وتمثلت الصدفة في عدم وجود أية إشارة تدل على أن يعقوب صنوع قام بنشاطه المسرحي المعروف
في مصر! بل إن ما وجدته من حجج وبراهين وأسانيد ووثائق، أكدت أنه لم يكن في يوم من الأيام
رائدًا للمسرح المصري، كما هو معروف أيضًا. ورغم أهمية هذه الصدفة، إلا أنني تمهلت في
الكتابة عنها، حتى قمت بقراءة وجمع معظم ما يتعلق بهذا الموضوع.
(١) صحف صنوع وتاريخه المسرحي
على الرغم من كثرة الكتابات العربية التي صدرت عن صنوع كمسرحي، إلا أنها لم تتطرق
—
في معظمها — إلى تاريخه المسرحي من خلال صحفه. بل تطرقت إلى هذا التاريخ من خلال
مذكراته فقط. مع أن هذه المذكرات ما هي إلا تفصيل لما أورده صنوع بنفسه في صحفه. لذلك
سنبدأ بتتبع تاريخ صنوع المسرحي كما جاء في صحفه، مع تفنيد لمعظم ما جاء في هذا
التاريخ.
أول إشارة كتبها صنوع في صحفه عن نشاطه المسرحي، كانت في ١٧ / ٤ / ١٨٧٨ من خلال إحدى
المحاورات، عندما قال أبو خليل لأبي نظارة: «وأسست لنا تياترو عربي وصنفت لك مقدار
ثلاثين كوميدية من قريحتك نثر وأشعار وحرقت فيها دم قلبك وعلمت أبناء الوطن التشخيص بكل
مهارة في التياترو …»
٣ وعلى الرغم من أن هذه المعلومات معروفة للجميع، وتكررت عند جميع من كتبوا
عن صنوع، إلا أنها معلومات جاءت من مصدر وحيد وهو صنوع نفسه، ولم يقره فيها أي ناقد أو
كاتب ممن عاصروه في هذه الفترة، كما سنبين ذلك في موضعه. هذا بالإضافة إلى أن هذه
الإشارة جاءت من خلال إحدى المحاورات؛ أي من الممكن اعتبارها نوعًا من الهزل، تبعًا
لأقوال صنوع في محاوراته عمومًا.
ومهما يكن من أمر اعتبار هذه الإشارة، سواء جد أو هزل، إلا أن أهميتها الكبرى، تتمثل
في نشرها في صحف صنوع في مصر، لا في باريس. وهذا يعني أن يعقوب صنوع كتبها وهو مطمئن
لصحتها. بل إن من يقرؤها لا يظن مطلقًا أنها معلومات خاطئة! وبالرغم من ذلك فإن الشك
يحيطها! لأن أعداد هذه الصحف — الخمس عشرة — الصادرة في مصر فُقدت وأعاد صنوع كتابتها
مرة أخرى في عام ١٨٨٩. والنسخة المُعادة (المخطوطة)،
٤ هي التي وصلتنا في وقتنا الحاضر. ومن المرجح أن يعقوب صنوع غيَّر فيها وزاد
معلومات جديدة لم تكن في النسخة الأصلية المطبوعة، خصوصًا أخباره المسرحية.
والدليل على ذلك أن يعقوب صنوع نشر في عدد جريدته الصادرة بباريس في ٢١ / ١٠ / ١٨٨٩،
مخاطبة كان قد نشرها في عدد من أعداد صحيفته الأولى في مصر. وهذه المخاطبة أرسلها له
أحد الأصدقاء بمصر وفرح بها صنوع — على حسب قوله — لندرة وجود هذه الأعداد وصعوبة حصوله
على أية نسخة منها.
٥ وهنا نتساءل: لماذا وصلت إلينا جميع صحف صنوع الصادرة في باريس بصورتها
المطبوعة، ولم تصلنا أعداد صحيفته الصادرة في مصر في نفس الصورة المطبوعة لا المخطوطة؟!
الاحتمال الأرجح أن يعقوب صنوع حصل على هذه الأعداد بصورة من الصور بعد عام ١٨٨٩، ووجد
أن بها أشياء تناقض ما قال به بعد ذلك، فأراد أن يغير موقفه بتغيير ما جاء في هذه
الأعداد النادرة.
والإشارة الثانية من قِبل صنوع أيضًا عن مسرحه، جاءت عندما أصدر أول أعداد صحيفته
في
عامها الثالث، بباريس، قائلًا في تقديمه لهذه السنة: «صحيفة أسبوعية أدبية علمية بها
محاورات ظريفة ونوادر لطيفة ومواعظ مفيدة ومقالات فريدة وقصايد عجيبة وأدوار غريبة،
مديرها ومحررها الأستاذ جمس سانوا المصري مؤسس التِّياترات العربية في الديار المصرية.»
٦
وإذا كانت الإشارة السابقة جاءت من خلال إحدى المحاورات، إلا أن هذه الإشارة جاءت
بصورة صريحة. ومن المحتمل أن الداعي لقول صنوع بأنه مؤسس التياترات العربية في الديار
المصرية، راجع إلى أنه أول من نشر اللعبات التياترية باللغة العربية في صحفه؛ لأنه قبل
هذه الإشارة نشر أكثر من عشر لعبات تياترية،
٧ لذلك نصب نفسه مؤسسًا للمسرح المصري. وهذا الاحتمال سنؤكده في موضع آخر من
هذه الدراسة.
وبعد أن وضع صنوع إشاراته السابقة التي دلَّت — تبعًا لأقواله — على وجوده كمسرحي
في
مصر، جاءته فرصة كبيرة لتثبيت هذا الوجود، عندما قام الخديو توفيق بعزل أبيه إسماعيل
من
منصبه. وفور هذا التغيير قام صنوع باختلاق قصص وهمية عن علاقته بالخديو إسماعيل، نشرها
في صحفه بباريس في مقال كبير. ومن أهم هذه القصص، قصة ريادته للمسرح المصري، وإنشاء أول
مسرح عربي له في مصر بمساعدة الخديو إسماعيل نفسه.
٨ وهذه القصة اعتمد عليها كل من كتب عن صنوع بعد ذلك من النقاد، وكأنها أمر
مسلَّم به، دون تفنيد أو مناقشة.
ومن الغريب أن موضوع مساعدة الخديو لصنوع في إنشاء أول مسرح عربي له في مصر، لم يقل
به صنوع قبل عزل إسماعيل، رغم أن المناسبات كانت كثيرة لإثارة هذا الأمر وغيره من القصص
التي اختلقها في هذا المقال! والسؤال الآن لماذا ذكر ونشر صنوع هذه القصص بعد عزل
الخديو إسماعيل، ولم يذكرها وينشرها قبل ذلك وهو آمن في باريس؟ والإجابة تتمثل في أن
يعقوب صنوع اختلق علاقته بإسماعيل ونشرها بعد عزله؛ كي يضمن عدم الرد عليه.
بعد ذلك أطلق صنوع العنان لخياله — غير مكتفٍ بما اختلقه من أوهام — فقال في عام
١٨٨٧
— من خلال إحدى محاوراته — إنه أنشأ تياترو عربي للمصريين، وفي مدة عامين عرضت فرقته
المسرحية اثنتين وثلاثين مسرحية، مُثِّلت بعضها في قصر النيل أمام الخديو إسماعيل، الذي
منحه لقب «موليير مصر».
٩ ووصل الأمر بصنوع إلى إيهام الصحفيين في باريس بهذه الأقوال، فأوردوها
وزادوا عليها، فأخذها صنوع بدوره ونشرها في صحفه.
ومثال على ذلك ما قاله أوجين شينيل محرر جريدة الفولطير في نهاية عام ١٨٩٠: إن يعقوب
صنوع «قد أبدع التياترات العربية بمصر القاهرة وعمل فيها اثنين وثلاثين قطعة من كوميدية
بفصل إلى خمسة فصول. ونال بذلك اسم موليير المصري … وذلك خلاف ما كتبه بهذه اللغة من
الروايات التي ثلاثة منها شُخِّصت بالتياترات العظيمة الإيطاليانية ببلاد الشرق وواحدة
بجنواه بشمال إيطاليا وحازت شهرة فائقة.»
١٠
والملاحظ على قول هذا الصحفي، أنه استقى معلوماته من صنوع نفسه، فخُدع بها، وزاد
عليها أشياء غير حقيقية. فمثلًا قوله بأن مسرحيات صنوع الإيطالية الثلاث تم تمثيلها
«بالتياترات العظيمة الإيطاليانية ببلاد الشرق»! وهذا الوصف لا ينطبق إلا على الأوبرا
الخديوية في مصر؛ لأن الأوبرا، هي المسرح الوحيد العظيم في البلاد الشرقية الذي يعرض
المسرحيات الإيطالية في هذا الوقت. ولم نجد أية إشارة — كما سنبين ذلك في موضع آخر —
تدل على أن يعقوب صنوع مثَّل أو مُثلت إحدى مسرحياته في الأوبرا. وبالرغم من مبالغات
صنوع الكبيرة، إلا أنه لم يقل بذلك الأمر! ولكن الصحفي توهم أن يعقوب صنوع له مكانة
مسرحية كبيرة، تبعًا لأقوال صنوع عن نفسه؛ مما جعله يضيف إلى مقالة مسألة تمثيل مسرحيات
صنوع في الأوبرا الخديوية، وكأنها أمر واقع لا بد أنه حدث، طالما أن لصنوع هذه المكانة
الرائدة.
١١
ولم يبقَ أمام صنوع — لإثبات ريادته للمسرح العربي في مصر — إلا أن يضع بعض الأحداث
الثانوية في تاريخه المسرحي لإيهام القراء بهذا التاريخ. وذلك عندما وضع تاريخه في قالب
درامي تحت عنوان «موليير مصر وما يقاسيه»، وهي المسرحية الوحيدة المطبوعة له باللغة
العربية في لبنان عام ١٩١٢. وفي مقدمتها قال: «… الآن رخِّصوا لي أن أقص عليكم يا كرام،
ما قاسيته في إنشاء التياترو اللي أسسته منذ أربعين
عام، على أيام إسماعيل اللي في ذلك الزمان. كنت عنده من أعز الخلان. تارة تضحكوا، وتارة
تبكوا. وتارة تشكروا، وتارة تشكوا. من الرواية الآتي شرحها يا حضرة القاري، ترسو على
حقيقة التياترو العربي وكيفية أفكاري. الرواية دي أمام ذواتنا الكرام، صار لعبها ليلاتي
مدة شهرين تمام. حتى إن أذكى الشبان على ظهر قلبهم حفظوها. وعملوا عليها سهرات وأمام
أحبابهم لعبوها.»
١٢
وعندما ذكر صنوع أشخاص المسرحية، قال عن نفسه: «جمس: مُنشئ ومؤسس التياترو العربي
عام
١٨٧٠ ميلادية.» وهذا التاريخ هو أول تاريخ يثبته صنوع لإنشاء مسرحه. أما المسرحية فهي
سجل لتاريخه المسرحي. ومن هذا التاريخ يعلم القارئ — بالإضافة إلى ما سبق — أن يعقوب
صنوع مثَّل أمام الخديو في قصر النيل، كما عرض بعض رواياته في مسرح الكوميدي الفرنسي
بالأزبكية، وأعطاه الخديو مسرح حديقة الأزبكية مجانًا، وأن مسرحه دام سنتين، واضطهده
علي باشا مبارك ورفته من وظيفته كمدرس بالمهندسخانة، وحقد عليه درانيت باشا مدير
الأوبرا. أما أسماء مسرحياته فمنها: الحشاش، البربري، البورصة، أبو ريضة البربري،
الصداقة، القواص وشيخ البلد وراستور.
١٣
هذه هي الخطوط الرئيسية لمُجمل تاريخ صنوع المسرحي، كما سرده بنفسه. ذلك التاريخ الذي
توارثه النقاد والكتاب جيلًا بعد جيل، منذ وفاة صنوع ١٩١٢، حتى وقتنا الحاضر. لدرجة أن
أي ناقد أو كاتب، لا يستطيع أن يكتب عن بدايات المسرح العربي في مصر، دون ذكر ريادة
صنوع المسرحية التي بدأت في عام ١٨٧٠. هذا هو الواقع … ولكن هناك حقيقة غائبة تعصف بهذا
الواقع الراسخ في تاريخ المسرح المصري. وللوصول إلى هذه الحقيقة يجب علينا الرجوع إلى
المصادر والمراجع، التي أرخت للحركة المسرحية المصرية منذ عام ١٨٧٠، لنتعرف على حقيقة
نشاط صنوع المسرحي.
(٢) صنوع وتاريخ المسرح المصري
تعتبر مجلة «وادي النيل»، أول دورية مصرية اهتمت بالنشاط المسرحي في مصر. وإذا تتبعنا
أقوال هذه المجلة منذ عام ١٨٧٠ — أي منذ بداية نشاط صنوع المسرحي — سنجدها تتحدث عن
تفاصيل دقيقة لهذا الفن، منها على سبيل المثال مقال للناقد «محمد أنسي»، نشرته المجلة
في فبراير ١٨٧٠ عن عرض مسرحية «سميراميس» بالأوبرا الخديوية، قال فيه: «… وحضرها جم
غفير وقوم كثير من التجار الأوروباويين والأهالي المصريين، ولا سيما من حضرات الباشوات
والبكوات وغيرهم من غواة التياترات. وبذلك علم أن ذوقية الملاعب التياترية قد أخذت في
الانتشار بالديار المصرية، في هذه الحقبة العصرية. وهي بدعة حسنة، وطريقة للتربية
العمومية مستحسنة، من حيث ما يترتب عليها من تفتيق الأذهان، وتصوير أحوال الإنسان
للعيان. حتى تكتسب فضائلها، وتجتنب رذائلها، إلى غير ذلك من الفوائد الجميلة، والعوائد
الجليلة. ويا ليته يحصل التوفيق لتعريب مثل هذه التأليفات الأدبية وابتداع اللعب بها
في
التياترات المصرية باللغة العربية، حتى ينتشر ذوقها في الطوائف الأهلية؛ فإنها من جملة
المواد الأهلية التي أعانت على تمدين البلاد الأوروبية، وساعدت على تحسين أحوالهم المحلية.»
١٤
وبناءً على هذا القول نتساءل: لماذا يتمنى كاتب هذا المقال وجود مسرح مصري يعرض
المسرحيات باللغة العربية؟ ألم يكن صنوع موجودًا في هذا التاريخ، تبعًا لأقول صنوع نفسه
ومن كتب عنه، أنه بدأ نشاطه المسرحي عام ١٨٧٠! بل إن هذا العام في تاريخ صنوع له أهمية
خاصة؛ لأنه عام بداية نشاطه المسرحي!
ومن الملاحظ أن هذا التمني من قِبل الناقد، يجعلنا نشك في عدم وجود صنوع كمسرحي في
هذا الوقت؛ لأن الناقد «محمد أنسي» — هو ابن أبي السعود أفندي مُعرب أوبرا عايدة — من
المهتمين بالكتابة والترجمة المسرحية، عندما مارسها في جريدة «روضة الأخبار» في عام
١٨٧٨. أي لا يستطيع هذا الناقد المسرحي إنكار يعقوب صنوع كمسرحي سابق عليه، بل إن يعقوب
صنوع نفسه كان على علاقة بمحمد أنسي، بدليل أنه كتب عنه في صحفه.
١٥ وبناء على ذلك نقول: لماذا تجاهل هذا الناقد وجود صنوع كمسرحي؟!
وإذا كان قول هذا الناقد يمكن الرد عليه — من قبل القارئ — بأنه نشر في بداية عام
١٨٧٠، وهو نفس عام بداية صنوع كمسرحي كما زعم، فمن الجائز أن بداية صنوع المسرحية كانت
في منتصف أو آخر هذا العام. والرد على هذا الاحتمال يأتي أيضًا من خلال جريدة وادي
النيل، عندما نشرت في نوفمبر وديسمبر من عام ١٨٧٠ مقالة طويلة — نشرت في عددين على مدار
عدة صفحات — عن عرض مسرحي بعنوان «أدونيس» أو «الشاب العاقل المجتهد في تحصيل العلم
الكامل»، أقيم في مدرسة العمليات — أي مدرسة الهندسة — من قِبل بعض الطلاب؛ أي إنه عرض
للمسرح المدرسي. وقد أسهبت المجلة في حديثها عن هذا العرض، فنجدها تتحدث عن موضوع
المسرحية ومغزاها الأخلاقي والتعليمي، كما تحدثت عن مؤلف المسرحية، وأخيرًا أثبتت قائمة
بأسماء الممثلين من الطلاب المصريين وأدوارهم في المسرحية.
١٦
وبناءً على ذلك نقول: لماذا اهتمَّت المجلة بسرد هذه المقالة الطويلة عن عرض مسرحي
أقيم داخل أسوار إحدى المدارس، ولم تذكر أية إشارة عن عرض من عروض صنوع المسرحية،
خصوصًا عروضه في قصر الخديو؟! ولماذا لم تذكر أي خبر عنه كمسرحي أو عن فرقته المسرحية،
طوال عام ١٨٧٠؟! تساؤلات كثيرة تَزيد شكوكنا في وجود صنوع كمسرحي في هذا العام الذي زعم
أن بدايته كانت فيه.
وإذا نظرنا إلى عام ١٨٧١، وهو العام الثاني لنشاط صنوع المسرحي — كما قال — لوجدنا
وثيقة مهمة، عبارة عن بداية نشر أول مجموعة مسرحية في مصر. وهذه الوثيقة نشرتها مجلة
«روضة المدارس المصرية» على مدار ثلاثة أعداد بدأت في أبريل ١٨٧١، وانتهت في يوليو من
نفس العام.
١٧ وهي عبارة عن كتاب بعنوان «كتاب النكات وباب التِّياترات» لمحمد عثمان
جلال. وهذا الكتاب من الآثار المجهولة لهذا الرائد المسرحي،
١٨ الذي قال في مقدمته: «… لا أزال أُجهد نفسي، وأُعْمِل يراعى وطرسي، حتى
أجمع كتابًا لم يسبقني إليه أحد، ولم يكن ظهر في هذا البلد. ثم لا أزال أطوِّف حول
جزيرة العرب، وأغوص في بحر الأدب، حتى أعرف مده من جزره، وآتي منه بأنفس درِّه. وأنسج
مما غزلته الأقلام، وأحيك بعض ما وشاه الكلام، حتى أقدم صنعة صنعا، وأرصع تاج كسرى،
وأنقش ديباج خيوى؛ لعله أن يكون شيئًا يُهدى، أو فرضًا يُؤدى.»
ومن الجدير بالذكر، أن هذا القول يدل دلالة مباشرة على أن عثمان جلال من الرواد
الأوائل في الكتابة المسرحية المصرية. وإذا كان يعقوب صنوع قد ظهر قبله لكان أشار إليه
في هذه المقدمة. علمًا بأن يعقوب صنوع — تبعًا لأقواله — كان في أوج شهرته في هذه
الفترة، بالإضافة إلى رعاية الخديو له! أي إن عثمان جلال، في هذا الوقت، لا يجرؤ على
نكران صنوع بهذه الصورة. وإذا قال قائل: إن عثمان جلال لم يذكر يعقوب صنوع لأنه المنافس
الوحيد له في الكتابة المسرحية، سنرد عليه قائلين: ولماذا لم يردَّ صنوع على زعم عثمان
جلال وينشر هذا الرد في نفس المجلة التي نشرت أجزاء من الكتاب على مدار ثلاثة أشهر،
طالما أن له الريادة في هذا الفن؟! علمًا بأنهما تاريخيًّا — إذا سلمنا بأقوال صنوع عن
نفسه — مارسا الكتابة المسرحية في نفس الوقت. وعلى ذلك نقول: إن إنكار عثمان جلال لنشاط
صنوع المسرحي — في هذه الوثيقة المنشورة — يزيد شكوكنا أكثر في وجود صنوع كمسرحي في هذا
العام أيضًا.
وتبعًا لأقوال صنوع ونقاده، إن نشاطه المسرحي استمر لمدة عامين، حتى أوقف الخديو
إسماعيل هذا النشاط، بإغلاقه مسرح صنوع في عام ١٨٧٢. بعد ذلك مباشرة كون صنوع جمعيتين
أدبيتين تم إغلاقهما من قِبل الخديو أيضًا. وهنا توسط أحمد خيري باشا لصنوع عند الخديو
إسماعيل، واستطاع أن يقنعه بأن يعقوب صنوع مواطن شريف جدير بتقدير الوطن، وبالفعل قُبلت
الوساطة. ويعقِّب صنوع على ذلك بقوله: «ومنذ ذلك اليوم أخذت أقضي سهراتي في قصر عابدين
مقرِّ الخديوية، فتعرفت بجميع وزراء إسماعيل، وقد كلفني معظمهم بتعليم أولادهم الفرنسية
والإنجليزية. وهكذا عُدْتُ ابتداءً من ذلك التاريخ إلى ما كنتُ عليه من قبلُ؛ أي شاعر
البلاد.»
١٩
وتصل العلاقة بين الخديو وصنوع إلى درجة أن الخديو كلفه بالسفر في عام ١٨٧٤ إلى
أوروبا في رحلة سياسية سرية، لم يُفصح صنوع عنها، «وإنما يذكر أنه أدى المهمة على خير
ما تؤدى المهمات الشبه رسمية، وأنه حين عاد إلى مصر عكف على كتابة تقرير مفصل متضمنًا
أشياء كثيرة لم يُشر إليها أبو نظارة وهو يروي تاريخه.»
٢٠ وظلَّت هذه العلاقة الحميمة بين صنوع والخديو حتى عام ١٨٧٨، عندما أصدر
صنوع جريدته المشهورة في مصر، فساءت العلاقة بينهما، كما هو معروف من أقوال صنوع
ونقاده. وما يهمنا من هذه الحقبة التاريخية أن يعقوب صنوع كان يحتل مكانة كبيرة عند
الخديو إسماعيل، قبل عام ١٨٧٤ وحتى عام ١٨٧٨، تلك المكانة التي جعلته من أشهر الشخصيات
المصرية في هذه الفترة، تبعًا لأقواله وأقوال نقاده.
والمنطق يقول إن هذه المكانة — إذا كانت حقيقية — لا يستطيع أي إنسان أن ينكرها. فعلى
سبيل المثال، إذا جاء شخص مصري ليقيم مسرحًا عربيًّا في هذه الفترة، التي يتمتع فيها
صنوع بهذه الشهرة الفائقة، ولم يُشيد بجهوده المسرحية السابقة، لكان صنوع أطاح به، لما
يتمتع به من مكانة عند أولي الأمر، ولا سيما الخديو نفسه. ومن العجيب أن هذا الأمر حدث
بالفعل في عام ١٨٧٥، ولم يأتِ من مصري، بل جاء من لبناني يطلب المعونة من الخديو لإدخال
فن المسرح العربي إلى مصر لأول مرة في تاريخها، ناكرًا ومتجاهلًا تاريخ صنوع المسرحي؛
ذلك التاريخ الذي لم يؤكده أي إنسان حتى الآن، إلا يعقوب صنوع نفسه.
ففي عام ١٨٧٥ نشر سليم خليل النقاش مسرحيته «مي»، وفي مقدمتها قال: «لما كانت ديار
مصر مستوية على عرش التقدم بين الأمصار … اتخذتُ مع الملتجئين إلى بابها نعم سبيل …
واهتديت بسنا الأفضال والإجلال إلى باب يخفق فوقه لواء المجد والإقبال. وهو باب …
أفندينا الخديو المعظم ولي النعم إسماعيل … بأن أخدم عظمته بإدخال فن الروايات في اللغة
العربية إلى الأقطار المصرية … فأنعم عليَّ بالقبول.»
٢١
وفي يوليو ١٨٧٥ قالت مجلة «الجنان» تحت عنوان «الروايات العربية المصرية»: «… إن
الحضرة الخديوية السنية قد اهتمت بإنشاء روايات عربية … في مصر القاهرة … لذلك صممت على
إنشاء الروايات العربية … فصدرت إرادتها السنية بأن يقوم جناب سليم أفندي نقاش بترتيب
روايات عربية وتنظيمها على نسق موافق للنسق الأوروبي. وسليم أفندي … أتى ببراهين كافية
أقنعت جناب درانيت بك مدير الروايات المصرية بأهليته وحذقه فصدرت الإرادة الخديوية
السنية بأن يقوم بعمل الروايات العربية … والذهاب بجوق المشخصين إلى مصر القاهرة في
الخريف القادم.»
٢٢
وفي أغسطس ١٨٧٥ قال سليم النقاش، تحت عنوان «فوائد الروايات أو التياترات»: «… لما
تعرفت ببعض أعيان مصر الكرام بسطت إليهم أمري وأطلعتهم على ما بسري فأوعزوا إليَّ أن
ألتجئ إلى المراحم السنية الخديوية فهي ملجأ الراجي ومنية الراغب ومأمول الطالب، ففعلت.
وهكذا بلغت فوق ما تمنيت من أفضال جنابه العالي وأحسن إليَّ بقبول طلبي؛ وذلك بأن أدخل
فن الروايات باللغة العربية إلى الأقطار المصرية، فعدت إذ ذاك لأجهِّز في بيروت جماعة
للتشخيص، وألَّفت بعض روايات، وبعد جمع الجماعة باشرت دراسة الروايات فأتقن أكثرها وعما
قليل يتم إتقانها كلها فأسير بالجماعة لأُجري هذه الخدمة في الديار المذكورة.»
٢٣
وفي أكتوبر ١٨٧٥ قالت أيضًا مجلة «الجنان»، تحت عنوان «الروايات الخديوية التشخيصية»:
«… نشرنا جملة طويلة عن الروايات التشخيصية الخديوية العربية التي سلم إنشاؤها إلى جناب
الأديب البارع سليم أفندي خليل النقاش … ولولا موانع الهواء الأصفر لكان سليم أفندي
المومأ إليه والمشخصون والمشخصات في مصر القاهرة منذ شهر أيلول للابتداء في التشخيص في
ذلك الشهر.»
٢٤
وهذه المقتطفات أدلة قوية على أن سليم خليل النقاش، هو أول من أدخل فن المسرح العربي
في مصر، لا صنوع. وإذا كان لصنوع أي نشاط مسرحي، لكانت هذه المقتطفات أشارت إليه؛ لِما
يتمتع به في هذا الوقت من مكانة مرموقة عند الخديو، ذلك الخديو الذي لجأ إليه سليم كي
يقوم بمهمة إدخال الفن المسرحي باللغة العربية لأول مرة في مصر.
هذا بالإضافة إلى أن سليم النقاش في ذلك الوقت، كان يطرق كل باب حتى يصل إلى مراده
بالدخول إلى مصر لإقامة المسرح العربي بها، فمن غير المعقول أن ينكر الرائد الوحيد في
مجال نفس الفن الذي يريد إدخاله إلى مصر! وهذا ينطبق أيضًا على الصحف التي أكدت ريادة
سليم وأنكرت ريادة يعقوب صنوع، تلك الصحف التي كان من المفروض عليها أن تمهد السبيل
لدخول سليم إلى مصر تمهيدًا طبيعيًّا، بأن تذكر جهود صنوع الرائد الأول. ولكنها سلكت
الطريق المعاكس بأن أنكرت يعقوب صنوع وأثبتت أن سليم النقاش هو أول من أدخل الفن
المسرحي العربي إلى مصر.
وأخيرًا يأتي سليم إلى مصر، وتستقبله الإسكندرية استقبالًا حافلًا، أخبرتنا به جريدة
«الأهرام» في ديسمبر ١٨٧٦، تحت عنوان «الروايات العربية».
٢٥ ومن الغريب أن الجريدة في حديثها عن سليم، لم تذكر أية إشارة لوجود صنوع
كمسرحي! رغم أن المنطق يقول: إذا كانت مجلة «الجنان» اللبنانية تحدثت عن ريادة سليم،
وأنكرت ريادة صنوع من قِبل عصبيتها لابن من أبنائها، فمن المفروض أن تحذو جريدة
«الأهرام» حذوها. أو على أقل تقدير تذكر سليم النقاش مع الإشارة إلى جهود من سبقه في
مصر كصنوع. علمًا بأن جريدة الأهرام نفسها ذكرت أخبار صنوع كصحفي في مناسبة تالية في
عام ١٨٧٨، وأيضًا لم تشر إلى جهوده المسرحية.
٢٦
هذا بالإضافة إلى أن يعقوب صنوع كان على علاقة وطيدة بجريدة الأهرام ومؤسسيها، عندما
كان في مصر، وأيضًا حافظ على هذه العلاقة بعد سفره إلى فرنسا.
٢٧ كما أن يعقوب صنوع تربطه علاقة صداقة بسليم خليل النقاش نفسه، وعلى معرفة
تامة بنشاطه الأدبي والفني وهو في مصر. بدليل أنه مدحه وكتب عنه في صحيفته الصادرة في
مصر قبل سفره إلى فرنسا.
٢٨ والسؤال الآن: أين يعقوب صنوع وتاريخه المسرحي من هذه الأدلة التي تثبت أن
سليم النقاش هو أول من أدخل الفن المسرحي باللغة العربية إلى مصر؟!
وتبعًا لأقوال صنوع ونقاده، أنه خرج من مصر في عام ١٨٧٨ إلى فرنسا، وظل بها حتى وفاته
عام ١٩١٢. وطوال هذه الفترة وهو في عداء كبير مع حكام مصر — من خلال صحفه — وخصوصًا في
فترة حكم الخديو إسماعيل وابنه توفيق. وإذا كنا لم نجد أية إشارة عنه في الصحف المصرية
كمسرحي قبل سفره، فمن المنطقي ألا نجدها بعد سفره، أثناء حكم إسماعيل وتوفيق بسبب هذا
العداء. أما فترة حكم الخديو عباس — بدايةً من عام ١٨٩٢ — فكانت فترة وفاق بينه وبين
صنوع، أثبتها صنوع نفسه في صحفه ومذكراته.
ففي مارس ١٨٩٢ نشر صنوع صورة الخديو عباس محاطة بنص خطاب، وجد صنوع فيه أهمية وصلاحًا
للشعب المصري وله شخصيًّا، حيث إن هذا الخطاب به نص عفو الخديو عن المصريين المنفيين.
٢٩ وفي مايو ١٨٩٦ نشر صنوع مقالة كتبتها عنه جريدة «الحاضرة التونسية»، قائلة:
«… فإنه [أي صنوع] وإن كان يشدد النكير على إسماعيل باشا وابنه المرحوم توفيق فلم يألُ
جهدًا لتأييد سلطة سمو الجناب العباسي ويرشده لأقوم طريق.»
٣٠ وقال المؤرخ الصحفي فليب دي طرازي: «في سنة ١٩٠١ زار الشيخ أبو نظارة سمو
الخديوي عباس الثاني في مدينة ديفون بفرنسا. فأوعز إليه الخديوي بالرجوع إلى وادي النيل
متمتعًا بالحرية التامة. لكن شيخنا رفض إجابة الطلب طالما القطر المصري مقيدًا
بالاحتلال الإنكليزي.»
٣١ ويؤكد المؤرخ أن الخديو عباس منح يعقوب صنوع لقب «الوطني المخلص».
٣٢
وبناء على ذلك، يجب علينا أن نتعرف على الأقوال التي أرخت للمسرح المصري، منذ تولي
الخديو عباس الحكم؛ أي منذ بداية علاقته الحميمة بصنوع، لنتعرف على صنوع كمسرحي في ضوء
هذه العلاقة.
في عام ١٨٩٣ كتب عبد الله النديم مقالة بمجلة «الأستاذ»، تحت عنوان «فريق التمثيل
العربي»، أرخ فيها لبدايات المسرح العربي منذ أولاد رابية وخلبوص العرب، ومرورًا
بالشوام أمثال إسكندر فرح، حتى وصل إلى الشيخ سلامة حجازي،
٣٣ دون أية إشارة تذكر عن صنوع. علمًا بأن النديم كان على علاقة صداقة بصنوع
منذ عام ١٨٨٢، عندما تبادلا الأحاديث الصحفية المادحة في صحف صنوع نفسه،
٣٤ تلك الصحف التي نشرت عدة مقالات لعبد الله النديم.
٣٥ وبناء على ذلك نقول: لماذا أنكر النديم تاريخ صنوع المسرحي، طالما المقال
يتحدث عن بدايات المسرح العربي في مصر؟! خصوصًا وأن النديم مارس النشاط المسرحي تأليفًا
وتمثيلًا منذ عام ١٨٨١ من خلال مسرحيتيه «العرب» و«الوطن وطالع التوفيق».
٣٦ ومن الغريب أن هذا الإنكار يأتي في وقت كانت الألفة قائمة بين الخديو عباس
وصنوع!
وفي عام ١٨٩٤ نشرت جريدة «السرور» مقالة تحت عنوان «التشخيص العربي»، بدأتها بمقدمة
طويلة عن تاريخ المسرح العربي، فتحدثت عن فضل مارون النقاش في إدخال هذا الفن إلى الأمة
العربية، ثم أكدت في حديثها على أن سليم النقاش هو أول من أدخل هذا الفن إلى مصر.
وانتهت المقالة دون أية إشارة تُذكر عن تاريخ صنوع المسرحي.
٣٧
وفي عام ١٨٩٥ طبع الكاتب المسرحي محمود واصف
٣٨ مسرحيته «عجائب الأقدار»، وفي مقدمتها قال: «… لا يخفى أن فن التشخيص
بلغتنا العربية … لم يدخل إلى بلادنا المصرية إلا منذ عهد قريب على يد طيب الذكر سليم
أفندي النقاش صاحب جرائد مصر والتجارة والعصر الجديد والمحروسة ويد شريكه ورفيقه
المأسوف عليه أديب إسحاق وبعد أن تركاه وانقطعا إلى تحرير جرائدهما تنبَّهت إليه
الأفكار وتحركت الخواطر، فقام حضرة الأديب يوسف أفندي الخياط وألَّف جوقة لتشخيص
الروايات بالإسكندرية والمحروسة …»
٣٩
وفي عام ١٩٠٤ كتب كامل الخلعي كتابه «الموسيقى الشرقي»، وفيه كتب ترجمات عديدة لأعلام
الفن المسرحي، أمثال القباني وسليمان الحداد وسليمان القرداحي وسلامة حجازي وإسكندر
فرح، دون أية إشارة عن صنوع.
٤٠ وفي عام ١٩٠٦ أكَّدت مجلة «الشتاء» ريادة سليم النقاش في إدخال الفن
المسرحي باللغة العربية إلى مصر، دون أي ذكر لوجود صنوع كمسرحي.
٤١
وفي عام ١٨٩٣ بدأ جرجي زيدان في نشر فصول عديدة عن تاريخ الأدب العربي، في مجلته
«الهلال». وفي عام ١٩١١ جمع هذه الأجزاء ونشرها في كتاب مستقل بعنوان «تاريخ آداب اللغة
العربية». وعندما تحدث عن التمثيل العربي في مصر، تحدث عن قدوم سليم النقاش وأديب إسحق
ويوسف خياط، وريادتهم لهذا الفن في مصر،
٤٢ دون ذكر لصنوع، رغم أن جرجي زيدان كان معاصرًا له! وبناء على ذلك نتساءل:
لماذا أنكر جرجي زيدان وجود صنوع كمسرحي، رغم شهرة زيدان في مجال التاريخ والأدب
والصحافة، خصوصًا عندما يكتب كتابًا يؤرخ فيه للتمثيل العربي في مصر؟!
وفي عام ١٩١٢ كتب سليمان حسن القباني كتابًا بعنوان «بغية الممثلين»، أرخ فيه للحركة
المسرحية في مصر فتحدث عن نابليون ومسرحه بالأزبكية «مسرح الجمهورية والفنون»، وعن
إنشاء الخديو إسماعيل لدار الأوبرا، حتى وصل في تأريخه إلى سليم النقاش، ومن ثم إلى
الأجواق الحالية — في هذا الوقت — مثل: جوق سلامة حجازي، وجوق جورج أبيض، وجوق سليم عطا
الله، وجوق أحمد الشامي، وجوق محمود وهبي، وجوق إبراهيم حجازي، وجوق محمد الكسار،
وأخيرًا جوق عبد العزيز الجاهلي.
٤٣ وطوال هذا التاريخ لم نجد أية إشارة عن وجود صنوع كمسرحي.
وفي يناير ١٩١٢ كتبت جريدة «الأخبار» مقالة تحت عنوان «حول التمثيل»، قالت فيها:
«…
نحن الآن على أبواب نهضة تمثيلية راقية نرجو أن تثمر غرسًا صالحًا وثمرًا حلوًا، وإنني
لا أرى بدًّا والحق أولى بالإثبات من إسداء الشكر للسوريين الذين خدموا فن التمثيل
وكانوا السبب في وصوله إلى ما وصل إليه بالاشتراك مع إخوانهم الوطنيين والعمل معهم.
وهيهات أن ننسى الأديبين الكبيرين المرحومين سليم النقاش وأديب إسحاق اللذين أخرجا فن
التمثيل إلى عالم الوجود في مصر، وهما اللذان لا تزال الروايات التي عرباها ومثلاها
تمثَّل إلى الآن، مثل: «عائدة» و«أندروماك» و«شارلمان» …»
٤٤
وهكذا نجد أن جميع الأقوال السابقة، التي أرَّخت لبدايات الحركة المسرحية في مصر،
منذ
عام ١٨٩٣ حتى عام ١٩١٢ — عام وفاة صنوع — تلك الفترة التي تمتع فيها صنوع باحترام
الخديو عباس، لم تذكر أية إشارة — ولو ضئيلة — تؤكد أن لصنوع تاريخًا مسرحيًّا في مصر
في يوم من الأيام. بل إننا لم نجد أية إشارة عنه كمسرحي منذ بدايته المسرحية — تبعًا
لأقواله في عام ١٨٧٠ — وحتى وفاته في عام ١٩١٢. والسؤال الآن: كيف دخل اسم صنوع في
تاريخ المسرح المصري، رغم كل ما أوردناه من أدلة وبراهين تشكك في عدم وجوده
كمسرحي؟!
الحقيقة أن أول من ذكر اسم صنوع في تاريخ المسرح المصري، ونصَّبه رائدًا فيه هو
المؤرخ الصحفي الفيكونت فليب دي طرازي، في كتابه «تاريخ الصحافة العربية» عام ١٩١٣.
وذلك عندما كتب جزءًا كبيرًا عن حياة وأعمال صنوع، قائلًا عن دوره كمسرحي: وفي «سنة
١٨٧٠ أنشأ أول مرسح عربي في القاهرة بمساعدة الخديوي إسماعيل الذي منحه لقب «موليير
مصر» ونشطهُ على عمله وشهد مرارًا تمثيل رواياته. فألف صاحب الترجمة حينئذٍ اثنتين
وثلاثين رواية هزلية وغرامية منها بفصل واحد، ومنها بخمسة فصول لم يزل صداها يرن في
آذان الشيوخ على ضفاف النيل.»
٤٥
وهذه العبارة كانت الباب الذي فُتح على مصراعيه أمام جميع من كتب من النقاد العرب
عن
صنوع كمسرحي بعد ذلك، فانهالت المقالات والكتب الضخمة بناءً على هذه العبارة فقط. علمًا
بأن فليب طرازي لم يكتب تاريخ صنوع من خلال مراجع أو مصادر مختلفة، بل كتبه من خلال صحف
صنوع نفسه، التي أهداها له صنوع قبل وفاته، واعترف المؤرخ بذلك في نهاية حديثه، قائلًا
عن هذه الصحف: «وقد أتحف بها قبل وفاته مؤلف هذا التاريخ على سبيل الهدية والتذكار. وهي
مجموعة أدبية ثمينة يندر وجود نظيرها عند أحد الشرقيين الذين لا يكترثون عادة لصيانة
الآثار القديمة أو النفيسة.»
٤٦
وهكذا استطاع صنوع أن يدخل إلى عالم المسرح العربي موهمًا طرازي بأنه الرائد الأول
لهذا الفن في مصر. فقام طرازي بإثبات هذا الوهم في عقول جميع الكُتاب، ممن كتبوا عن
صنوع كمسرحي حتى وقتنا الحاضر — كما سيتضح لنا — لأن هؤلاء الكُتاب كان اعتمادهم
الأساسي على كتاب طرازي، باعتباره أول وأقدم كتاب في البيئة العربية، تحدث عن صنوع
كمسرحي.
وبالرغم من صدور كتاب طرازي في عام ١٩١٣، إلا أن كتابات عديدة أرخت لبدايات المسرح
المصري، ولم تذكر صنوع كمسرحي بعد هذا التاريخ. فعلى سبيل المثال: في عام ١٩١٧ وبعد
وفاة الشيخ سلامة حجازي مباشرة، نشر جورج طنوس كتابًا حوى كل ما قيل في تأبين الشيخ،
وقال في مقدمته: «… ظهر التمثيل العربي في هذه الديار. وكانت نشأته الأولى في
الإسكندرية على أيدي الأديبين الشهيرين إسحق والنقاش. ثم ترسَّم آثارهما المرحومان
سليمان الحداد وسليمان قرداحي فعرضا على المرحوم الشيخ سلامة احتراف التمثيل.»
٤٧ وهذا التأكيد على ريادة سليم، دون ذكر صنوع، يؤيد الشك في عدم وجود صنوع
كمسرحي في مصر؛ لأنه تأكيد جاء من خلال أحد الرموز المسرحية العربية في ذلك الوقت، ألا
وهو جورج طنوس صاحب التاريخ المسرحي الكبير.
٤٨
وفي عام ١٩١٩ كتب الأديب محمد تيمور مقالة بعنوان «التمثيل في مصر»، قال فيها: «…
أتانا التمثيل من إيطاليا عن طريق سوريا وأول من جاءنا به قوم من فضلاء السوريين أمثال
سليم النقاش وأديب إسحق والخياط والقباني، وفدوا إلى مصر مقر العلوم والآداب الشرقية
لينشروا فيها بذور ذلك الفن الجديد، ولقد نجحوا في بناء أساس ذلك الفن نجاحًا كبيرًا
…
وأنشئوا بأيديهم فن التمثيل في مصر بعد أن كنا لا نعلم من أمره شيئًا، هذه هي نتيجة
مسعاهم ونحن مدينون لهم بهذه النتيجة.»
٤٩
وهذا التأكيد على ريادة سليم دون ذكر صنوع، جاءنا — في ذلك الوقت — من أحد أقطاب
الأسرة التيمورية بما لها من باع طويل في الأدب والثقافة والتاريخ، ألا وهو محمد تيمور،
أحد رواد الكتابة المسرحية في مصر. وبناء على ذلك نقول: ألم يكن في هذه الأسرة الثقافية
العريقة مَن عاصر يعقوب صنوع في نشاطه المسرحي — أمثال عائشة التيمورية (١٨٤٠–١٩٠٢)،
وأحمد باشا تيمور (١٨٧١–١٩٣٠) — ليصحح لمحمد تيمور معلوماته؟!
وفي عام ١٩٢٥ كتب محمد شكري كتابًا بعنوان «مجموعة تياترو». وهو عبارة عن موجز لتاريخ
أكثر من مائتي شخصية مصرية وعربية شاركت في الحركة المسرحية، منذ نشأتها في العالم
العربي وحتى عام ١٩٢٥. ورغم هذا الكم الهائل من الشخصيات المسرحية، إلا أن الكتاب لم
يذكر يعقوب صنوع بأية إشارة تذكر.
٥٠ علمًا بأن محمد شكري كان من أهم الشخصيات المسرحية المؤثرة في حركة تاريخ
المسرح المصري والعربي في ذلك الوقت.
٥١
وفي عام ١٩٢٧ نشرت مجلة «السِّتار» خطبة تحت عنوان «تاريخ التمثيل العربي»، كان خليل
مطران قد ألقاها عام ١٩٢٠، في احتفال شركة ترقية التمثيل العربي — فرقة عكاشة — بافتتاح
تياترو حديقة الأزبكية، جاء فيها: «… أول من خطر له إدخال هذا الفن في لغة الناطقين
بالضاد هو المرحوم مارون النقاش لخمسين سنة مضت أو نيف … أعقب مارون قريب له معروف بين
أدباء المحروسة في زمانه هو المرحوم سليم النقاش. وسليم هذا أول من أنشأ فرقة للتمثيل
بمصر.»
٥٢ ونلاحظ أن مقام الاحتفال مناسب لذكر صنوع كمسرحي، خصوصًا وأن الاحتفال كان
بمناسبة افتتاح مسرح حديقة الأزبكية — بعد تجديده — ذلك المسرح الذي بدأ صنوع — تبعًا
لأقواله — التمثيل على خشبته بعد أن أعطاه له الخديو إسماعيل مجانًا. علمًا بأن المتحدث
هو خليل مطران، صاحب التاريخ الطويل في الحركة المسرحية المصرية،
٥٣ كما أنه أول مدير للفرقة القومية عام ١٩٣٥.
وفي عام ١٩٣٢ أرَّخ عبد الرحمن الرافعي لعصر الخديو إسماعيل، وعندما تطرق إلى التمثيل
العربي في هذا العصر، قال: «وقد وفد على مصر حوالي ١٨٧٦ جماعة من الأدباء والممثلين
السوريين ومنهم يوسف خياط، فمثلوا على مسرح زيزينيا بعض الروايات.»
٥٤ والملاحظ أن الرافعي في هذا التأريخ، تحدث عن صنوع كصحفي فقط — معتمدًا على
كتاب طرازي
٥٥ — دون الإشارة إليه كمسرحي! علمًا بأن الرافعي من المؤرخين الأوائل للعصر
الحديث.
وفي عام ١٩٣٤ نُشرت مذكرات أحمد شفيق باشا — الذي عاصر يعقوب صنوع أثناء وجوده في
مصر
— وفيها تحدث صاحبها عن بدايات المسرح المصري في عهد إسماعيل، من خلال الأوبرا
والكوميدي الفرنسي، حتى قال: «… ثم بدأت تفد على مصر بعض الفرق السورية، فكان ذلك منشأ
المسرح العربي الأهلي، وأُولى هذه الفرق هي فرقة «سليم النقاش» وتلتها فرقة «يوسف خياط»
التي مثَّلت في الأوبرا أمام إسماعيل.»
٥٦ ورغم إثبات هذه المذكرات لريادة سليم دون صنوع، إلا أنها تحدثت عن صنوع
كصحفي فقط في أكثر من موضع، دون الإشارة إليه كمسرحي.
٥٧
ومن الوثائق المخطوطة المهمة، مخطوطة كتاب للكاتب الأديب المسرحي محمد لطفي جمعة،
بعنوان «قطرة من مداد عن المتعاصرين والأنداد» كُتب في عام ١٩٤٤. وهو كتاب يؤرخ فيه
المؤلف لمجموعة كبيرة من الشخصيات الأدبية والسياسية التي عاصرها، وكانت له معها مواقف
ومقابلات ورسائل متبادلة، ومنها كان يعقوب صنوع. وعندما تحدث لطفي عن صنوع، تحدث عنه
كشاعر وصحفي فقط، دون أي ذكر له كمسرحي.
٥٨ ومن الغريب أن لطفي جمعة ذكر مقابلته مع صنوع في فرنسا عام ١٩١٠، أثناء
حضوره المؤتمر الوطني المصري الثاني؛ أي إنه تحدث وسمع من صنوع، فلماذا أنكره كمسرحي
—
عندما كتب هذا الكتاب عام ١٩٤٤ — خصوصًا وأن لطفي جمعة من الكُتاب المسرحيين القدامى؟!
٥٩
وفي عام ١٩٥٠ صدر عدد تذكاري لجريدة الأهرام بمناسبة مرور خمسة وسبعين عامًا على
إصدارها. وهذا العدد جمع أهم الأخبار التي جاءت في الجريدة منذ صدورها في عام ١٨٧٥، في
شتى المجالات، مع توثيق لها. وفي الجزء الخاص بنشأة المسرح في مصر، جاءت هذه العبارة:
«أما التمثيل العربي، فقد حمل لواءه إخواننا السوريون وعلى رأسهم سليم نقاش.»
٦٠ وبناء على منهج هذا العدد، في نقل المعلومات من أخبار الجريدة منذ عام
١٨٧٥، نقول: إن القائمين على إعداد هذا العدد لم يجدوا أية إشارة تُذكر عن صنوع كمسرحي.
٦١
وفي عام ١٩٥٠ تحدث د. عبد اللطيف حمزة — من خلال كتابه «أدب المقالة الصحفية في مصر»
— عن صنوع كصحفي فقط، دون أية إشارة عنه كمسرحي.
٦٢ ومن الممكن أن يقول قائل: إن هذا الأمر طبيعي؛ لأن الكتاب تأريخ للصحافة
وللصحفيين. ولكن الحقيقة أن مؤلف الكتاب كان يتحدث عن جميع الأنشطة لكل صحفي. فمثلًا
عندما تحدث عن أديب إسحاق كصحفي، تحدث عنه أيضًا كمسرحي، من خلال مسرحياته «أندروماك»،
و«شارلمان»، و«الباريسية الحسناء».
٦٣ وفعل نفس الشيء، عندما تحدث عن النشاط الصحفي لعبد الله النديم، وأيضًا عن
نشاطه المسرحي من خلال مسرحيتيه «الوطن»، و«العرب».
٦٤ فلماذا صمت المؤلف عن دور صنوع المسرحي؟! علمًا بأن كتاب طرازي كان من
المراجع الأساسية في هذا الكتاب!
وفي عام ١٩٥١ كتب عبد الرحمن صدقي، مقالة كبيرة تحت عنوان «المسرح العربي»، أرخ فيها
للحركة المسرحية في مصر منذ افتتاح الأوبرا الخديوية عام ١٨٦٩، حتى وقت كتابة المقال
عام ١٩٥١. وقال صدقي في هذه المقالة: «كانت بداية المسرح في مصر الحديثة في الشطر
الثاني من القرن التاسع عشر على عهد الخديو إسماعيل. فبأمر هذا المجدد العظيم، كان بناء
دار الأوبرا عام ١٨٦٩ … ثم كان على يديه مطلع التمثيل العربي … عام ١٨٧٦ حين وفدت فرقة
للتمثيل العربي من لبنان قوامها سليم النقاش وأديب إسحق ويوسف خياط، فأمدها الخديو
بالمال، ورخص لها بدار الأوبرا زمنًا في كل عام لتقدم رواياتها للجمهور المصري.»
٦٥ ويجب أن نلاحظ أن عبد الرحمن صدقي في ذلك الوقت، كانت له مكانة مسرحية
كبيرة، كوكيل لدار الأوبرا، بما تحويه من مكتبة تراثية، تحمل بين جنباتها أنفس الكتب
والوثائق المسرحية. هذا بالإضافة إلى مكانته الأدبية كأديب وكاتب وشاعر.
وبعد هذا المسح لمعظم الأقوال التي أرَّخت لبداية المسرح العربي في مصر — منذ عام
١٨٧٠، أي منذ بدأ صنوع نشاطه المسرحي، تبعًا لأقواله — نستطيع أن نقول: إن نشاط صنوع
المسرحي في مصر يحيطه الشك من كل جانب، ذلك الشك الذي يكاد أن يصل بنا إلى حد إنكار
صنوع كمسرحي، وكفى بنا أن نستقرأ هذا المسح مرة أخرى، لنرى أن أقوال المصادر والدوريات
والمؤرخين والمسرحيين وأصدقاء صنوع أنفسهم، لم تثبت ذلك النشاط المسرحي لصنوع، ولو
بإشارة واحدة. هذه هي الحقيقة الغائبة لهذا الرائد المسرحي الأسطوري.
ولكي نثبت هذه الحقيقة الغائبة، يجب علينا أن نناقش بالنقد والتحليل، الحقيقة المعلنة
والمتداولة في كتب ودراسات النقاد، والتي أقرت بوجود صنوع كرائد للمسرح العربي في مصر.
وهذه الحقيقة الراسخة حتى الآن، حمل لواءها مجموعة من الكتاب، أطلقت عليها: «نقاد مسرح
يعقوب صنوع».
(٣) نقاد مسرح يعقوب صنوع
يعتبر الفيكونت فيليب دي طرازي — كما قلنا فيما سبق — أول من كتب عن يعقوب صنوع،
وأدخله في تاريخ المسرح العربي. وإن ما كتبه كان الأساس في كل ما كُتب عن صنوع بعد ذلك،
لدرجة أن بعض الدوريات كانت تكتب عن صنوع من خلال معلومات طرازي نفسه، دون أية إضافة
٦٦ حتى عام ١٩٥٣، عندما كتب د. إبراهيم عبده أول كتاب عن صنوع بعنوان «أبو
نظارة إمام الصحافة الفكاهية المصورة وزعيم المسرح في مصر».
٦٧
وهذا الكتاب يُعد من أهم الكُتب التي كُتبت عن صنوع كمسرحي؛ لأن مؤلفه استطاع أن
يحصل
على الصحف والوثائق الكاملة الخاصة بصنوع، بالإضافة إلى مذكراته المخطوطة من ابنته. وفي
ذلك يقول: «… وقد شملتني السيدة لولي صنوع بعطفها، ومنحتني مجموعة والدها الصحفية كاملة
غير منقوصة … فضلًا عما أهدتني من وثائق وصور وكتب مخطوطة متصلة بهذا الموضوع، تكمل
تاريخ أبي نظارة وتجعله حيًّا قويًّا جديرًا بالنشر في أوسع نطاق وفي مقدمة ذلك تاريخه
الذي كتبه عن نفسه بخط يده.»
٦٨ ومن خلال هذه المذكرات استطاع الناقد أن يكتب لنا صورة تفصيلية عن مسرح
وحياة صنوع.
يقول الناقد في كتابه — من خلال مذكرات صنوع: «… ثم انصرف أبو نظارة إلى تأليف
التمثيليات باللغة الإيطالية فكتب ثلاثًا منها عن العادات المصرية لقيت نجاحًا كبيرًا
على المسارح الإيطالية في الشرق، بل لقيت النجاح في بلاد دانتي نفسها … وكان نجاح
تمثيلياته الإيطالية الثلاث حافزًا على المضي فيما أَهَّلَهُ له طبعه، فعزم على أن يقيم
مسرحًا قوميًّا مصريًّا.»
٦٩ وهذه المعلومات رغم أنها من مذكرات صنوع المخطوطة، إلا أن يعقوب صنوع لم
يقلها، بل إن قائلها هو محرر جريدة الفولطير، الذي أضافها إلى تاريخ صنوع، دون سند من
صنوع نفسه، الذي استحسنها صنوع بدوره، فأضافها إلى مذكراته، كما بينَّا سابقًا.
٧٠
والدليل على أن هذه المعلومات خاطئة، أنها تؤكد قيام صنوع بالتأليف المسرحي باللغة
الإيطالية لثلاث مسرحيات مُثِّلت بالفعل في مصر وإيطاليا. على الرغم من عدم وجود أية
إشارة لهذه العروض في الصحف المصرية، أو عن صنوع كمسرحي كما بينَّا سابقًا. والدليل
الأكبر على خطأ هذه المعلومات، أنها تؤكد أن هذا النشاط المسرحي تم قبل أن يقيم صنوع
مسرحه في مصر. فإذا تذكرنا أن يعقوب صنوع — كما قال — أقام مسرحه عام ١٨٧٠، فهذا يعني
أنه ألَّف مسرحياته الإيطالية، ومُثِّلت في مصر وإيطاليا قبل هذا التاريخ. وهذا مخالف
لما قاله صنوع فيما سبق، ومخالف لكل أقوال الدوريات في هذه الفترة، عن عدم وجود مسرح
مصري لصنوع أو عن وجود مسرح متكامل لغيره قبل عام ١٨٧٠؛ لأن العروض قبل هذا التاريخ
كانت تختص بالأوبرا الخديوية ومسرح الكوميدي الفرنسي. وما يُنسب للمسرح في مصر قبل
افتتاح الأوبرا، كان يتمثل في بعض الظواهر المسرحية، كخيال الظل وأولاد رابية
والمحبظاتية والرواة والقُصاص … إلخ تلك الظواهر التي لا ترقى إلى المسرح المتكامل،
الذي وصل إليه مسرح صنوع، إذا سلمنا بأقواله عن نفسه.
ثم يقول الناقد: «كان ذلك في سنة ١٨٦٩ حين فكر يعقوب صنوع في تأسيس مسرح للوطنيين
تعرض على خشبته تمثيليات عربية، وكان ذلك حدثًا جديدًا وابتكارًا غريبًا، فإلى ذلك
الحين لم يكن أحد قد كتب أو مثل على مسرح وطني أمام نظارة أو متفرجين، ويقول المترجَم
له [أي صنوع] «في القصر أمام باشوات وبيكوات البلاط الخديوي فضحكوا لها من أعماق
قلوبهم»، وشجعوه على أن يعرضها في حديقة الأزبكية، وكانت مشهورة بمسرحها القائم في
الهواء الطلق.»
٧١
نخرج من هذا القول بمعلومتين جديدتين؛ الأولى: أن يعقوب صنوع بدأ نشاطه المسرحي في
عام ١٨٦٩ لا في عام ١٨٧٠، كما قال عن نفسه.
٧٢ علمًا بأن عام ١٨٦٩ هو عام افتتاح الأوبرا الخديوية، التي تتبعت عروضها
مجلة «وادي النيل» بالنقد والتحليل.
٧٣ بل إن هذه المجلة نفسها تمنَّت أن ترى هذا الفن المسرحي الجديد يُعرض على
الجمهور المصري باللغة العربية.
٧٤ فأين عروض صنوع، وأين نشاطه المسرحي من هذه المجلة التي كتبت صفحات طويلة
عن عرض مسرحي في إحدى المدارس لا لشيء إلا لأنه كان باللغة العربية؟!
٧٥
أما المعلومة الثانية، فهي عن تشجيع رجال البلاط الخديوي لصنوع، كي يقيم عروضه في
مسرح حديقة الأزبكية. ونقول أمام هذه المعلومة: إن يعقوب صنوع لم يُقِم أي عرض مسرحي
على هذا المسرح! لأن مسرح حديقة الأزبكية تم افتتاحه في مايو عام ١٨٧٣!
٧٦ فكيف يأتي ذكر هذا المسرح في عام ١٨٦٩؟! علمًا بأن نشاط صنوع المسرحي —
تبعًا لأقواله — بدأ في عام ١٨٧٠ وانتهى في عام ١٨٧٢؛ أي إن نشاطه المسرحي انتهى قبل
افتتاح مسرح حديقة الأزبكية نفسه!
ويستمر الناقد د. إبراهيم عبده ساردًا أقواله — من خلال مذكرات صنوع — فيقول: «ويؤرخ
لنا أبو نظارة فيما يرويه عن فرقته سيرة المسرح المصري الأولى، وهي سيرة لا يعرفها
المصريون، ومن حسن طالع هذا التاريخ أن صاحبه عُني بتفاصيله وأتاح لنا أن نقف على كثير
من أخباره المستخفية، والتي لم يذكرها مؤرخ من المؤرخين، وهو يحدثنا عن الفرقة
التمثيلية العربية الأولى حديثًا شائقًا فيذكر أن الممثلين الشبان … كانوا يرتعدون
خوفًا قبل رفع الستار فرأى زعيمهم — أبو نظارة — أن يشجعهم، فوقف على خشبة المسرح وحوله
الممثلون وتحدث إلى النظارة ليعطيهم فكرة عن الفن المسرحي … ويقص أبو نظارة مدارج النصر
التي نالها في عمله، فيذكر أن مسرحه ظل يعمل سنتين عرض فيهما على خشبته اثنتين وثلاثين
تمثيلية من تأليفه …» ثم يقول: «وبعد مُضي أربعة أشهر على تأسيس مسرحي، دعاني الخديوي
إسماعيل وفرقتي لأمثل على مسرحه الخاص في القصر، وقد مثلت ثلاث روايات وهي: آنسة على
الموضة، وغندور مصر، والضرتان … وبعد أن شاهد الملهاة الأولى والثانية استدعاني وقال
لي
أمام وزرائه ورجال حاشيته: «أنت مولييرنا وسيخلد اسمك.» بيد أنه عندما شاهد التمثيلية
الثالثة الضرتان وكانت تعلن عن مساوئ تعدد الزوجات، وأنه سبب التصدع الذي يحدث في
الأسرات بل سبب الجرائم التي تغشاها، تحول سروره إلى غضب … وبعد أكثر من مائتي عرض
لمسرحيات صنوع طلب منه إسماعيل أن يمثل ثلاث قطع في حفلة ساهرة كبرى، وقد نال إعجاب
الحاضرين وعلى رأسهم الخديو … غير أن كبار الجالية الإنجليزية … مضوا بالدس عند الأمير
حتى أقنعوه … بأن التمثيليات التي يقدمها أبو نظارة تتضمن تلميحات وإيماءات خفية ضد
سياسته وسياسة حكومته، وفيها خطر عاجل على نظام الحكم ومقدرات البلاد، فأمر إسماعيل
بإغلاق المسرح.»
٧٧
ولنا على هذا الجزء أربع ملاحظات؛ الأولى: تتعلق بقول صنوع بأنه قبل عرضه المسرحي
الأول ألقى على الجمهور خطبة، ليعطيهم فكرة عن الفن المسرحي. وهذا القول غريب حقًّا؛
لأن الجمهور في مصر في ذلك الوقت لا يحتاج إلى هذه الخطبة، لأنه يعرف الفن المسرحي،
لوجود دار الأوبرا ومسرح الكوميدي الفرنسي. بل إن الطهطاوي كتب — في عام ١٨٣١ — عن
المسرح كما شاهده في فرنسا في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز». هذا بالإضافة إلى
أن أول من خطب من العرب في الجمهور قبل أول عروضه المسرحية، هو مارون النقاش، وخطبته
هذه نشرت عام ١٨٦٩ في كتاب «أرزة لبنان»،
٧٨ أي قبل بداية صنوع المسرحية.
أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بتمثيل صنوع وفرقته المسرحية أكثر من مرة أمام الخديو
والوزراء ورجال البلاط والجاليات الأجنبية، لدرجة أن الخديو منحه لقب «موليير مصر».
وهذه المعلومة مشكوك في صحتها، ولم تقل بها أية صحيفة في ذلك الوقت. والدليل على ذلك
أن
الصحف كانت تتبع أخبار جميع الحفلات التي يحضرها الخديو عمومًا، فما بالنا بعرض مسرحي
—
لأول فرقة مسرحية عربية — يقام في قصر الخديو نفسه وبحضوره شخصيًّا مع كبار القوم! فهل
حدثٌ مثل هذا تتغافل عنه الصحف في هذه الفترة، وتكتب بتفصيل شديد عن حفل راقص أقيم في
قصر الخديو عام ١٨٧٠؟!
٧٩
والملاحظة الثالثة تتعلق بخبر إغلاق الخديو لمسرح صنوع. وهذا الإغلاق — تبعًا لأقوال
صنوع — كان في عام ١٨٧٢. فإذا كانت جميع الصحف لم تنشر إشارة واحدة عن بداية صنوع
المسرحية، أو استمرار نشاطه المسرحي من ١٨٧٠ حتى عام ١٨٧٢، فعلى أقل تقدير تنشر خبر
إغلاق هذا المسرح، خصوصًا وأنه أُغلق بأمر الخديو. وكما هو معروف أن جريدة «الوقائع
المصرية» كانت تنشر كل ما يتعلق بأوامر وتعليمات وتوجيهات الخديو، فلماذا لم نجد خبر
إغلاق هذا المسرح في هذه الجريدة أو في أية جريدة أخرى؟!
أما الملاحظة الرابعة، فتأتي من خلال شكوك الناقد د. إبراهيم عبده حول مذكرات صنوع،
عندما قال: «ويؤرخ لنا أبو نظارة فيما يرويه عن فرقته سيرة المسرح المصري الأولى، وهي
سيرة لا يعرفها المصريون، ومن حسن طالع هذا التاريخ أن صاحبه عُني بتفاصيله وأتاح لنا
أن نقف على كثير من أخباره المستخفية، والتي لم يذكرها مؤرخ من المؤرخين.»
٨٠ وهنا نتساءل: لماذا لم يعرف المصريون سيرة صنوع المسرحية؟! ولماذا لم يذكر
هذه السيرة أي مؤرخ من المؤرخين؟! مع ملاحظة أن قائل هذه العبارة هو د. إبراهيم عبده
المؤرخ الصحفي الكبير، الذي كتب عدة كتب عن تاريخ الصحافة المصرية، غطت معظم فترة تواجد
صنوع في مصر.
٨١ وهذا يعني أنه لم يجد في جميع مصادر ومراجع هذه الكتب أية إشارة عن صنوع
كمسرحي، وإلا لكان أثبتها في أكثر من موضع في كتابه عن صنوع، بدلًا من الاعتماد الكلي
على مذكرات صنوع فقط.
وإذا كان اهتمامنا اتجه — فيما سبق — نحو الشك في نشاط صنوع كمسرحي في مصر — من خلال
كتاب د. إبراهيم عبده — فإن هذا الشك كان من نصيب حياة صنوع أيضًا طوال فترة تواجده في
مصر، من خلال نفس الكتاب. تلك الفترة التي غلفها صنوع بأكاذيب ومبالغات أعطت له مكانة
كبيرة خدع بها قراءه ونقاده. ولإثبات ذلك سنقوم بتفنيد هذه الأكاذيب والمبالغات؛ لأنها
ستؤكد للقارئ شكوكنا حول نشاطه المسرحي.
يقول صنوع — في هذا الكتاب من خلال مذكراته: إن الأمير أحمد حفيد محمد علي الكبير
—
الذي استخدم والده ورأى فيه الذكاء — أرسله على نفقته ليتلقى العلم في أوربا. «ثم يمضي
يعقوب فيقول إنه أمضى عدة سنوات في أوربا فلما عاد نزل قضاء الله في الأمير الكريم الذي
أولاه نعمته وفي أبيه أيضًا، فوجد نفسه رب أسرة، ليس له مال يغنيه وإن كان له علم بلغات
أربع، كانت هي كل رأس ماله الذي تقدم به إلى إحدى المدارس الحرة التي قبلته مدرسًا بها
… [و] بعض الشخصيات المدنية والعسكرية التي كانت تحكم مصر في أواخر القرن التاسع عشر
تلقت عنه دروسًا خاصة أو تتلمذت عليه في المدارس الحرة أو الأميرية، فإنه أمضى بضع سنين
مدرسًا أول في المهندسخانة وعضوًا في لجنة امتحان المدارس الأميرية.»
٨٢
ونستخلص من هذا الجزء أن والد صنوع كان موظفًا عند الأمير أحمد حفيد محمد علي، وأن
يعقوب صنوع تلقى العلم في إيطاليا في هذه الفترة، وبعد عودته أصبح مدرسًا بالمدارس
الأهلية وخصوصًا مدرسة المهندسخانة، وأن تلاميذه أصبحوا من الحكام. أما فيما يتعلق بعمل
والد صنوع عند الأمير أحمد، فلا صحة لهذا الخبر لأن اسم روفائيل صنوع لا وجود له في
سجلات ملفات الموظفين طوال القرن التاسع عشر. علمًا بأن الخادم في قصور الأمراء له ملف
في هذه السجلات باعتباره من الموظفين،
٨٣ فما بالنا بوالد صنوع، الذي كان مستشارًا عند هذا الأمير، وعند أمراء
البلاط الخديوي، بل كان من أصدقاء محمد علي باشا الكبير شخصيًّا؛ وفي ذلك يقول صنوع:
«وأما محمد علي جنتمكان صاحب ذاك العصر … فكان كامل الرياسة، حدثني عنه والدي رفايل
أفندي، وكان من محاسيبه النجيبة، أحاديث عجيبة غريبة، وكان يستشيره في بعض الأمور
لصداقته. كذا مع نجله إبراهيم وحليم وحفيده أحمد استمرت علاقته.»
٨٤
أما تلقي صنوع التعليم في أوروبا من قِبل هذا الأمير، وعمله بعد رجوعه كمدرس
بالمهندسخانة يتناقض مع جزء من مذكرات صنوع المنشورة في صحفه بباريس، عندما قال في عام
١٨٩٩ تحت عنوان «زهرة من تاريخ وطني الغالي ونبذة من ترجمة حالي»: «… دخلت في مبادئ
أمري مدرسة المهندسخانة المشهورة، واقتبست من معلميها الفنون والآداب على أجمل صورة.
ومنها انتقلت إلى مدرسة إنكليزية فتحوها بمصر البروتسطان، أتقنت فيها لغة المستر بول
الخمران. وتعلق بعد ذلك طالعي بالأسفار، فسرت إلى إيطاليا، وتعلمت لغتها من نثر وأشعار.
وعدت وعمري خمسة عشر إلى مصر المحروسة، فوجدتها بولاية سعيد باشا مأنوسة.»
٨٥
وفي هذا الجزء المنشور يعترف صنوع أن سفره لإيطاليا كان من قِبل الهواية، ولا دخل
للأمير فيه، بل إنه كان تلميذًا بالمهندسخانة لا أستاذًا بها. والدليل على أنه لم يمارس
أية وظيفة حكومية — خصوصًا وظيفة مدرس بالمهندسخانة — هو عدم وجود اسمه في قائمة ملفات
موظفي الحكومة المصرية في ذلك الوقت، على الرغم من وجود ملف لفراش بالمهندسخانة، لمجرد
أنه موظف!
٨٦
ومن الممكن أن يقول قائل: إن عدم وجود ملف وظيفي لصنوع، راجع إلى نفيه من مصر من
قِبل
الخديو — كما زعم صنوع في مذكراته كما سنبين ذلك فيما بعد — وهذا أدى إلى شطب اسمه من
قائمة الموظفين. والرد على هذا الاحتمال، يتمثل في أن الموظفين المنفيين، لا تشطب
أسماؤهم مهما كان الأمر. وأكبر دليل على ذلك وجود الملف الوظيفي للزعيم أحمد عرابي،
وأيضًا ملفات جميع أعوانه من المصريين المنفيين.
٨٧
وإذا سلمنا بأقوال صنوع بأنه عاد من إيطاليا — عام ١٨٥٤ لأنه ولد في عام ١٨٣٩ — وعمل
مدرسًا بالمدارس المصرية، خصوصًا المهندسخانة في عهد سعيد باشا، سنجد أن هذا القول أكبر
دليل على كذب صنوع في مذكراته! لأنه اختار أسوأ فترة تاريخية مرت على مصر في نظامها
التعليمي، ليقحم اسمه ضمن مدرسيها، وهي فترة تولي سعيد باشا الحكم. وفي ذلك يقول عبد
الله النديم عن سعيد باشا: «ألغى ديوان المدارس ومنع إرسال تلامذة لأوروبا وأقفل جميع
المدارس ولا ندري أي شيء حمله على ذلك وهو ابن المعارف والآداب وقد ذاق لذة العلوم.»
٨٨
وفي تفصيل أكثر يقول جاك تاجر: «… أما سعيد باشا فإنه ألغى ديوان المدارس في السنة
التي تولى الحكم فيها أي سنة ١٨٥٤، كما ألغى المهندسخانة … وفي السنة التالية ألغى
مدرسة المفروزة ومدرسة الطب بقصر العيني … [و] لم يفكر مطلقًا في إعادة ديوان المدارس؛
مما يدل على إصراره على عدم تنشيط التعليم في البلاد.»
٨٩ وبناءً على ذلك نقول: هل بعد إلغاء ديوان المدارس وإلغاء مدارس عديدة أهمها
مدرسة المهندسخانة في نفس العام الذي عاد صنوع فيه من إيطاليا، يصر صنوع ونقاده بأنه
كان مدرسًا بالمهندسخانة في هذا العهد؟!
وإذا كانت شكوكنا أحاطت المجال الأول لعمل صنوع كمدرس، ومجاله الثاني كمسرحي، فإن
الشك أيضًا يحيط بمجاله الثالث في حياته العملية، وهو رئاسة وتكوين الجمعيات العلمية
الأدبية. وعن هذا الجانب يقول د. إبراهيم عبده، من خلال مذكرات صنوع: بعد إغلاق مسرح
صنوع «اتجه إلى نشاط ثقافي وطني يلائم ذوقه وحسه، فأسس جمعيتين علميتين أدبيتين، سميت
الأولى «محفل التقدم» وسميت الثانية «محفل محبي العلم» وانتخب لهما رئيسًا … وكانت
الصحف المحلية تحتفل بنشر أخبار الجمعيتين مفصلة … ويحدثنا أبو نظارة عن المتاعب التي
صادفته في هاتين الجمعيتين ودور الإنجليز في القضاء عليهما فيقول: «وكان تاريخ فرنسا
وآدابها من الموضوعات الرئيسية لمحاضراتي؛ مما ضايق الإنجليز الذين كانوا يريدون أن
أدعوا لنفوذهم وأشجعه بين أبناء وطني. وقد انتقموا مني … ونجحوا بوسائلهم الوضيعة
وبدسائسهم الرخيصة في أن يلقوا في روع الخديو إسماعيل أن هاتين الجمعيتين إنما هما
مركزان للثورة، فما كان منه إلا أن منع التلاميذ والطلبة والعلماء من حضور اجتماعاتنا،
واضطرت إلى إغلاق أبوابهما» وهكذا كبت إسماعيل المتنفس الثاني لابن صنوع في سنة ١٨٧٤.»
٩٠
وإذا نظرنا إلى هذه المعلومات، سنجد يعقوب صنوع قد نشرها في أكثر من موضع في صحفه
بباريس باختلاف طفيف، قائلًا في عام ١٨٧٩: «وعملت لي جمعيتين علم للشبان؛ الأولى دعيتها
محفل المتقدمين. والثانية جمعية الخلان. وكانوا يحضروا جمعية الخلان ناس عظام ومشايخ
الأزهر الكرام ونور العلم الأستاذ الفاضل والفيلسوف الكامل السيد جمال الدين الأفغاني
فصيح اللسان وظريف المعاني. وكان هو وهم يتلوا علينا مقالات عظام، درجت أغلبهم في
صحيفتها الأهرام. فلما وصل الخبر إلى فرعون [يقصد الخديو إسماعيل] زعق ودبدب كالمجنون
وحرَّج من تحت لتحت على المشايخ والمستخدمين بأنهم لا يجتمعوا ليلًا في محافل وإلا
يصيروا مرفوتين. فطبعًا انقفلت الجمعية الداعية للتمدن والحرية.»
٩١ وفي عام ١٨٨٧ قال: «كونت جمعيتين علمي للشبان. ودعوتهما محفلي التقدم
وجمعية محبي العلم والأوطان. وكان يحضر جلساتنا ناس عظام من تلامذة المدارس ومشايخ
الأزهر الكرام. وكذلك السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده وأمثالهم من فلاسفة العرب
المشهورين وأذكى شبان طايفة الشوام الفخام وطائفة الإسرائيليين.»
٩٢
ونستخلص من هذه المذكرات أمرين، أولهما تكوين صنوع لجمعيتين أدبيتين، نشرت جريدة
الأهرام أخبارهما وخطبهما. والأمر الآخر أن أهم شخصيتين في هاتين الجمعيتين هما الشيخ
محمد عبده والأفغاني. وعن الأمر الأول نقول: لا وجود لهاتين الجمعيتين في تاريخ مصر في
تلك الفترة، أو بعدها. والدليل على ذلك أن جريدة الأهرام لم تنشر خبرًا واحدًا عن هاتين
الجمعيتين — كما زعم صنوع — وإذا كانت ذكرت إشارة واحدة، لكان د. إبراهيم عبده ذكرها
في
كتابه، خصوصًا وأنه اطلع على جميع أعداد جريدة الأهرام منذ صدورها، وكتب عنها كتابًا
ضخمًا بعنوان «جريدة الأهرام تاريخ مصر في ٥٠ عامًا». ولكان فعل نفس الشيء د. محمد يوسف
نجم، عندما تحدث عن صنوع في كتابه «المسرحية في الأدب العربي الحديث»؛ لأن اعتماده
الأول في مراجع هذا الكتاب كان على جريدة الأهرام منذ صدورها.
٩٣ هذا بالإضافة إلى أن بعض الكتب التي تحدثت عن الجمعيات الأدبية في مصر في
تلك الفترة لم تذكر أية إشارة عن هاتين الجمعيتين.
٩٤
أما فيما يتعلق بعلاقة الشيخ محمد عبده والأفغاني بجمعيتَي صنوع الأدبيتين، فإننا
لم
نجد في تاريخ هذين الشيخين — طوال فترة تواجد صنوع في مصر — أية إشارة عن علاقتهما
بصنوع أو بجمعيتيه،
٩٥ وما وجدناه كان على عكس ذلك تمامًا!
ففي عام ١٨٧٩ خطب الأفغاني — في مصر — خطبة عامة تحدث فيها عن موضوع «تربية الأمم»،
موضحًا الأثر الإيجابي للصحف على الأمة العربية، وفيها ذم الأفغاني يعقوب صنوع وصحيفته
ذمًّا شديدًا، فقام الشيخ محمد عبده بنشر هذه الخطبة، وشرح ما فيها — في جريدة التجارة
المصرية — حتى وصل إلى صحيفة صنوع فقال: «… هكذا أفاد هذا الأستاذ [أي الأفغاني] ولقد
وقفت على مغزى كلامه وحقيقة مرامه، فأيقنت أنه عنى بذلك جرنال أبي نظارة؛ ذاك الجرنال
الهزأة الذي لم يدع قبيحة من القبائح إلا احتواها ولا رذيلة من الرذائل إلا أحصاها. أتى
من العبارات ما لا يستطيع السوقة وأدنياء الناس أن يأتوا به، وجعل ديدنه السب والثلب
وثلم الأعراض وتمزيق حجاب الإنسانية والقدح في السير الشخصية بما لا يليق أن يتفوه به
الصبيان؛ مما يفسد الأخلاق ويذيب ماء الوجوه خجلًا وحياءً. على أن ليس فيه نكتة مضحكة
ولا لطيفة مسلية … مع أنه لا يحتوي على سياسة ولا أخبار ولا مضحكات ولا فكاهات، بل هو
محض الشتم واللطم … ولم يكن ذلك من محرر هذا الجرنال الهزء البارد إلا لدناءة الطبع
والميل إلى كسب الدنانير والدراهم؛ إذ ينال بهذيانه من زيد أربعين جنيهًا في الشهر ومن
عمر أقل ومن بكر أكثر، وتلك دنيئة تأباها الشيم الكريمة. ولقد تغالى منشئه في الوقاحة
حتى أشار في كتاباته وخزعبلاته أن أبناء المجامع المقدسة ذات المقاصد العالية المبنية
على محض الأدب والإنسانية هم مشاركوه في عمله هذا. حاشاهم حاشاهم أن تتدانى همتهم لهذه
المقاصد السافلة فقد كذب وافترى واعتسف واعتدى.»
٩٦
ولعل هذا القول — المنشور — من الأفغاني ومحمد عبده، يعد دليلًا على عدم علاقتهما
بجمعيتي صنوع أو بصحفه أثناء تواجده في مصر. وهذا الإنكار يثبت قولنا السابق، بأن أعداد
صحف صنوع الصادرة في مصر، تم تغييرها بإضافة أشياء في نسخها المخطوطة — المتداولة بين
أيدينا الآن — لم تكن موجودة أصلًا في نسخها الأصلية المطبوعة. والدليل على ذلك قيام
صنوع بإضافة مخاطبة نسبها إلى الأفغاني الذي أنكر محمد عبده — في قوله السابق — اشتراكه
مع الأفغاني في تحرير أي جزء من صحف صنوع في مصر.
ففي عام ١٨٨٩، وتحت عنوان «إيجاب الطلب» قال صنوع: «ورد لنا كتاب لطيف، من صديقنا
رئيس محفل الاتحاد المصري الشريف به يطلب منا بالنيابة عن الإخوان، طبع مخاطبة جرت بين
الهرة والإنسان، تلك مخاطبة كنا نشرناها في العدد الخامس عشر من النظارة بمحروسة مصر
القاهرة … فالآن ورد لنا نسخة من ذلك العدد النفيس مرسلة من جناب الرئيس. عدد من
جريدتنا الوطنية الحرة، التي فيها مخاطبة بين الإنسان والهرة، النادر وجودها عند محبي
الوطن العزيز، وقال إن إشهارها يصلحنا ويضر الإنكليز؛ فأجبناه وفضلنا تلك المخاطبة
الجوهرية على الأخبار المهمة الواردة لنا من الديار المصرية. أما مؤلفها فلا حاجة لذكر
اسمه لكونه معلوم عند الإخوان؛ وهو أستاذنا الجليل فيلسوف الأفغان.»
٩٧
ولم يكتفِ صنوع بإيهام الناس بعلاقة الأفغاني به أثناء وجوده في مصر عن طريق هذه
المخاطبة، بل قام بتزوير خط الأفغاني، وكتب إهداءً على إحدى صور الأفغاني، ليوهم الناس
بأن الصورة والإهداء من الأفغاني نفسه؛ دلالة على هذه العلاقة الحميمة. وهذه الصورة
نشرها د. إبراهيم عبده في كتابه السابق، كما نشر الإهداء الموقع من الأفغاني، ونصه:
«هدية مني إلى الطريف اللطيف حبيبي الشيخ جمس أبو النظارة (توقيع: جمال الدين الحسيني
الأفغاني).»
٩٨ والدليل على هذا التزوير من قِبل صنوع، يتمثل في أمرين؛ أولهما: أن الخط
المكتوب به الإهداء هو خط صنوع نفسه، ذلك الخط الرديء الذي طالما اعترف صنوع في صحفه
بأنه «خط رديء»، كلما كتب به عندما يغيب ناسخ صحفه عن العمل.
٩٩ أما خط الأفغاني فهو من أجمل الخطوط نسخًا في ذلك الوقت.
١٠٠
أما الأمر الثاني للدلالة على قيام صنوع بالتزوير، أن توقيع الإهداء جاء هكذا: «جمال
الدين الحسيني الأفغاني»، علمًا بأن جميع توقيعات الأفغاني على جميع وثائقه الأصلية
المحفوظة بالقلعة، وكذلك وثائقه المنشورة في الكتب
١٠١ كانت تكتب هكذا «جمال الدين الحسيني» دون ذكر لكلمة «الأفغاني».
أما المجال الرابع الذي تطرق إليه صنوع — أثناء تواجده في مصر، بعد قيامه بالتدريس
وريادته للمسرح وتكوين ورئاسة الجمعيات الأدبية تبعًا لمذكراته — فكان مجال الصحافة.
وهذا المجال، هو المجال الوحيد الموثق لعمله في مصر.
١٠٢ بل هو المجال الذي عصف بصنوع؛ لأن الخديو إسماعيل صادر جريدته المصرية،
ونفاه من مصر إلى فرنسا، وظل بها حتى وفاته عام ١٩١٢. هذه هي نهاية صنوع في مصر كما
جاءت في صحفه ومذكراته. ولنا ملاحظتان على هذه النهاية؛ الأولى تتعلق بمصادرة جريدة
صنوع في مصر من قبل الخديو، والأخرى تتعلق بنفيه من مصر إلى فرنسا.
فأما بخصوص مصادرة الجريدة، نجد يعقوب صنوع يؤكد هذه المصادرة في أكثر من موضع في
صحفه المنشورة بباريس.
١٠٣ ومن الغريب أن المصادرة جاءت من قِبل الخديو! وكما هو معروف أن أية مصادرة
لأية صحيفة في مصر، كانت جميع الصحف — وبالأخص الوقائع المصرية — تنشر خبر هذه المصادرة
في اليوم التالي مباشرة، مع تعليقات عن أسلوب الصحيفة المصادرة وأسباب مصادرتها، خصوصًا
وإن كانت المصادرة من قِبل الخديو! فهل يتصور القارئ أن خبر مصادرة صحيفة صنوع لا وجود
له في أية صحيفة مصرية طوال عام ١٨٧٨، وما قبله وما بعده؟!
وأكبر دليل على ذلك ما ذكره ناقدنا د. إبراهيم عبده عن هذه المصادرة قائلًا: «… وما
كان يمكن أن يحتمل إسماعيل وبطانته صحافة من هذا اللون فأغلق جريدة يعقوب … وقد بقي
وحده [أي صنوع] في فرنسا إلى أن زامله أديب إسحق في عهد الخديو توفيق، فقد أغلقت
صحيفتاه «مصر والتجارة».»
١٠٤ وعندما ذكر الناقد خبر إغلاق صحيفتي أديب إسحاق، وثَّق هذا الخبر من خلال
جريدة الوطن في ٢٢ / ١١ / ١٨٧٩. وهنا نتساءل لماذا لم يوثق الناقد أيضًا خبر مصادرة
صحيفة صنوع أسوة بصحيفتي أديب إسحاق، علمًا بأن الناقد من أكبر من أرخوا وكتبوا عن
تاريخ الصحافة المصرية؟! والإجابة تتمثل في أن هذه المصادرة لم تتحدث عنها أية صحيفة
لأنها كانت من اختلاق صنوع نفسه، وليس لها أي أساس أو تاريخ في مصر.
أما مسألة النفي، فنجد يعقوب صنوع يتناقض أمامها أكثر من مرة. فتارة يقول بنفيه من
قِبل الخديو، وتارة أخرى يقول إنه سافر أو هاجر من مصر. مع ملاحظة أن هذه الأقوال جاءت
من خلال محاوراته ولعباته التياترية في صحفه بباريس.
١٠٥ أما قوله الصريح في هذه المسألة فقد ذكره في مقدمة كتابه «البدائع المعرضية
بباريس البهية» عام ١٨٩٩، عندما قال: «… كل إنسان له مشرب لا يشبه الآخر وإن كان من أب
وأم واحدة وكان مشربي القيام بالدفاع عن الإنسانية، ولذلك لما لم يرضني الاستبداد الذي
كان جارٍ بالديار المصرية هجرت أوطاني واخترت عاصمة باريس مستقرًّا ومسكنًا، وكان إذ
ذاك في زمن معرض سنة ١٨٧٨ مضى عليه عشرون عامًا.»
١٠٦
وهذا يعني أن يعقوب صنوع لم يُنْفَ من مصر، بل سافر إلى باريس بمحض إرادته. هذا
بالإضافة إلى أن الصحف في ذلك الوقت لم تأتِ بأية إشارة أو خبر عن هذا النفي. وبالرغم
من ذلك أقر ناقدنا د. إبراهيم عبده بنفي صنوع، رغم شكه الذي عبَّر عنه قائلًا: «إن
يعقوب بن صنوع يروي قصة نفيه في بساطة ووضوح، ويميل بي الخاطر إلى تصديق كثير من
تفاصيلها، وإن كنت أعتقد أنه بالغ فيما بعد في وصف وداعه وحزن الشعب له.»
١٠٧ وعندما يذكر قصة بداية النفي، يقول: «… ويقول صنوع من كتب قصة حياتي من
الوطنيين أن أيام سفري من القاهرة والإسكندرية كانت حدثًا وطنيًّا.» ويعلق الدكتور في
الهامش على هذه العبارة قائلًا: «لم أعثر على مواطن كتب شيئًا من هذا الذي يرويه أبو
نظارة.»
١٠٨
ورغم هذا الشك إلا أن ناقدنا أصر على سرد قصة النفي بصورة تفصيلية من خلال مذكرات
صنوع، قائلًا: «ويقول صنوع من كتب قصة حياتي من الوطنيين أن أيام سفري من القاهرة
والإسكندرية كانت حدثًا وطنيًّا، فقد كانت الجماهير مضطربة على غير عادتها، ولكن الذي
أثر في نفسي … هو وصول القطار إلى المحطات التي تقع بين القاهرة والإسكندرية حيث كان
يقف بين الخمس والعشر دقائق، فكانت النساء تحضر الفاكهة ويرفعن أولادهن إلى نافذة
العربة لكي أباركهم. وكان الفلاحون يصيحون «لا تسافر وتتركنا بين مخالب شيخ الحارة» وهو
الاسم الذي أطلقته على الخديو إسماعيل … وفي التاسع والعشرين من يونيو ١٨٧٨ رجاني
مواطني المصريون أن أتوجه إلى تمثال محمد علي الكبير الكائن في ميدان القناصل لأتقبل
وداع الشعب. إن ذلك المنظر المؤثر لن يمحوه كر الأيام. وأمام عيون جواسيس إسماعيل أخذ
سكان المدينة من رجال وسيدات، أغنياء وفقراء، يمرون أمامي صامتين محيين متمنين لي
السعادة بصوت خفيض وفي اليوم التالي حوالى الظهر ركبت السفينة «فريسينيه
FREYCINET» التي أقلعت بي إلى مارسيليا. لقد كان
المشهد جليلًا. وقد أراد الخديو أن يراني بنفسه وأنا أغادر البلاد فمر راكبًا عربته وقد
أحاط به حراسه، في الوقت الذي نزلت فيه إلى الزورق الذي سينقلني إلى السفينة. ولم تجرؤ
الجماهير على الهتاف ﺑ «يسقط إسماعيل» لكثرة عدد رجال الشرطة، فأخذت تصيح «ليحيا أبو
نظارة» وتعالت النداءات بعد ذلك «نريد نبوءة منك أيها الشيخ». وأعترف أنني احترت فيما
يجب علي أن أقوله، ولكني شعرت كأن وحيًا ألهمني ووضع في فمي تلك العبارة: سوف يُنفى
إسماعيل بعد سنة كما أُنفى أنا اليوم. وقد شاءت المصادفات أن تتحقق نبوءتي حرفيًّا مما
جعل الناس في الشرق كله يلقبونني بالولي.»
١٠٩
هكذا روى صنوع قصة طريقه إلى المنفى، وكأنه يروي قصة سفر زعيم من الزعماء، أو وليٍّ
من الأولياء، أو أحد أنداد الخديو، لدرجة أن الخديو ذهب بنفسه كي يتشفى من صنوع. وشتان
بين هذا الوصف، ووصف الشيخ محمد عبده لطريقة نفي الأفغاني — الذي نُفي بعد عام واحد من
سفر صنوع — قائلًا: «أما التخلص من السيد جمال الدين، فكان بنفيه في رمضان سنة ١٢٩٦ﻫ،
فأُخذ في الطريق آخر الليل — وهو ذاهب إلى بيته هو وخادمه — وحُجز في الضبطية، ولم
يُمكَّن من أخذ ثيابه. وبعد أن انتشر ضياء النهار، حُمل في عربة مقفلة إلى محطة السكة
الحديدية، ومنها ذهب تحت المراقبة الشديدة إلى السويس، ومنها أنزل في البحر ليسافر إلى
بمباي.»
١١٠ ولعل فيما سبق نكون قد أثبتنا أن يعقوب صنوع سافر إلى فرنسا ولم يُنْفَ كما
أراد أن يوهمنا.
وإذا كنا فيما سبق توقفنا بشيء من التأني عند أول كتاب كُتب عن صنوع في البيئة
العربية، من قِبل د. إبراهيم عبده، إلا أننا سنتوقف عند محطات معينة عند باقي النقاد،
وتحديدًا أمام المعلومات الجديدة التي تطرقوا إليها، عن مسرح صنوع، أو عن حياته في
مصر.
ويعتبر د. محمد يوسف نجم الناقد الثالث الذي تطرق إلى الكتابة عن صنوع كمسرحي، في
عام
١٩٥٦، بعد طرازي ود. إبراهيم عبده. وأهم ما ذكره من معلومات عن مسرح صنوع قوله: «وقد
وصف لنا محرر الساترداي ريفيو
SATURDAY REVIEW عمله
هذا في عددها الصادر في ٢٦ / ٧ / ١٨٧٦، قائلًا: ألم يحاول هو وحده، أن يخلق مسرحًا
عربيًّا؟ وإذا قلت هو وحده، فإنني أقرر الواقع؛ لأنه كثيرًا ما كان يقوم في هذا المسرح،
بأعمال المؤلف والممثل والمدير والملقن، وغير ذلك. وعلينا ألا نسخر من هذا، لأن
مسرحياته، ذات الشخصية الواحدة، كانت تحتوي على سيل من الملاحظات، وسلسلة متصلة من
الضحك، فضلًا عن دموع إنسانية مُرة، جعلت جميع الناس يحرصون على مشاهدتها. فكان
الفلاحون يُهرعون إليها، وكان الباشوات يترددون عليها، على سبيل التسلية المقرونة
بالاستغراب وأخيرًا شهدها الخديوي إسماعيل نفسه، فسُرَّ بها أيَّما سرور، حتى إنه عند
مغادرته، خلع على جيمس سنوا لقب موليير مصر.»
١١١
والحقيقة أن د. نجم — في هذا الجزء — لم يلتزم الحرص والدقة في نقل المعلومات، لأنه
أثبت أنه اطلع على أصل الجريدة ونقل منها ما نقل! والواقع أنه لم يطلع على أصل الجريدة،
بل نقل هذا الجزء من ناقد آخر سابق عليه، لم يشر إليه في هذا الموضع، وهو د. إبراهيم
عبده! بل عندما نقل أخطأ في التاريخ، حيث إن عدد جريدة الساترداي ريفيو
SATURDAY REVIEW لم يصدر في ٢٦ / ٧ / ١٨٧٦،
كما ذكر، بل صدر في ٢٦ / ٧ / ١٨٧٩. هذا بالإضافة إلى أن د. إبراهيم عبده قال عن محرر
الجريدة — وصاحب هذا المقال — «ربطته الصلات بالمترجم» أي بيعقوب صنوع.
١١٢ وهذا يعني أن الصحفي كتب عن مسرح صنوع بعد سفره إلى فرنسا، لا أثناء وجوده
في مصر. ومعلومات هذا المقال جاءت من خلال صنوع نفسه، تبعًا لصلاته وصداقته بهذا
المحرر. وأيضًا جاءت من خلال ما كتبه صنوع عن نشاطه المسرحي في صحفه بباريس قبل صدور
عدد جريدة الساترداي.
١١٣
وقام د. نجم بنفس الشيء مرة أخرى، عندما أتى بمعلومات أخرى عن صنوع كمسرحي في مصر،
نقلها من مرجع بعنوان
JACQUES CHELLEY, LE MOLIERE
EGYPTIEN وعلق على هذا المرجع في الهامش بقوله: «وقد أرشدنا إليه
صديقنا المرحوم الدكتور جاك تاجر، وكان في مكتبة قصر القبة الخاصة. وقد اقتبست منه
جانيت تاجر في مقالها عن «طلائع المسرح الحديث في مصر».»
١١٤ وهذا القول يعني أن د. نجم اطَّلع على أصل المرجع، ولم يعتمد على مقال
جانيت تاجر! والعكس هو الصحيح؛ لأن الناقد لم يطلع على أصل المرجع واطلع واعتمد ونقل
من
مقال جانيت تاجر بما فيه من أخطاء!
فعلى سبيل المثال إن جميع نقول د. نجم كانت فيما بين ص٢٠١–٢٠٧،
١١٥ وهي نفس صفحات مقال جانيت تاجر
LES DEBUTS DU THEATER
MODERNE EN EGYPTE المنشور في «كراسات التاريخ المصري» سنة ١٩٤٩
بالعدد الثاني من السلسلة الأولى ص١٩٢–٢٠٧، والمحفوظ بمكتبة دير الدومنكن في العباسية
بالقاهرة. أما أصل مقال جاك شيلي
JACQUES CHELLEY, LE MOLIERE
EGYPTIEN فنُشر بجريدة صنوع في باريس عام ١٩٠٦.
١١٦ وأي عدد من أعداد صحف صنوع لا تتعدى صفحاته على عدد أصابع اليد الواحدة!
فمن أين جاء د. نجم باقتباسات تعدت أرقام صفحاتها المائتين؟!
أما الأخطاء التي جاءت عند جانيت تاجر — تبعًا لنقلها من جاك شيلي — ونقلها بدوره
د.
نجم قوله: «وفي الختام، نورد ما كتبه جول باربييه في جريدة الأزبكية سنة ١٨٧٣، قال:
أيجب علينا أن نتذكر أن الشيخ أبا نظارة، قد قدم في موسمين اثنين، مائة وستين حفلة
تمثيلية، ومثل اثنتين وثلاثين مسرحية، كتبها بنفسه، كان من بينها الهزلية والمسرحية ذات
الفصل الواحد، والمسرحية العصرية ذات الفصل الواحد، والمسرحية العصرية ذات الخمسة فصول؟»
١١٧
ونلاحظ على هذا القول أمرين؛ أولهما: أن جريدة الأزبكية بدأت في الإصدار عام ١٨٨٢،
١١٨ فكيف نقبل بأقوال منقولة منها في عام ١٨٧٣؟! والحقيقة أن جاك شيلي — أو
تحديدًا صنوع — أراد إيهام القارئ بأن الدوريات في مصر كانت تكتب عنه كمسرحي أثناء
وجوده في مصر. أما الأمر الثاني، فيتمثل في ذكر لقب «أبي نظارة» في قول جريدة الأزبكية
السابق! فإذا سلمنا بأن هذا القول جاء في عام ١٨٧٣، فمن أين أتت الجريدة بهذا اللقب في
هذا العام، علمًا بأن لقب «أبي نظارة» لم يُشتهر به صنوع إلا في عام ١٨٧٨، عندما أصدر
أول جريدة تحمل عنوان «أبي نظارة»؟! فهذه الأخطاء كانت متعمدة من قِبل صنوع، عندما
ذكرها عن نفسه، وأخذها جاك شيلي ووضعها في مقاله، ونقلتها جانيت ونقل منها د.
نجم.
والحقيقة أن مقال جاك شيلي المنشور بالفرنسية في صحف صنوع بباريس، ما هو إلا ترجمة
حرفية لأقوال ومذكرات صنوع نفسه، عندما ألقاها في جمعية تعاون الأفكار عام ١٩٠٢ بباريس.
١١٩ أي إن جاك شيلي لم يقدم جديدًا عن تاريخ مسرح صنوع في مصر، واكتفى بنقل
أقوال صنوع. وعندما اعتمدتْ عليه جانيت تاجر في مقالها، اعتمد عليها د. نجم دون أية
إضافة. وهذا يعني أن أقوال صنوع عن مسرحه المزعوم في مصر، هي المصدر الوحيد لكل من تحدث
عنه كمسرحي بعد ذلك. ومن الغريب حقًّا أن د. نجم لم
يستطع الحصول على أية إشارة موثقة تفيد قيام صنوع بنشاط مسرحي في مصر قبل سفره إلى
فرنسا، وكل ما ذكره ما هو إلا نقول من آخرين كتبوا
عن صنوع في صحفه الفرنسية، أو كتبوا عنه بعد سفره من مصر، مثل بول دوبنيير في كتابه
«مصر الساخرة: ألبوم أبو نظارة» عام ١٨٨٦
PAUL DE BAIGNIERES: L’EGYPTE
SATIRIQUE (ALBUM D’ABOU NADDARA) IMPRIMIERE LE FEBVRE, PARIS
١٨٩٦، على الرغم من أن د. نجم كان اعتماده الأساسي في كتابه على جريدة الأهرام منذ
صدورها، وهذا يعني أنه لم يجد أية إشارة في هذه الصحيفة أو غيرها تدل على صنوع كمسرحي
في مصر، كما ذكرنا سابقًا.
أما الناقد الرابع الذي كتب عن صنوع كمسرحي، فكان يعقوب لنداو في عام ١٩٥٨. وهذا
الناقد عندما تحدث عن بدايات المسرح العربي في مصر، تحدث عن ريادة سليم النقاش
المسرحية، منذ وصوله مع فرقته إلى مصر عام ١٨٧٦. وأيضًا عن دور أديب إسحاق ويوسف خياط
في إتمام مسيرة هذه الفرقة بعد ذلك، متجاهلًا تمامًا وجود صنوع كمسرحي.
١٢٠ وبدون أي تسلسل منطقي نجده يتحدث بعد هؤلاء الشوام عن دور صنوع المسرحي في
مصر، ناقلًا جميع أقواله من النقاد السابقين كإبراهيم عبده ونجم.
١٢١ وهذا يدل على أن الناقد أنهى كتابه معتمدًا على ما بين يديه من مراجع
موثقة، تؤكد ريادة سليم النقاش، وفجأة وقع بين يديه بعض المراجع الحديثة ككتابَي د.
إبراهيم عبده ود. نجم، فاستفاد منهما دون الاهتمام بالتسلسل التاريخي. وقد أكد المترجم
هذا الأمر في مقدمة الكتاب.
١٢٢ وما يهمنا من هذا الأمر أن لنداو لم يأتِ في كتابه بإشارة جديدة علينا،
تؤكد قيام صنوع بنشاط مسرحي في مصر.
وكان الدكتور أنور لوقا، الناقد الخامس في قائمة النقاد الذين كتبوا عن صنوع كمسرحي
في عام ١٩٦١. وقيمة ما كتبه هذا الناقد تمثَّلت في أمرين؛ الأول: حصوله على دفتر — من
ابنة صنوع — يضم مخطوطات ست مسرحيات لوالدها، نشرها بعد ذلك د. نجم عام ١٩٦٣. والأمر
الآخر: حصوله على نص محاضرة ألقاها صنوع عام ١٩٠٢ عن تاريخ مسرحه في مصر، تلك المحاضرة
التي نشرها جاك شيلي في صحف صنوع عام ١٩٠٦، وتحدثنا عنها سابقًا.
وعن الأمر الأول يقول عنه الناقد: «وجدنا أخيرًا بين أوراق يعقوب صنوع في باريس نصوص
ست مسرحيات عربية كاملة ما زالت مخطوطة، يضمها دفتر واحد، جميل النسخ. وهي بترتيب
ورودها في هذا الدفتر: بورصة مصر، العليل، أبو ريدة البربري ومعشوقته كعب الخير،
الصداقة، الأميرة الإسكندرانية، الضرتين.»
١٢٣
ومن المؤكد أن الناقد لم يرَ صحف صنوع كي يتعرف على خطه الرديء، وإلا ما كان قال
عن
مخطوطات هذه المسرحيات «جميلة النسخ»، ومن المؤكد أيضًا أن ناسخ هذه المسرحيات إنسان
آخر غير صنوع؛ لأنها جميلة النسخ بالفعل، وهذا واضح من صور بعض صفحات المخطوطة المنشورة
في مقال الناقد،
١٢٤ الذي لم يذكر أن اسم صنوع مكتوب عليها، أو حتى تاريخ كتابتها. فالدفتر ليس
به أية إشارة تدل على أنه لصنوع، سوى أن ابنة صنوع أعطته للناقد. وهنا نتساءل: لماذا
لم
نقل إن هذه المسرحيات لإنسان آخر غير صنوع، خصوصًا وأنها مخطوطات غير منشورة وغير
مؤرخة، ولا يوجد عليها اسم المؤلف؟! أو على أقل تقدير أنها لصنوع ولكنه كتبها أثناء
وجوده في باريس، بدليل أن أسماء هذه المسرحيات لم ترد إلا في مسرحيته «موليير مصر وما
يقاسيه» المطبوعة عام ١٩١٢.
١٢٥
والدليل على هذه الشكوك أن د. نجم عندما نشر هذه النصوص عام ١٩٦٣، لم يوثق هذه الأمور
رغم أنه يقوم بنشر مخطوطات! فمثلًا لم يثبت صورًا للصفحات الأولى لهذه المسرحيات
المخطوطة! ولم يذكر تاريخ كتابتها أو تاريخ تمثيلها! وهنا نتساءل: لماذا لم يقم د. نجم
بكل ذلك تبعًا لقواعد نشر وتحقيق المخطوطات؟! الحقيقة أنه لم يقم بهذه الأشياء لأنها
غير موجودة أصلًا في المخطوطة، وكل اعتماده التوثيقي كان من خلال مقال د. أنور لوقا
وقوله بحصوله على هذه المخطوطات من ابنة صنوع!
١٢٦
أما الناقد السادس في قائمة النقاد الذين كتبوا عن صنوع كمسرحي، فكانت د. نجوى عانوس
في كتابها «مسرح يعقوب صنوع» عام ١٩٨٤.
١٢٧ والناقدة في هذا الكتاب تعرضت إلى أمور مهمة وجديدة تختص بمسرح صنوع
وحياته، يجب علينا توضيحها بشيء من التفصيل. فمن هذه الأمور قولها عن بداية نشاط صنوع
المسرحي: «ولقد اهتم صنوع بالدعاية، فعلقت الإعلانات في الميادين والشوارع العامة لجذب
الجمهور إلى مشاهدة المسرحية.»
١٢٨
وبالرغم من أن هذه المعلومة منقولة من مرجع سابق،
١٢٩ إلا أن الناقدة باعتمادها على هذا المرجع تكون قد أقرَّت بصحة ما فيه! بل
إنها أكدت هذه المعلومة بحوار من مسرحية «موليير مصر وما يقاسيه» لصنوع المطبوعة عام
١٩١٢! والحقيقة أن يعقوب صنوع لم يقم في يوم من الأيام بلصق أي إعلان لأية مسرحية من
مسرحياته. وأكبر دليل على ذلك أن مجلة «وادي النيل» أسهبت في حديثها عن أول إعلان مسرحي
تم لصقه بالفعل على جدران شوارع القاهرة في أكتوبر ١٨٧٠، قائلة: «شاهد كل إنسان في هذه
الأيام الحاضرة بشوارع مدينة القاهرة معلقًا على الحيطان والجدران صورة إعلان يتميز
للعيان بغرابة شكله ويستوقف المارة ببداعة طبعه وشغله … وذلك أنه مطبوع على فرخ من
الكاغد طويل عريض وشكل من حروف الطبع غريب مستقبض يتضمن أنه بأمر الحضرة الخديوية
العلية سيفتح اللعب في تياترو الأوبرا الكائن بالأزبكية في يوم الأحد الآتي … بتصوير
اللعبة المشهورة … باسم «لافاووريته» أي «المحظية» وهي عبارة عن قطعة تياترية من نوع
القطع المسماة باسم «درام» منقسمة إلى أربعة فصول يتخللها ألحان موسيقية مع بعض تخليعات
أخرى مسلية ورقص وعزف من بعض القيان وغير ذلك من الفنون التي تسلي قلب كل محزون … وقد
أدرجنا هنا مضمون هذا الإعلان مع بعض تفصيل وبيان ليعرف منه كل أحد حقيقة المقصود ويقف
فيه على بيت القصيد ويُهرع إليه كل من يريد.»
١٣٠
فأين إعلانات صنوع من هذه المجلة التي تحدثت كثيرًا عن شئون المسرح، كما بينا
سابقًا؟! علمًا بأن هذه المجلة كانت تصدر بمساعدة الخديو إسماعيل شخصيًّا؛ لأنها كانت
تخدم أفكاره وتوجهاته بإخلاص تام،
١٣١ ذلك الخديو الذي شجع يعقوب صنوع في إقامة مسرحه ومنحه لقب «موليير مصر»،
على حد أقوال صحف ومذكرات صنوع! هذا بالإضافة إلى أن هذا الإعلان تم لصقه في أكتوبر
١٨٧٠؛ أي في أول أعوام نشاط صنوع كمسرحي، وفي فترة وفاقه مع الخديو إسماعيل، كما زعم
صنوع في مذكراته … وعلى هذا الأساس نقول: لماذا تجاهلت الصحف المصرية إعلانات مسرحيات
صنوع، خصوصًا الصحف الموالية للخديو … صديق صنوع؟! الواقع أن هذا التجاهل لم يكن
مقصودًا، بل كان تجاهلًا طبيعيًّا لعدم وجود إعلانات لمسرحيات صنوع.
والأمر الثاني الذي تعرضت إليه الناقدة في كتابها، كان موضوع رفت صنوع من المدارس
الملكية في مصر، وأن هذا الرفت كان بسبب كره علي مبارك — ناظر المعارف — لفن المسرح،
الذي بدعه المدرس صنوع. وهذه المعلومة أخذتها الناقدة من حوار جاء في مسرحية «موليير
مصر وما يقاسيه». وعلقت على ذلك الحوار قائلة: «لقد قاد علي مبارك حركة الهجوم على
صنوع، وأقنع الخديوي إسماعيل أولًا بإعفائه من التدريس لأبناء البلاط الملكي، ثم بإغلاق
مسرحه.»
١٣٢
ورغم أن أساس المعلومة واهٍ؛ لأنه جاء من خلال حوار في مسرحية، ولم يأتِ من خلال
أقوال صريحة في صحف ومذكرات صنوع، إلا أن الناقدة سلَّمت به وبنت تفسيرًا له قائلة تحت
عنوان «لماذا هاجم علي مبارك صنوع؟»: إن سبب هجوم علي مبارك «اقتناعه بأن فكرة المسرح
لا تناسب البيئة المصرية المحافظة، ولأنه هو نفسه كان محافظًا، فربما رأى — كغيره من
الناس حينذاك — في إقامة مسرح عربي بمصر بدعة من البدع التي تصرف الناس عن العمل
الصالح، وتبيح وقوف الأنثى إلى جانب الرجل، تطارحه علانية الغرام أو يطارحها الحب
والهيام … وربما كان هجوم علي مبارك على مسرح صنوع مرجعه إلى أنه كان قد كوَّن فكرة
مسبقة تنكر أي قيمة لهذا اللون من النشاط الفني العربي. ذلك أنه شاهد عرضًا لفرقة أولاد
رابية الجوالة فلم يرضَ عنه، وهاجم هذه الفرقة؛ ومن ثمَّ فقد راح يحمل على أي نشاط فني
عربي يمت بصلة إلى التمثيل. وربما تذكر علي مبارك عروض هذه الفرقة عندما شاهد مسرحيات
صنوع فوجد بينهما تشابهًا، فهاجم مسرحيات صنوع.»
١٣٣
والرد على الناقدة يتمثل في أن رفت صنوع من المدارس المصرية — تبعًا لأقوال صنوع
—
جاء من قِبل الخديو ولا دخل لعلي مبارك فيه.
١٣٤ وإذا كان لعلي مبارك أي دخل في هذا الرفت لكان صنوع ذكره واستغله، عندما
أمطر وزراء إسماعيل وتوفيق بوابل من السب والذم، خصوصًا علي مبارك نفسه!
١٣٥ أما تفسير الناقدة بأن علي مبارك اضطهد مسرح صنوع، لأن المسرح عمومًا عند
علي مبارك بدعة من البدع، فالرد عليها يأتي من علي مبارك نفسه، عندما تحدث في عام ١٨٨٢،
عن المسرح حديثًا واعيًا بجمال وقيمة هذا الفن، خصوصًا فرقة «أولاد رابية»، عندما قال
معلقًا على حديث صديقه الأجنبي عن المسرح الإنجليزي: «لولا ما ذكرت من كمال انتظام
التياتر وحسن أحواله وأنه من مواضع التربية العمومية وتهذيب الأخلاق لخطر في البال أن
ما يحصل به من التقليد والتمثيل والألعاب المتنوعة من قبيل ما يكون في بلادنا من ألعاب
الطائفة المعروفة بأولاد رابية.»
١٣٦
وقول علي مبارك هذا، يحمل بين سطوره دليلًا قويًّا على عدم وجود صنوع كمسرحي في مصر؛
لأن علي مبارك عندما سمع عن صفات المسرح الإنجليزي من صديقه، لم يجد شبيهًا لهذا المسرح
في مصر غير طائفة «أولاد رابية»! فإذا كان لصنوع وجود كمسرحي لكان ذكره بدلًا من أولاد
رابية، تلك الفرقة التي لا ترقى إلى مستوى مسرح صنوع في مصر، كما وصفه صنوع في أقواله
ومذكراته!
هذه هي أقوال النقاد ممن تحدثوا عن صنوع كمسرحي في مصر، قمنا بتفنيدها ومناقشتها،
كما
قمنا بنفس الشيء أمام كل من تحدث عن تاريخ المسرح في مصر، دون الإشارة إلى وجود صنوع
كمسرحي. بل إن يعقوب صنوع نفسه وهو في باريس، أكد لنا تلك الشكوك حول نشاطه المسرحي في
مصر، عندما بدأ منذ أغسطس ١٨٧٨، وحتى مارس ١٨٧٩ في نشر رسالة في صحفه بباريس، عن ظلم
الخديو إسماعيل، كتبها الشيخ يوسف الشفعاني.
١٣٧
ففي الفصل الرابع من هذه الرسالة، تحدث الشيخ عن تصرفات الخديو في منطقة الأزبكية،
تحت عنوان «في ذكر شيء مما قلد به دول أوروبا من الإصلاحات والعادات والمشارب كتنظيم
المجالس وتسهيل الطرق والشوارع وإنشاء التياترات والملاعب»، قائلًا: «والذي حمل الخديو
على نشر الفواحش واستحلال المحارم إنما هو ما جُبل عليه من حب الفسوق والفجور وانتهاك
محارم الله تعالى؛ ولهذا أنشأ في مصر جملة تياترات وملاعب باسم التمدن والحرية. والحال
أن الذي حمله على إنشائها فسقه وفجوره لا غير فجعلها كالأشراك لصيد النساء ولهذا جعل
مصارفها من قِبل الحكومة وما يحصل من مدخولها يُصرف لأصحاب الملاعيب، والمعاشات الوافرة
فيها إنما هي للنساء لأنهن المقصودات بالذات.»
١٣٨
ويلاحظ على هذا القول، أن يعقوب صنوع أدرجه بنفسه وفي جريدته ناسيًا متناسيًا أن
الحديث بما فيه من طعن، يتجه نحو منطقة الأزبكية، الذي أقام فيها مسرحه، تبعًا لما جاء
في مذكراته! بل إن الحديث يعمم التياترات والملاعب في عصر إسماعيل؛ أي إن مسرح صنوع كان
منهم. فلماذا لم يحذف صنوع هذا القول من هذه الرسالة المطولة؟! أو على أقل تقدير يعلق
عليه إذا كانت الرسالة لغيره. أما إذا كانت هذه الرسالة من موضوعات صنوع الأدبية، كما
رجح ذلك د. إبراهيم عبده
١٣٩ — فإنها تعتبر دليلًا قويًّا على كذب صنوع بأنه مؤسس المسرح المصري، وتؤكد
شكوكنا في نشاطه المسرحي في مصر عمومًا. فمن غير المعقول أن يكتب أو ينشر رائد مسرحي
هذه الأقوال التي تدينه وتدين الفن المسرحي في مصر، أثناء نشاطه المسرحي، إذا كان لهذا
النشاط وجود!