موت «الذبابة»
كانت الشمس تُجلِّل الأطراف البارزة من مبنى مركز الشرطة بأشعتها الذهبية، حيث يمرُّ بعض الناس عبر طريق الكنيسة البروتستانتية، وهنا وهناك باب مفتوح، وبناء من الطوب الأحمر يقوم البناءون بتشييده. وفي المركز، كانت مجموعات من النسوة الحافيات يجلسن في انتظار المسجونين، قابعات في الفناء حيث يهطل المطر على الدوام، وكذلك في مصاطب الردهات المظلمة، يحملن سلال الفطور في حجورهن، وحولهن عديد من الأطفال الصغار يتعلَّقون بأثدائهن، والكبار منهم يهددون بالتهام أرغفة العيش التي تطلُّ من السلال بأفواههم الفاغرة النَّهِمة. وكانت النسوة يفضين بمتاعبهنَّ بعضهن إلى بعض في صوت خفيض، باكيات على الدوام، ويمسحن عيونهن بأطراف عباءاتهن. وكانت هناك عجوز ذات عينين غائرتَين، هدَّتها الملاريا، تبكي في حرقة وفي صمت، كأنما تريد أن تُبدي أنها تُعاني أكثر منهن بوصفها أمًّا. هنا كانت شرور الحياة تبدو لا علاج لها، في مكان الانتظار الكئيب ذاك؛ حيث لا يوجد ما تستقر عليه العين سوى شُجيرتَين أو ثلاث، ونافورة جفت المياه منها، ورجال الشرطة عجاف الوجوه يُنظفون ياقات قمصانهم بريق شفاههم. ولم يكن أمام النسوة إلا أن يُسلِّمن أمرهن إلى الله القادر العليم.
واحتج «الذبابة» على المعاملة التي يلقاها من الشرطي وقال له: «إيه … أنت … ماذا تظن أنك فاعل؟ ألا تشعر بأية شفقة؟ ألأني فقير؟ أنا فقير ولكني شريف. اسمع: إنني لست ابنك أو لعبتك أو حيوانك الأليف، ولا أي شيء حتى تعاملني هكذا! إنها لعبة ظريفة أن تعاملونا هذه المعاملة وتجرُّونا بهذه الطريقة كيما تحظوا برضاء الأمريكان. يا لها من لعبة قذرة! كما لو كنا ديوكًا على مائدة عيد الميلاد. ولكن … حتى المعاملة الحسنة لا نلقاها منكم! وحين جاء السيد فلان، حبسوا عنا الطعام ثلاثة أيام ونحن نتطلَّع عبر النافذة وقد التحفنا بالبطاطين كالمجانين …»
وكانوا يقودون الشحاذين المقبوض عليهم إلى زنزانة ضيقة مُظلمة تُدعى «الثلاث ماريات». وارتفعت جلبة المفاتيح وهي تدور في الأبواب ولعنات السجَّانين الذين تفوح منهم نتانة العرق والتبغ، ثم تردَّدت صيحات «الذبابة» العالية مرةً أخرى في هذه الأنفاق التحتية: «آه، يا له من شرطي! أيتها العذراء المقدَّسة، يا له من وغد! فليَحمِني منه يسوع المسيح!»
وكان رفاقه يَنشجون كالحيوانات، تسيل أنوفُهم وقد غمرهم العذاب من فرط الظُّلمة التي تُحيط بهم من كل جانب، ويَشعرون بأنهم لن يكون في مقدورهم الخلاص أبدًا من وهدة السجن هذه التي سقطوا فيها؛ وغمرهم الخوف، فقد انتهى الأمر بكثير من الناس هنا إلى الموت جوعًا وعطشًا: وكان يَنتابهم إحساس بأنهم سيضعُونهم في القدور ويَغلونهم على النار ويصنعون منهم طلاءً للسيارات، كالكلاب، أو يَذبحونهم ويُقدمونهم طعامًا لرجال الشرطة. ولاحت أمامهم الوجوه كأنها وجوه آكلي لحوم البشر، مضيئة كالفوانيس، يتقدم أصحابها عبر الظلال، وَجَناتهم كالأرداف، وشواربهم كأوراق الشيكولاتة المفضَّضة.
وكان ثمَّة طالب ومساعد قسٍّ في نفس الزنزانة.
– سيدي، أعتقد لو لم أكن مخطئًا أنك قد جئت إلى هنا أولًا. أنت وأنا، أليس كذلك؟
تكلَّم الطالب لكي يَقطع حبل الصمت، لكي يتخلَّص من بعض ما يشعر به من حزن في حلقه. ورد مساعد القس وهو يبحث في الظلمة عن وجه محدثه: أعتقد هذا.
– و… حسنًا. كنت سأسألُك عن سبب القبض عليك.
– بسبب السياسة. هكذا يقولون.
وارتجف الطالب من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وقال بصعوبة شديدة: وأنا أيضًا.
وفتَّش الشحاذون حول وسطهم بَحْثًا عن كيس زوادهم الذي لا يفارقهم، غير أن الحراس كانوا قد جرَّدوهم من كل شيء في مكتب مدير الشرطة، حتى مما يحملونه في جيوبهم، بحيث لم يَعُد معهم أي شيء حتى أعواد الثقاب. كانت الأوامر صريحة! ومضى الطالب في حديثه: وما هي قضيتك؟
– ليست لي قضية. إنني هنا بأمرٍ من أعلى.
وارتدَّ مساعد القس، وهو يقول هذا، إلى الخلف دافعًا كتفه في الحائط كيما يَسحق حشرات البق التي عَلقت به.
– هل كنت …
فردَّ مُساعد القس بطريقة جافة: لا شيء! لم أكن شيئًا ألبتة!
وفي هذه اللحظة سمع صرير الباب الذي انفتح على مصراعَيه ليدخل منه شحَّاذ آخر.
وصاح «ذو القدم المسطوحة» وهو يدخل: «تحيا فرنسا!»
وقال مساعد القس: لقد سجنت … تحيا فرنسا!
– «… بسبب جريمة ارتكبتها بمحض الخطأ فبدلًا من أن أزيل إعلانًا عن السيدة العذراء من على باب الكنيسة التي أعمل بها، ذهبت وأزلت إعلانًا عن الاحتفال بالذِّكرى السنوية لوالدة السيد الرئيس.»
وهمس الطالب بينما كان مساعد القسِّ يَمسح دموعه بأصابعه: ولكن، كيف علموا بالأمر؟
– لا أعرف. لقد أضاعَني غبائي. وعلى كل حالٍ فقد قبضوا عليَّ وساقوني إلى مُدير الشرطة الذي قام بإعطائي ما تيسَّر من اللكمات ثم أمر بأن أوضع في هذه الزنزانة، معزولًا، باعتباري ثوريًّا، كما قال.
وبكى الشحَّاذون المتجمِّعون في الظُّلمة من فرط الخوف والبرد والجوع. ولم يكن أحدٌ منهم يرى حتى يدَيه ذاتهما. وأحيانًا كانوا يلجئون إلى السبات، ويَسمع آنذاك زفير الصماء البكماء الحُبلى يمرق من بينهم كأنَّما يبحث لنفسه عن مخرج.
ولم يَدرِ أحد منهم متى أخرجوهم من هذا القبو، وربما كان ذلك في منتصَف الليل؛ فالتحقيق يَتناول جريمة سياسية كما قال لهم أحد الرجال ربعة القامة معرورق الوجه زعفراني اللون، ذو شارب يَنسدِل على شفتَيه الغليظتَين في إهمال، أفطس الأنف قليلًا، وذو عينَين مُقنعتَين. وقد انتهى هذا الرجل بسؤالهم جميعًا فردًا فردًا عن مدى عِلمهم بالمسئول أو المسئولين عن جريمة «رواق الرب» التي ارتُكبَت في الليلة الفائتة في شخص أحد كبار رجال الجيش.
وكان ثمة مصباح يَتصاعَد منه الدخان يُضيء الحجرة التي نقلوهم إليها، فبدا ضوءُه الباهت كأنما يمرُّ من خلال عدسات مملوءة بالمياه. ما هذا الذي يَجري هنا؟ ما هذا الجدار؟ وما هذا الرف المليء بالأسلحة والذي يبدو أشدَّ شراسة من أنياب النمر؛ وزنار الشرطي المليء بالذخيرة؟
وأثارت إجابات الشحاذين أعصاب المحقِّق، المدعي العسكري العام، فقفز من مقعده وصاح قائلًا وهو يَفتح عينَيه الحجريتَين من وراء نظارته الطبية السميكة ويَضرِب المائدة التي يستخدمها كمكتب بقبضة يده: سأَستخلِص منكم الحقيقة! وردَّد الواحد منهم بعد الآخر أن مُقترِف الجريمة هو الأبله، زميلهم الشحاذ ووصفوا بدقة تفاصيل الجريمة التي شاهدوا وقائعها بأعينهم.
وأشار المحقِّق من طرف خفي، فهجم رجال الشرطة، الذين كانوا يُرهفون سمعهم من وراء الباب، على الشحاذين يوسعونهم ضربًا ويدفعونهم نحو إحدى الردهات العارية من كل شيء، إلا من حبل غليظ يتدلى من سقفها.
وصرَخ أول المعذبين في محاولة محمومة للهرب من التعذيب بذكر الحقيقة: إنه الأبله! إنه الأبله يا سيدي! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله بحق الإله! الأبله، الأبله، الأبله! ذلك الأبله. الأبله. ذاك، ذاك، ذاك!
– لقد نصحوكم أن تقولوا لي ذلك. ولكن هذه الأكاذيب لا تجدي معي! الحقيقة أو الموت! هل أنت عارف، أتسمَع؛ اعرف، إن لم تكن تعرف.
وانساب صوت المحقق كالدم السيال في سمع الشقيِّ الذي لم ينقطع عن الصراخ إذ هو معلق من أصابعه دون أن يستطيع وضع قدميه على الأرض: «إنه الأبله، الأبله هو. إنه الأبله بحق الإله! إنه الأبله! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله …»
وأعلن المحقق: «كذب!» ثم قال بعد فترة صمت: «هذا كذب، وأنت كاذب. سوف أذكر لك من قتل الكولونيل «خوسيه باراليس سونرينتي» ولنرَ إذا كنت تجسر على إنكار ذلك. سوف أذكر لك اسمهما، إنهما الجنرال «يوسبيو كاناليس» والمحامي «قابيل كارفاخال»!»
وتلا كلامه صمت جليدي، وبعده، وبعده، أنين، وأنين آخر بعد ذلك، ثم أخيرًا كلمة «أجل!» وحين أطلقوا الحبل ارتمى «فيودا» على الأرض دون حراك. وبدت وجنتا هذا الشحاذ الخلاسي غارقتين في العرق والأنين، كالفحم الذي بلَّلته مياه الأمطار. وتتالى بعده استجواب رفاقه الذين كانوا يرتجفون كالكلاب الضالة التي تقتلها الشرطة بالسم في الشوارع، وكلهم أمَّنوا على كلام المحقق، كلهم، عدا «الذبابة»؛ كان وجهه ينمُّ عن مزيج من الخوف والاحتقار. وعلقوه من أصابعه لأنه كان يؤكد وهو على الأرض، نصف مدفون — مدفون حتى وسطه كحال كلِّ مَن لا ساقين له — أن زملاءه يكذبون حين يُلقون تبعة الجريمة على شخصَين غريبَين عنهما، في حين أن المسئول الوحيد عنها هو الأبله.
والتقط المحقِّق الكلمة: مسئول! كيف تجسر على أن تقول إن أبلهَ مسئول؛ أترى كذبك؟ مسئول غير مسئول.
– فليردَّ هو على هذا الكلام.
فاقترح شرطي له صوت نسائي أن يَضربوه، بينما ساطه شرطي آخر على وجهه.
وصاح المحقِّق في الوقت الذي انهال السوط على وجه الرجل الكهل: قل الحق! الحق وإلا ستظلُّ معلقًا هكذا طوال الليل!
– ألا ترى أنني أعمى؟
– فلتُنكر إذن أن يكون القاتل هو الأبله.
– كلا؛ فهذه هي الحقيقة ولدى الشجاعة أن أقولها.
وفجرت ضربتان من السوط الدماء من شفتيه …
– إنك أعمى ولكن … اسمع، فلتَقُل الحقيقة، اعترف كزملائك!
– «وهو كذلك!»
وافق «الذبابة» بصوت مُنطفئ. واعتقد المحقق أنه كسب الجولة.
– وهو كذلك أيها الأخرق.
– إنه الأبله …
– أيها الأحمق!
بيد أن شتيمة المحقق لم تَجِد صدى في آذان هذا النصف مخلوق الذي لن يسمع شيئًا بعد ذلك. وحين أطلقوا الحبال، سقطت جثة «الذبابة» — أي الجذع، فقد كان جسدُه دونما ساقين — على الأرض كالبندول المكسور.
وصاح المحقق وهو يمر بجانب الجثة: «أيها الكذوب العجوز، لم يكن اعترافك بنافع لنا؛ فقد كنت أعمى!»
وجرى ليُطلع السيد الرئيس على الخطوات الأولى للتحقيق، واستقل عربة يقودها جوادان هزيلان، وتضيء فوانيسها عيون الموت ذاته. وألقت الشرطة بجثة «الذبابة» في عربة للقمامة ابتعدت به ناحية المقابر. وبدأت الديكة في الصياح. وعاد الشحاذون الذين أُطلِقَ سراحُهم إلى الشوارع. وكانت الصماء البكماء تبكي من الخوف؛ لأنها تشعر بطفل يتحرك في أحشائها.