أراجوز الرواق
فور أن دوت طلقتا الرصاص، وعلت صرخات الأبله وهرب فاسكيز وصديقه، بدت الطرقات وكأنما تجري وراء بعضها بعضًا، وقد تدثرت بحفيف الثياب تحت ضوء القمر؛ وذلك دون أن تدري ماذا حدث، بينما قبضت أشجار الميدان أصابعها في يأسٍ لأنها لا تستطيع البوح بما حدث لا عن طريق الرياح التي تَسري خلال أوراقها ولا أعمدة الهاتف التي تنتصِب وسطها. وأطلت الطرقات على المفارق تتساءل فيما بينها عن المكان الذي وقعت فيه الجريمة، ثم هرع بعضها إلى وسط المدينة والبعض الآخر إلى الضواحي، وكأنَّما قد ضلت الطريق. كلا، لم تقع الجريمة في «حارة اليهود» الملتفَّة الملتوية كأنما خطتها يد رسام مخمور، ولا في «حارة اسكونتيا» التي اشتهرت يومًا ما حين قام بعض أبناء النبلاء من الشبان بإحياء أيام الفروسية فيها بأعمال سيوفهم في أجساد رجال الشرطة المرتشين، ولا في «حارة الملك» التي يغشاها المقامرون، والتي يقال إنه لا يمكن لأحد أن يمر بها دون أن يُحيِّي الملك؛ ولا في «حارة القديسة تريزا»، وهي تلٌّ مُنحدِر يمرُّ في حي موحش؛ ولا في «حارة الأرنب»؛ ولا بالقرب من نافورة «هافانا»، ولا عند «الشوارع الخمسة»؛ ولا في حي المارتينيك.
بل وقعت الجريمة في «الميدان الرئيسي»؛ حيث تسيل المياه على الدوام من المراحيض العمومية كأنها دموع البائسين، وحيث رجال الحرس لا يكفون عن استعراض سلاحهم، والليل يلفُّ ويدور حول الكتدرائية تحت قبة السماء الثلجية. وكانت الرياح تخفق كأنها اضطرام دماء تنزف من صدغ أثخنته طلقات رصاص بالجراح، ولكنها لم تفلح في انتزاع الأوراق المثبتة في تسلط على رءوس الأشجار.
وانفتَح فجأة باب في أحد مساكن «رواق الرب»، وأطلَّ منه الأراجوز كالفأر. ودفعته زوجته، بحب استطلاع فتاة صغيرة في الخمسين من عمرها، إلى الشارع كي يرى ما يجري فيه ويصف لها ما يراه. ماذا حدث؟ ما معنى تينك الطلقتَين، الواحدة في ذيل الأخرى؟ ولم يهتمَّ الأراجوز بأن يظهر على الباب في ملابسه الداخلية ليُرضي نزوات السيدة بنجامبون، كما أصبحت زوجته تَدعي (ربما الآن اسمه بنيامين)، ورأى أن زوجته قد جانَبَها الصواب حين طغت عليها الرغبة في معرفة ما إذا كان أحد الأتراك قد قتل، إلى درجة أن غرست أظافرها في ضلوعه كأنها عشرة مهمازات كيما تدفعه إلى أن يبرز رأسه إلى الخارج بأقصى ما يستطيع.
– ولكني لا أرى شيئًا يا امرأة! ماذا تتوقَّعين مني أن أقول لك؟ علام كل هذا الإلحاح؟
– ماذا تقول؟ هل وقع ذلك في حي الأتراك؟
– أقول لك إنني لا أرى شيئًا، وإن كل هذا الإلحاح …
– أوضح كلامك، بحق الله!
كان الأراجوز، حين يخلع أسنانه الصناعية ليتكلم، يحرك فمه جيئة وذهابًا كأنه فقاعة هواء.
– آه، أجل، إني أرى الآن! انتظري لحظة. إني أرى ما الأمر. فقالت المرأة في شبه همس: ولكن يا بنيامين، لا أستطيع أن أفهم كلمة واحدة مما تقول. ألا تُدرك ذلك. لا أستطيع فهم كلمة مما تقول!
– إني أرى الآن، إني أرى الآن. هناك جمع من الناس يحتشد هناك عند ناصية قصر كبير الأساقفة.
– ابتعد عن الباب إذا كنت لا ترى شيئًا. لا تقع فيك ألبتَّة! لا أفهم شيئًا مما تقول.
وأفسح السيد بنيامين مكانًا لزوجته، التي تبدَّت عند الباب في حالة شعثاء، وأحد ثدييها يتدلى من قميص نومها القطني الأصفر، والآخر مشتبك في صورة العذراء المعلقة على الباب.
وكان آخر ما قاله السيد بنيامين الأراجوز. آه … إنهم يحضرون نقالة!
– آه، حسنًا، إنَّ الحادث هناك وليس في حي الأتراك كما كنت أعتقد. لماذا لم تَقُل هذا من البداية يا بنيامين؟ حسنًا، لهذا كان صوت الطلقات قريبًا بطبيعة الحال.
وقال الأراجوز: انظري، ألا ترينَهم يُحضرون نقالة؟ وبدا صوته إذ هو يتحدث خلف زوجته وكأنه آت من أعماق الأرض.
– اسكت! لا أعرف عم تتحدَّث. أفضل لك أن تذهب وتضع أسنانك الصناعية، فبدونها تبدو وكأنك تتحدَّث لغة أجنبية!
– قلت إنني رأيتُهم يُحضرون نقالة.
– كلا، إنهم يُحضرونها الآن فقط؟
– كلا يا فتاتي العزيزة، لقد كانت هناك من قبل!
– أقول لك إنهم يُحضرونها الآن، إنني لستُ عمياء.
– لا أدري، ولكنِّي رأيتهم.
– ماذا رأيت؟ النقالة؟
كان السيد بنيامين لا يكاد يبلغ المتر الواحد طولًا، نحيلًا، غرير الشعر كالوطاويط؛ وتعذَّر عليه أن يرى ماذا يفعل حشد من الناس والشرطة من وراء كتف السيدة بنجامبون زوجته، وهي امرأة هائلة البِنية، تحتاج إلى مقعدين في الترام؛ مقعد لكل فخذ، وما يربو على سبعة أمتار من القماش للرداء الواحد.
وقال السيد بنيامين محاولًا الهرب من هذه الحالة من الخسوف الكامل: «ولكنك تتفرجين وحدك الآن.»
وكأنما كان قد قال: «افتح يا سمسم!» فقد استدارت السيدة بنجامبون جانبًا كالجبل وأمسكت به في قبضتها. وصاحت: «بحقِّ العذراء، ها أنا أرفعك لترى!» وحملته بين ذراعيها كطفل وجذبته إلى الباب.
وبصَق الأراجوز بصاقًا أخضر وأرجوانيًّا وبرتقاليًّا ومن كل لون. وبينما كان يرفس صدر زوجته وبطنها، كان ثمة أربعة رجال مخمورين يعبرون الطرف الأقصى من الميدان حاملين جثة الأبله على نقالة. ورسمت السيدة بنجامبون علامة الصليب. لهذا كانت المراحيض العمومية تبكي على الميت، والرياح تَعصِف كأنها صوت النسور بين أشجار الحديقة ذات اللون الشاحب الترابي.
وهتف الأراجوز حين عادت قدماه تلمسان الأرض: كان على القسيس الذي عقد زواجنا أن يقول لي إنه يُعطيني ممرِّضة وليس خادمة، عليه اللعنة!
وتركته نصفه الحلو يتكلَّم؛ وليست عبارة «نصفه الحلو» بالعبارة المناسبة هنا؛ فهي كالبطيخة إذا كان هو نصف البرتقالة التي تبحث عن نصفها الآخر.
وتركته يتكلَّم، بدافع صادر من جزء منه عن عدم فهمها كلمة مما يقول حين يخلع أسنانه الاصطناعية، وفي الجزء الآخر عن احترامها له.
وبعد مضيِّ ربع ساعة، كانت السيدة بنجامبون تغطُّ في نومها كأنما أجهزتها التنفُّسية تكافح من أجل الحياة داخل برميل اللحم هذا، بينما كان زوجها لا يزال يَلعن اليوم الذي تزوج فيه منها وعيناه تَقدحان شررًا.
بيد أن ذلك الحادث غير العادي عاد بالخير على مسرح العرائس الذي يُقيم أوَدَه؛ ذلك أن العرائس قد اتخذت من تلك المأساة موضوعًا لها، وكانت تذرف الدموع قطرة قطرة من عيونها الورقية، بفضل شبكة من أنابيب صغيرة تغذيها محقنة وحوض ماء. ولم تكن العرائس حتى ذلك الوقت قد عرفت سوى الضَّحِكات، وكانت إن بكت تفعل ذلك بتقطيب باسم خالٍ من البلاغة التي تُضفيها الدموع التي تنساب الآن على خدودها وتسيل على خشبة المسرح التي كانت في السابق محل الكثير من الهزليات الضاحكة.
وكان السيد بنيامين يَعتقِد أن العنصر التراجيدي في تلك الدراما سيجعل الأطفال يبكون، ولذلك كانت دهشتُه عظيمة حين رآهم يضحكون من أعماق قلوبهم أكثر من أي وقت مضى، مُقهقِهين تَرتسِم علامات السعادة على وجوههم. كان منظر الدموع يُثير ضحك الأطفال. وكان منظر الضربات يُثير ضحكهم كذلك.
وخرج السيد بنيامين باستنتاج من ذلك: هذا غير منطقي. غير منطقي بالمرة!
وعارضته السيدة بنجامبون: هذا منطقي. منطقي جدًّا!
– غير منطقي. غير منطقي. غير منطقي!
– منطقي جدًّا. منطقي جدًّا. منطقي جدًّا.
وألمح السيد بنيامين: لا تدعينا نتشاجر.
ووافقت قائلة: لا تدعنا نتشاجر.
– ولكن هذا غير منطقي.
– إنه منطقي، أؤكد لك ذلك، منطقي جدًّا، منطقي للغاية! كانت السيدة بنجامبون حين تتشاجَر مع زوجها تُضيف إلى كلماتها صيغة المبالغة، كأنها صمامات الأمان التي تقي من الانفجار.
وصاح الأراجوز وهو يكاد يشدُّ شعره من غيظه: غير منطقي!
– منطقي، منطقي، منطقي للغاية. منطقي للغاية.
ومع ذلك، مضى الأراجوز الصغير الحجم يستخدم لمدة طويلة حيلة دموع المحقنة ليجعل العرائس تبكي كيما تسلي الأطفال.