في طريق المنفى
تعثَّر بغل الجنرال «كاناليس» في ضوء الغسق الخافت، وقد أسكره التعب الذي يرزح فيه تحت الثقل المُصمت للراكب الذي يتعلَّق في حافة السرج الأمامية. كانت الأطيار تحلق فوق الغابات، والسحب تعبر فوق الجبال، صاعِدة هنا، هابطة هناك؛ هابطة هنا، صاعدة هناك، تمامًا كما كان الراكب يَصعد ويهبط (قبل أن يتغلب عليه النوم والإجهاد) فوق تلال لا معابر فيها، وعبر أنهار فسيحة مليئة بالصخور أنعشت مياهها المتدفِّقة بغله، عبر منحدرات يبرقشها الطين وتنزلق عليها الحجارة فتتفتَّت نثارًا على الوهاد، عبر أجمات مليئة بالعوسج، وعلى طول ممرات الماعز التي تعيد إلى الذهن ذكرى الساحرات وقطاع الطرق.
كان لسان الليل متدليًا. عصبة من أرض المستنقعات. ثم برز شكل طيفي، ورفع الراكب من على بغله، وقاده إلى كوخ مهجور ثم رحل في صمت. بيد أنه عاد على الفور. لا بدَّ أنه كان قد خرج بين طيور «الزيز» التي تُغنِّي: كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكوكو! وبقي برهة قصيرة في الكوخ ثم اختفى كالدخان. ثم عاد ثانية. وظل يدخل ويخرج، يدخل ويخرج. كان الأمر يبدو كما لو أنه يخرج ليُعلن ما وجده، ثم يعود كيما يتأكد من وجوده. وبدت الطبيعة كأنما تتابع دخلاته وخرجاته التي تشبه دخلات السحلية وخرجاتها، كالكلب الأمين، يهز ذيلًا من الأصوات «كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكو» في صمت الليل.
وفي النهاية، عاد إلى الكوخ ولم يرحل. كانت الريح تقفز وسط أفنان الأشجار. وكان النهار يطلع على المدرسة الليلية التي تتعلَّم فيها الضفادع مطالعة النجوم. جو من الهضم السعيد. حواس الضوء الخمس. وأخذت الأشياء تتخذ شكلًا أمام عيني الرجل الذي كان يجلس القرفصاء على الباب، رجل طيب وَجِلٌ، سكت إجلالًا لطلعة الفجر وتنفس الراكب النائم البريء. في الليلة الماضية لم يكن إلا طيفًا، وهو الآن رجل من لحم ودم، إنه هو الذي قاد بغل الراكب. وحين بزغ الضوء أشعل نارًا، واضعًا أحجار الموقد الداخنة غير المتساوية على هيئة الصليب، كاشطًا الرماد المُحترق بقطعة من الخشب، وجامعًا ركية من الأغصان الجافة والخشب الطري. والخشب الطري لا يحترق في هدوء، إنما يتكلم كالببغاء، ويشتم، ويتقلَّص، ويضحك، ويبكي. واستيقظ الراكب وقد تجمد خوفًا مما يراه، ولم يكن قد استجمع وعيه بعد. وقفز قفزة واحدة إلى الباب ومسدسه في يده، عازمًا على أن يُدافع عن نفسه حتى النهاية. ولم يفزع الرجل الآخر من فوَّهة المسدَّس المصوَّب نحوه، بل أشار في صمتٍ إلى إناء القهوة الذي يَجيس بالغليان إلى جوار النار. ولكن الراكب لم يأبَه له، وتقدَّم ببطء تجاه الباب — فقد ظنَّ أن الكوخ لا بد محاصَر بالجنود — ولم يرَ أمامه إلا سهلًا فسيحًا يستحم في ضوء الفجر الوردي. بعيدًا. كالجلد الأزرق. أشجار. سحب. دغدغة زقزقة العصافير. وكان بغلُه غافيًا تحت شجرة تين. ووقف يُصغي دون أن تطرف عيناه كيما يختبر ما يراه أمامه، ولم يسمع شيئًا على الإطلاق إلا الكونسير المتناغِم للطيور والسريان البطيء لجدول رقراق، تركت مياهه الوفيرة هسيسًا لا يكاد يُسمَع في الهواء النقي، كالسكر المسحوق الذي يسقط في قدح من القهوة الساخنة.
قال الرجل الذي قاد بغله، وهو يكوم وراءه أربعين أو خمسين كوز ذرة في حرص: إنك لستَ من رجال الحكومة؟
ورفع الراكب عينيه ونظر إلى رفيقه، ثم هزَّ رأسه من جانب إلى آخر دون أن يحرِّك فمه عن قدح القهوة.
– «إنني هارب …»
وتوقف الآخر عن إخفاء أكواز الذرة وذهب يصبُّ مزيدًا من القهوة لرفيقه. لم يكن بوسع «كاناليس» الحديث عما وقع له من مصائب.
– إنك مثلي يا سيدي! إنني هارب بسبب ما استُوليَ عليه من أكواز الذرة. ولكني لستُ لصًّا. لقد كانت هذه الأرض أرضي إلى أن استولوا عليها منِّي، وبغالي أيضًا …
واهتم الجنرال كاناليس بما كان يقوله الهندي، وأراد أن يسمع تفسيره كيف يسرق المرء ثم لا يُعد لصًّا.
– «سوف أخبرك يا «تاتيتا» كيف أسرق رغم أنني لست لصًّا محترفًا. لقد كنت قبل هذا مالكًا لقطعة أرض صغيرة بالقرب من هنا، وثمانية بغال. كان لديَّ منزلي، وزوجتي وأولادي، وكنت شريفًا مثلك تمامًا …»
– أجل، ثم ماذا حدث؟
– «منذ ثلاثة أعوام، جاء إلى هنا المندوب السياسي وأخبرني أن أقوم بنقل حمل من أخشاب الصنوبر على بغالي للاحتفال بعيد ميلاد السيد الرئيس. فأخذتها يا سيدي، وماذا كان بوسعي أن أفعل غير هذا؟ وحين وصَل وشاهد بغالي، وضعني في السجن في زنزانة انفرادية، ثم اقتسم مع العمدة — وهو خلاسي — حيواناتي. وحين طالبت بما أستحق من نقود لديهما على عملي، قال لي المندوب إنني حيوان وإنني إذا لم أطبق فمي فورًا فسوف يضعني في السجن مرة أخرى. فقلت له: «حسنًا جدًّا يا سيدي المندوب، افعل معي ما تريد، ولكن البغال ملكي.» ولم أستطع أن أنطق حرفًا أكثر من ذلك يا تاتيتا؛ لأنه ضربني ضربة عنيفة على رأسي بزناره حتى إنه كاد أن يقتلني.»
ولاحت ابتسامة مريرة ثم اختفَت من تحت الشارب الأشهب للجندي العجوز الذي حلَّت به الكوارث. ومضى الهندي يقول بنفس اللهجة دون أن يرفع صوته: «وحين خرجت من المستشفى جاءوا يقولون لي إنهم قد وضعوا أولادي في السجن وإنهم لن يُطلقوا سراحهم إلا إذا دفعت لهم ثلاثة آلاف بيزو. ولما كان أولادي صغارًا ولا يحتملون الأذى، فقد هرعت من فوري إلى المحافظ وسألته أن يُبقي عليهم في السجن ولا يبعث بهم إلى الخدمة العسكرية العاملة، وإنني سوف أَرهن أرضي كيما أجمع لهم الثلاثة آلاف بيزو. وذهبت إلى العاصمة، واتَّفق لي المحامي هناك مع سيد أجنبي على توقيع ورقةٍ تقول إنهما سيعطيانني ثلاثة آلاف بيزو رهنًا للأرض. كان هذا ما قرأه لي من الورقة، ولكنه كان مخالفًا لما كان في الورقة بالفعل. وبعد ذلك بعثوا رجلًا من المحكمة يقول لي إن عليَّ أن أترك أرضي لأنها لم تَعُد مِلكي؛ لأنني قد بعتها للأجنبي لقاء ثلاثة آلاف بيزو. وقد حلفتُ بالله أن ذلك غير صحيح، ولكنهم صدقوا المحامي ولم يصدقوني، واضطروني إلى الرحيل عن أرضي. ورغم أنهم قد أخذوا الثلاثة آلاف بيزو مني فقد أرسلوا بأبنائي إلى الخدمة العسكرية: مات منهم واحد وهو يَحرس الحدود؛ وأصيب الآخر بجراح رهيبة كان الأفضل معها لو أنه قد مات، ثم ماتت أمهما، زوجتي، بالملاريا. وهذا هو سبب لجوئي إلى السَّرقة رغم أنني لستُ لصًّا، يا تاتا، حتى لو أنهم ضربوني حتى الموت أو ألقوا بي في السجن.»
– أهذا هو ما نُدافع عنه نحن العسكريين؟
– ماذا قلت يا تاتا؟
كانت ثمة عاصفة من الأحاسيس تَضطرم في صدر «كاناليس» العجوز، من ذلك النوع من الأحاسيس التي تَضطرم في قلب رجل طيب إزاء مظاهر الظلم. كان يتألم نيابةً عن بلده، كما لو أن دماء ذلك البلد نفسها قد فسدت. كان يعاني الآلام في جلده، في نخاع عظامه وجذور شعره، تحت أظافره، بين أسنانه. أين الحقيقة؟ ألم يُفكر أبدًا بعقله قبل الآن وإنما بردائه العسكري؟ إنَّ الأمر يكون أكثر مدعاة للاشمئزاز، وبالتالي للحزن إذا كان على المرء أن يكون عسكريًّا فحسب كيما يُبقي السلطة في يد عصابة من الأفاقين المستغلين، المتشبهين بالآلهة، الخونة لأوطانهم، عن أن يموت المرء من الجوع في المنفى. أي حق يرغم العسكريين على الولاء لنُظُم لا تدين بالولاء لأي قيم ولا للعالم ولا للأمة؟
وكان الهندي يُحدق في الجنرال كأنما هو صنمٌ غريب، ولكن دون أن يفهم الكلمات القليلة التي يَنطِق بها.
– عليك أن ترحل يا تاتيتا، قبل أن تصل شرطة الخيالة!
وطلب «كاناليس» من الهندي أن يَرحل معه إلى الدولة المجاورة، ووافق الهندي، ذلك أنه كان كالشجرة التي لا جذور لها بعد أن استولوا على أرضه. وكان الأجر طيبًا.
وغادرا الكوخ دون أن يُطفئا النار. وشقَّا طريقهما وسط الغابة بفأسيهما. وكانت آثار أقدام فهد تبدو متعرجة أمامهما. ظلام. نور، ظلام. نور. شبكة من أوراق الشجر الملتفة. وشاهدا بعد فترة الكوخ يبرق وراءهما كالشِّهاب. الظهيرة. سحب جامدة. أشجار جامدة. كدر. بياض ناصع. أحجار ثم مزيد من الأحجار. حشرات. هياكل عظمية، خالية من اللحم ودافئة كالثياب التي تُكوى لتوِّها. تحلل. طيور مضطربة تحلق فوقهما. ماء وعطش؟ تبدل لا نهاية له، ودائمًا، دائمًا، نفس الحرارة.
وكان الجنرال يرتدي منديلًا يَحمي به قذاله ورقبته من لسعة الشمس. وكان الهندي يسير إلى جواره، مواقعًا خطاه على خطى البغل.
– أعتقد أننا لو سرنا طوال الليل فقد نصل إلى الحدود صباح غد؛ ومن الأفضل أن نُخاطر ونسلك الطريق الرئيسي لأن عليَّ أن أتوقف لدى بيت بعض الصديقات في منطقة «لاس ألدياس».
– الطريق الرئيسي يا تاتا! ماذا تظن؟ لسوف نصادف هناك شرطة الخيالة.
– تعال، اتبعني! إذا لم تخاطر لن تحصل على شيء، كما أن صديقاتي هؤلاء قد يكنَّ ذوات نفع لنا.
– أوه، كلها يا تاتا.
– وأجفل الهندي بغتة وقال: ألا تسمع، ألا تسمع يا تاتا؟
كانت تُسمَع مجموعةٌ من الجياد تقترب، بيد أن الرياح سكنت بعد ذلك، وبدا كأن الصوت قد تراجع إلى الوراء، كأنما الجياد تبتعد.
– صمتًا!
– إنها شرطة الخيالة يا تاتا. إني أعرف ما أقول. والآن يجب علينا أن نعبر هذا الممر، رغم أنه الطريق الأبعد للوصول إلى «لاس ألدياس».
وهبط الجنرال عبر طريق جانبي خلف الهندي. وتعين عليه أن يترجل ويقود البغل. وحين ابتلعهما الأخدود الضيق شعرا وكأنهما في داخل صدفة حلزون، مستورين من الخطر الذي يتهدَّدهما.
وأطبقت الظلمة بغتة. وكانت الظلال تتجمَّع في أعماق الوهدة الغافية. وبدت الأشجار والأطيار كالنذر الملغزة في وسط النسمات اللطيفة المتماوِجة دومًا. ولم يرَيا من مخلفات شرطة الخيالة إلا سحابة من الغبار الاحمراري توسَّطت بينهما وبين النجوم، وذلك حين كانا يَخبَّان في المكان الذي غادرته الشرطة لتوِّها.
واستمرا يسيران طوال الليل.
– «حين نصل إلى أعلى التل سنرى «لاس ألدياس» يا تاتا.»
وسبق الهندي قدمًا مع البغل ليُعلن وصولهما لصديقات «كاناليس»، وهن ثلاث أخوات غير متزوجات يُقسمن حياتهن بين الصلوات وآلام احتقان اللوز، والتاسوعيات وآلام الأذن، وآلام الوجه والظهر والجنبين. والْتهمْنَ النبأ، وكاد أن يُغمى عليهن من فرط المفاجأة. واستقبلن الجنرال في حجرة النوم؛ ذلك أن حجرة الاستقبال لم تكن توحي لهنَّ بالثقة.
وفي الريف، يدخل الزوار المنزل دون استئذان ويتوجَّهون لتوهم إلى المطبخ: السلام لك يا مريم، السلام لك يا مريم.
وحكى لهنَّ الجنرال قصة نكبته في رنة بطيئة هادئة، وذرف عدة دمعات حين أتى على ذكر ابنته.
وبكت صديقاته من الحزن، وكان حزنهن عظيمًا لدرجة نسين معه آلامهن، ووفاة والدتهن، التي كنَّ يرتدين السواد الكامل حدادًا عليها.
– ولكنا سوف نرتب أمر فرارك وعبورك الحدود بأي ثمن، سوف أذهب لأسأل الجيران. لقد حان الوقت كيما نتذكَّر مَن فيهم يعمل بالتهريب. ذلك إني أعرف أن كل المعابر الممكنة تقريبًا تحرسها السلطات.
كانت كُبراهن هي التي قالت ذلك، وتطلَّعت متسائلة إلى الأخرَيين.
وقالت الوسطى، التي سكنت آلام أسنانها بفعل مفاجأة وصول الجنرال «كاناليس»: أجل، سوف نرتب أمر فرارك كما قالت أختي، يا جنرال. ولما كنتُ أعتقد أنك ستكون بحاجة إلى بعض المؤن، فسوف أذهب وأجهزها.
وقالت الصغرى: ولما كنت ستَمضي اليوم معنا فسوف أبقى لأحادثك وأسليك شيئًا ما.
ونظر الجنرال بامتنان إلى الأخوات الثلاث — فقد كانت الخدمة التي يُقدمنها له فريدة — ورجاهنَّ في صوت خفيض أن يغفرن له ما سببه لهن من متاعب.
– لا شيء من هذا يا جنرال.
– كلا يا جنرال، لا تقل هذا.
– إني أدرك مدى طيبتكنَّ وشفقتكن يا عزيزاتي، ولكني أعرف أنني أورطكن معي بوجودي في المنزل.
– ولكنا صديقاتك مع كل هذا. لك أن تتصوَّر أنه منذ ماتت أمنا …
– ولكن، قولي لي، كيف ماتت والدتكن؟
– سوف تحكي لك أختي هذا، سوف نذهب نحن ونجهِّز الأشياء.
قالت الأخت الكبرى هذا، ثم تنهدت. كانت تحمل مشدَّ الخصر ملفوفًا في شالها، وتوجَّهت لترتديَه في المطبخ، حيث كانت الأخت الوسطى تجهز بعض المؤن للجنرال، تحيط بها الخنازير والدواجن.
– لم يكن ممكنًا نقلها إلى العاصمة، ولم يفهموا علَّة مرضها هنا، وأنت تعرف الأمر يا جنرال. وقد ساءت حالتها شيئًا فشيئًا، المسكينة، وماتَت وهي تبكي لأنها تتركنا وحدنا في الدنيا. لم يكن هناك سبيل لتفادي ذلك. ولكن تصوَّر أنه لم يكن معنا نقود ندفع منها أجر الطبيب، الذي أرسل إلينا فاتورة بخمس عشرة زيارة يصل ثمنُها إلى حوالي قيمة هذا المنزل، وهو الشيء الوحيد الذي خلَّفه لنا والدنا. اسمح لي بدقيقة، سأذهب لأرى ما يحتاج إليه خادمك.
وحين خرجت الأخت الصغرى، استغرق «كاناليس» في النوم. عينان مغلقتان. جسد في خفة الريشة.
– ماذا تُريد أيها الفتى؟
– بحق السماء، أخبريني أين أستطيع أن أقضي حاجتي …؟
– هناك، في زريبة الخنازير!
ونسج سلام الريف خيوطه في أحلام الجنرال النائم. امتنان حقول الذرة، ورقة المراعي بأزاهيرها الصغيرة البسيطة. وسرعان ما انطوى الصباح، بعدما اشتمل على خشية طيور الحجل ترشقها طلقات الصيادين؛ والخوف المدلهم الذي تُثيره مراسم دفن والقس يرش المياه المقدسة؛ وهياج ثور فتى نشيط. وفي أبراج الحمام في فناء الأخوات العوانس وقعت أحداث هامة: موت حبيب، وخطبة، وثلاثون زيجة تحت أشعة الشمس. أي لا شيء على الإطلاق!
لا شيء على الإطلاق! هكذا قالت الحمائم وهي تطلُّ من نوافذ بيوتها الصغيرة. لا شيء على الإطلاق.
وفي الساعة الثانية عشرة، أيقظوا الجنرال لتناول طعام الغداء. أرز متبَّل. مرق اللحم. يخنة. دجاج. بازلاء. موز. قهوة.
– «السلام لك يا مريم!»
وأطبق صوت المندوب السياسي عليهم وهم يتناولون الغداء. وشحبت وجوه العوانس ولم يَعرفن كيف يتصرَّفن. وتوارى الجنرال وراء أحد الأبواب.
– لا تَنزعجن يا عزيزاتي، فأنا لست الشيطان ذا الأحد عشر ألف قرن! يا إلهي، كيف تَخفن مني هكذا، خاصة بعد أن تصرفتُ معكن تصرفًا رحيمًا؟!
كانت المسكينات قد فقدن القدرة على الكلام.
– ثم، ألن تطلبن مني الدخول والجلوس، حتى ولو كان ذلك على الأرض؟
وأحضرتِ الصغرى مقعدًا لأهم موظَّف في القرية.
– شكرًا جزيلًا. ولكن، من كان يتناول الطعام معكن؟ إني أرى طبقًا رابعًا.
وحملقن جميعًا ناحية طبق الجنرال.
فتلعثمت الأخت الكبرى قائلة وهي تلوي أصابعها من فرط اليأس. إنه، كما تعرف …
وأنقذتها الوسطى قائلة: من الصعب شرح الأمر، ولكن برغم وفاة والدتنا فإننا نُهيئ لها مكانًا معنا دائمًا، حتى لا نشعر بالوحدة.
– أوه، يبدو أنكن تتحوَّلن إلى مجال الروحانيات.
– ألا تتناول شيئًا أيها المندوب؟
– شكرًا لك، ولكني تناولت طعامي بالفعل. لقد جهزت لي زوجتي الغداء، ثم لم أستطع أن أغفيَ إغفاءة الظهر لأنني تلقيت برقية من وزير الداخلية يُخطرُني فيها أن أتخذ الإجراءات ضدَّكن إذا لم تدفعن للطبيب أجره.
– ولكن يا سيادة المندوب، هذا ليس عدلًا، أنت تعرف أنه ليس …
– قد يكون ذلك صحيحًا، ولكن صوت القانون هو كل شيء.
فهتفت الأخوات الثلاث والدموع في مآقيهن: «طبعًا!»
– إنني جدُّ آسف أن آتيَ وأسبب لكنَّ هذا الإزعاج، ولكن هكذا هي الأمور كما تَعرفن، تسعة آلاف بيزو، أو المنزل، أو …
وقد تبدى عناد الطبيب الكريه بوضوح في الطريقة التي دار بها المندوب على عقبَيه، وأعطاهن ظهره؛ ظهرٌ بدا مماثلًا لجذع الشجرة.
وسمعهن الجنرال يَبكين. وأغلقن الباب الخارجي بالمفتاح والمزلاج خشية أن يعود المندوب. وتناثَرت دموعهن فوق طبق الدجاج.
– يا لقسوة الحياة يا جنرال. إنك سعيد الحظ إذا تُغادر هذا البلد نهائيًّا.
فسأل «كاناليس» مخاطبًا الأخت الكبرى: بماذا كان يُهددكن؟
وقالت الكبرى لأختَيها دون أن تجفف دمعها: فلتقل له إحداكما.
فقالت الصغرى في لعثمة: بأن يُخرج ماما من قبرها.
فحملق «كاناليس» في الأخوات الثلاث كلهنَّ وتوقف عن الأكل.
– ماذا تقولين؟
– تمامًا هكذا، بأن يخرج ماما من القبر.
– ولكن هذا ظلم.
– قولي له.
– حسنًا. ولكن عليك أن تعلم يا جنرال أن طبيب قريتنا هو واحد من أسفل أوغاد أهل الأرض طرًّا، لقد قالوا لنا ذلك من قبل، ولكن المرء لا يتعلَّم إلا بالتجربة. وماذا كنا سنفعل؟ من الصعب تصديق أن الناس يمكن أن يكونوا بهذا الشر.
– هل لك في بعض الفجل يا جنرال؟
وناولته الوسطى الطبق، وبينما كان الجنرال يتناول منه بعض الفجل، واصلت الصغرى قصتها: لقد وقعنا في مصيدته. هذه هي لعبته: حين يَسقُط أحد زبائنه فريسةَ مرض خطير، ويكون آخر ما يفكر فيه الأقارب ترتيبات الجنازة، يأمر بإعداد مقبرة للدفن. ثم حين يحمُّ القضاء، يَضرب ضربته؛ وهذا ما حدث لنا، إذ بدلًا من أن نترك ماما تُدفن في الأرض الجرداء، قبلنا مكانًا لها في المقبرة التي أعدَّها دون أن ندرك ما نحن مقبلات عليه من جراء ذلك.
وقالت الكبرى ملاحظة وسط الشهقات: «وهو يعلم أننا نسوة لا عائل لنا.»
– أقول لك يا جنرال، إنه في اليوم الذي أرسل إلينا الفاتورة، صعقنا كلنا: تسعة آلاف بيزو لقاء خمس عشرة زيارة؛ تسعة آلاف بيزو أو هذا المنزل، لأنه يُريد فيما يبدو أن يتزوج، أو …
– أو، إذا لم ندفع، كما قال لأختي، ويا للبشاعة، «بوسعكن أن تأخذن قمامتكن من مقبرتي.»
وضرب «كاناليس» المائدة بقبضة يده.
– يا للسافل القذر!
وقرع المنضدة مرة أخرى، مما جعل الأطباق وأدوات المائدة والأكواب تُصلصل، وفتح أصابعه ثم أغلقها كأنما يريد أن يخنق هذا الوغد ويدمر جماع النظام الاجتماعي الذي أفرز مثل هذه الأمور المسيئة المخجلة واحدةً وراء أخرى.
وجال في خاطره: «هل وُعد الناس البسطاء مملكة السماء على الأرض — هذا اللغو الريائي — لمجرَّد أن يَحتملوا مثل هؤلاء الأوغاد. كلا! كفانا من حكم الجمال هذا! إني أقسم على العمل في سبيل الثورة الشاملة، يجب قلب كل شيء ظهرًا لبطن. يجب أن يثور الناس ضد الطفيليين، ضد من يستغلُّون مناصبهم الحكومية، والعاطلين الذين يَحسُن إرسالهم لفلاحة الأرض. لا بد أن يأخذ كل واحد نصيبه من الدمار! الدمار! الدمار! لن يحتفظ أي عميل منهم برأسه.»
وحُدد لرحيله الساعة العاشرة من مساء تلك الليلة، وفقًا لترتيب اتُّخذ من مَهرب من أصدقاء عائلة الأخوات الثلاث. وحرر الجنرال خطابات عدة، منها خطاب عاجل إلى ابنته. واتَّفق على أن يحمل الهندي الخطاب ثم يعود من الطريق الرئيسي. ولم يَقُل أحد وداعًا. ومضت الجياد وحوافرها ملفوفة بالخرق، بينما وقفت الأخوات عند الحائط، يبكين بحرقة في عتمة حارة مظلمة. وحين بلغ الجنرال الطريق الواسع شعر بيد تمسك بلجام جواده. وسمع وقع أقدام. وهمس له المهرِّب: «لشد ما أفزعوني. لقد ضاعت أنفاسي. ولكن لا تقلق، إنهم بعض الرجال يصحبون الطبيب للغناء تحت شُرفة خطيبته!»
وكان ثمة مشعل مضاء عند نهاية الطريق، يُرسل ألسنة من اللهيب تنضم على نورها ثم تتفرق أشكال البيوت والأشجار وخمسة أو ستة رجال يقفون معًا تحت إحدى النوافذ.
وسأل الجنرال ومسدسه في يده: «من فيهم الطبيب؟» وشد المهرب عنان جواده، ورفع ذراعه وأشار إلى رجل يحمل جيتارًا. وشقت طلقة رصاص الهواء، وسقط رجلٌ على الأرض كما تسقط موزة من قرطها.
– يا إله السماوات! انظر ماذا فعلت! لا بد أن نهرب، سريعًا، وإلا قبضوا علينا! هيا، اهمز حصانك!
– إن هذا … هو ما يجب … على كل شخص أن يَفعله … يُحرر الشعب!
نطق «كاناليس» بهذه الكلمات بصوت متقطِّع بين خبب حصانه الراكض. وأيقظت جلبة حوافر الجوادَين الكلاب، وأيقظت الكلاب الدجاج. وأيقظ الدجاج الديَكة، وأيقظت الديكة الفلاحين، الذين عادوا إلى الحياة في تثاقل، يتثاءبون ويتمطون ويشعرون بالخوف.
ورفعت جماعة المغنِّين الليليِّين جسد الطبيب الميت. وخرج الناس بقناديلهم من المنازل المجاورة. ولم تستطع الفتاة التي كانوا يغنون لها البكاء، بل وقفت مشدوهة من فعل الصدمة في ملابس نومها تمسك بقنديل صيني في يدها البيضاء، ونظراتها ضائعة في الظلمة القاتلة.
– نحن الآن مُحاذُون للنهر يا جنرال، ولكن عليَّ أن أقول لك إنه لا يقدر على عبوره في المكان الذي نريد عبوره فيه إلا الرجال الشجعان. آه أيتها الحياة، لو أنك تدومين إلى الأبد!
فرد «كاناليس» الذي كان يركب جوادًا أسود وراءه: ومن يخاف؟
– برافو! إنَّ المرء يحس بشجاعة الأسود لو أن ثمة رجلًا وراءه. أمسك بي جيدًا، جيدًا، وإلا ضللت طريقك.
كان كل شيء مبهم المعالم حولهما، وكان الهواء دافئًا، وإنما تجري فيه تيارات ثلجية. وكانا يَسمعان النهر جائشًا خلال أعواد البوص.
وترجلا وقفزا إلى المجرى. وعقل المهرب الجوادين في مكان يعرفه جيدًا حتى يمكنه أخذهما عندما يعود. ووسط الظلال، عكست رقاع النهر السماء المرصعة بالنجوم. وكانت تطفو على صفحته نباتات غريبة تتساقط من أشجار خضراء، لها عيون بلون التلك وأسنان بيضاء. وقرقرت المياه عبر الضفاف الدهنية الغافية، تَعبق برائحة الضفادع.
وطفق المهرب والجنرال يقفزان من جزيرة إلى أخرى في صمت، وكل منهما حامل مسدَّسه في يده. وتبعهما ظلاهما كالتماسيح، وتبعتهما التماسيح كظلَّيهما. ووزخزتهما سحائب من الحشرات، وكان ثمة سمٌّ مجنَّح يُحلِّق في الهواء. وعبقت في الجو رائحة البحر، البحر واقعًا في شبكة الغابة، بكل سمكاته، ونجومه، ومرجانه، وشعابه، وبأعماقه وتياراته. وكانت الطحالب تتدلى فوق رأسيهما كأنها مجسمات مخاطية لأخطبوطات تُحتضَر. وحتى الوحوش المتوحِّشة لم تكن تجرؤ على الذهاب حيثما كانا ذاهبين. وطفق «كاناليس» يُدير رأسه في كل اتجاه، ضائعًا في هذه الطبيعة المشئومة التي لا يصلُ إليها أحد والمتوحِّشة توحش روح حيواناتها. وهاجم تمساحٌ المهرِّب، وبدا واضحًا أنه قد ذاق طعم اللحم البشري من قبل، ولكن المهرب قفز من طريقه في الوقت المناسب. بيد أن الجنرال لم يكن سعيد الحظ بالمثل؛ إذ استدار يدافع عن نفسه وجمد مصعوقًا إذ وجد تمساحًا آخر ينتظرُه فاغر الفكَّين. لقد كانت لحظة حاسمة. وشعر برعشة مميتة تسري في عموده الفقري، وانتصب شعره، وفقد النطق من فرط الهلع. وشدَّ على قبضتيه. ودوت ثلاث طلقات متتابعة ردَّدها الصدى، قبل أن ينتهز الجنرال فرصة هروب الوحش الجريح كيما يقفز إلى مكان آمن. وأطلق المهرِّب طلقة أخرى. وحين استعاد الجنرال توازنَه جرى إلى الأمام وصافح المهرِّب، مما أحرق أصابعه من جراء لمسه فوهة المسدس.
وكانت الشمس تُشرق حين افترقا عند الحدود. وفوق الحقول اللازوردية، وفوق الجبال بقممها الكثيفة المغطَّاة بأشجار تحيلها الطيور إلى صناديق موسيقية، وفوق الغابة، كانت سحب على شكل التماسيح تطفو في السماء، تحمل كنوزًا من النور على ظهرها.