زواج في ظلال الموت
– «ثمة مريضة تحتضر في حيِّنا.»
وخرجت عانس من باب كل منزل.
– «ثمة مريضة تحتضر في حيِّنا».
ثمة مريضة تُحتضَر في حيِّنا. يا له من نبأ! كان الأمر لا يبين عن سرورهم بتلك الفكرة، بيد أنه كان يبين في الطريقة التي حاولت بها أصواتهن الخافتة إخفاء حبورهن بذلك الحدث الذي قد يهيئ للكثيرات منهن العمل بمَقصاتهن، بل ويخلف كثيرًا من القماش لهن جميعًا بحيث تأخذ كل واحدة لنفسها ثوبًا منه.
كانت «لامسكواتا» في انتظارهن. وأعلنت «بترونيلا» الآتية من منزل «المائتين»: «إن أخواتي جاهزات.»
ولم تُبين لأي شيء هن جاهزات.
وقالت «سيلفيا»: فيما يتعلَّق بالملابس، يمكنك طبعًا الاعتماد عليَّ. إذا لزمك شيء منها.
أما «إنغراسيا»، إنغراسيا الصغيرة، التي تعبق برائحة مرق اللحم حين لا تفوح منها رائحة دهان الشعر، فقد أضافت، وهي تنطق بنصف الكلمات من فرط ما يضغط الكورسيه على جسدها: «لقد فكرت فيها وتلوث صلاة على أرواح المحتضرين بعد أن فرغت من صلواتي.»
كنَّ متجمِّعات في الغرفة الواقعة وراء الحانة، يتكلمن في صوت خفيض، ويُحاولن ألا يُعكِّرن الصمت الذي كان يجلل سرير المريضة كأنه دواء طبي، أو يضايقن السيد الذي كان يجلس إلى جوارها ليل نهار. إنه سيد أصيل حقًّا. كنَّ يتوجَّهن إلى السرير على أطراف أصابعهن، مدفوعات بالرغبة في إلقاء نظرة على وجهه أكثر منه بالنظر إلى «كميلة» الراقدة هناك كالشبح، بأهدابها الطويلة، وعنقها النحيل النحيل، وشعرها المهوش. وحين شممن رائحة سر في الموضوع (أليس ثمة سر دائمًا حيثما كانت قصة حب). لم يهدأ لهنَّ بال حتى استخلصن مفتاح السر من صاحبة الحانة. إنه خطيبها! خطيبها! خطيبها! خطيبها! طبعًا! إنه خطيبها! ورددن جميعًا الكلمة السحرية، كلهن ماعدا سيلفيا، التي خرجت دون أن يلحظها أحد حالَما عرفت أن «كميلة هي ابنة الجنرال كاناليس»، ولم تعد ذلك. كانت ترى من الأفضل عدم الاختلاط بأعداء الحكومة. وقالت لنفسها إنَّ الشخص الذي يعودها ربما يكون خطيبها أي نعم، وقد يكون أيضًا من أصدقاء السيد الرئيس، «ولكني شقيقة أخي، وأخي نائب في البرلمان، وربما أضرَّ به اختلاطي بهم. لا بد لنا أن نضع ثقتنا في الله!» ورددت حين خرجت إلى الطريق: ولا بد لنا أن نضع ثقتنا في الله!
ولم يكد ذو الوجه الملائكي يشعر بهؤلاء النسوة، رغم أنهن كن حريصات على إتمام مجاملتهن للفتاة المريضة بمواساة خطيبها. وشكرهن دون أن يسمع ما يقلنه — مجرد كلام — وروحه بكاملها منتبهة لأنين كميلة المؤلم الذي يصدر عنها برغمها، ولم يستجب لمظاهر العطف الذي أبدينه وهنَّ يُصافحنه. وشعر بجسده يبرد، مسحوقًا تحت وطأة البؤس الذي انتابه. وتملكه إحساس بأن الدنيا تمطر، وأن أطرافه قد خدرت، وأنه مشتبك مع أطياف غير مرئية في حيِّز أكبر من الحياة، حيز من الفراغ بدا فيه الهواء والنور والظلال والأشياء مُنفصِلة عنه وحيدة.
وكسر الطبيب سلسلة أفكاره.
– ما العمل إذن يا دكتور …؟
– لن ينقذها سوى معجزة! …
– سوف تعود، أليس كذلك؟
لم تهدأ صاحبة الحانة لحظة، ورغم ذلك لم يبدُ عليها أي تعب. كانت تغسل الثياب لبعض الجيران، ولذلك نقعت الثياب في الصباح الباكر قبل أن تذهب بطعام الإفطار إلى فاسكيز في السجن، ولم تكن قد سمعت أنباءً عنه مؤخَّرًا. وحين تعود، كانت تغسل الثياب وتعصرها وتعلقها لتجف، ثم تهرع إلى أداء بعض الأعمال المنزلية في بيتها خلف الحانة، وغير ذلك من الأشياء: العناية بالمريضة، إشعال الشموع أمام ثور القدِّيسين، محاولة حمل ذي الوجه الملائكي على تناول بعض الطعام، انتظار الطبيب، الذهاب إلى الصيدلية، تَحمل ثقل ظل «القسيسات» كما تسمى هؤلاء النسوة العوانس، والشجار مع صاحب محلِّ حشايا الأسرة المجاورة لها. وصاحت من على عتبة الباب وهي تتظاهر بأنها تهش الذباب بعيدًا بخرقة ثياب: «حشايا للخنازير الكسولة! حشايا للخنازير الكسولة!» لن ينقذها سوى معجزة!
ردد ذو الوجه الملائكي عبارة الطبيب. معجزة، الاستمرار التعسفي لما هو قابل للموت، انتصار جزء من الإنسانية على المطلق العقيم. وشعر برغبة جارفة في التضرع إلى الله لإنجازه معجزة؛ بيد أن العالم في تلك الأثناء كان يدور ويلفُّ بعيدًا عن متناوله — بلا فائدة، معاديًا، مُضطربًا، لا هدف له.
كانوا جميعًا في انتظار المأساة من لحظة إلى أخرى. نباح كلب، طرقة قوية على الباب، دقات أجراس كنيسة «لامرسيد»، كانت تدفع الجيران إلى رسم علامة الصليب والتنهد قائلين: «لقد استراحت أخيرًا! أجل، لقد حانت ساعتها. يا للرجل المسكين. إنه المصير المحتوم. إنها إرادة الله. إنه مصيرنا جميعًا.» وأخذت «بترونيلا» تقصُّ ما جرى لصديقة لها: «إنه أحد هؤلاء الرجال الذين لا يظهر عليهم أي تقدم في السن، يدرس الإنكليزية ومواد أخرى أكثر غرابة، ويُعرَف عادة بلقب المعلم.»
كانت تريد أن تعرف ما إذا كان ممكنًا إنقاذ حياة كميلة عن طريق الشعوذة، ولا بد للمعلم أن يعلم، فبالإضافة إلى دروس اللغة الإنكليزية التي يعطيها، كان يكرس وقت فراغه لدراسة التصوف، والروحانيات، والسحر، والتنجيم، والتنويم المغناطيسي، وعلوم الباطن؛ بل وكان قد اخترع طريقة سماها: «مُستودع السحر النافع في العثور على الكنوز المخبوءة في المنازل المسكونة بالأشباح.» ولم يستطع المدرس مطلقًا أن يُعلِّل أسباب إدمانه لعلوم المجهول، فقد كان في مطلع شبابه ميالًا إلى الكنيسة، ولكن امرأة متزوجة، أكثر منه تجربة وتسلطًا، تدخلت يومًا حين كان متوجهًا لإنشاد صلوات الكنيسة، فكانت النتيجة أن خلع مُسوحه وغيرها من أردية القسس، وظل هكذا يبدو عليه البله والوحدة وترك كلية اللاهوت إلى كلية التجارة، وكان سيتخرج فيها بنجاح لو لم يضطر إلى الهروب من أستاذة المحاسبة التي وقعت في غرامه. وفتحت له بعد ذلك أبواب عالم الميكانيكا، في صورة الحدادة الشاقة، والتحق بورشة قريبة من منزله لينفخ في كير الحداد، بيد أنه لم يكن معتادًا على العمل الشاق ولا هو متين البنية بما فيه الكفاية له، فترك ذلك العمل أيضًا. ولماذا يتعين عليه أن يعمل وهو ابن الأخ الوحيد لسيدة بالغة الثراء كانت قد كرسته للكنيسة، ولم تفقد بعد أملها في أن يصبح قسًّا؟ وكانت تقول له: «عد إلى الكنيسة بدلًا من أن تجلس هنا تتثاءب، عد إلى الكنيسة. ألا ترى أنك قد ضقت ذرعًا بالدنيا، وأنك نصف أحمق وضعيف كقالب الزبد، وأنك قد جربت كل شيء ولم ترض أبدًا عن شيء: جندي، موسيقى، مصارع ثيران؟! وإذا لم تكن تريد أن تصبح قسًّا، فلماذا لا تصبح مدرسًا — تعطي دروسًا في الإنكليزية مثلًا؟ إذا لم تكن من الصفوة التي اختارها الله، فلماذا لا تختار أنت التلاميذ؟ إن الإنكليزية أسهل من اللاتينية وأكثر نفعًا منها، وأنت إذا أعطيت دروسًا في اللغة الإنكليزية فسيفترض تلاميذك أنك تتحدث الإنكليزية رغم أنهم لا يفهمونك، فإذا كانوا لا يفهمون فهذا أفضل!
وخفضت «بترونيلا» من صوتها كما تتحدث دائمًا عن أمور تسحق فؤادها: إنه محب يَعبدها، يتعبد في محرابها أيها المعلم؛ ورغم أنه قد اختطفها، فقد عالجها باحترام ويأمُل أن تبارك الكنيسة اتحادهما الأبدي. إنَّ المرء لا يرى مثل هذه الأمور كل يوم.
وقالت أطول ساكنة في منزل «المائتين»، وهي امرأة تبدو وكأنما قد صعدت عدة درجات من سلم جسدها ذاته، وهي تدخل إلى الغرفة حاملة باقة ورد: إنها تحدث الآن أقل من أي وقت مضى يا طفلتي.
– ولقد غمرها هذا المحب بكل ألوان العطف أيها المعلم، وبالتأكيد إنه سوف يموت معها … آه.
وقال المعلم في بطء: أتقولين يا بترونيلا إن السادة الأطباء قد أعلنوا أنه ليس بإمكانهم عمل شيء لإنقاذها من يدي القدر؟
أجل يا سيدي، إنهم عاجزون. لقد أعلنوا ثلاث مرات أن لا أمل البتة.
– وهل تقولين يا بترونيلا إن معجزة فحسب قادرة على إنقاذها؟
– هو ذاك. وإن قلبي يدمي من أجل ذلك الشاب المسكين.
– حسنًا، إنَّ عندي الحل. لسوف نعمل على أن تحلَّ تلك المعجزة. إن الشيء الوحيد الذي يُمكنه مكافحة الموت هو الحب؛ لأن الحب والموت، كما يُخبرنا «نشيد الإنشاد» لهما قدر مماثل من القوة: وإذا كان حبيب هذه الفتاة — كما تقولون — يَعبدها، ويحبها حبًّا عميقًا، أعني بكل فؤاده وجوارحه ويُريد الزواج منها، لذا فبإمكاننا أن نُنقذ حياتها عن طريق مراسم الزواج المقدسة. وطبقًا لنظريتي في التطعيم، فإن هذا هو ما يجب فعله في هذه الحالة.
وكاد أن يغمى على «بترونيلا» بين ذراعي المعلم. وأيقظت المنزل كله، وذهبت مرة أخرى إلى منازل الصديقات، وأرسلت «لامسكواتا» كيما تحدث القس. وفي نفس ذلك اليوم تمَّ زواج ذي الوجه الملائكي وكميلة، على أعتاب العالم الآخر. وأمسك ذو الوجه الملائكي يدًا طويلة رقيقة، باردة كسكين ورق عاجية، في يده اليُمنى المحمومة، بينما تلا القس عبارات مراسم الزواج الديني باللاتينية. وكان سكان منزل «المائتين» حاضرين: إنغراسيا، والمدرس يَرتدي ملابس سوداء. هتف المعلم بالإنكليزية حين انتهت مراسم الزواج: اخلقي لنفسِك روحًا جديدة، من أجلي!