النقاط فوق الحروف
أخذت أرملة «كرفخال» تهيم من منزل إلى منزل، حيث استقبلوها ببرود في كل مكان؛ ولم يكن يجرؤ إلا القليل من الناس على إظهار حزنهم على وفاة زوجها خوفًا من اعتبارهم أعداء للحكومة. وفي بعض الحالات أطل الخدم من النوافذ ليصيحوا بها دون لياقة:
«من تريدين؟ أوه، لا أحد في المنزل.»
وذاب الجليد الذي هطَل عليها من جراء تلك الزيارات حالما وصلت إلى منزلها. وعادت تذرف فيضانات من الدموع أمام صورة زوجها، دونما رفيق سوى ابنها الصغير، وخادمة صماء ظلَّت تصيح بالطفل بأعلى صوتها: «إن حب الأب هو أعظم نعمة في الوجود!» وببغاء يُردِّد مرارًا وتكرارًا: «بغبغان ملوكي من البرتغال، ملابسه خضراء وليس معه مليم! صباح الخير أيها المحامي. صافحيني يا بولِّي. النسور في المغسلة. رائحة ملابس تحترق. مبارك هو سرُّ القربان المقدَّس، ملكة الملائكة الطاهرة، العذراء التي حملت دون دنس. آي، آي …»
كانت قد خرجت ترجو الحصول على توقيعات على ملتمس إلى الرئيس لتسليمها جثة زوجها، بيد أنها لم تجرؤ على ذكر الموضوع في أي من البيوت التي زارتها؛ ذلك أنهم استقبلوها دون أي ترحاب، في تردُّد، بين نوبات سعال وفترات صمت مشئوم؛ ومن ثمَّ فقد أحضرت معها الورقة تحت شالها الأسود لا تحمل أيَّ توقيع غير توقيعها هي: كانوا يُشيحون برءوسهم جانبًا، مُتظاهِرين أنهم لم يروها، واستقبلوها على عتبة الباب دون العبارة المعهودة: «تفضَّلي بالدخول.» وبدأت تشعر كأنما تعاني من مرض مُعدٍ خفي، شيء أفظع من الفقر، من الكوليرا، من الحمى الصفراء؛ ورغم ذلك فقد تلقَّت وابلًا من «الخطابات الغفل» كما تقول الخادمة الصماء كلما عثرت على خطاب مُلقًى من تحت فرجة باب المطبخ الصغير الذي يطلُّ على زقاق مظلم مهجور، وهي أوراق مطوية مكتوبة بخط مرتعش تُوضع هناك تحت ستار الليل؛ وكان أقل وصف يخلعونه عليها في ذاك الخطاب هو القديسة، الشهيدة، الضحية البريئة، بالإضافة إلى رفع مكانة زوجها التعس إلى السماء، ووصف الجرائم التي ارتكبها الكولونيل «باراليس سونرينتي» بتفاصيلها البشعة.
سيدتي: إنَّ هذه ليست أفضل طريقة أنقل بها لك ولأسرتك المحزونة الاحترام العميق الذي أكنه لشخصية زوجك، مواطننا المبجَّل السيد «قابيل كرفخال»، ولكن اسمحي لي أن ألجأ إلى هذه الطريقة من باب الحرص، ذلك أن بعض الحقائق لا يمكن استئمانها للورق، ويومًا ما سأقول لك اسمي الحقيقي. لقد كان والدي أحد ضحايا ذلك الرجل الذي تنتظره كل أهوال جهنم — الكولونيل «باراليس سونرينتي» — ذلك القاتل المأجور الذي سوف تُسطَّر أفعاله يومًا ما في صفحات التاريخ، إذا كان يوجد من هو على استعداد لأن يغمس قلمه في سم الثعابين ليكتبها. لقد قتل هذا الرجل الجبان والدي في طريق مهجور منذ سنوات عديدة. ولم يَثبُت شيء بالطبع، وكانت الجريمة ستظل لغزًا لو لم يتقدَّم أحد الغرباء الذي كتب إلى أسرتي، دون توقيع، يصف الجريمة البشعة بالتفصيل. وإنني لا أعلم ما إذا كان زوجك، هذا الإنسان المثالي، هذا البطل الذي له في قلوب مُواطنيه تمثال من المجد، هو في الحقيقة من انتقم من جرائم «باراليس سونرينتي»، ذلك أن هناك عددًا من القصص المختلفة مُتداوَلة حول هذا الموضوع؛ ولكن على أية حال فإني أرى من واجبي أن أعبر لك عن خالص عزائي، وأن أؤكد لكِ يا سيدتي أننا قد بكينا جميعًا معك لخسارة رجل خلص بلده من أحد رجال العصابات المتعدِّدين الذين يسيئون إليه، والذين يستغلون ذهب أمريكا الشمالية لإخضاعه لحكم الحديد والنار.
كانت الأرملة مستنزفة فارغة، قد شلها قصور عميق عن الحركة جعلها تبقى راقدة في سريرها ساعات طويلة كالجثة أو هي أشبه، فعصرت أنشطتها على مجال منضدة مجاورة لسريرها (وعليها الأشياء التي تحتاج إليها دائمًا حتى تتجنَّب النهوض) وعلى هجمات من الهستيريا تنتابها إذا حاول أي شخص فتح الباب أو استخدام مكنسة أو صدر عنه أي صوت بالقرب منها. وخلعت الظُّلمة والصمت والقذارة هيبة على عزلتها، على رغبتها في أن تكون وحيدة مع حزنها، مع ذلك الجزء منها الذي مات مع زوجها والذي كان يسيطر تدريجيًّا على جسدها وروحها.
سيدتي المحترمة المبجلة: سمعت من بعض الأصدقاء أنك قد وضعت أذنك على جدران السجن ليلة إعدام زوجك رميًا بالرصاص. وحتى لو أنك سمعت وأحصيت الطلقات التسع، فإنك لن تعرفي أيها اختطفت المحامي «كرفخال»، رحمة الله عليه، من بين الأحياء.
وبعد كثير من التردُّد خوفًا من أن أسبب لك ألمًا، قررت أن أكتب إليك باسم مستعار — فمن الخطورة استئمان الخطابات هذه الأيام — لأنقل إليك كل ما أعرف عن الموضوع، فقد شهدت الإعدام. كان ثمة رجل نحيف أسمر البشرة وذو شعر أشيب يغطي جبهته العريضة، يمشي أمام زوجك. ولم أفلح في معرفة اسمه.
وبرغم المعاناة التي تبدَّت في دموعه، كانت عيناه الغائرتان تشعان بشعور دافق من الرحمة الإنسانية، وكان بوسع المرء أن يقرأ فيهما أن صاحبهما رجل نبيل وكريم. وكان المحامي يتعثَّر خلفه دون أن يرفع عينيه عن الأرض — وربما أيضًا لم يكن يراها — يبلل العرق جبهته، وإحدى يديه على صدره ربما ليمنع قلبه من أن ينفجر. وحين خرج إلى الفناء ورأى نفسه محاطًا بالجنود، حك عينيه بظهر يديه كأنما هو لا يصدق ما يراه. كان يرتدي حُلة ناحلة صغيرة عليه بحيث لا تصل أكمام السترة إلا إلى مرفقيه، ولا يصل البنطال إلا إلى ركبتيه، ملابس قديمة مجعدة قذرة مهلهلة، ككل الملابس التي يرتديها السجناء المحكوم عليهم بالإعدام، بعد أن يُعطوا ملابسهم الأصلية إلى أصدقائهم الذين يخلفونهم وراءهم مقبورين في زنزانات السجن التحتية، أو إلى حراس السجن مقابل بعض الخدمات الخاصة. كانت فتحة قميصه لا يقيمها سوى زر واحد من العظم. ولم يكن يَرتدي ربطة عنق ولا حذاء. بيد أن وجود رفاقه في الكارثة معه، أنصاف عرايا مثله، أنعش شجاعته. وبعد أن فرغوا من قراءة حكم الإعدام، رفع رأسه ونظر في حزن إلى صفِّ حراب السونكي، وقال شيئًا غير مسموع. وحاول الرجل الهرم الذي كان بجواره الكلام هو الآخر، ولكن الضباط أسكتوه بتهديده بسيوفهم. كانت أيدي الضابط ترتعش من جراء الخمر التي شربوها، وبدت سيوفهم كالشعلات الزرقاء للكحول المحترق في ضوء الفجر الشاحب. وفي تلك الأثناء، ارتج صوت مصطدمًا بصداه المتردِّد من الجدران وهو ينطق عبارة: «من أجل الأمة»! وتبع ذلك واحد، اثنان، ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع دورات من الرصاص. وكنت أعدها على أصابعي، دون أن أشعر بما أفعل، ولذلك فقد تولَّد لديَّ منذ ذلك الوقت انطباع غريب بأن عندي إصبعًا زائدة. وأغلق الضحايا عيونهم وثنوا أجسادهم كأنما ليتحسَّسوا طريقهم بعيدًا عن مرمى الموت. وارتفع نقاب من الدخان فاصلًا بيننا وبين هذه الحفنة من الرجال الذين جاهدوا عبثًا أن يمسك الواحد منهم بالآخر إذ هم يَسقطون بدلًا من أن يهووا وحدهم إلى الفراغ. وارتجت طلقات الرحمة كانفجار الصواريخ الرطبة التي يتأخَّر مفعولها وتنفجر على نحو رديء. وكان من حسن حظ زوجك أن قتلته أول دورة من الرصاص. وكان يسمع عاليًا، في السماء الزرقاء البعيدة المنال، صوت الأجراس والأطيار والأنهار، خافتًا لا يكاد يُبين. وقد قيل لي إن المدعي العسكري العام قد اضطلع بدفن اﻟﺟﺜ …»
وقلبت الصفحة في لهفة، «اﻟﺟﺜ …»، بيد أن بقية الكلمة لم يكن لها وجود، ولا أي صفحات أخرى؛ فقد انقطع الخطاب فجأة، ولم يكن هناك من بقية له وأعادت قراءة الخطاب، ولكن عبثًا، وبحثت داخل المظروف، وقلبت الفراش، وبحثت في الوسائد، وعلى الأرض، وعلى المائدة، وقلبت كل شيء رأسًا على عقب في لهفتها لأن تعرف أين دُفن زوجها. وفي الفناء، كان الببغاء يهذر:
«بغبغان ملوكي من البرتغال، ملابسه خضراء وليس معه مليم! آه، ها هو المحامي يأتي، مرحى أيها البغبغان الملوكي! قال لي الكذوب! إني لا أبكي ولكني لا أنسى!»
•••
تركت خادمة المدعي العسكري العام أرملة «كرفخال» واقفة على عتبة الباب والتفتَت إلى امرأتين تتحدَّثان بأعلى صوتَيهما في ردهة المدخل.
كانت إحداهما تقول: اسمعي، اسمعيني فحسب، اذهبي وقولي له إنني لن أنتظره أكثر من ذلك. إنني لست من الهنود، عليه اللعنة، حتى يتركني «وقفاي يُقمر عيشًا» على هذا المقعد الحجري! إنه يذكرني بوجهه القبيح! قولي له إنني قد جئت أرى ما إذا كان سيرد لي أخيرًا العشرة آلاف بيزو التي اختلَسها مني لقاء امرأة من سجن «كأسا نويفا» ظهر أنها لا نفع منها لديَّ؛ لأنه في اليوم الذي أحضرتها فيه إلى منزلي وقعت فريسة نوبة صرع. ثم، اسمعي، قولي له إنها آخر مرة سأزعجه فيها؛ لأن ما سأفعله الآن هو الذهاب للشكوى إلى السيد الرئيس.
وقالت لها المرأة الأخرى: لا تُعكِّري دمك يا سيدة «تشون»، اطرحي عنك هذا الوجه الغاضب البا … ئس.
وحاولت الخادمة الكلام إلى المرأة الأخرى: … آنستي … ولكن الآنسة قاطعتها قائلة: اخرسي أنت.
– قولي له ما قلت لك، ولا تقبلي منه الزعم بأنني لم أعطه فسحة من الوقت: قولي له إنَّ السيدة «تشون» قد جاءت لتراه مع إحدى الفتيات، وحين علمتا أنه ليس هنا، ذهبتا قائلتين إنه سوف يرى من أي معدن هما.
ولم تدرك أرملة «كرفخال» شيئًا مما يجري حولها، إذ كانت مستغرقة في أفكارها. كانت تبدو في ثيابها السوداء، لا يظهر منها إلا وجهها، مثل الجثة المسجَّاة في نعش ذي نافذة. وربتت الخادمة على كتفها — وبدت أصابع المرأة العجوز كأنما هي مغطاة بخيوط العنكبوت — ودعتها إلى الدخول … ودخلتا المنزل. ولم يكن بوسع الأرملة التحدث بوضوح، بل كانت تُهمهم كامرئ، قد تعب من طول القراءة بصوت مسموع.
– أجل يا سيدتي اتركي خطابك معي. وحين يحضر — ولن يطول ذلك كثيرًا إذ إنه كان يجب أن يكون هنا الآن بالفعل — سوف أعطيه له وأقول له ما تريدين — بحق الله.
وفي اللحظة التي كانت أرملة «كرفخال» تغادر فيها المكان، ظهر شخص يرتدي حلة قطنية بلون القهوة، يتبعه جندي قد علق بندقيته «الرمنغتون» فوق كتفه وخنجرًا في زناره، ونطاقًا مليئًا بخراطيش الرصاص حول عجيزته.
وقال ذلك الشخص للخادمة: من فضلك، هل المدَّعي العسكري العام موجود؟
– كلا، إنه ليس هنا.
– وأين أستطيع أن أنتظره؟
– اجلس هنا، والجندي أيضًا.
وجلس السجين وحارسه في صمت على المقعد الحجري الذي أشارت إليه الخادمة لهما من غير رقة.
إن الفناء يعبق برائحة زهور رعي الحمام والبيغونيا. وكانت ثمة قطة تمشي على سطح المنزل، وعصفور يحاول الطيران داخل قفصه الخيزراني. ومن بعيد، كان يَسمع صوت خرير المياه التي تنساب في خمول إلى النافورة كأنما يصيبها الدوار من السقوط.
وأغلق المدعي العسكري العام الباب في صلصلة من المفاتيح، ثم وضعها في جيبه وتوجه إلى السجين والجندي، ووقف كلاهما.
وتساءل وهو يشن بأنفه: «خينارو روداس»؟ كان البيت، في كل مرة يدخل من الخارج، يعبق برائحة مخلفات القطط.
– أجل يا سيدي، في خدمتكم.
– هل يفهم حارسك اللغة الإسبانية؟
فرد روداس: «قليلًا جدًّا منها». والتفت إلى الجندي وأضاف: ما قولك؟ هل تفهم القشتالية؟
– نصف نصف.
فقال المدعى العام: حسنًا جدًّا. يحسن أن تبقى هنا. وسوف أتحدث معه. ابق هنا إلى حين أن يعود، سوف يتحدَّث معي.
وتوقَّف روداس على باب حجرة المكتب. وطلب إليه المدعي العام الدخول، ووضع الأسلحة التي كانت معه على منضدة مُغطاة بالكتب والأوراق، مسدَّس، وخنجر، وحزام يد معدني، وهراوة قصيرة.
– أظن أنهم قد أخطروك بالحكم؟
– أجل يا سيدي.
– ست سنوات وثمانية شهور، على ما أذكر.
– ولكن يا سيدي، إني لم أكن شريكًا للوسيو فاسكيز؛ لقد فعل ما فعل دون أي مساعدة مني؛ وحين وصلت إلى ذلك المكان، كان الأبله يتدحرَج بالفِعل على سلالم الرواق مُغطًّى بالدماء وشبه ميت. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ كانت أوامر. قال لي إنها أوامر صادرة إليه.
– حسنًا، لقد نفذ فيه حكم الله بالفعل.
والتفت «روداس» لينظر إلى المدعي العام، كما لو لم يكن بإمكانه أن يُصدق ما كانت سيماء وجهه الشريرة تؤكده، وظلا صامتين. ثم تنهد «روداس» قائلًا: «لقد كان شابًّا طيبًا.» ثم خفض صوته وهو يقول العبارات التالية في ذكرى صديقه، وكان قد تلقى النبأ بين دقتين من دقات قلبه وها هو يشعر به في دمائه: «حسنًا، لا فائدة ترجى الآن! لقد كنا ندعوه «بالقطيفة» لأنه كان دائمًا يَعرف من أين تُقطف الثمرة.»
– لقد حُكم عليه طبقًا لعريضة الاتهام على أساس أنه مقترف الجريمة، وعليك بوصفك شريكًا له. — ولكني وكلت محاميًا عني.
– لقد كان المحامي بالذات في الواقع، وهو يعرف رأي السيد الرئيس من القضية، هو الذي طلب الإعدام لفاسكيز وأقصى عقوبة لك.
– يا للشاب المسكين! إني على قيد الحياة على الأقل، أحكي القصة.
– وبإمكانك أن تصبح حرًّا على الفور إذا أنت رغبت؛ لأن السيد الرئيس بحاجة إلى شخص مثلك، شخص جرب السجن فترة لأسباب سياسية. إن الموضوع يتعلَّق بمراقبة واحد من أصدقائه، لديه من الأسباب ما يجعله يعتقد أنه يخونه … — هل تعني …؟
– هل تعرف ميغيل ذا الوجه الملائكي؟
– بالاسم فقط. إنه ذلك الذي اختطف ابنة الجنرال كاناليس، أليس كذلك؟
– أجل، إنه هو. إنك ستتعرف عليه بسهولة لأنه وسيم للغاية: رجل طويل، حسن البنية، أسود العينين، شاحب الوجه، حريري الشعر، رشيق الحركة. إنه عميل خطير، وتريد الحكومة أن تعرف كل شيء يقوم به، والناس الذين يزورهم أو يتحدَّث معهم في الطريق، والأماكن التي يتردد عليها في الصباح وفي الظهيرة وفي الليل، ونفس الشيء بالنسبة إلى زوجته. سوف أعطيك تعليمات كاملة ونقودًا كافية لذلك الغرض.
وتابع السجين حركات المدَّعي العام في بلاده؛ إذ تناول بعد كلماته تلك ريشة من على المنضدة وغمسها في محبرة كبيرة عليها تمثال للإلهة «تيميز» واقفة بين بئرين من الحبر الأسود، وأعطاها إلى «روداس» قائلًا: وقع بإمضائك هنا، وسأصدر أوامري غدًا بإطلاق سراحك. جهِّز أشياءك كيما تخرُج غدًا.
ووقع «روداس» باسمه كان السرور يرقص في ثنايا جسده كالثور الصغير الهائج.
وقال وهو يخرج: «إنني ممتنٌّ جدًّا، جدًّا.» وكاد أن يقبل الجندي الذي كان بانتظاره، وعاد إلى السجن كرجل ذاهب إلى الجنة.
تسلمت من السيدة «كونسيسيون غاموسينو»، ولقبها «ذات السن الذهبية»، صاحبة محل الدعارة المسمى «النشوة اللذيذة»، مبلغ عشرة آلاف بيزو بالعملة المحلية، وهو مبلغ أعطته لي كتعويض جزئي عن الضرر الذي سببته لي بإغواء زوجتي — السيدة «فيدينا دي روداس» — بأن استغلَّت حسنَ نيتها وطيبتها، واستغلَّت السلطات بأن عرضت عليها العمل كخادمة لديها، ثم أدرجتها، دون أي تصريح بذلك، في عداد الفتيات اللائي يعملن في بيت الدعارة.
وسمع صوت الخادمة تقول من وراء الباب: هل يُمكنني الدخول؟
– أجل، ادخلي.
لقد أتيت لأرى ما إذا كنت تحتاج لأي شيء. إنني ذاهبة إلى الحانوت لشراء شمع، ولا بد أن أقول لك إنه قد حضرت إلى هنا امرأتان من بيت الدعارة، قالتا لي أن أقول لك إنه إذا لم تُعد إليهما العشرة آلاف بيزو التي سرقتَها منهما، فسيذهبان ويشكوان للرئيس.
وتمتم المدعي العام وقد بدا عليه الضيق وهو ينحني ليلتقط طابع بريد من على الأرض، وماذا أيضًا؟
– كما حضرت سيدة في ملابس الحداد تريد رؤيتك، وأظن أنها زوجة الرجل الذي أُعدم …
– أي واحد فيهما؟
– السيد «كرفخال».
– حسنًا، وماذا كانت تريد؟
– لقد أعطتني المسكينة هذا الخطاب. أظن أنها تريد أن تعرف أين دفن زوجها.
وبينما المدعي العام يتطلَّع في تردَّد إلى الورقة المحاطة بالسواد، استطردت الخادمة تقول: عليَّ أن أقول لك إنني قد وعدتها بأن أبذل جهدي لمساعدتها لأنني أشعر بالأسف من أجلها، فخرجت المسكينة وهي تؤمِّل خيرًا.
– لقد قلت لك مرارًا وتكرارًا إنني لا أحب أن تتعاطفي مع الناس. يجب عليك ألا تُشجيعهم على الأمل خيرًا. متى ستفهمين أن عليك ألا تشجعي الناس على الأمل خيرًا؟ في بيتي، أول شيء يجب على الجميع، حتى القطة، أن يتعلموه هو أنه لا توجد أسباب لأي أمل من أي صفة لأي شخص. إن المرء لا يمكنه الاحتفاظ بمنصب مثل منصبي إلا إذا أطاع الجميع أوامره؛ والقاعدة التي استنها السيد الرئيس هي عدم إشاعة أي أمل، وينبغي ركل الناس وضربهم والدوس عليهم إلى أن يتبينوا ذلك. حين تأتي تلك السيدة، عليك أن تعيدي إليها خطابها، مطويًّا كما هو، وتقولي لها إنه لا سبيل لها إلى معرفة المكان المدفون فيه زوجها.
– لا تغضب هكذا وإلا فسوف تقع فريسة للمرض. سأقول لها ذلك. رعاك الله وسدَّد خطاك.
وخرجت تحمل الخطاب وتجر قدميها، واحدة بعد الأخرى، واحدة بعد الأخرى، تحت تنورتها المنشاة.
وحين بلغت المطبخ، جعدت الخطاب بين أصابعها وألقت به وسط الفحم، وتغضَّنت الورقة بين النيران كأنها جسمٌ حيٌّ، ثم تحوَّلت فجأة إلى كتلة من الديدان الصغيرة المصنوعة من أسلاك الذهب. ومشَت قطة سوداء عبر الرفوف حيث اصطفَّت مرطبانات البهارات، منبسطة كالجسور، ثم قفزت على المقعد الحجري إلى جوار المرأة العجوز، وحكَّت نفسها على بطنها العقيم، وهي تهرُّ كصوتٍ تطاوَل إلى أن أصبح ذا أقدام أربع؛ ثم ثبَّتت عينيها الذهبيتَين، في حب استطلاعٍ شيطاني، على قلب النيران التي كانت الآن قد أتت على الخطاب وأحالته رمادًا منثورًا.