دار الدعارة
– تعالي هنا يا فتاة …
– ولماذا هنا وليس هناك …
– ماذا دهاك؟
– دهاني ما دهاني …
وصرخت ذات السنِّ الذهبية في الفتيات: اصمتْن حالًا، اصمتن، ما هذا؟ منذ يبزغ الفجر وهن هنا يتحادثن ويتشاجرن؛ إنهن كالحيوانات التي لا تفهم.
وكانت صاحبة الفخامة تَرتدي بلوزة سوداء وتنورة أرجوانية، جالسة تهضم عشاءها في مقعد من الجلد وراء نضد البار.
وبعد برهة، وجَّهت كلامها إلى خادمة ذات بشرة نحاسية وضفائر مجدولة لامعة: «بانتشا»، اذهبي وقولي للفتيات أن يأتين إلى هنا، فهذا لا يصح، فالزبائن قد يحضرون في أي لحظة، ولا بدَّ أن يكن هنا جاهزات ينتظرن! دائمًا عليَّ أن أكون وراءهن في كل شيء!
ودخلت فتاتان تجريان إلى الغرفة لا تَرتديان في أقدامهن إلا الجوارب.
– كفى ضجيجًا يا «كونسيلر». آه. يا لهما من جميلتين صغيرتين! انظر إلى لعبهما! واسمعي يا «أدلايدا» — «أدلايدا»، إنني أتحدث إليك — إذا حضر الميجور من الأفضل أن تخلعي عنه سيفه مقابل ما عليه من ديون لنا. كم بلغت ديونه أيها القرد العجوز؟
فرد البارمان: تسعمائة بالضبط، بالإضافة إلى ستة وثلاثين أعطيتها له بالأمس.
– إنَّ السيف لا يُساوي كل هذا، حتى ولو كان من ذهب، ومع ذلك فإنه أفضل من لا شيء. «أدلايدا»، إنني أتحدَّث إليك لا إلى الحائط!
فردَّت «أدلايدا» بين ضحكة وأخرى: أجل يا سيدة «تشون»، أجل إني أسمعك.
ثم واصلت لعبها مع رفيقتها التي كانت قد أمسكتها من شعرها.
وجلست تشكيلة النساء اللائي تعرضُهنَّ دار «النشوة اللذيذة» هنا وهناك على الأرائك القديمة صامتات. كان هناك من كل نوع: سمينات، نحيفات، متقدمات في السن، شابات، طويلات، قصيرات، مراهقات، وديعات، نفورات، شقراوات، حمراوات الشعر، سوداوات الشعر، صغيرات العين، واسعات العين، بيضاوات، سمراوات، خلاسيات. ورغم أن كل واحدة كانت تختلف عن الأخرى، فقد يبدون جميعًا متشابهات، فقد كانت رائحتهن واحدة، تفوح منهن رائحة الرجل، كلهن الرائحة اللاذعة للمحار العتيق. وكانت أثداؤهن تترجرج هنا وهناك داخل قمصانهن القطنية الصغيرة الرخيصة، كأنها تكاد تكون سائلة. وحين يجلسن في استرخاء منفرجات الفخذ، فإنهن يُبنَّ عن سيقان نحيلة كمواسير تصريف المياه، وأربطة جوارب زاهية اللون، وسراويل إما حمراء مطرَّزة بشريط أبيض، أو وردية خفيفة مطرزة بشريط أسود.
كان انتظار الزبائن يملؤهنَّ بالقلق. كنَّ يَنتظرن كالمهاجرين، وفي عيونهن تعبير حيواني، يَجلسن في مجموعات أمام المرايا. ويعمد بعضهن دفعًا للضجر، إلى النوم، والبعض إلى التدخين، بينما يأكل البعض حبات النعناع، ويُحصي البعض بقع بقايا الذباب على الورق الأزرق والأبيض الذي يُزيِّن السقف. كانت المتعاديات منهنَّ يتشاجرن، بينما الصديقات يُلاطفن بعضهن بعضًا في وهن وقلة حياء.
وكن لهن جميعًا تقريبًا ألقاب غير أسمائهن؛ فالفتاة ذات العينين الواسعتين تُدعى الغزالة، فإذا كانت قصيرة فهي الغزالة القصيرة، وإذا كانت متقدِّمة في السن مُمتلئة فهي الغزالة الكبيرة. أما الفتاة ذات الأنف المرتفع إلى أعلى فهي الرومانية، والسَّمراء هي الأسمرانية، والخلاسية: الداكنة، والفتاة ذات العيون المائلة: الصينية، والشقراء: قطعة السكَّر، والفتاة التي تتكلَّم بصعوبة: المُتهتهة.
وإلى جانب هذه الألقاب العامة، كانت هناك أيضًا ألقابُ الناقهة، والخنزيرة، وذات القدم المفلطحة، وذات اللسان الذي يَقطر عسلًا، والقردة، والدودة الشريطية، والحمامة، والقنبلة، والجبانة، والطرشاء.
وكان بضعة رجال يفدون في الساعات الأولى من الليل ليتسلوا بعض الوقت بأحاديث العشق مع أي من الفتيات غير المنشغلات وتقبيلهن ومداعبتهن مداعبات ثقيلة. كانوا دائمًا متحذلقين مُفلسين. وكانت السيدة «تشون» تتوق إلى طردِهم؛ لأنهم قد اقترفوا في نظرها جريمة، هي أنهم فقراء، ولكنها كانت تتحمَّلهم إكرامًا «للملكات». يا للملكات المسكينات! إنهن قد علقن بهؤلاء الرجال — الذين يستغلونهنَّ مقابل الحماية ويخدعونهن باسم الحب. انطلاقًا من تَوقهن للحب والإحساس بوجود رجل يتملَّكنه.
وكان بعض الصبية يَحضُرون أيضًا في مطالع الليل. كانوا يأتون يرتعدون، لا يكادون يَقدرون على الكلام، يتحركون في وجل كالفراشات زائغة البصر، ولا يستردُّون أنفاسهم إلا بعد أن يخرجوا إلى الطريق. صيد سهل. طائعون لا يُخادعون؛ «مساء الخير»، «لا تنسيني». وبدلًا من الإثم والاستئساد اللذَين يدخلون بهما إلى الماخور، يخرجون بمذاق كريه في أفواههم، وذلك الخور اللذيذ الناتج عن الضحك مع امرأة والتقلُّب في أحضانها. آه، ما أحلى الابتعاد عن هذا المنزل العفن! ويستنشقون الهواء كما لو كان عشبًا ناضرًا زاهرًا، ويحدقون في النجوم كأنما هي تعكس قوتهم وفتوتهم.
وبعد ذلك يتقاطر على المنزل الزبائن الجادون: رجل أعمال محترم، متحمِّس مُستدير البطن وقدر هائل من اللحم يحيط بتجويف صدره؛ ثم موظف في أحد المحلات يضم الفتيات إليه كما لو كان يقيس القماش بالمتر، بعكس الطبيب الذي يبدو كما لو كان يفحص صدورهنَّ بالسماعة، وصحافي يترك دائمًا شيئًا وراءه كرَهنٍ حتى ولو كان قبَّعته. ومحامٍ يُشبه القط وزهرة الجيرانيوم في آنٍ واحد بمظهرِه ووداعته المبتذَلة غير المريحة. وريفي ذو أسنان بيضاء كالحليب. وموظَّف حكومي محني الكتفين غير جذاب للنساء، وتاجر بَدين، وصانع يعبق برائحة جلد الماشية. والثري الذي يتلمَّس بين حين وآخر محفظته وساعته وخواتمه. وكيميائي يفوق الحلاق تحفُّظًا وإن كان يقلُّ عن طبيب الأسنان أدبًا.
ومع انتصاف الليل تكون الحجرة في حالة هياج وفوران. فالرجال والنساء يَستخدمون ألسنتَهم لإذكاء عواطف الآخرين. قبلات. تلاق شهواني للأجساد والرضاب، بالتناوب مع العض، استئمان مع ضربات، ابتسامات مع قهقهات مفاجئة فجَّة، فرقعة فلينة زجاجات الشمبانيا مع فرقعة الرصاص حين يكون حاضرًا شجاع مخمور.
وصاح رجل مُسنٌّ وهو يَرتكِز بمرفقَيه على منضدة، وعيناه تطوفان هنا وهناك، وقدماه تتحرَّكان في قلق، وشبكة من العروق نافرة في جبهته المتوهجة: «هذه هي الحياة حقًّا!»
وزاد حماسه فسأل واحدًا من ندمائه: هل أستطيع الذهاب مع تلك المرأة هناك؟
– لِمَ لا أيها الشيخ، إنهن هنا لهذا الغرض.
– وتلك الأخرى التي هناك، إنني أفضلها.
– حسنًا، بإمكانك الذهاب معها أيضًا.
وكانت ثمة فتاة سمراء تعبر الحجرة عارية القدمين على نحو مُثير.
– وتلك التي تسير هناك؟
– أي واحدة؟ الخلاسية السمراء؟
– ما اسمها؟
– «أدلايدا»؛ إنهم يُلقبونها بالخنزيرة. ولكني لم أكن لأذهب معها، لأنها فتاة الميجور «فارفان». أظن أنه يحتكرها.
ولاحظ الشيخ في صوت خفيض: الخنزيرة! انظر كيف تُلاطفه!
كانت الفتاة تستغل كل فنون احتيالها كيما يفقد الميجور عقله؛ فهي تُحدِّق إليه عن قرب بعينيها الساحرتين، اللتين زادهما التكحل جمالًا، واستنفدت قواه بشفتَيها الممتلئتين ولسانها، كأنما هي تلصق طوابع بريد، وبثقل ثدييها الدافئن وبطنها الرخو.
وهمست «الخنزيرة» في أذن الميجور فارفان: «اخلع عنك هذا العبء.» ثم خلعت عنه السيف دون انتظار جوابه، وأعطته للبارمان.
ومرَّ قطار من الصيحات بأقصى سرعة عبر الحجرة من خلال أنفاق كل آذان الحاضرين فيها، وواصل سيره مسرعًا …
كان الأحباب يَرقصون اثنين اثنين على وقع الموسيقى وخارج وقعها، بحركات حيوانات ذات رأسين. وكان ثمة رجل قد صبغ وجهه كالنساء يعزف على البيانو. كان فمه والبيانو على السواء ينقصهما بعض الأسنان. وكان يرد على من يسأله لماذا يصبغ وجهه: «لأنني لعوب، لعوب بصورة فظيعة، وفي غاية الرقة.» ويُضيف كي يترك أثرًا أفضل لدى سامعيه: «إن أصدقائي ينادونني «بيب» أما الفتيان فيُسمُّونني «البنفسجة». وأنا أرتدي قميصًا رياضيًّا مقوَّر الصدر، رغم أنني لا ألعب التنس، كيما أظهر صدري الناعم، وأضع «مونوكلا» لزوم الأناقة، وسترة من الفراك لأنني شارد الذهن. وأستخدم الأصباغ وأحمر الشفاه (آه، ما أشد شرور الناس الذين يسيئون الظن) كيما أُخفي بثور الجدري من على وجهي، فهي هناك وستبقى هناك كقصاصات الكرنفال الورقية. أوه، حسنًا، لا أهمية لذلك، لأنني قد تعودت عليه!»
ومر بالحجرة قطار من الصيحات بأقصى سرعة. وتحت عجلاته القاطعة، بين الكباس والتروس، رقَدَت امرأة مخمورة تتلوَّى ألمًا، ووجهها بلون نخالة الخبز. كانت تَضغط بيديها على حقويها في حين سالت دموعها فأزالت الأصباغ من على وجنتَيها وشفتيها: آه يا مبايضي! آه يا مبايضي! آه يا مبااااايضي! آه … مبايضي! آه … مبايضي، آه!
وهرع كل شخص، عدا أولئك المخمورين إلى درجة لا تمكنهم من الحركة إلى الانضمام للمجموعة التي تحلقت لترى ما يحدث. وفي الفوضى التي ضربت أطنابها في المكان، حاول الرجال المتزوِّجون أن يروا ما إذا كان أحد قد هاجم المرأة، حتى يكون بإمكانهم الهرب قبل أن تأتي الشرطة، في حين لم ينظر الآخرون إلى الأمر بهذه الخطورة وجروا هنا وهناك حتى يحتكوا بالفتيات وسط الهرج والمرج.
وكانت المجموعة تتزايَد حول المرأة التي رقدت تتلوى وترتجف وعيناها تدوران في محجريهما، بينما تدلى لسانها إلى خارج فمها. وفي قمة الأزمة، انخلعت أسنانها الصناعية، وسرى هياج محموم بين النظارة، بينما تعالت ضحكة حين سقطَت أسنانها فجأة على الأرض العارية.
ووضعت السيدة «تشون» حدًّا لهذا المشهد الشائن. كانت مشغولة هناك في الداخل وهرعت للمساعدة كالدجاجة السمينة التي تقاقي خلف فراخها؛ وأمسكت بالمرأة المسكينة من أحد ذراعيها ومسحت بها الأرض وهي تجذبها حتى المطبخ، حيث تعاوَنت معها «مانويلا» في وضعها في مخزن الفحم، بعد أن عاجلتها الطباخة ببعض ضربات من السيخ الحديدي.
واستغل الشيخ الذي أغرم بالخنزيرة الفوضى التي دبت فانتزعها من الميجور، الذي كان مخمورًا جدًّا لدرجة لم يشعر معها بأي شيء. وصاحت ذات السن الذهبية حين عادت من المطبخ: يا لها من كلبة قذرة، هه، أيها الميجور «فارفان». إن مبايضها لا تؤلمها حين يحين وقت الأكل والنوم طوال اليوم؛ إن ذلك مثل الجندي الذي يشعر عند بداية المعركة بالذات بآلام في …!
وغرقت عبارتها في انفجار ضحكات مخمورة. كانوا يضحكون كأنما يبصقون عسلًا مخلوطًا بـ «الأنيس». وفي هذه الأثناء، تحولت السيدة «تشون» إلى البارمان وقالت له: لقد أردت أن أستعيض عن هذه المتوحِّشة العنيدة بالفتاة الجميلة التي أحضرتها من سجن «كاسانويفا» أمس. يا للخسارة إنها قد راحت من بين يديَّ!
– آه، أجل، إنها كانت فتاة رائعة!
– لقد قلت للمحامي إن عليه أن يَحمل المدَّعي العسكري العام على إعادة نقودي لي. لن يستوليَ ابن العاهرة هذا على العشرة آلاف بيزو التي أعطيتها له. لستُ أنا من يفعل معها ذلك، هذا المجنون!
– إنك على حق تمامًا. ولكنِّي علمت أن ذلك المحامي ليس فوق مستوى الشبهات.
– إنهم كلهم جماعة من المُجرمين القذرين!
– وهو بارع جدًّا في أساليب المساومة!
– قل فيه ما تشاء. ولكني أعدك بشيء واحد: لن يَلدغني المدَّعي العام مرتَين. لو أنه يظنُّ أن بإمكانه أن «يلهف» النقود مني هكذا …!
ولم تُكمِل عبارتها واتجهت إلى النافذة لترى من يَطرق الباب. وصاحت بصوت عالٍ للرجل الواقف على الباب، يستحمُّ في ضوء القنديل الأرجواني، ولفاعُه مرفوع حتى عينَيه: «يا لجميع الملائكة القدسيِّين! تحدث عن الشيطان تره!»
ثم توجهت دون أن ترد على تحيتِه كي تخبر البوابة أن تفتح الباب على الفور.
– أسرعي وافتحي الباب يا «بانشا». أسرعي! افتحي بسرعة، إنه السيد «ميغيل»!
كانت السيدة «تشون» قد عرفته بحدسها الفائق وأيضًا من عينيه الشيطانيتَين.
– حسنًا، يا لها من معجزة!
وبينما كان ذو الوجه الملائكي يُحييها، جال بعينيه في الحجرة، واطمأنَّ حين رأى شخصًا قابعًا عرف فيه الميجور «فارفان»، وثمة خيط من اللعاب يسيل من فمه المفتوح.
– معجزة كبرى؛ لأنه ليس من عادتك أن تزورَنا نحن البسطاء.
– كلا يا سيدة «تشون»، لا تقولي ذلك.
– لقد جئت في وقتك. إنني كنت أتضرَّع لتوِّي للقديسين كيما يساعدوني في ورطة وقعت فيها، ولقد أرسلوك لي!
– حسنًا، إنني دائمًا تحت أمرك كما تَعلمين.
– شكرًا. سأَحكي لك عن ورطتي، ولكن يجب أولًا أن تشرب شيئًا.
– لا تُتعبي نفسك …
– ليس هناك من تعب. كأس صغير ليس إلا، كأس صغير مما تُحب، مما تريد. برهان على حسن النية! كيف تُريد الويسكي؟ ولسوف أقدِّمه لك في جناحي الخاص؛ تعال معي.
وكان جناح ذات السن الذهبية مُنفصلًا تمامًا عن بقية الدار، وبدا كأنه عالم بحاله. مَناضد، صوانات بأدراج، بوفيهات، كلها مزدحمة باللوحات والتماثيل والصور والآثار الدينية. وكانت ثمة لوحة للعائلة المقدَّسة تلفت الأنظار بحجمها الهائل والمهارة التي رسمت بها. كان يسوع الطفل في طول زنبقة بيضاء، وكان ما ينقصه أن يتكلم. وكان على الجانبين صورة رائعة للقديس يوسف مع العذراء في رداء مرصَّع بالنجوم. وكانت العذراء مزدانة بالجواهر، في حين يرفع القديس كأسًا مرصعة بياقوتتين، كل منهما تساوي ثروة. وفي داخل صندوق زجاجي، كان ثمَّة تمثال ليسوع أسمر البشرة يحتضر، مُغطى بالدماء، وفي صندوق زجاجي آخر عريض محاط بالأصداف كان ثمة تمثال للعذراء صاعدة إلى السماء — وهي تقليد بالنحت للوحة «موريللو» المشهورة. وكان أثمن شيء في التمثال هو الأفعى المصنوعة من الزمرد، التي تقعي عند قدمي العذراء. وبين الصور المقدسة كانت هناك لوحات للسيدة «تشون» (والاسم تصغير لاسمها الحقيقي وهو «كونسبسيون») في سن العشرين، حين كان ثمة رئيس للجمهورية تحت قدميها، عارضًا عليها أن يأخذها إلى «باريس»، فرنسا، وكذلك قاضيان من قضاة المحكمة العليا، وثلاثة جزارَين يتقاتلون بالسكاكين في أحد المهرجانات من أجلها. وفي أحد الأركان، بعيدًا عن الأنظار، صورة لمن صمد من عُشاقها، وهو رجل كثيف الشعر، انتهى به الأمر أن أصبح زوجًا لها.
– اجلس هنا على الأريكة يا سيد «ميغيليتو»، ستكون مرتاحًا هناك.
– إنك تعيشين عيشة هنية يا سيدة «تشون».
– إني أعمل على راحتي …
– إن المكان، كالكنيسة …
– لا تهزأ بي، لا تسخر من قديسيَّ.
– وماذا تريدين مني؟
– اشرب كأسك أولًا.
– حسنًا جدًّا، في صحتك.
– في صحتك يا سيد ميغيليتو. وأرجو أن تَغفر لي عدم شربي معك؛ إذ إن معدتي ليست على ما يرام. ضع كأسك هنا، على هذه المنضدة الصغيرة. هنا، ناولني إياه.
– شكرًا.
– حسنًا؛ كنت أقول يا سيد «ميغيليتو» إنني في ورطة شديدة ويُسعدني أن أسمع نصائحك، ذلك النوع الذي يُمكنك وحدك أن تسديها لي. لقد حدث أن أصبحت إحدى النساء التي لديَّ هنا لا نفع فيها فجأة، لذلك فقد أخذت أبحث عن غيرها. وقال لي أحد أصدقائي إنَّ ثمة سجينة في «كاسا نويفا» موضوعة هناك بأمر من المدَّعي العام، فتاة جميلة هي ما أبتغي بالضبط. حسنًا، إني أعرف ما يجب عمله، لذلك فقد ذهبت مباشرة إلى محامي — السيد «خوان فيداليتاس» — الذي سبق أن تحصَّل على بعض النسوة لداري، وجعلته يُحرِّر لي خطابًا مناسبًا للمدَّعي العسكري العام، عارضة عشرة آلاف بيزو ثمنًا لها.
– عشرة آلاف بيزو؟
– أجل. ولم يكذب المدعي العام خبرًا، فقد أجابني على الفور أنه موافق، وحالما تسلم النقود (التي أحصيتها بنفسي أوراقًا نقدية من فئة ٥٠٠ بيزو على مكتبه) أعطاني أمرًا كتابيًّا لسجن «كاسانويفا» لتسليمي الفتاة التي أريدها. وقالوا لي هناك إنها سجينة لأسباب سياسية. يبدو أنهم قبضوا عليها في منزل الجنرال «كاناليس».
– ماذا تقولين؟
كان ذو الوجه الملائكي يُتابع قصة ذات السن الذهبية بعدم اكتراث، مرهفًا أذنيه للباب كيما يتأكد من عدم مغادرة الميجور «فارفان» للمكان دون علمه (ذلك أنه كان قد بحث عنه ساعات طويلة) ولكنَّه حين سمع اسم «كاناليس» بدا وكأن شبكة من الأسلاك الدقيقة قد نشرت فجأة أمامه. لا بدَّ أن هذه المرأة التعسة هي المربية «تشابيلا» التي ذكرتها كميلة في هذيانها المحموم.
– آسف أن أقاطعك … ولكن أين هذه المرأة الآن؟
– سوف آتي لذلك، ولكن دعني أكمل قصتي. أخذت أمر المدعي العام وذهبت بنفسي مع ثلاث فتيات لإحضارها من «كاسانويفا». لم أكن أريد أن يخدعوني ويعطوني أخرى أقلَّ منها شأنًا. وقد ذهبنا في عربة أخرى حتى نكون مستريحات. وهكذا وصلنا، وأعطيتهم الأمر، وفحصوه وقرءوه جيدًا، وأحضروا الفتاة، وسلَّموها لي، وباختصار، أحضرناها معنا هنا حيث كان الجميع في انتظارها وأحبُّوها لأول وهلة. كل شيء على ما يرام حتى الآن، هه، يا سيد ميغيليتو.
– وأين وضعتموها؟
كان ذو الوجه الملائكي يودُّ أن يأخذها من هنا في هذه الليلة ذاتها. وبدت له الدقائق أعوامًا إذ كانت هذه المرأة العجوز تحكي قصتها.
– إنكم جميعًا سواء أيها الشبان المُغرمون! ولكن دعني أكمل لك. بعد أن تركنا «كاسانويفا» لاحظت أن تلك المرأة ترفض أن تفتح عينيها أو أن تنطق حرفًا. كنا كأنما نتحدث إلى جدار صامت. ظننت أنها تلعب علينا لعبة أو شيئًا من هذا القبيل. والأدهى أنني لاحظت أنها كانت تحتضن رزمة في حجم طفل صغير بين ذراعيها.
واستطالت صورة كميلة في ذهن ذي الوجه الملائكي إلى أن انقسمت نصفين كحرف ثمانية، بالسُّرعة التي تنفجر بها فقاعة الصابون عند لمسها.
– طفل صغير؟
– أجل، واكتشفت طباختي «مانويلا كالفاريو كريستاليس» أن ما كانت المرأة التعسة تُهدهدُه بين ذراعيها هو طفل صغير ميت قد بدأ يتعفن. ونادتني فجريت إلى المطبخ وتعاونا نحن الاثنتين في انتزاعه منها بالقوة، ولكن ما كدنا نفتح ذراعيها — وقد كادت «مانويلا» أن تكسرهما — ونأخذ الطفل الميت منها حتى فتحت عينَيها على اتساعهما كالميت يوم القيامة، وأطلقت صرخة لا بد أنها وصلت حتى السوق، وسقطت سطيحة على الأرض.
– ميتة؟
– لقد ظنَّنا ذلك برهة. ثم جاءوا وأخذوها، ملفوفة في إحدى الشراشف إلى مستشفى القديس «خوان الإلهي». لم أكن أريد رؤية ذلك المنظر، فقد أرعبتني حالتها. وقالوا إن الدموع أخذت تنسال من عينيها المغلقتَين كأنها ذلك الفائض من المياه التي لا نفع فيها لأحد.
وتوقفت السيدة «تشون» لالتقاط أنفاسها ثم تمتمت: لقد سألت عنها الفتيات اللاتي كنَّ في زيارة للمُستشفى ذلك الصباح، ويبدو أنها في حالة سيئة. والآن، هذا هو ما يُقلقني، فكما يُمكنك أن تتصوَّر، لا يُمكنني أن أدع المدعي العام يحتفظ بالعشرة آلاف بيزو التي أعطيتها إياه، وإنني أفكر في طريقة أجعله يعيدها لي، فلماذا بحق السماء يستولي على ما هو حقي؟ لماذا بحق السماء؟ إنني أفضل ألف مرة أن أهب هذا المبلغ منحةً لدار الفقراء.
– يجب على محاميك أن يعيدَها لك، أما بشأن هذه المرأة المسكينة …
– تمامًا! ولقد ذهب مرتين اليوم … آسفة لمقاطعتك، لقد ذهب محامي فيداليتاس مرتين لمقابلته، مرة إلى بيته ومرة إلى مكتبه، وفي كل مرة قال نفس الشيء؛ إنه لن يُعيد لي شيئًا. ها أنت ترى كيف أن هذا الرجل لصٌّ حقير. إنه يقول لو أن بقرة نفقت بعد أن بيعت فإن الخسارة تقع على المشتري وليس على البائع. إنه يتحدث عن الناس كما لو كانوا حيوانات! هذا ما قال. أوه، حقًّا إنني أود أن …
كان ذو الوجه الملائكي صامتًا — من تكون هذه المرأة التي بيعت؟ من يكون ذلك الطفل الميت؟
وظهرت السن الذهبية للسيدة «تشون» وهي تقول متوعدة: آه، ولكن ما أنوي فعله هو أنني سأعطيه علقة لم ينلها في حياته، ولا من أمه. إذا سجنوني فسيكون لأمر رهيب. يعلم الله أن كسب العيش أمر شاق مع وجود هؤلاء الناس الذين يَسرقون المرء هكذا! عليه اللعنة ذلك الصعلوك العجوز. لقد قلت لهم بالفعل هذا الصباح أن يُلقوا طينًا من المقبرة على عتبة دار المدَّعي العام. سنرى إن كان ذلك يجلب عليه النحس.
– وهل دفنوا الطفل؟
– لقد أعددنا جنازًا له هنا في هذا البيت. إن الفتيات عاطفيات جدًّا. وقدمن فطائر الذرة …
– حفل كبير؟
– بالضبط!
والشرطة؟ ماذا فعلت؟
– لقد دفعنا كيما يُعطوننا شهادة وفاة. وفي اليوم التالي، دفنا الطفل في الجزيرة في كفنٍ جميل مُطرَّز بالساتان الأبيض.
– ألا تخافين وجود أقارب للطفل يُطالبون بالجثمان أو يَشكُون من عدم إبلاغهم بالأمر؟
– هذا يكون القشة التي تقصم ظهر البعير! ولكن … من ذا الذي سيطالب به؟ إن الأب «روداس» في السجن، والأم في المستشفى كما قلت لك.
وابتسم ذو الوجه الملائكي في سريرته؛ فقد انزاح حمل ثقيل من على نفسه. لا علاقة لذلك الطفل ولا تلك المرأة بكميلة.
– بماذا تنصحني يا سيد ميغيليتو؟ إنك ماهر جدًّا. كيف لي أن أمنع ذلك البخيل العجوز من الاحتفاظ بنقودي؟ إنها عشرة آلاف بيزو، أتذكر ذلك؟ إنه مبلغ ليس بالقليل!
– إن نصيحتي هي أن تذهبي لرؤية السيد الرئيس وتشتكي له. اطلبي مقابلةً وقُصِّي عليه الحكاية. وثقي أنه سيصحح الوضع؛ إذ إن ذلك من سلطته.
– هذا ما فكرت فيه، ولسوف أنفذه. سوف أرسل له غدًا برقية عاجلة أطلب مقابلته. ونحن أصدقاء قدماء لحسن الحظ. كان يُحبني حين كان لا يزال وزيرًا فحسب. لقد كان هذا منذ وقت طويل. كنت شابة وجميلة آنذاك، دقيقة الخصر كعود الخيزران، مثل تلك الصورة التي هناك. أتذكر أنني كنت أسكن حي «سيليتو» مع أمي — عليها رحمة الله — حين نقَر ببغاء عينها فأعماها، هلا سمعت عن مثل سوء حظ كهذا! لا بد أن أعترف أنني قد شويت ذلك الببغاء، وكنت سعيدة تمامًا بهذا، وأعطيته للكلب، وأكله ذلك الكلب الغبي وأصيب بالسعار لوقته. ولعلَّ أكثر ما أتذكره من تلك الأيام بهجة هو أنَّ البيت كان يقع في الطريق الذي يجب أن تمرَّ به جميع الجنازات في طريقها إلى المقبرة. وكانت الجثث تمر بنا على الدوام كل يوم. لقد كان هذا هو السبب الذي قطع لأجله السيد الرئيس علاقتَه بي إلى الأبد. لقد كان يَخشى الجنازات. أما أنا، فماذا يُهمُّني من ذلك؟ إنها ليسَت غلطتي. لقد كان كالطفل الصغير، رأسه مليء بالأوهام. كان يُصدِّق أي شيء يقوله له أي شخص، سواء بالخير أو بالشر. كنت في البداية حريصة عليه، واعتدتُ أن أواصل تقبيله طوال الوقت الذي تستغرقه الجنازات في المرور بمختلف ألوان النعوش أمام المنزل، حتى لا يلحظ مرورها. ولكني مللت من ذلك ولم أعد أفعله. كان أحب شيء إليه أن تلعق له إحداهن أذنه، رغم أن طعمها يكون كريهًا أحيانًا. إن بإمكاني أن أراه الآن، جالسًا حيث أنت جالس، ومنديله الحريري الأبيض معقود بعناية وإحكام حول عنقه، وقبعته العريضة، وغطاء حذائه بحوافه الوردية، وحلته الزرقاء.
– وبعد ذلك، أظن أنه لا بد وكان قد أصبح رئيسًا للجمهورية بالفعل حين كان شاهدًا على عرسك؟
– كلا، بالمرة. إن المرحوم زوجي — رحمه الله — لم يكن يهتم بمثل هذه الأشياء. وكان يقول: إنَّ الكلاب وحدها هي التي تحتاج إلى شهود وأناس تحملق فيها حين تتزوَّج، ثم ينطلق العروسان وخلفهما شريط من الكلاب الأخرى، وكلها سائلة اللعاب متدلية الألسن …