حرَّاس من جليد
كان يُرى في مدخل السجن صفان من سيوف البنادق اللامعة؛ وكان الجنود القائمون بالحراسة يَجلسون في مواجَهة أحدهم الآخر كأنهم المسافرون في عربات السكة الحديد المظلمة وفجأة، توقفت إحدى العربات المارة أمام الباب. وانحنى السائق إلى الخلف كي يسيطر على الزمام على نحو أفضل، وهو يهتز من جانب إلى آخر كالدمية المصنوعة من الخرق القَذِرة، ويُطلق السباب. لقد كاد يفقد توازنه ويسقط. ووصل صوت احتكاك عجلات العربة بالأرض من جراء إيقافها بغتة إلى داخل المبنى المشئوم ذي الجدران الملساء العارية، وترجل من العربة ببطءٍ رجل مُستدير البطن لا تكاد ساقاه تصلان إلى الأرض. وشعر السائق بأن عربة الأجرة قد استراحت من ثقل وزن المدعي العسكري العام، فوضع سيجارته المطفأة بين شفتيه الجافتين … يا لها من راحة أن يبقى وحده مع جياده! وأرخى الزمام وساق العربة كيما ينتظر في مواجهة المنزل، إلى جانب حديقة صخرية كقلب الخونة المقدود من صخر، في نفس اللحظة التي ألقت فيها إحدى النسوة بنفسها أمام قدمي المدعي العام، راجية منه في صوت عالٍ أن يَستمع إلى شكواها.
– «انهضي يا سيدتي؛ لا يُمكنني أن أستمع إليك على هذا النحو! كلا، انهضي أرجوك؛ لم أتشرف بعد بمعرفتك.»
– إنني زوجة كرفخال المحامي.
– انهضي.
ولكنها انفجرت مرة أخرى: لقد كنت أبحث عنك طوال الليل والنهار يا سيدي، في كل ساعة، في كل مكان؛ في منزلك، في منزل والدتك، في مكتبك، بلا جدوى. إنك الشخص الوحيد الذي يعرف ماذا حدث لزوجي؛ إنك الوحيد الذي يعرف؛ إنك الوحيد الذي يمكنه أن يدلَّني. أين هو؟ ماذا حدث له؟ قل لي يا سيدي إن كان لا يزال حيًّا؟ قل لي يا سيدي إنه لا يزال على قيد الحياة …
– الواقع يا سيدتي أن المجلس العسكري الذي سينظر في قضية زميلي المحامي قد تلقى أمر استدعاء عاجلًا للاجتماع هذه الليلة.
آآآآآ … ه!
وارتعشت شفتاها اللتان لم تستطع إطباقهما من الفرحة. إنه لا يزال حيًّا! ومع هذا النبأ جاءها الأمل.
حيًّا! … ربما إنه بريء … فسيطلقون سراحه … بيد أن المدعي العام أضاف دون أن يُغير نبرته الباردة: إنَّ الوضع السياسي للبلد لا يسمح للحكومة أن تتهاون بأي حال من الأحوال مع أعدائها يا سيدتي. هذا هو كل ما أستطيع أن أقوله لك. اذهبي إلى السيد الرئيس واستسمحيه للإبقاء على حياة زوجك، فقد يُحكم عليه بالموت ويعدم رميًا بالرصاص، وفقًا للقانون، بعد أربع وعشرين ساعة.
– آه، آه، آه …
– إن القانون فوق الأشخاص يا سيدتي، وما لم يَعفُ السيد الرئيس عنه …
– آه، آه، آه …
ولم تستطع الحديث، ووقفت هناك وقد غاض اللون من وجهها وصار أبيض كالمنديل الذي كانت تقطعه مزقًا بأسنانها، ساكنة، بلا حراك، تائهة الفكر، تلوي أصابعها.
واختفى المدعي العسكري العام بين صفي السونكي. وبعد فترة من النشاط، امتلأ فيها الطريق بعربات بها سيدات وسادة متأنقون في طريق عودتهم إلى بيوتهم بعد استمتاعهم بالنزهة الرئيسية في المدينة، بقى بعدها مستنفدًا قفرًا. وأطلت عربة ترام صغيرة تصفر وتبرق من شارع جانبي، ومضت بعيدًا تعرج على قضبانها …
– آه، آه، آه …
لم تستطع كلامًا. كانت ثمة كماشة باردة كالجليد تقبض على عنقها ويستحيل عليها الفكاك منها؛ وشعرت بجسدها ينزلق من كتفيها إلى الأرض. لم تَعُد سوى رداءً خاليًا، برأس ويدين وقدمين فحسب. وتردد في سمعها صوت عربة أجرة تقترب عبر الطريق. وأوقفتها واستقلتها. وبدت الجياد منتفخة كالدموع حين لوت عنقها واستدارت على أعقابها ثم توقفت. وقالت للسائق أن يحملها إلى منزل رئيس الجمهورية الريفي بأسرع ما يمكن. ولكنها كانت في عجلة ولهفة، لهفة يائسة، إلى درجة أنه رغم أن الجياد كانت تجري بأقصى سرعتها، فإنها لم تتوقف عن الإلحاح على السائق بأن يجعلها تجري أسرع … كان عليهم أن يكونوا هناك الآن بالتأكيد … أسرع … لا بد لها أن تنقذ زوجها … أسرع، أسرع، أسرع … واختطفت السوط من السائق … لا بد لها أن تنقذ زوجها … وزادت الجياد من سرعتها بفعل ضربات السوط القاسية … كان السوط يشوط جوانبها … تنقذ زوجها … كان عليهم أن يكونوا هناك الآن … ولكن العربة لا تتحرك … كان بوسعها أن تشعر أنها لا تتحرك، كانت العجلات تدور حول المحاور النائمة دون أن تتقدم على الإطلاق؛ كانوا متوقفين في مكانهم … ولكن عليها أن تنقذ زوجها … أجل، أجل، أجل، أجل، أجل … وتهدَّل شعرُها — تنقذه — وانحلت أزرار بلوزتها — تنقذه … ولكن العربة لم تكن تتحرَّك … كان بوسعها أن تشعر أنها لا تتحرك، العجلات الأمامية فقط هي التي تدور، ولكن كان بوسعها أن تشعر بالعجلات الخلفية تتلكأ بطريقة جعلت العربة تتطاول كمنفاخ الكاميرا؛ وكانت ترى الجياد تتصاغر وتتصاغر على البعد … كان السائق قد استعاد سوطه منها … لا يمكنهم المضي على هذا المنوال … أجل، أجل، أجل، أجل يمكنهم … كلا، لا يمكنهم … أجل. كلا، أجل … كلا … ولكن، لِمَ لا؟ لِمَ لا؟ أجل … كلا، أجل … كلا … وخلعت عنها خواتمها، ومشبك صدرها، وأقراطها، وسوارها، ووضعتها كلها في جيب سترتها ثم ألقت بها إلى السائق، راجية منه ألا يتوقف. لا بد لها أن تنقذ زوجها. ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد … لا بد أن تصل إلى هناك، تصل إلى هناك، تصل إلى هناك، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد … لا بد لها أن تصل إلى هناك، وترجو الإبقاء على حياة زوجها، وتنقذه … ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد. حجارة، أخاديد، طين جاف، عشب أخضر، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد … إنهم ثابتون كأسلاك أعمدة البرق، أو بالأحرى يرجعون القهقري كأسلاك أعمدة البرق، كالأشجار المزروعة، كالحقول اليباب، كالسحب الموشاة بأشعة الشمس الغاربة، كتقاطع الطرق المقفرة، كالنيران الساكنة.
وأخيرًا دلفوا إلى الطريق المؤدي إلى منزل الرئاسة، عبر شريط يختفي وسط الأشجار والأحراج. كان قلبها يخفق في اختناق. واتخذ الطريق مسرى وسط بيوت صغيرة لقرية مقفرة نظيفة. وهنا بدءوا يصادفون عربات عائدة من ضيعة الرئيس — طراز «لانداو» و«سلكي» و«كالانش» يشغلها أناس ذوو وجوه وكملابس تشبه بعضها بعضًا. وتقدمت جلَبةُ العجلات وحوافر الجياد على الطريق المرصوف، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد، لم يصلوا بعد … وبالإضافة إلى أولئك العائدين في عرباتهم — موظفون سابقون بالحكومة، وضباط سمانٌ متأنقون — كانوا يصادفون أناسًا آخرين سائرين على الأقدام: أصحاب أراض سبق استدعاؤهم لمقابلة الرئيس بصورة عاجلة منذ شهور مضت؛ ومزارعون يرتدون أحذية كالحقائب الجلدية؛ ومدرسات يتوقفن كل بضع دقائق لالتقاط أنفاسهنَّ وعيونهنَّ يعصف بها التراب وقد تقطعت أحذيتهن من وقع الطريق وارتفعت تنوراتهن، إلى ركبتهن؛ وفِرَق من الشرطة الهنود لا يفقهون إلا قليلًا مما يجري حولهم. لا بد لها أن تنقذه … أجل، أجل … ولكن هل يصلون أبدًا إلى هناك؟ أول شيء هو الوصول إلى هناك، والرجاء، وإنقاذه. ولكنهم لم يصلوا حتى الآن. لم يبق هناك الكثير عبور القرية ليس إلا. كان يجب أن يكونوا هناك الآن، ولكن القرية لا تبدو لها نهاية! إن هذا هو نفس الطريق الذي مرت به صور يسوع وعذراء الآلام محمولة على الأكتاف في يوم الخميس المقدس، وعوت الكلاب عند سماعها موسيقى الطبول الحزينة حين كان الموكب يمرُّ أمام الشرفة التي يقف فيها الرئيس تحت ظُلَّة من قماش أرجواني موشحة برسوم الزهور، ومر يسوع وقد انحنى ظهره من ثقل الصليب الخشبي، أمام قيصر، ولكن نظرات الإعجاب من الرجال والنساء اتجهت إلى قيصر وليس إلى يسوع. لم تكن الآلام بكافية، لم يكف البكاء ساعات وساعات، لم يكف أن تشيخ والعائلات والمدن من وطأة اليأس؛ بل كان لزامًا لمضاعفة الإثم أن تعبر عينا السيد الرئيس بصورة المسيح وهو يتألم، ومر بالفعل وعيناه غائمتان تحت ظُلَّة ذهبية شائنة، بين صفَّين من الأفاقين وعلى وقع صلصلة موسيقى وثنية.
وتوقفت العربة أمام المنزل الفاخر. وأسرعت زوجة «كرفخال» تجري عبر الطريق من أشجار مقطوعة الساق. وتوجَّه إليها أحد الضباط يقطع عليها الطريق: سيدتي، سيدتي … — لقد أتيت لمقابلة الرئيس.
– السيد الرئيس لا يقابل أحدًا يا سيدتي، عودي أدراجك.
– بلى، بلى، سيُقابلني، أنا، إنني زوجة المحامي «كرفخال» … ومضت قدمًا إلى الأمام، متملِّصة من أيدي الجنود الذين أسرعوا خلفها ينادون عليها، حتى وصلت إلى منزل صغير تسطع أنواره الباهتة في ظلال الغسق … «إنهم سيعدمون زوجي أيها الجنرال»!
كان ثمة رجل طويل القامة، داكن البشرة، مرصَّع بالنياشين الذهبية، يمشي في ردهة ذلك المنزل الدمية. وتوجهت إليه وقالت له بشجاعة: «إنهم سيعدمون زوجي أيها الجنرال!» وظلَّ الضابط الذي تبعها من الخارج يردِّد أنه من المستحيل عليها أن تقابل الرئيس.
وبالرغم من حُسن خُلق الجنرال، فقد رد عليها بفتور: السيد الرئيس لا يُمكنه مقابلة أحد يا سيدتي. لا بدَّ لك من الذهاب.
– آه يا جنرال! آه يا جنرال! ماذا سيكون حالي بدون زوجي؟ ماذا سيكون حالي بدون زوجي؟ كلا، كلا يا جنرال! إنه سيُقابلني، دعني أدخل، دعني أدخل! قل له إنني هنا! إنهم سوف يعدمون زوجي!
كانت دقات قلبها تسمع عبر ردائها. ولم يدعوها تركع على ركبتيها. وكانت أغشية أذنيها تطوفان وقد اخترقها الصمت الذي واجهوا به طلباتها.
وطقطقت أوراق الأشجار الذابلة في الغسق من خشية الرياح التي تهب عليها فتُطيرها من على الأرض. وتهالكت على أحد المقاعد. إنَّ الجنود مجبولون. من جليد أسود. متصلِّبو الشرايين. وارتفع نشيجها إلى شفتيها بصوت حفيف الثياب المنشاة، يكاد يماثل صوت السكاكين. وكان اللعاب يَنبجِس من ركنَي فمها مع كل دفقة أنين. وتهالكت على المقعد بعد أن روته بأنينها كأنما هو حجر لشحذ السكاكين. لقد أبعدوها عن المكان الذي كان يمكن أن تعثر فيه على الرئيس. ومرت دورية حراسة جعلتها ترتعد من البرد. كانت تفوح منها رائحة مقانق الثوم والعسل الأسود وخشب الصنوبر المنزوع اللحاء. واختفى المقعد في الظلمة كاللوح الخشبي في وسط البحر. وتحرَّكت من مكان إلى آخر حتى لا تغرق في مقعدها وسط الظلمة، حتى تبقى على قيد الحياة، واستوقفها حراس منبثُّون وسط الأشجار مرتين، ثلاث مرات، مرات عديدة. كانوا يرفضون بأصوات أجشة أن يدعوها تمر، ويهددونها إذا ألحت بكعب أو ماسورة بنادقهم. وحين صادفت الإحباط عن الشمال، جرت ناحية اليمين. وتعثرت في الأحجار، وأصابتها الأجمات المليئة بالأشواك بالجراح، كان طريقها يسده مزيد من حراس من جليد. وتضرعت، وناضلت، ومدت يدها كالمتسولة؛ وحين لم يصغِ أي واحد منهم إليها. أخذت تجري في الاتجاه المقابل.
وجرفت الأشجار ظلها ناحية عربة الأجرة، ظلها الذي ما كاد يضع قدميه على سلم العربة حتى عاد مرة أخرى كالمجنون ليرى ما إذا كان يُجدي الاسترحام مرة أخيرة. واستيقظ السائق وكاد أن يطوح الحلى الصغيرة الراقدة في دفء جيبه حين جذب يده بسرعة كيما يمسك اللجام. كان الوقت يمر في بطء شديد بالنسبة إليه، وكان تواقًا إلى العودة والمباهاة وسط أقرانه، ولديه أسلحته لذلك الغرض: أقراط، خواتم، أساور، بوسعه رهنُها والانتفاع بالنقود. وحك إحدى قدميه بالأخرى، وجذب قبعته فوق عينيه، وبصق. ماذا كان يحدث هنا في الظلام؟ وعادت زوجة «كرفخال» إلى عربة الأجرة كالسائرة في نومها. واتخذت مقعدها في العربة وقالت للسائق أن يَنتظر برهة، فربما يفتحون الباب … نصف ساعة … ساعة …
وسارت العربة دون أن يصدر عنها أي ضجيج، فإما أنها لم تسمع جيدًا، وإما أنهم لم يتحرَّكوا بعد … وكان الطريق يهوي إلى قاع وهدةٍ عبر تل شديد الأغوار؛ وبعد ذلك، يصعد مرة أخرى إلى المدينة. أول جدار مظلم. أول بيت أبيض. وفي فجوة حائط ثمة إعلان عن «أونوفرف» … وشعرت كأنما كل شيء يَلتحم بحزنها … الهواء … كل شيء … ثمة مجموعة شمسية في كل دمعة تذرفها … ومئات من قطرات الندى تسقط من الأسطح على الأفاريز الضيقة … لم تكن الدماء تكاد تجري في عروقها … كيف حالك؟ إنني مريضة، مريضة، مريضة جدًّا … وغدًا، كيف سيكون حالك؟ على نفس المنوال، واليوم الذي يليه كذلك … كانت ترد على أسئلتها هي نفسها … واليوم الذي يلي الغد أيضًا …
إن ثقل الموتى يجعل الأرض تدور ليلًا، وهي تدور بالنهار بفعل ثقل الأحياء … وحين يزيد عدد الموتى على عدد الأحياء، سيُصبح الليل أبديًّا، لا نهاية له؛ ذلك أن الأحياء لن يكون لهم الثقل الكافي لإعادة النهار.
وتوقفت العربة. وكان الطريق منبسطًا، ولكن ليس لها؛ لأنها توقفت عند باب السجن الذي لا بد يقينًا أن …
وسارت قدمًا في بطء، خطوة خطوة، ملتصقة بالجدار. لم تكن ترتدي ثياب الحداد، ولكنها اكتسبت قدرة الخفافيش على اللمس في الظلام … الخوف، البرد، الاشمئزاز، قهرتها جميعًا كيما تلصق نفسها بالجدار الذي سيردِّد صدى طلقات الرصاص … وعلى أية حال، فهم لن يستطيعوا إطلاق الرصاص على زوجها، هكذا، بينما هي واقفة هناك. كيف يحدث هذا لرجال مثله، أناس مثله، لهم أعين، وفم، وأيد، وشعر على رءوسهم، وأظافر على أصابعهم، وأسنان في أفواههم، ولسان، وحلق … ليس ممكنًا أن يطلقوا النار على أناس هكذا، أناس لهم نفس لون الجلد، لهم نفس رنة الصوت، نفس طريقة الإبصار، والسمع، والإيواء إلى الفراش، والنهوض، والحب، وغسل الوجه، والأكل، والضحك، والسير، لهم نفس المعتقدات والشكوك …