نشيد الأنشاد
وكانا يقولان، أحدهما للآخر: «ماذا يكون عليه الحال لو لم يجمع بيننا القدر؟!» ذلك أن فكرة المخاطرة التي مرَّا بها كانت تملؤها بالرعب، لدرجة أنه إذا حدث وافترقا، فإن كلًّا منهما يأخذ في البحث عن الآخر؛ وإذا كانا معًا تعانَقا؛ وإذا كان الواحد منهما في أحضان الآخر ضمَّه إلى حضنِه أكثر وأكثر، ولا يكتفي بذلك بل يُقبله بحرارة ويُغرق نظراته في عينَيه، ثم يغرقان في خضمِّ من السعادة يحملهما إلى حالة شفافة من الذهول، في وفاق نشوانٍ مع الأشجار المُمتلئة بالعصارة الجديدة، ومع نُدَف اللحم الصغيرة المغطَّاة بريشٍ مُتلألئ الألوان، والتي تَطير في خفَّة تُضارع خفَّة الصدى.
ولكن الثعابين بحثَت في ذلك السؤال. لو أن القدر لم يجمع بينهما، أكانا سيشعران بالسعادة؟ وطُرح حق تدمير هذه الجنة الساحرة عديمة الجدوى في المزاد بين الأشباح الجهنَّمية؛ وبدأت الأرواح الشريرة تترقَّب، وانبجس صوت الشكِّ من بين لقاح الإثم الرطيب، في حين نسجت الأيام خيوطًا عنكبوتيةً في جوانب الزمن.
ولم يكن بمستطاعه ولا بإمكانها أن يتجنَّبا حضور الحفلة التي يقيمها رئيس الجمهورية في منزله الريفي هذه الليلة. وبدا بيتُهما غريبًا عليهما فجأة. كانا حائرين كيف يتصرفان. وجلسا في حزن يحيط بهما أريكة ومرآة للزينة وأثاثات أخرى، بدلًا من العالم الساحر الذي كان يحيط بهما في شهور زواجهما الأولى. كان كل منهما يشعر بالأسف من أجل الآخر، وبالخجل من كونهما على ما هما عليه.
وكان ثمة ساعة حائط تدق في حجرة الطعام. ولكنهما شعرا أنهما بعيدان جدًّا لدرجةٍ يحتاجان معها إما إلى قارب أو بالون ليذهبا إلى مكان الحفلة. وجلسا في حجرة الطعام … وأخذا يأكلان في صمتٍ وأعينهما على رقَّاص الساعة الذي يُقرِّبهما مع كل حركة منه إلى موعد الحفل. ونهض ذو الوجه الملائكي كيما يَرتدي سُترة السهرة. وشعر بالبرودة وهو يُدخل ذراعَيه في الأكمام، كشخص يلفُّ نفسه في أوراق الموز. وحاولت كميلة أن تطوي منشفة المائدة، ولكن المنشفة كانت هي التي طوت يديها عوضًا عن ذلك؛ وجلسَت بين المائدة ومقعدها، لا تشعر بأي قوة للقيام بالخطوة الأولى في الاستعداد للذهاب إلى الحفل. وعاد ذو الوجه الملائكي ليرى الوقت، ثم رجع إلى حُجرته ليُحضِر قفازيه. ووصل إليها وقع أقدامه على مبعدة كأنما هو يمشي في نفق. وقال شيئًا. شيئًا. وبدا صوتُه غير واضح. وعاد إلى الظهور بعد برهة في حُجرة الطعام يحمل مروحة زوجته. ولم يكن بوسعه أن يتذكر ما هو الشيء الذي ذهب لإحضاره من غرفته وكان يبحث عنه في كل الأنحاء في إبهام. وتذكر آخر الأمر، بيد أن قفازيه كانا في يديه بالفعل!
وقالت كميلة للخدم الذين كانوا يرقبون خروجهما من الباب إلى الممشى: تأكدوا من إطفاء جميع الأنوار، ثم أَغلِقُوا الباب بعناية، وبعد ذلك يُمكنكم الذهاب إلى الفراش.
وانطلقا في عربة تجرُّها جياد حسنة التغذية، تخبُّ في نهر من العملات الفضية المجلجلة المعلَّقة في السرج. ودفنت كميلة نفسها في ركن العربة؛ لم يكن بوسعها أن تنفض عنها ذلك الخدر الذي يجثم فوقها؛ والْتمَع الضوء الميت لمصابيح الطريق في عينيها. ومن آونة لأخرى، كانت العربة ترتجُّ بحركة مُفاجئة تهزها عن مقعدها، قاطعة حركة جسدها الذي أخذ يتابع إيقاع العربة. وكان أعداء ذي الوجه الملائكي يشيعون أنه لم يعد بعدُ محبوب السيد الرئيس ولا من الأثيرين لديه، وأخذوا يُلمِّحون في «نادي أصدقاء السيد الرئيس» إلى أنه ينبغي الآن أن يُدعى ميغيل كاناليس بدلًا من لقبه الحقيقي. وكان جالسًا في العربة تهزُّه عجلاتها وهو يستطيب مقدمًا مذاق الدهشة التي سيُسبِّبها لهم ظهوره في حفل الرئيس هذه الليلة.
وخلَّفت العربة الطرق المرصوفة وانحرفت إلى ربوة رملية جعلت العجلات تئنُّ بصوت أجوف. وشعرت كميلة بالخوف، فلم تكن ترى شيئًا في الظلمة من الريف حولها، بل النجوم فحسب، ولم تكن تسمع شيئًا من الحقول المغطاة بالندى إلا صرير الجنادب، وشعرت بالخوف وارتدَّت إلى الخلف كأنما هي مساقة إلى حتفها عبر ممشى «أو شبه ممشى» على إحدى جانبَيه هوَّة تفغَر فاها، وفي الجانب الآخر جناح الشيطان منبسطًا كالصخرة في وسط الظلمة.
وقال ذو الوجه الملائكي لزوجتِه وهو يأخذها برفق من كتفيها بعيدًا عن الباب: ما الخبر؟
– إني خائفة.
– هس، اهدئي.
– إن ذلك الرجل سيقلب العربة بهذه السرعة التي يسوق بها، قل له أن يبطئ قليلًا. أرجوك! آه يا عزيزي، ألم تسمع ما قلت؟ قل له! لماذا أنت صامت؟
فقال ذو الوجه الملائكي: إن هذه العربات …
ولكنه قطع عبارته، لأن زوجته أمسكت به حين حدثت هزة عنيفة غير متوقعة من عجلات العربة. وشعرا كأنهما يتدحرجان إلى الهوة.
قال وهو يلملم أطراف نفسه: خلاص، لقد مر الأمر. لا بد أن العجلات قد وقعت في حُفرة عميقة.
وكانت الريح تهبُّ على أعالي الصخور بقسوة مُحدِثة صريرًا كصوت تمزيق القماش. وأخرج ذو الوجه الملائكي رأسه من طاقة العربة ليصيح بالسائق أن يكون حريصًا بعض الشيء. وأدار إليه السائق وجهه الأسمر المنقور ببثور الجدري وأبطأ جياده حتى أصبحَت كأنها تسير بخُطى جنائزية.
وتوقفت العربة في الطرف الأقصى لقرية صغيرة. وتقدم نحوهم ضابط يَرتدي معطفًا فضفاضًا يُصلصل مهمازه، وتعرَّف عليهم وسمح للسائق بمواصَلة السير. وهمهمت الريح وسط أوراق عيدان الذرة الجافة المقطوعة. ولاح شبح بقرة مربوطة أمام أحد المنازل. وكانت الأشجار غافية. وعلى مبعدة مائتي ياردة، تقدم ضابطان ليريا من القادم، ولكن العربة لم تكدْ تتوقَّف. والآن، وقد كانوا على وشك الترجل أمام بيت رئيس الجمهورية، تقدم ثلاثة كولونيلات إلى الأمام لتفتيش العربة.
ورحَّب ذو الوجه الملائكي بضابط أركان الحرب (كان جميلًا وماكرًا كالشيطان). وكان ثمة حنين للبيت الدافئ يحوم في رحابة الليل الغريبة، ونور قنديل في الأفق يدلُّ على موقع ثكنة مدفعية تقوم على حراسة رئيس الجمهورية.
وخفضت كميلة عينيها أمام رجل ذي تكشيرة شيطانية، وكتفين مائلين، وعينين مستطيلتين، وساقين نحيلتين طويلتين. وحين دخلا، مدَّ هذا الرجل ذراعه ببطء وفتح يده كأنما هو على وشك أن يطلق حمامةْ منها بدلًا من أن يتحدَّث إليهما.
قال: «لقد أسر «بارثينيوس البيتاني» في حروب «ميتريدانس» وحُمل إلى روما حيث أشرف على تدريس البحر الشِّعري الإسكندري. لقد تعلَّمه منه «بروبرنيوس» و«أوفيد» و«هوراس» وأنا …»
وكانت ثمة سيدتان متقدمتا السن تتحادَثان عند باب الصالة التي كان الرئيس يَستقبل فيها ضيوفه. وكانت إحداهما تقول وهي تمرر يدها على تسريحة شعرها: «أجل، أجل، لقد قلت لهم إنهم لا بد أن يعيدوا انتخابه.»
– وماذا قال؟ إنني متشوِّقة بالفعل إلى سماع ذلك …
– لقد اكتفى بالابتسام؛ ولكني أعلم أنه سيُعاد انتخابه. إنه أفضل رئيس للجمهورية عرفناه يا «کانديديتا». هل تعلمين أنه منذ أن تولى الحكم، فإن زوجي «مونتشو»، قد تقلَّد أفضل المناصب؟
وخلف هاتين السيدتين، كان «المُعلِّم»، يتكلم في ثقة واعتداد وسط مجموعة من الأصدقاء.
وقال المدَّعي العسكري العام، وهو يلتفت يمينًا ويسارًا إذ كان يسير وسط الحلقة: «لقد سأل السيد الرئيس عنك، لقد سأل السيد الرئيس عنك، لقد سال السيد الرئيس عنك …»
فرد عليه المعلم: شكرًا لك!
فقال أحد أصحاب المناصب السود، مقوس الساقين، ذهبي السن، وهو يظن أن الشكر موجَّه إليه: «عفوًا.»
كانت كميلة تود ألا يلاحظها أحد في هذا الجمع الحاشد. ولكن ذلك كان مستحيلًا. ذلك أن جمالها النادر المثال، وعينيها الخضراوين الصافيتين الهادئتين، وجسدها الرقيق المغلَّف في ردائها الحريري الأبيض، وصدرها النحيل، وحركاتها الرشيقة، وفوق كل شيء: كونها ابنة الجنرال كاناليس، قد جعلها محط الأنظار. ولاحظت إحدى سيدات الجماعة قائلة: إنها لا تستحق كل هذا. امرأة لا تَرتدي «كورسيها» مشدَّها بوسع أي شخص أن يرى أنها عادية!
وهمسَت أخرى: «كما أنها قد أعادت تجهيز ثوب عرسها حتى ترتديه في الحفلات …»
– ورأت سيدة ناحلة الشعر الفرصة مواتيةً لتُضيف: «أنتم تعرفون أن الناس الذين لا يُحسنون التصرف هم دائمًا من يصبحون عرضةً للأنظار.»
– أوه، كم نحن قساة القلوب. إنما قلت تلك الملاحظة بشأن الثوب لأنه من الواضح أنهم في حالة عُسرٍ مادي!
فلاحظت السيدة ناحلة الشعر قائلة: «بالطبع هم معسرون، ونحن جميعًا نعلم السبب.» ثم أضافت في صوت خفيض: «يقولون إن السيد الرئيس لم يعد يُعطيه شيئًا منذ زواجه من تلك الفتاة!»
– ولكن ذا الوجه الملائكي يكنُّ له ولاءً خالصًا.
– بل كان يكنُّ له ولاءً خالصًا بالأحرى. لأنه كما يشاع، فإن ذا الوجه الملائكي هذا قد اختطف زوجته الحالية حتى يُعمي أنظار الشرطة عن هروب حميِّه الجنرال من المنزل؛ وإنه لولا ذلك لما تمكن الجنرال من الفرار!
وتقدَّمت كميلة وذو الوجه الملائكي وسط المدعوِّين إلى الطرف الأقصى من الصالة التي كان بها الرئيس. وكان فخامته يتحادَث مع أحد فقهاء القانون الدكتور «إريفرا غابلي»، وسط مجموعة من السيدات اللائي، حين اقترب الرئيس منهن، خرست الكلمات على ألسنتهن، كمَن ابتلع شموعًا مُشتعلةً، ولم يَجرُؤن على التنفُّس أو على فتح شفاههن. وكان هناك رجال مَصارف سبق القبض عليهم وخرجوا بكفالة ولا تزال قضاياهم أمام المحاكم، وسكرتيرون ذوو ميول تقدمية لم يرفعوا أعينهم عن السيد الرئيس دون أن يجرُءوا على توجيه التحية له حين ينظر إليهم، ولا على الانسحاب حين يُحوِّل بصره عنهم؛ وأعيان القرى، ممَّن انطفأ حماسهم السياسي، ولكنهم لا يزالون يُبدون شيئًا من عزة الكرامة الإنسانية حين يعاملون كالجراذين بينما هم ليوث في الحقيقة.
وكان الخدم يرُوحون ويغدون حاملين صحافًا عليها كئوس الشمبانيا، وفطائر صغيرة، ولوز مملح، وحلوى، وسجائر. وأوقدت الشمبانيا النار التي لم تكن بعدُ مُوقدة في هذه الحفلة الرسمية، فبدا كل شيء، كما بفعل السحر، حقيقيًّا إذ يَنعكِس في المرايا الهادئة، وخيالًا في الصالون، وكذلك الصوت الورقي لآلة موسيقية بدائية مصنوعة من جرة فخَّارية أضيفت عليها سمة حضارية بتعليق آلات صغيرة من حولها.
ورنَّ صوت الرئيس قائلًا: أيها الجنرال، خذ السادة خارجًا، فإني أودُّ أن أتناول العشاء وحدي مع السيدات …
وأخذ الرجال يخرجون من الأبواب التي تطلُّ على الليل البارق في جماعة واحدة، ودونما كلمة، وبعضهم متلهِّف إلى تنفيذ رغبة سيده، والبعض الآخر يحاول إخفاء غضبه بالإسراع في الخروج. وتطلعت السيدات إلى بعضهنَّ البعض، ولم يَجرُؤن حتى على إخفاء أقدامهن تحت مقاعدهن.
وألمح الرئيس قائلًا: بإمكان الشاعر أن يبقى …
وأغلق الضباط جميع الأبواب. وأحسَّ الشاعر بالحرج من وجوده وسط هذا الحشد من السيدات.
وأمر الرئيس قائلًا: أنشد أيها الشاعر، شيئًا لطيفًا، نشيد الأنشاد مثلًا …
وراح الشاعر يتلو ما كان عالقًا بذهنه من ذلك السفر من شعر سليمان:
ونهض الرئيس وعلى وجهه نذر شؤم. وتردَّدت وقع أقدامه كخطوات فهد يفر على صخور قاع نهر جاف، واختفى عبر الباب بعد أن ارتدَّت إلى ظهره الستائر التي جذبها عند خروجه.
وبقيَ الشاعر وجمهرة السيدات في ذهول، يحسون بالضآلة والخواء، محاطين بجوٍّ من القلق كالجو الذي تخلفه الشمس بعد أن تغرب. وأعلن أحد المساعدين أن العشاء جاهز. وانفتحت الأبواب؛ وبينما كان الرجال الذين كانوا ينتظرون في الممر يعودون مرتعدين من البرد، توجه الشاعر إلى كميلة وطلب منها أن تتناول العشاء معه. ونهضت، وكانت على وشك أن تتناول ذراعه حين أوقفتْها يدٌ امتدت من خلفها. وكادت تصرخ من المفاجأة. لقد كان ذو الوجه الملائكي مُختفيًا طوال الوقت وراء إحدى الستائر بالقرب من زوجته، ورآه الجميع يخرج من مخبئه.
وبدأت طبول «الماريمبا» تدق وتتصاعَد نغماتها في الهواء، بينما اهتزت الجلاجل الصغيرة المعلَّقة تحتها كأنها الأكفان.