ريادة مسرحية مجهولة لمحمد عثمان جلال
ورغم هذا الإجماع إلا أننا بعد قراءة هذا الجزء، سيتضح لنا أن لعثمان جلال أعمالًا مسرحية أخرى مجهولة، نشر بعضها، وتحدثت الصحف عن البعض الآخر، في عامي ١٨٧٠ و١٨٧١. وهذا الكشف الجديد، من الممكن أن يؤدي إلى إعادة ترتيب التاريخ المسرحي المصري مرة أخرى؛ لأن آثار هذا الرائد المجهولة كانت تغطي نفس فترة ظهور يعقوب صنوع، بل إن آثار محمد عثمان جلال لها ما يؤكدها ويوثقها ويؤرخ لها في هذه الفترة، بعكس يعقوب صنوع الذي لم نتعرف على نشاطه المسرحي، إلا من خلاله هو شخصيًّا، كما بينا فيما سبق.
(١) اكتشاف بداية التعريب
من الثابت — مما سبق — أن عثمان جلال كتب ونشر مسرحية «الشيخ متلوف» في عام ١٨٧٣، وهي أول مسرحية له تاريخيًّا. ولكن عدد ٥٨ من مجلة «وادي النيل» الصادر في ١٤ / ١١ / ١٨٧٠ يقول لنا: إنه عرب مسرحيتين قبل هذا التاريخ، بل وطبعهما في مطبعة إبراهيم المويلحي، وهما «لابادوسيت» و«مزين شاويله». وقصة هاتين المسرحيتين تأتي في المجلة المذكورة في باب الحوادث الداخلية، تحت عنوان «بدعة أدبية وقطعة تعريبية». وفيها نجد مأمور الضبطية قد أرسل رسالة إلى أبي السعود أفندي، قال فيها: «عزتلو أبو السعود أفندي: من حيث إن حضرة العمدة الفاضل السيد إبراهيم المويلحي قد كان سببًا قويًّا لإطلاع أبناء وطنه بواسطة صرف ماله وأفكاره في ترجمة وطبع ألعاب التياترات، وما ذاك إلا لغرض نشرها مجانًا من قبله على كل من لا يدري في اللغات الأجنبية من أبناء وطنه، فمن ذلك قد استحق أن يذكر بجرنال وادي النيل حيث لكل مجتهد نصيب، ولا شيء أفخر ممن تكون أفعاله في تقدم أبناء جنسه وبناء عليه لزم تحريره بأمل دَرْجِه بالجرنال المذكور بحسب ما يستحق حتى لا يضيع أجر عمله وواصل لحضرتكم نسختين من ذلك الأولى والثانية.»
والسر وراء إثارة هذا الأمر من قِبل أبي السعود أفندي، هو الحقد على المويلحي الذي أصدر جريدة «نزهة الأفكار»، التي نافست مجلته «وادي النيل»، التي كانت تفخر بأنها الجريدة الأدبية الوحيدة في مصر؛ أي إن التنافس في المجال الصحفي كان السبب الأساسي في إثارة هذا الجدل حول من ترجم هاتين المسرحيتين. وما يهمنا من أمر هذا الجدل أن محمد عثمان ترجم مسرحيتين من الإيطالية عام ١٨٧٠، الأولى بعنوان «لابادوسيت»، والثانية بعنوان «مزين شاويله».
وللأمانة العلمية يجب أن ننبه على أن أبا السعود ذكر كلمة «الظاهر» عندما قال: «والظاهر أن الذي ترجمهما هو حضرة أخينا الفاضل محمد عثمان أفندي.» وهذه الكلمة رغم أنها تفيد الشك، إلا أنها تفيد السخرية والتهكم من قِبل أبي السعود بالنسبة للمويلحي. والدليل على ذلك أن عثمان جلال والمويلحي لم يُعقبا على هذا الأمر في مجلة «وادي النيل»، أو في أية جريدة أخرى بعد ذلك. وفي عدم التعقيب دليل على صدق ما قاله أبو السعود.
ومما سبق يتضح لنا أن محمد عثمان جلال بدأ تعريبه للمسرحيات بصورة عملية في نوفمبر ١٨٧٠؛ أي بعد عام من افتتاح الأوبرا الذي كان في نوفمبر ١٨٦٩. وإن دلَّ هذا، فإنما يدل على أن عثمان جلال كان مواكبًا في نشاطه المسرحي النظري، كمترجم ومعرب، للنشاط المسرحي العملي في مصر. ومن المحتمل أن المسرحيتين المعربتين، «لابادوسيت»، و«مزين شاويله» كانتا ضمن المسرحيات الممثلة في الأوبرا قبل تاريخ تعريبهما.
وإن لم يقتنع القارئ بكل الأدلة التي أوردناها فيما سبق — رغم وضوحها — لإثبات نسبة تعريب هاتين المسرحيتين لعثمان جلال، فإليه نسوق هذا الدليل الدامغ، أو النص المسرحي المنشور بصورة مبتورة في مجلة «روضة المدارس المصرية» عام ١٨٧١، والمنسوب صراحة لمحمد عثمان.
(٢) اكتشاف النص المجهول
(٢-١) الوثيقة
كتاب النكات وباب التِّياترات بقلم محمد أفندي عثمان المترجم بديوان الجهادية، ألَّفه برسم روضة المدارس المصرية سنة ١٢٨٨ﻫ [١٨٧١م].
(٢-٢) المقدمة
ليس القصد من هذا الكتاب ولا الدخول في ذلك الباب مجرد سرد ما ورد من النكات وما قيل أو سُمع من المضحكات، بل جلُّ المرام مراعاة ما فيه الفائدة من الآداب، وما يؤدي استماعه إلى التحصيل والاكتساب؛ فإن شجرة العلم إذا نشرت فروعها على المتظلل وعكفت بأوراقها على الطالب المتأمِّل، ولم يكن عندها ماء نكات جاري ولا نسيم مفاكهة ساري، ضاقت أنفاسه، وارتجَّت رأسه. ومن ثم ترى أغلب المتبحرين في الحكم، وسائر فلاسفة الأمم، تحتال على دَرْج الأدب في ثياب النكات، وتجلي العلوم في حلل المضحكات. وإن المفلق من المدرسين، والمتقن من العلماء والمهندسين، لا بد له مما يروِّح به الأذهان، ويداوي بذكره الأرواح والأبدان، فيسوق ما يروق ويحكي ما يذكي، ويبسط ما يبسط. واعلم أن روضة المدارس علومها كثيرة، وبحار مسائلها غزيرة. فمن احتاج ذهنه إلى الترويح، وتاقت نفسه لأنْ تستريح، قابله في طريقه من هذا الكتاب حديقة، وجنةَ مجازٍ أطرب من جنة حقيقة، تغرد فيها أطيار المجون، وتجري من تحتها أنهار الفنون والشجون، فتجلس منه المخيلة، تحت مخادع مظللة، وقطوف مذللة. ويرتوي ذهنه الصادي من عذب المفاكهة، وتتنقل أفكاره من فاكهة إلى فاكهة.
هذا، ولقد الْتزمتُ أن أجمع مما أراه من التياترات الأوروباوية، ما احتوى على النكات الشهية. فإن الكتب التي من هذا القبيل، في كل جيل، ما جُعلتْ إلا لتهذيب الأخلاق، وتذكية العقول على الإطلاق. فلا تنظر للمضحك منها بنظر ساخر، فما هو إلا قول شاعر، وفعل ساحر. وإياك أن تنزلها منزلة الهذيان، وتلبسها ثوب الهوان! فإن أوروبا بتمامها، ما كان السبب في تقدُّمها وإقدامها إلا أنها اتخذت من التياترات سُلَّمًا فَرَقَتْ به إلى عنان السما، لأنهم اكتسبوا منها الجراءة، وجبروا على معرفة الكتابة والقراءة. فقربوا بواسطتها كل بعيد، وعرفوا سديد الأمور وغير السديد. وتحاشوا ما يزري بمكارم الأخلاق، ويعين المرء على حب النفاق. كل ذلك خوفًا من أن تقلد فيها أفعالهم فيجتنبوا، وتعرض على الأمة أعمالهم فيناقشوا ويحاسبوا، حتى أَنِفوا ارتكاب الرذائل، وتحلوا بشعار الفضائل. وإن كتبها من أدق المؤلفات نثرًا ونظمًا، وأصعبها قراءة وفهمًا. فناهيك بترجمتها وإخراجها عن أصلها، ونقلها إلى عوائد غير أهلها، فإنها تُعجز النحرير، وتُعضل الشيخ الكبير.
ولولا أن سعادة مدير المدارس أمرني، وعلى تعريبها جبرني، لما تجاريت على الأمر الجلل، ولا تعرضت لصعود هذا الجبل. لكن بهمة هذا المدير المبارك، الذي في مجده لا يشارك، الراقي بعلومه أوج الشرف، الراقم بيراعه مجموع التحف والطرف، لا أزال أُجهد نفسي، وأُعمل يراعي وطرسي، حتى أجمع كتابًا لم يسبقني إليه أحد، ولم يكن ظهر في هذا البلد. ثم لا أزال أطوِّف حول جزيرة العرب، وأغوص في بحر الأدب، حتى أعرف مده من جزره، وآتي منه بأنفس درِّه. وأنسج مما غزلته الأقلام، وأحيك بعض ما وشاه الكلام، حتى أقدم صنعة صنعا، وأرصع تاج كسرى، وأنقش ديباج خيوى؛ لعله أن يكون شيئًا يُهدى، أو فرضًا يُؤدى. وعساه أن يخطر بالمسامع الكريمة، ويتشرف بالعرض على ذي المعاطف الرحيمة، من بدل ما حلَّ مصر بخصوبة، وغير مالحها بعذوبة، وشيَّد ما تهدَّم من أركانها، وعمَّر ما تخرب من بنيانها، ذي السيف الصقيل، والظل الظليل، سعادة أفندينا وولي نعمتنا الشهم إسماعيل، فإنه الأول من أسباب التعليم، والآخر من دواعي التمدن والتقدم. نشأت بهمته المدارس فحسن شأنها، واجتهدت ببركته شيوخها فأفلح شبانها. أمد الله أيامه بالدوام، وسخر لخدمته الليالي والأيام، وحفظه وحفظ أنجاله الكرام، ببركة النبي عليه الصلاة والسلام.
(٢-٣) الفخ المنصوب للحكيم المغصوب (وهي على ثلاثة أبواب وخمسة وعشرين فصلًا)
رجال اللعب
- يونس: أبو زهرة.
- زهرة: بنت يونس.
- خليل: عاشق زهرة.
- إبراهيم: زوج فطومة.
- فطومة: زوجة إبراهيم.
- عامر: جار إبراهيم.
- عبد الله: خادم يونس.
- خالد: زوج خضرة مرضعة عند يونس.
- خضرة: زوجة خالد ومرضعة عند يونس.
- مهلهل: أبو جمعة (فلاح).
- جمعة: ابن مهلهل (فلاح).
والملعب في محل يشبه بلاد الفلاحين.
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
وبناء على أسلوب المجلة ومنهجها العلمي، وتأثيرها في الطلبة، كان لا بد من وقف نشر الكتاب لما به من إخلال لسياسة المجلة، سواء في الأسلوب أو المنهج أو التأثير. فأسلوب المجلة عربي فصيح، أما المسرحية فأسلوبها عامي، ومنهجها الفكاهي الهزلي يختلف عن المناهج العلمية للكتب الأخرى المنشورة في المجلة. أما تأثير المسرحية فمن المؤكد أنه كان ضارًّا على الطلاب، أكثر من نفعه لمجرد التسلية.
(٣) الريادة بين صنوع وعثمان جلال
مهما يكن من أمر موقف مجلة روضة المدارس، أو النقاد من كتاب النكات أو مسرحية الفخ المنصوب، إلا أن هذا الكتاب المنشور بعضه في عام ١٨٧١، يُعد أول إنتاج عثمان جلال المسرحي بصورة صريحة لا تقبل الشك، لا الشيخ متلوف في عام ١٨٧٣ كما هو ثابت في التاريخ، وفي أذهان النقاد والدارسين. وإذا وضعنا في الاعتبار أن عثمان جلال عرَّب قبل هذا الكتاب، مسرحيتي «لابادوسيت»، و«مزين شاويله» في عام ١٨٧٠، يبقى أمامنا الاعتراف بأن عثمان جلال مارس الكتابة المسرحية منذ عام ١٨٧٠ حتى وفاته في عام ١٨٩٨. وهذا الاعتراف يجعلنا نعيد النظر في أمرين مهمين؛ أولهما: أن نشاط هذا الرائد بدأ عقب افتتاح الأوبرا؛ أي واكب النشاط المسرحي الحديث في مصر منذ ظهوره، وهذا مخالف لما هو معروف عنه تاريخيًّا. والأمر الآخر: أن عثمان جلال عرب وترجم المسرحيات إما قبل يعقوب صنوع أو مواكبًا له، على اعتبار الأخذ بوجود نشاط مسرحي لصنوع. وأي احتمال من الاثنين فهو في صالح عثمان جلال وضد يعقوب صنوع.
(٤) بين عثمان جلال ونجيب حداد
وعلى الرغم من قلة الجزء المنشور من مسرحية عثمان جلال «الفخ المنصوب …» إلا أن موضوعها معروف للجميع، لأنها في الحقيقة مسرحية «الطبيب الجاهل» لموليير. وقد مُثِّلت في أبريل ١٨٨٦ من قِبل فرقة القرداحي. وهذا يدل على أن مسرحية عثمان جلال بصورتها الكاملة كانت موجودة في هذا الوقت.
ومسرحية «الطبيب الجاهل» أو «طبيب رغم أنفه»، هي الثالثة فيما كتبه موليير، وهو يسخر فيها من الطب ويهجو الأطباء، بل وتعتبر هذه المسرحية ألذع ما كُتب في هذا المعنى، وأبعدها مدًى في النَّيْل من كفاءة الأطباء وسمعتهم. وهو في هذه المسرحية لا يقدم طبيبًا ليجري عليه مباشرة ما يريد من أسباب السخرية، كما فعل في مسرحيتيه السابقتين: «مريض الوهم» و«الحب الطبي»، بل عمد إلى أسلوب آخر؛ إذ عقد بطولة مسرحيته هذه على شخصية حطاب تافه، لا يعرف من دنيا الطب غير عشر كلمات من اللغة اللاتينية، حفظها دون أن يفهم معانيها، لطول خدمته مع أحد الصيادلة، ثم هو يجعل هذا الحطَّاب يدَّعي حرفة الطب، وينجح في شفاء المرضى. ويهدف موليير من وراء هذا إلى أن يقول إن الطب مهنة ميسورة يستطيع أن يدعيها كل من يريد أن يعمل فيها، وهذه المقولة تحمل ما تحمل من معاني السخرية المريرة، والتهكم اللاذع. وهذا الكره من جانب موليير للطب والأطباء، غير خافية أسبابه، فقد كان موليير يشكو علة الصدر، ولم يُفِده الطب في شيء؛ لأن الطب في ذلك العهد، كان قاصرًا وقليلًا. وفوق هذا فقد كان أطباء ذلك العهد، يتعاظمون في مظاهرهم، شأن من يحس نقصًا في ذاتيته … وما كانت هذه الظاهرة لتختفي عن عين هذا الكاتب المتأمل الذي سجل سمات عصره في نماذج بشرية خالدة في الأدب المسرحي.