مارون النقاش
كان مارون النقاش، أول من خطر له إدخال فن التمثيل المسرحي في العالم العربي. وقد ولد مارون في مدينة صيدا بلبنان عام ١٨١٧ وتوفي في طرطوس عام ١٨٥٥، وله من العمر ٣٨ سنة. ويستفاد مما دونه عنه أخوه نقولا النقاش أنه كان منذ نشأته وَلوعًا بالعلم محبًّا للخلوة. وفي الثامنة عشرة من سنِيِ حياته كان ينظم الشعر الطلي البعيد عن التعقيد والركاكة. وأتقن علم الأرقام ومسك الدفاتر والقوانين التجارية؛ فكان موضع ثقة التجار في حل مشاكلهم وتصريف أمورهم. وأتقن اللغات التركية والإيطالية والفرنسية. وعين رئيسًا للكُتاب في جمرك بيروت وعضوًا في مجلس التجارة.
ثم اشتغل بالتجارة وطاف مدن الشام، وحضر إلى الإسكندرية في سنة ١٨٤٦ وزار القاهرة، ثم سافر إلى إيطاليا فأدهشه مسارحها وما يمثل فيها من الروايات. فلما عاد إلى بيروت ألَّف فرقةً مسرحية من أصدقائه، ودرَّبهم على تمثيل رواية «البخيل». فلما أتقنوها دعا إلى حضورها القناصل والأعيان في منزله بالشارع المعروف باسمه في حي الجميزة ببيروت سنة ١٨٤٨. وفي سنة ١٨٥٠ مثل رواية «هارون الرشيد» المعروفة باسم «أبي الحسن المغفل». وكان حاضروها نخبة من الوجهاء وأهل الفضل من الوطنيين والأجانب. وقد شجعه الجميع وأثنوا على همته، فرأى أن ينشئ مسرحًا خاصًّا إلى جانب بيته. فتم له ذلك بفرمان سلطاني. وممن عاونوه في التمثيل بشارة مرزا وخضرا اللبناني وحبيب مسك وعبد الله كميد ونقولا نقاش وسعد الله البستاني.
(١) أول خطبة عن التمثيل
- (١)
أنهم أنانيون لا يدركون ماهية المصلحة الوطنية العامة.
- (٢)
التواكل والكسل.
- (٣)
التعجل في اقتطاف ثمار الغرس.
- (٤) الخجل الممتزج بالكبرياء، والحياء المختلط بالتجبر.١
وبعد أن شرح كل واحد من هذه الأدواء والعلل طفق يشرح ما وعاه صدره من حركة التمثيل في أوروبا. وإليك أيها القارئ النص الكامل لهذه الخطبة العظيمة، والتي تعد أول وثيقة عن المسرح العربي، بصفة عامة، وعن التمثيل في لبنان بصفة خاصة: «أحمدك يا من نشرت النصيحة والحذر، من طي التقليدات والحكايات، وعلَّمت عبادك الجِد والعِبَر، على نفقة الهزل والروايات، حمدًا من عبدٍ ساح بحب الوطن، والْتَمس من جودك إيهاب الفطن؛ لأنك أنت المعين المفيد، والمعزِّي الفريد … وبعد، فيقول المحتقر طبعه وذكاه، المفتقر لمساعدة مولاه، مارون بن إلياس النقاش، أفاض الله على روحه غيث الإغاثة والإنعاش: إنني إذ لاحظت أهالي بلادنا مبتدئةً بالنجاح، ومتقدمةً يومًا فيومًا إلى الفلاح، فأيقنت أن المراحم الإلهية، قد نظرتها بعين العناية الأزلية، وافتقدتها بتلك المواهب الاعتيادية لأجل ترجيع مجدها، وإعادة عزها وسعدها. غير أني مع ذلك أرى أن أهالي البلاد الإفرنجية، لم تزل راجحةً على أهالي هذه البلاد العربية، فائقة بالعلوم والفنون، والترتيب والتمدن والشئون، فعند ذلك أطمعني الأمل، بجهد المطالعة والعمل؛ لعلي أقف على حقيقة تفاوتهم العظيم، وأكشف غشا الحجاب عن فقرنا المستديم. على أننا نحن أحق بهذا الإعزاز، وكان الأولى أن نكون نحن المالكين هذا الامتياز؛ لكوننا نحن الأصول وأولئك الفروع، وهم السواقي ونحن الينبوع، فبعد عناءٍ ونصَب، وكدٍّ وتعب، قد وقفت على أسباب نزع فخارنا، وسلب مجدنا واعتبارنا، كما أنني قد وقفت أيضًا على أسباب دوام الحالة التي نحن فيها، وعدم رجوع الماء إلى مجاريها. فالأسباب الأولى أعرضت عن إظهارها، وعدلت عن إخبارها؛ هربًا من الإسهاب والتطويل، وحذرًا من القال والقيل. والأسباب الثانية لا بد أن أذكر شيئًا منها، وأروي بالاقتصار حديثًا عنها؛ لكي نتقرب إلى ما يُجدي تقربه، ونتجنب ما يقتضي تجنبه.
وهذه هي الأسباب، لتكون أنموذجًا لذوي الألباب؛ السبب الأول: هو تركنا حب الوطن والمقام، وعدم تفتيشنا على النفع العام؛ لأن كلًّا منا لا يفتكر إلَّا بنفسه، غير مهتم بأبناء جنسه، مع أن الأورباويين بحبهم لوطنهم وبلادهم، يبذلون نفوسهم فضلًا عن مالهم وجهادهم. الثاني: هو حالة تهاونَّا وكسلنا وعدم غيرتنا؛ لأنه يوجد بحمده تعالى بهذا الأوان، جمهور عظيم من التلامذة الأعيان وجهابذة المعاني والبيان، مزينين بالنجابة والفصاحة، مكللين بالبراعة والملاحة، متقنين اللغات والعلوم، مزهرين في سماء المعارف كالنجوم، ولكنهم مع ذلك كلٌّ منهم يتنعَّم ويكتفي بتوفيقه، ويتَّكل معتمدًا على رفيقه، ويلقي الحملة مستندًا على صديقه، مع أنه كان المتوج عليهم أن لا يدفنوا ما وزن الله إليهم، بل يشرع كل واحدٍ بفتوحٍ ومباشرة، ليسهل الحمل عند المكاثرة. الثالث: هو فرط استعجالنا، وعدم صبرنا واحتمالنا، فإن كلًّا منا لا يريد أن يزرع اليوم أشجارًا، إذا لم يتحقق أنه في غدٍ يأكل منها أثمارًا. والحال أن الأغراب يبتدئون في بلادهم بأعمالٍ، مع عدم قابليتها للنهاية قبل مرور جملة أجيال، فلو كنَّا سالكين في طريقتهم، ومتشبهين في حقيقتهم، لَكُنَّا نكون الآن متنعمين بمتروكات آبائنا، ومورِّثين النعم والراحة لأبنائنا، الأمر المرضي للمولى الجليل، والمفيد الاسم والذكر الجميل. والسبب الرابع والأخير: هو خجلنا الممتزج بالتكبر، وحياؤنا المختلط بالتجبر؛ لأنكم يا ذوي العلوم والمعرفة، ومعشر الفهم والفلسفة، تخافون أن تخترعوا أمرًا فلا يُطرب، أو تترجموا كتابًا فلا يُعجب، فيقعدكم الزعل، ويمنعكم الخجل. ولكنني على نوعٍ ما أعدكم مجبورين، وبعدم إظهار علومكم معذورين؛ لأن الأورباويين لحسن تصرفهم، وجودة تثقفهم وتلطفهم، عندما ينظرون أحدًا من أقوامهم، مبتدعًا قضية لنفع عامهم، فيرغبونه لإتقان ذلك المراد، ويتعصبون على مساعدته والإنجاد، فإن نجح وساد فينال إكليل المكافأة ويطنبون بمدحه والشكر، وإن عجز وعاد، لا يَفْتُرون من دوام المساعدات ويقيمون عنه الحجج والعذر، فيزداد عندهم بهذا الوجه التقدم العظيم، ويتراكم في ديارهم النمو العميم. وإنما أهل هذه البلاد، والبعض ممن عليهم الاعتماد، فبالصد قد عودوا مواضيع أقوالهم، على ثلب وإعابة تأليفات أمثالهم، فمنهم من يشين ويتهكم ومنهم من يدين ويتحكم، فيجرحون المصنِّف بسيف التوبيخ والخجالة، وينسبونه إلى البرودة والبطالة، ويعيِّرونه بأنه أسرف زمانَه بالتصانيف، وأضاع أيامَه بالتأليف، وإن سمعوا بأمر ومصير، فيرتاحون على حجة العجز والتقصير، ومن قبل التجربة يحكمون بأنه في بلادنا لا يصير. وإن نظروا تأليفًا فلا يلتفتون إلا إلى زخرفة الكلام، ولا ينقحون إلا على النثر والنظام، مسلوبين من الحسد والغرض، حتى إنهم يتركون الجوهر ويتمسكون بالعرض، مظنِّين باستهزائهم وإخراقهم للغير، أن ينالوا الفخر والخير، وليس الواقع كما يتوهمون، ولا الصيت بالتنكيت كما يزعمون، فإذا كان من العدل أن تظهروا الجراعة وتبينوا ما عندكم من البراعة، وتقدحوا النار من زنادها، وتعيدوا الأرواح إلى أجسادها.
وها أنا متقدم دونكم إلى قُدَّام، محتملًا فداء عنكم إمكان الملام، مقدمًا لهؤلاء الأسياد المعتبرين، أصحاب الإدراك الموقرين، ذوي المعرفة الفائقة، والأذهان الفريدة الرائقة، الذين هم عين المتميزين بهذا العصر، وتاج الألباء والنجبا بهذا القطر، ومبرزًا لهم مرسحًا أدبيًّا وذهبًا إفرنجيًّا مسبوكًا عربيًّا. على أنني عند مرورى بالأقطار الأوروباوية، وسلوكي بالأمصار الإفرنجية، قد عاينت عندهم فيما بين الوسايط والمنافع التي من شأنها تهذيب الطبائع، مراسحًا يلعبون بها ألعابًا غريبة، ويقصون فيها قصصًا عجيبة. فيرى بهذه الحكايات التي يشيرون إليها، والروايات التي يتشكلون بها ويعتمدون عليها، من ظاهرها مجاز ومزاح، وباطنها حقيقة وصلاح، حتى إنها تجذب بحكمتها الملوك من أعلى أسرَّتهم، فيأتونها ويفوزون بحسن سياستهم ومسرتهم، وإذ كانت هذه المراسح تنقسم إلى مرتبتين، كلتاهما تقر فيهما العين؛ إحداهما: يسمونها بروزه، وتنقسم إلى كومديا ثم إلى دراما وإلى تراجيديا، ويبرزونها بسيطًا بغير أشعار، وغير ملحنة على الآلات والأوتار. وثانيتهما: تسمى عندهم أوبره، وتنقسم نظير تلك إلى عبوسة ومحزنة ومزهرة. وهي التي في فلك الموسيقة مقمرة.
على أن الذين ستأخذهم بعدى الحماسة، وتحثهم النخوة والفراسة، ويؤلفون أو يستخرجون أشياء بهذا الصدد، ملتمسين من الله العون والمدد، فإنهم سيفوقون عليَّ بلا شك ولا إشكال؛ لأن الجوهر لا يظهر إلا بإعادة الصقال، لكون الإفرنج من ساعة كشفهم هذا الكنز المنجلي، لم يكن عندهم مثل مراسح ميلانو ونابولي، بل رويدًا رويدًا ابتدءوا بالتقدم، ومع مرور الزمان نالوا هذا التعظيم، فأنتم أيضًا ستنظرون عند كثرة تكرارها، منافع تعجم الألسن عن وصف مقدارها؛ لأنها مملوءة من المواعظ والآداب، والحكم والإعجاب، لأنه بهذه المراسح تنكشف عيوب البشر، فيعتبر النبيه ويكون منها على حذر. وعدا اكتساب الناس منها التأديب ورشفهم رضاب النصايح والتمدن والتهذيب، فإنهم بالوقت ذاته يتعلمون ألفاظًا فصيحة، ويغتنمون معاني رجيحة؛ إذ من طبعها تكون مؤلفة من كلام منظم، ووزن محكم، ثم يتنعمون بالرياضة الجسدية، واستماع الآلات الموسيقية، ويتعلمون إن أرادوا مقامات الألحان، وفن الغنا بين الندمان، ويربحون معرفة الإشارات الفعالة، وإظهار الإمارات العمالة، ويتمتعون بالنظارات المعجبة، والتشكلات المطربة، ويتلذذون بالفصول المضحكة المفرِّجة، والوقايع المسرة المبهجة، ثم يتفقهون بالأمور العالمية، والحوادث المدنية، ويتخرجون في علم السلوك ومنادمة الملوك؛ وبالنتيجة فهي جنة أرضية، وحافلة سنية، فأرجوكم أن تصغوا لها وتسمعوا، وهذا ضربٌ منها فتمتعوا.»
(٢) فصلٌ في الكلام عن المراسح والروايات وكيفية تشخيصها بوجه العموم
إننا قبل أن نبتدئ بتحرير الروايات حسبما وعدنا بفاتحة كتابنا الحاضر وجدنا من الصواب أن نتكلم يسيرًا على هذا الفن، ونأتي بكل إيجاز بما من شأنه أن ينبه أفكار من أراد تشخيص رواية ما؛ لأننا لو أردنا أن نتكلم عن هذه الخصوصات باتساع وإسهاب لكان يلزمنا لذلك كتاب مخصوص حجمه لا أقل من هذا، فنقول:
اعلم كما أن الرواية تنقسم إلى جملة فصول هكذا أيضًا كل فصل ينقسم إلى جملة أجزاء؛ فالفصل هو حد يفصل الرواية ويقسمها عدة أقسام، من واحد إلى خمسة (وإن وُجد أكثر فيكون نادرًا جدًّا لا يعول عليه، وأما الروايات المحزنة ما نظرت منها لا أقل ولا أكثر من خمسة فصول)، وفي نهاية كل فصل يصير تنزيل الستار الحاجب بين محل التشخيص وبين حاضري الرواية. ومحل التشخيص هذا يسمى عند الإفرنج شينه، والبنك الذي تطؤهُ المشخصون يسمى بانكو شيناكو، وتقسيم الرواية إلى فصول عديدة يوجد له لزوم كلي؛ أولًا: لكي يأخذ المشخصون — أي اللاعبون — قسمًا من الراحة، حيث لا بد من إعطا فرصة مناسبة بين الفصل والفصل، ومثل ذلك المتفرجون. ثانيًا: المعنى الكائن بنهاية كل فصل هو ذاته يطلب التقسيم كما سترى. ثالثًا: بالرواية المضحكة والعبوسة يضطرون لذلك؛ حيث أحيانًا يشخصون الفصل الأول في بيروت مثلًا، والثاني بحلب، والثالث في بيت فلان، والرابع بالحرش الفلاني … وهلمَّ جرًّا، وقل وندر ببعض الروايات أن ينتقلوا هذا الانتقال بنفس الفصل بواسطة تغيير الستارات. وأما الروايات المحزنة فهي مستثناة عن هذا التغيير؛ حيث تتشخص الواقعة بمحل واحد بدون تغيير بكل الفصول. رابعًا: يلتزمون أحيانًا أن يشخصوا الفصل الأول بالنهار والثاني بالليل، (وعادتهم بتفريق الفصل إن كان حدوثه ليلًا بتستير أنوار الشينة بخشبة أو نحو ذلك)، أو الفصل الأول اليوم والثاني بعد شهر أو سنة … إلخ، فجميع هذه الأسباب وخلافها توجب إيجاد الفصول.
وأما الأجزا فهي عبارة عن تغيير عدد المشخصين زيادةً كان أو نقصًا، مثلًا حينما ابتدأ الفصل كان موجودًا بالمرسح شخص واحد؛ يوسف، فدخل إليه إبراهيم فصار الموجودين اثنين فهذا التغيير يسمونه جزءًا، وبعد هذا دخل سليم فصار تغيير جزء آخر ثم خرج من المرسح أحدهم، فهذا أيضًا يسمونه جزءًا ويعددون هذه الأجزا إلى نهاية الفصل. وتقسيم هذه الأجزا يقتضي اعتبارها من المشخصين جدًّا ليعرف كلٌ منهم وقت دخوله وخروجه من المرسح. كما أنني أحرص كل الاحتراص على ملاحظة جهات العبور والخروج، وكل شخص يعرف جيدًا الجهة التي يجب عليه أن يدخل منها والناحية التي ينبغي أن يخرج منها بكل جزءٍ، وأيقظ أيضًا فطنة المشخصين بأنه قبل بداءة كل فصل ينبغي على كل منهم أن يبحث ويتفطن عما يلزم أن يكون معه بذلك الفصل مثل مكتوب أو عقد أو فنار وما شابه ذلك ويحضِّر ذلك واضعًا كل شيء بمحله حتى إذا ما جاء وقته يجده ولا يقع بالخجل أمام الجمهور، وقاكم الله من ذلك! وأما الشينه؛ أي هيئة المحل الذي يتشخص إلى الجمهور، أعني بيت فلان تاجر أو سراية فلان أمير ينبغي تتلاحظ قبل بداءة كل فصل، ويصير إظهارها بالتشخيص الممكن به إقناع النظر أن هذا هو المحل الفلاني مع وضع الأثاث والأواني اللازمة، وهذه لا تزاد ولا تنقص شيئًا طالما التشخيص كائن في ذات المحل. والبانكو شينكو؛ أي التخت الخشب الذي توقف عليه المشخصون بحالة تشخيصهم الرواية يعجبني أن يكون ارتفاعه عن الأرض نحو ذراع أو ذراع ونصف بحسب اتساع وضيق المحل، وهكذا عرضه وطوله يكون بالنسبة إلى ذلك، ومن الأمام أوطى من الورا مقدارًا مناسبًا بالتدريج؛ لكي بهذه الواسطة ينظرون جيدًا جميع الحاضرين بالسوية. وهذا التخت ينبغي أن يكون متينًا قويًّا، وعند الاقتضا يمكن تغطيته بالحصر أو البسط والأقمشة.
خامسًا: قال لي رحمه الله مرارًا إن طلاوة الرواية ورونقها وبديع جمالها يتعلق ثلثه بحسن التأليف وثلثه ببراعة المشخصين والثلث الأخير بالمحل اللائق والطواقم والكسومة الملائمة. وبناءً على ذلك نتكلم الآن قليلًا عما يخص الأمر الثاني الذي هو عندي مهم جدًّا؛ وهو حسن التشخيص. وقولي الآن إنما هو إلى أصحابنا الذين ما حضروا التشخيص إلَّا ما ندر، وهم مبتدئين بهذا الفن، فينبغي لهم أن يتقنوا التشخيص بكل ما يلزم إظهاره من الإشارات الحسية والانفعالات النفسانية متصورين أن هذا الشيء الواقع مزاحًا إنما هو حقيقة. هذا هو الأمر المهم بهذه الصناعة؛ لأن المُشخِّص البارع عند الإفرنج حينما يكون دوره يقتضي له إظهار الانفعالات النفسانية المؤلمة كالغيظ والغضب … إلخ، فيظهرهُ بنوع حسي حتى إن البعض منهم يؤثر ذلك على صحتهم، حتى يفضى بهم الأمر بعد ذلك لمعاطاة العلاجات والأدوية لزوال المرض الذي يستحوذ عليهم من جرى ذلك. ونحن الآن لا نطلب من أصحابنا الوصول لهذه الدرجة بل نرجوهم الانتباه لذلك قليلًا، وأشور عليهم ألَّا يزيدوا الحد أيضًا بتكثير الإشارات والانفعالات، بل الموافق أن يكون كل شيء سائرًا طبيعيًّا بالاعتدال كما لو كان الحادث الواقع أكيدًا، حتى لا يضيع رونق الرواية وتعب المؤلِّف؛ لأنه إذا لم تحسن الإشارات فالرواية هي كالعدم. ولأجل إيقاظ فطنتهم قد وضعنا أحيانًا بعض كلمات بنفس الرواية تدل على الحركة التي ينبغي أن تظهر من اللاعبين، كالخوف والاستهزاء … إلخ، وعلى زكاهم حسن التصرف. أما المرحوم أخي المصنف قال: أما أنا فلا أستحسن هذه الإشارات، بل إنما أنا على رأي موليير (أشهر المؤلفين بهذا الفن) الذي قال: إن من لا يحسن تشخيص روايتي بدون إشارات تدل على ما ينبغي عمله فالأحسن أن لا يشخصها. والقصد بذلك ظاهر أن المعنى هو ذاته ينبه اللاعب للحركة اللازمة، وإني أنصح المشخصين وأوصيهم بألَّا يبدا منهم أقلها كلمةٍ أو حركة أو إشارة أو لمس يشين الأدب؛ لأن هذه المراسح جُعلت لاكتساب الآداب وليس النقايص. كما أنني أرجو من نباهة المشخصين أيضًا باستثناء وقوفهم أو جلوسهم بالمرسح أن يلاحظوا جيدًا؛ ليلَّا يعطون ظهورهم إلى الجمهور، لأن هذا شيء معيب في هذا الفن.
(٣) تنبيه
اعلم أن مؤلف الرواية عند الإفرنج لا يلتزم بتلحينها؛ حيث إن التلحين يختص بمعلم الموسيقة. فالمؤلف إذن يؤلف ويدفع كتابه إلى معلم الموسيقة، وذاك يلحن تلك الرواية بالألحان التي تناسب كل قطعة منها، ويتيسر له ذلك بأوفر سهولةٍ؛ نظرًا للقواعد والروابط الكتبية التي عندهم بهذا الفن، وإنما من حيث الحظ من الموسيقة لم يزل في بلادنا متأخرًا. ويُحتاج لعلم الألحان كدٌّ وتعب جزيل؛ لأنه لا توجد ولا رابطة للألحان سوى السمع والقياس على لحنٍ ما من ألحان الأغاني الأخر. فلهذا رحمه الله احتمل أتعابًا جزيلةً من هذا القبيل؛ لأنه أخذ عليه أمر التلحين أيضًا، ولا يخفى ما اقتضى لذلك من الاعتنا والتعب والتدقيق، حيث يجب أن الألحان توافق المعنى من حيث التوسل مثلًا أو التهديد أو التذلل أو الحماسة … إلخ، فيلزم لكل معنًى لحنٌ يناسبه حيث لا يوافق اللحن الذي يظهر منه النفور أو الغضب بمحل التوسل أو بألفاظ ذات تذلل … إلخ.
ومع ذلك جميعه تلك الألحان التي ربطها عليها وإن تكن معروفةً من كاتبه ومن أكثر التلامذة الذين اعتادوا على تشخيص رواياتنا، إلا أنها ربما تكون مجهولةً عند الغير خاصةً نظرًا لقدميتها وعدم اشتهارها الآن. والعادة معلومة في بلادنا أنه بكل وقت تظهر أغاني جديدة وتُترك السابقة حتى تصير كأنها منسية عند العموم؛ ولهذا فالاعتنا بذكرها الآن وترتيبها لا نعده أمرًا كافيًا للحصول على المرغوب، وإنما فضلنا هذه الإفادة القليلة عن تركها إتباعًا لقول القايل: ما لا يدرك كله لا يترك كله، بنوع أنه إذا أراد أحد يشخص رواية ما فعلى كل حال يستعين بما سنحرره بهذا الخصوص على قدر الإمكان. وبناءً على ذلك، وضعنا بكل فصل أرقامًا من الواحد فصاعدًا تجاه كل قطعة من الرواية وشرحنا بآخر الرواية بفصل مخصوص أنغام وألحان تلك القطع، فالرابطة إذن هي ظاهرة بأنه طالما لا يتغير الرقم فاللحن يكون هو هو.
إن المؤلف رحمه الله لم يدقق على ضبط الكلام العربي بالرواية الآتية، بل التفت إلى المعنى فقط. وقد ذكر ذلك أيضًا برواية «الحسود السليط»؛ حيث قال إن رواية البخيل تعجبه من حيث ما حوته من الأمور المضحكة فقط وأنه لم يلتفت إلى ضبط عربيتها، فإذن نرجو كل من طالعها أن لا يلاحظ على ذلك ويعذر المؤلف؛ حيث إنها الرواية الأولى، وعدم الضبط الحاصل ببعض كلامها ليس هو عن عمد معرفة المؤلف رحمه الله، بل ربما كان عن قصد ليعطي جرأة إلى الآخرين ويألفوا بهذا الفن، ولولا ذلك أيضًا ما كنت داعيكم تجاسرت على تأليف رواية «الشيخ الجاهل» المشحونة من غلط القواعد العربية؛ حيث إني ألَّفتها قبل ما التقطت ما التقطته من القواعد العربية، ومَن شكَ بقولي فعليه أن يراجع رواية «الحسود السليط» بكل تدقيق فيعلم قدرة المؤلف بالعربية وقواعدها رحمه الله.
متى قلنا عن الرواية رواية مضحكة فهي الكوميدية؛ «وذلك لكي نستغني عن الألفاظ الإفرنجية»، ومثل ذلك حينما نقول رواية عَبوسة فهي الدراما، ورواية محزنة فهي التراجيدية، وعندما نزيد لفظة ملحنة فهي بلا ريب الأوبرا. وإنما الأوبرا تقسم إلى قسمين؛ منها كلها ملحنة، ومنها شعر ونثر وتلحين. فإذن عندما تكون الرواية كلها ملحنة فنشير عنها بقولنا كلها ملحنة، وعندما لا تكون كلها ملحنة فنكتفي بالقول عنها إنها ملحنة. واعلم أنك سترى بالرواية الأسماء هكذا، مثلًا: قراد هند «فالقصد بذلك أن الكلام الآتي هو من قراد إلى هند»، ومثل ذلك حينما نقول: أم ريشا عيسى، «فيكون الخطاب من أم ريشا إلى عيسى وهلمَّ جرًّا»، وعندما نقول مثلًا: الثعلبي ذاته، «فيكون كلامه لذاته كإنسان يخاطب ذاتهُ بذاتهِ يقصد بذلك أحيانًا ألَّا يسمعه الأشخاص الآخرون وهم أيضًا يوهمون الحاضرين أنهم غير سامعين مع كونهم سامعين، وسمعهم هذا لا ينافي عند مؤلفي هذه الصناعة.»
وعندما نقول مثلًا: جوقة قراد: قراد جوقة، «فيكون الخطاب من الجوقة إلى قراد ومن قراد إلى الجوقة أيضًا بوقت واحد وإن يكن الكلام واحدًا؛ هو لأن أحيانًا كثيرة الأشخاص يلحنون سويةً كلامًا واحدًا ويكون لكل منهم قصد أو يكون القصد واحدًا، وأحيانًا أيضًا يلحنون سويةً ولكن كلٌ منهم يكون كلامه مختلف عن الآخر، لا بل أحيانًا يكون ضد الآخر … إلخ.»
وكانت المسرحية الثالثة والأخيرة، التي كتبها النقاش، عبارة عن معالجة جديدة لمسرحية «طرطوف» لموليير أيضًا، وقدمها بعنوان «السليط الحسود».
وكان مارون النقاش يؤلف المسرحية ويلحنها تلحينًا يلائم مواقفها المختلفة. وقد وصف عمله ابن أخيه سليم النقاش، الذي حمل رسالته فيما بعد إلى مصر، قائلًا: وقد جعل في هذا الفن تغييرًا غير قليل، من أدخله إلى بلاد الشرق في اللغة العربية، وهو المرحوم عمي مارون النقاش. فإنه حين ساح في أوروبا ودوخ أقطارها، رأى حال الروايات عندهم، وما تجني منها بلادهم من الفائدة والانتفاع، فحملته الغَيرة الوطنية والحمية السورية على إدخاله إلى بلاده. فعاد إليها وألَّف روايات لا يُنتظر مثلها من مؤلِّف في فنٍّ لم يكن يعرفه غيره من أبناء وطنه، على أنه لا يُستغرب من مثله. ولما رأى عدم ميل أبناء وطنه إلى هذا الفن المفيد نظرًا لعدم معرفتهم بمنافعه، زاده فكاهةً فجعله في الرواية الواحدة شعرًا ونثرًا وأنغامًا، عالمًا أن الشعر يروق للخاصة، والنثر تفهمه العامة، والأنغام تُطرِب. ولا حاجة إلى ذكر ما تكبده من المصاعب والأتعاب في بادئ الأمر، حتى حمله الإعياء إلى القول في إحدى رواياته: إن دوام هذا الفن في بلادنا أمر بعيد. على أنه أجهد نفسه في جعل رواياته أدبية محضة؛ قاصدًا بذلك تهذيب أبناء وطنه، فأتى بالمطلوب من الروايات؛ لأنها إنما تفيد إذا كانت أدبية، ترغِّب في الفضائل وتنهى عن الرذائل.
ومن الملاحظ أن شهادات المعاصرين لمارون النقاش تدل كلها على أصالة مسرحياته. ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أنها لو لم تكن بهذه الأصالة لما حازت على ذلك النجاح في مدينة كانت العروض القادمة من أوروبا تفشل فيها.
وإذا كان القطر اللبناني شهد ميلاد الفن المسرحي في العالم العربي، فإن القطر المصري كان الأسرة والبيت الذي ربى ورعى هذا الطفل، حتى أصبح شابًّا يافعًا قويًّا، وما زال حتى الآن يرعى كل ميلاد لفن جديد على المستوى العربي.