في محلها. وهي تعرض عشرة آلاف بيزو ثمنًا لها. ولما كنت أعلم أن السجينة محتجزة بناءً على أوامر منكم، فإني أكتب إليكم أسألكم ما إذا كان مناسبًا لكم أن تقبلوا هذا المبلغ الصغير وتُسلِّموا المرأة إلى عميلتي: إذا لم تكن في حاجة إلى شيء آخر، فسآوي إلى فراشي.»
– كلا، لا شيء، طبت مساءً.
– طبت مساءً. فلتسترح الأرواح في المطهر في سلام.
وفي حين ذهبت الخادمة تجرُّ قدميها، كان المدَّعي العسكري العام يحسب المبلغ الذي سيحصل عليه من العملية المقترحة، رقمًا رقمًا، واحد، وإلى يمينه صفر، وصفر آخر، وصفر آخر، وصفر رابع، عشرة آلاف بيزو!
وعادَت الخادمة العجوز: نسيت أن أخبرك أن الأب قد أرسل يخطرك أن القداس سيُقام غدًا مبكرًا عن الموعد المعتاد.
– آه صحيح، غدًا السبت! أوقظيني حالَما تبدأ الأجراس في القرع. ذلك أنني لم أنَمْ في الليلة الماضية وربما لا أستيقظ في الميعاد.
– حسنًا جدًّا، سوف أوقظك.
وبعد أن قالت ذلك، خرجت ببطء وهي تجر قدميها. غير أنها سرعان ما عادت. كانت قد بدأت في خلع ملابسها بالفعل حين تذكرت. قالت لنفسها: لحسن الحظ أنني تذكرت. وجاهدت في لبس حذائها مرة أخرى. «آه لو كنت قد نسيت …» وانتهت إلى قولها «حمدًا لله أنني قد تذكرت»، مصحوبة بتنهيدة عميقة. وكان كل ذلك الذي جعلها تنهض مرة أخرى من فراشها هو عدم استطاعتها ترك وعاء قذر بحجرة المكتب دون أخذه وغسله.
كم ستكون صدمة السيد الرئيس حين يكتشف أن صفيه الحميم قد رتَّب أمر هروب أعدى أعدائه وأشرف على ذلك الهرب! ماذا يا ترى سيفعل حين يعرف أن صديق الكولونيل «باراليس سونرينتي» الصدوق مشترك في هروب أحد قتلته؟
وعمد إلى قراءة مواد القانون العسكري، وإعادة قراءتها، رغم أنه يحفظها عن ظهر قلب، فيما يختص بالشركاء في الجريمة. ولمعت عيناه الحربائيتين بالسرور إذ وجدتا في كل سطر من هذا المجلد القانوني العبارة المقتضبة التالية: «عقوبة الإعدام» أو مرادفها «عقوبة الموت».
– «آه يا سيد ميغلين ميغيليتو، ها أنت الآن في قبضتي، وطوال الوقت الذي أريد! حين أهنتني ليلة أمس في القصر الجمهوري لم أكن أتصور أننا سوف نَلتقي مرة أخرى سريعًا هكذا! وأني أعدك بأن دائرة انتقامي سيكون لها آلاف الدورات!»
وبتلك الأفكار المضطرمة بالرغبة في الانتقام، وبقلبه وقد قُدَّ من الصلب البارد، صعد درجات القصر الجمهوري في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي. وكان يحمل معه عريضة الاتهام وإذنًا بالقبض على ذي الوجه الملائكي.
وقال الرئيس له بعد أن عرض الوقائع عليه: «اسمع أيها السيد المدَّعي العام، دع هنا عريضة الاتهام هذه، وأنصت إلى ما سأقوله لك: لا السيدة «دي روداس» و«ميغيل» مُذنبان، أصدر أوامرك بالإفراج عن تلك السيدة وألق بأمر القبض على ميغيل في سلة المهملات. إن المُذنبين هم أنتم، أيها الحمقى، لمن ولاؤكم وخدماتكم …؟ أي نفع فيكم …؟ لا شيء! كان على الشرطة أن تُنهي حياة الجنرال «كاناليس» عند أقل بادرة منه للهرب. كانت الأوامر هكذا! ولكن الذي حدث هو أنه لم يكن في إمكان الشرطة رؤية باب مفتوح دون أن تأكلها يدها للسرقة والنهب! إنك تقول: إن ذا الوجه الملائكي قد لعب دورًا في هروب الجنرال «كاناليس». إنه لم يكن يُدبِّر لهربه، وإنما لموته. بيد أن رجال الشرطة ما هم إلا حمقى رسميُّون … لك أن تنصرف. أما بالنسبة إلى الرجلين المتَّهمين الآخرين فاسكيز وروداس، فأوقعْ بهما ما يستحقان من عقاب، فهما أفَّاقان، خاصة فاسكيز، الذي يعلم عن الأمر أكثر مما هو مسموح له. لك أن تَنصرف.»