ذئاب من نفس النوع
لم تكفِ جميع الدموع التي سحَّها «خينارو روداس» لمحو التعبير الذي بدا في عيني الأبله وهو يحتضر، من ذاكرته، وها هو يقف الآن أمام المدعي العسكري العام مطأطئ الرأس، وقد انطفأت فيه آخر ذبالة من الشجاعة من جراء ما حلَّ بأسرته من مصائب، ومن جراء حالة القنوط التي تبسط ظلَّها على من يفقد حريته حتى لو كان أشجع الشجعان. وأصدر المدعي العام أوامره بفكِّ قيودِه، وقال له أن يقترب، بلهجة من يخاطب خادمًا.
وقال له بعد صمت طويل كاد يكون اتهامًا: يا ولدي، إني أعرف كل شيء، وما أسألك إلا لكي أسمع من شفتَيك كيف مات ذلك الشخاذ في «رواق الرب».
فسارع «خينارو» يقول: ما حدث … ثم توقف كأنما هو خائف مما سيقوله.
– أجل، ماذا حدث يا ولدي؟
– آهٍ يا سيدي، بحق الإله لا تمسني بسوء، بحق الرحمة يا سيدي!
– لا تخف يا ولدي. إن القانون قد يعامل المُجرمين الأشرار بقسوة، ولكن ليس ولدًا طيبًا مثلك. لا تقلق وقل لي الحق.
– أوه، إني أخاف أن تُنزلوا بي سوءًا.
وكان يتلوى بطريقة مسترحمة وهو يتكلم، كأنما يدافع عن نفسه من خطر يطوف في الهواء من حوله.
كلا، كلا، هيا الآن.
– ما حدث؟ كانت تلك الليلة — أنت تعرفها — الليلة التي رتَّبت فيها مقابلة «لوسيو فاسكيز» عند الكتدرائية وتوجهت إلى هناك عن طريق الحي الصيني. كنت يا سيدي أبحث عن عمل وكان لوسيو قد أخبرني أن بوسعه الحصول على وظيفة في الشرطة السرية. تَقابلنا كما قلت، وكانت التحية والسلام والسؤال عن الأحوال، ثم طلب منِّي ذلك الرجل أن نتناول كأسًا في بار يقع على مبعدة خطوات وراء «ميدان السلاح» اسمه «صحوة الأسد». ولكن الكأس أصبح اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة، وباختصار …
فوافق المدَّعي العام قائلًا وهو يَلتفت ناحية الكاتب ذي الوجه المليء بالنمش الذي كان يكتب أقوال المتهم: أجل، أجل، باختصار.
– حسنًا إذن، كما ترى، ظهر أنه لم يتمكَّن من الحصول على تلك الوظيفة في الشرطة. فقلت له إن هذا لا يهم. ثم، آه، أجل أني أذكر، لقد دفع هو ثمن المشروبات. وبعد ذلك، خرجنا نحن الاثنين مرة أخرى إلى «رواق الرب» حيث كان على لوسيو نوبة الحراسة هناك، كما أخبرني، إذ كان عليه أن يبحث عن رجل أخرس مصاب بالسعار ويجب قتله. وعلى هذا قلت له: «سأعود إلى منزلي». وحين وصلت إلى الرواق، كنت وراءه بخطوات. وعَبَرَ الطريق ببطء، بيد أنه حين وصل إلى مدخل الرواق، رأيته يخرج ثانية جاريًا. وخرجت خلفه، معتقدًا أن ثمة شخصًا يطاردنا. وأمسك فاسكيز بشيء إلى جوار الحائط — كان هو ذلك الأخرس، الذي أخذ في الصراخ كأنما الحائط قد سقط على أم رأسه حين شعر بوقوعه في الأسر. ثم جذب فاسكيز مسدَّسه ولم يَنطق بكلمة بل أطلق عليه النار، ومرة أخرى. آه، كلا يا سيدي، لم أكن أنا الذي قتلته، لا تمسوني بسوء، إني لم أقتله. كنت أبحث فحسب عن وظيفة يا سيدي، فهل ترى ما حدث من جراء ذلك؟ كان من الأفضل لي أن أبقى نجارًا، ماذا حدث لي كيما أود أن أصبح رجل شرطة.
ومرةً أخرى، وقعت نظرات المدَّعي العام الباردة على عيني روداس. ثم ضغط على جرس أمامه، صامتًا ودون أن يغير التعبير المُرتسم على وجهه. وسمع صوت وقع أقدام، وظهر عند الباب عدة حراس يتقدَّمهم رئيسهم.
– أيها الرئيس، يجلد هذا الرجل مائتي جلدة.
ولم يتغيَّر صوت المدعي العام أدنى تغيير حين كان يصدر أمره بذلك، كما لو كان مدير أحد البنوك يصدر تعليماته بصرف مائتي بيزو إلى أحد العملاء.
ولم يفهم «روداس» شيئًا. ورفع رأسه وتطلع إلى الزبانية الحفاة الذين كانوا في انتظاره. وزادَت حيرته حين رأى وجوههم الهادئة الجامدة الخالية من أيِّ تعبير عن الدهشة. وحوَّل الكاتب وجهه المليء بالنمش وعينيه الجامدتين نحوه. وقال رئيس الحراس شيئًا للمدعي العام. وقال المدعي العام شيئًا لرئيس الحراس. لم يسمع كلامهما، ولم يفهم ما كان يجري حوله. ولكنه شعرَ وكأنه على وشك أن يتبرز في ملابسه حين صرخ رئيس الحراس فيه بأن يذهب إلى الحجرة المجاورة، وهي صالة طويلة ذات سقف مقبب، وأعطاه لكزة وحشية في صدره حين وصل إلى متناول يده.
وحين دخل السجين الآخر، «لوسيو فاسكيز»، الحجرة، كان المدعي العام لا يزال يتفجَّر سخطًا على روداس: لا فائدة من معاملة هذا النوع معاملة حسنة! إن ما يحتاجون إليه هو العصا، ثم العصا.
ورغم أن فاسكيز قد شعر أنه في وسط أهله، إلا أنه لم يكن يثق فيهم بأيِّ حال، خاصة حين سمع ملاحظة المدَّعي العام. إن وجود أية علاقة له بهروب الجنرال كاناليس، حتى ولو ضد رغبته، تهمة خطيرة للغاية، ويا لشدَّ ما كان حمقه!
– اسمك؟
– لوسيو فاسكيز.
– هل ولدت هنا؟
– هنا.
– في السجن؟
– كلا، طبعًا لا. في العاصمة.
– متزوج أم أعزب؟
– أعزب طول عمري.
أجب عن الأسئلة بلياقة! المهمَّة أو الوظيفة؟
– موظَّف حكومي.
– هل اعتقلت؟
– أجل.
– بأي تهمة.
– القتل أثناء الخدمة.
– سنك؟
– ليس لي سن.
– ماذا تعني بألا سنَّ لك؟
– لا أعرف كم سني، ولكن أكتُب خمسًا وثلاثين إذا كان لا بد وأن تكون لي سن! — ماذا تعرف عن مقتل الأبله؟
وجه المدعي العسكري العام ذلك السؤال إلى السجين في الصميم وهو يتطلَّع إلى عينيه مباشرة؛ بيْد أن كلماته، على عكس ما كان يتوقع، لم تخلق أي تأثير على معنويات فاسكيز، الذي ردَّ بصورة طبيعية وهو يكاد يحسُّ بالرضا الكامل: «إن ما أعرف عن مقتل الأبله هو أنني قتلته بنفسي.» ثم كرَّر ما قاله مشيرًا بيده إلى صدره حتى لا يبقى هناك أي شك في الأمر: «أنا قتلته!»
وزأر المدعي العام قائلًا: وهل تأخذ هذا الأمر هكذا على محمل المزاح، أو أنك من الجهل بحيث لا تدرك أن هذا قد يكلفك حياتك؟
– ربما …
– ماذا تعني بربما؟
ومرَّت برهة على المدعي العام لم يعرف خلالها ماذا يفعل؛ فقد أحس بالارتباك من الهدوء الذي يتملك فاسكيز، ومن صوته المشابه لصوت الجيتار، وعينَيه الحادتين. واتجه إلى الكاتب كيما يكسب وقتًا.
– اكتب … وأضاف في صوت مرتعد: اكتب أن لوسيو فاسكيز يقرر أنه قتل الأبله، بالاشتراك مع خينارو روداس.
فتمتم الكاتب من بين أسنانه: لقد كتبت ذلك بالفعل.
فقال فاسكيز بهدوء، برنة صوت فيها شيء من المزاح جعل المدعي العام يعض شفتيه: إني أرى أن الأستاذ لا يعرف الكثير عن هذا الأمر. ماذا يعني ذلك القرار؟ إن أي شخص بإمكانه أن يرى أنني لم ألوِّث يدي من أجل أبله سائل اللعاب …
– احترم المحكمة، وإلا سأكسر دماغك!
– إن ما أقول في صميم الموضوع. أقول لك إنني لست من الحماقة بحيث أقتل ذلك الأبله لمجرَّد القتل؛ ذلك أنني فعلت ما فعلت بناءً على أوامر صريحة من السيد الرئيس.
– اخرس أيها الكاذب … ها … ستكون مهمتنا سهلة إذا …
ولم يكمل عبارته؛ لأنَّ حراس السجن دخلوا في تلك اللحظة يجرون «روداس» وقد تدلَّت ذراعاه، وقدماه تَكنسان الأرض، كالخرقة، أو كوشاح مصارع الثيران.
وسأل المدَّعي العام الرئيس الذي كان يبتسم للكاتب وسوطه معلق حول عنقه كذيل القرد: كم أعطيتموه؟
– مائتين.
– حسنًا …
وأسرع الكاتب إلى نجدة المدعي العام، فتمتم وهو يدمج الكلمات في بعضها حتى لا يسمعه الآخرون: يجب إعطاؤه مائتين أخريين.
وعمل المدَّعي العام بنصيحته: «أجل أيها الريس، أعطه مائتين أخريين إلى أن أفرغ من هذا الولد.»
وجال في خاطر فاسكيز: «يا لأعصابه … أجل إنَّ هذا ما هو منتظر من شيخ مثله، وجهه كمقعد الدراجة!»
وعاد الحراس أدراجهم يجرون حملهم البائس يتبعهم رئيسهم. وألقوا به على حشية في ركن الحجرة حيث يُنفذون العقوبة. وأمسك أربعة منهم بيديه وقدميه، بينما أخذ الآخرون يَضربونه، ورئيسهم يحسب العدد. وتقلَّص جسد روداس مع الضربات الأولى، بيد أنه كان قد فقد قواه الآن ولم يعد يستطيع الجهاد ولا الصراخ من الألم كما فعل حين ضربوه في المرة الأولى منذ دقائق. وعلقت قطرات جامدة من دماء الجروح التي خلفتها دورة الضرب الأولى، بعصا الخيزران الرطيبة المرنة ذات اللون الأصفر المُخضَوضِر. وكانت آخر شكواه صرخات مخنوقة كالحيوان الذي يُحتضَر دون أن يحسَّ بآلامه. ودفن وجهه في الحشية وقد تقلصت قسماته وتهوش شعره. واختلطت صرخاته الثاقبة مع لهثات الحراس الذين كان رئيسهم يُعاقبهم بسوطه كلما تهاونوا في الضرب.
– «إن مهمتنا تكون سهلة يا لوسيو فاسكيز إذا أطلقنا سراح أي مواطن يرتكب جريمة حين يؤكد بأنها بأوامر من السيد الرئيس! ما هو البرهان؟ إنَّ السيد الرئيس ليس مجنونًا كيما يصدر أمرًا كهذا. أين هي الورقة التي يذكر فيها أنه أمرك بفعل ما فعلت ضد هذا البائس بمثل هذه الطريقة المجرمة الجبانة؟»
وشحب وجه فاسكيز، وبينما كان يبحث عن رد، وضع يديه المرتعشتين في جيبي بنطاله.
– إنك تعلم أنه أمام المحاكم يجب أن تدعم أقوالك بالوثائق، وإلا فماذا يكون الوضع؟ أين هو ذلك الأمر؟
– حسنًا، انظر، إنه ليس معي الآن. لقد أعدته لا بد أن يكون السيد الرئيس على علم بذلك.
ما هذا؟ ولماذا أعدته؟
– لأن الأمر كان مذيلًا بعبارة تنصُّ على أنه يجب إعادته بعد التنفيذ! لم يكن مسموحًا لي بالاحتفاظ به … أظنُّ أنك تفهم.
– ولا كلمة … ولا كلمة زيادة! إنك تحاول خداعي بكلامك عن الرئيس. أيها اللص، إني لست طفلًا لا أزال في المدرسة حتى أصدق كلامًا فارغًا كهذا أيها الوغد! إنَّ إقرار المرء شيء، والدليل عليه شيء آخر، إلا في الحالات التي يُحدِّدها قانون العقوبات، ومنها شهادة رجال الشرطة التي تقوم مقام الدليل القاطع. ولكني لستُ بصدد إلقاء محاضَرة عليك عن قانون العقوبات. هذا يكفي، يكفي؛ لقد قلت ما فيه الكفاية.
– حسنًا، إذا لم تكن تُريد أن تصدقني، اذهب واسأله، ربما ستصدق ما يقوله لك. ربما لم أكن معك حين اتهم الشحاذون الأبله …
– اخرس، وإلا أمرت بضربك! يا للمهزلة إذ أتصور نفسي ذاهبًا لسؤال السيد الرئيس! … إن ما أقوله لك يا «فاسكيز» إنك تعلم عن الموضوع أكثر مما يحق لك، وإن رأسك في خطر!
وأحنى «لوسيو» رأسه كأنما قد قطعتها كلمات المدير العام. وكانت الرياح تزأر في غضب على نوافذ الحجرة.