النقد المسرحي
صدر في مصر كتاب — منذ فترة قريبة — للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي، بعنوان «النقد
المسرحي في مصر» من عام ١٨٧٦ إلى عام ١٩٢٣. وهذا الكتاب به مجهود كبير، فيما يتعلق بالنقد
المسرحي في أوائل القرن العشرين، ولكن صاحبه أخفق وقصر في تقديره وحديثه عن النقد المسرحي
في القرن التاسع عشر.
فقد قسم د. الحجاجي فترة بحثه في الكتاب، إلى فترات يهمنا منها الفترة الأولى، التي
تبدأ
من ١٨٧٠ إلى ١٩٠٥، وهي نفس فترة تاريخ المسرح في كتابنا؛ أي القرن التاسع عشر على وجه
التقريب. وهذه الفترة التي أطلق عليها د. الحجاجي «فترة النشأة» لم يجد بها نقدًا فنيًّا
يُذكر حتى عام ١٨٩٨. ويفسر ذلك بقوله: «إذ إن كل ما كُتب عن المسرح قبل ذلك لا يعدو أن
يكون
كتابات للدعاية عنه بالتقريظ … فإنني لم أجد كلمة واحدة حتى سنة ١٨٩٨ تحاول أن توقف من
المسرح، أو تطالب بمصادرته.»
١
ثم يتحامل د. الحجاجي على هذه الفترة، زاعمًا أن النقد المسرحي التطبيقي لم يبدأ
إلا في
سبتمبر ١٨٩٨ بمقالة عن مسرحية «روميو وجوليت» لأمين الريحاني في جريدة الثريا.
٢ وفي موضع آخر يقول: «فإذا تأملنا ما كُتب حتى سنة ١٨٨٠ لا يطالعنا غير عبارات
متكررة بأن الممثلين أجادوا في تمثيلهم، وأنهم يسيرون في طريق الكمال؛ لأن كل مبتدئ ضعيف.»
٣ ويقول أيضًا: «إن ما بيدنا من كتابات حول المسرح حتى سنة ١٩١٥ في كلٍّ من:
الأهرام والمؤيد والمقطم والجوائب والظاهر والإكسبريس والوطن والمحروسة، وما بقي من صحف
ضاعت معظم أعدادها مثل: التجارة ومصر والأستاذ والرواي،
٤ لم تكن كتابات نقدية وإنما كانت مجرد تأملات لا يدفعها علم أو فهم لطبيعة المسرح.»
٥
وعن النقد الفني في هذه الفترة، يقول: «وقد حددنا بداية النقد النظري والتطبيقي بعام
١٨٩٨؛ لأننا لم نجد قبل هذا التاريخ نقدًا نظريًّا صرفًا، ولا نقدًا تطبيقيًّا متمثلًا
للقيم الفنية، فكل ما كتب عن المسرح قبل ذلك لا يعدو أن يكون مجرد حديث للدعاية عنه،
أو
خبرًا من الأخبار تكتبه الصحف بجانب ما تكتبه عن حوادث المجتمع اليومية.»
٦
وهذا التحامل من قِبل د. الحجاجي على النقد المسرحي في القرن التاسع عشر، راجع إلى
سببين؛
الأول: كثرة الدوريات وما فيها من نقد مسرحي في أوائل القرن العشرين، في مقابل ندرة
الدوريات وقلة ما فيها من نقد مسرحي في القرن التاسع عشر، من وجهة نظر د. الحجاجي. والسبب
الآخر: يتمثل في اعتماده على دوريات قليلة جدًّا بالنسبة إلى موضوعه الخطير، بل إنه تغافل
عن أهم الدوريات في القرن اﻟ ١٩، بما فيها من مقالات نقدية تفند رأيه، وتأتي بعكس ما
ذهب
إليه، مثل: «وادي النيل، الحقوق، الراوي، السرور، الإخلاص، مصر، الكمال، البصير، الصادق،
السلام». فهذه الدوريات بما فيها من مقالات تتحدث عن النقد الفني والتطبيقي والنظري،
بفهم
وعلم كامل عن طبيعة المسرح، تغافل عنها د. الحجاجي، أو لم يطَّلع عليها!
ففي ٢٨ / ٢ / ١٨٧٠ نشر الأديب محمد أُنسي في مجلة «وادي النيل» — وهو ابن عبد الله
أبو
السعود صاحب المجلة — مقالًا نقديًّا
٧ عن عرض مسرحية «سميراميس» بالأوبرا الخديوية. وفي هذا المقال نجده يتحدث بفهم
ووعي لطبيعة المسرح، عندما تحدث عن أهمية وجود المسرح في مصر، وأمله في تعريب العروض
التي
تمثل بالأوبرا قائلًا: «إن ذوقية الملاعب التياترية قد أخذت في الانتشار بالديار المصرية
في
هذه الحقبة العصرية، وهي بدعة حسنة وطريقة للتربية العمومية مستحسنة من حيث ما يترتب
عليها
من تفتيق الأذهان وتصوير أحوال الإنسان للعيان حتى تكتسب فضائلها وتجتنب رذائلها، إلى
غير
ذلك من الفوائد الجميلة والعوائد الجليلة. ويا ليته يحصل التوفيق لتعريب مثل هذه التأليفات
الأدبية وابتداع اللعب بها في التياترات المصرية باللغة العربية حتى ينتشر ذوقها في الطوائف
الأهلية؛ فإنها من جملة المواد الأهلية التي أعانت على تمدين البلاد الأوروبية وساعدت
على
تحسين أحوالهم المحلية.»
٨
وبعد أن ينتهي من عرضه ونقده للمسرحية، يقول عن مغزى المسرحية: إنه «يظهر للعيان
صور
الشهوات كأنها مشاهدات؛ ومعنى ذلك كله تقبيح القبائح وتنقيح النصائح من أن الغدر مآله
ذميم
والانقياد للهوى مرتعه وخيم وأن القاتل لا بد وأن يُقتل والظالم وإن أُمهِل لا يُهمَل.»
٩
وفي ٤ / ٣ / ١٨٧٠ كتبت نفس المجلة مقالًا نقديًّا أكبر من السابق، عن عرض مسرحية
«فوست»
بالأوبرا، وسنحاول أن نجتزئ منه عدة مواضع لندلل بها على فهم النقاد لطبيعة المسرح. قالت
المجلة: «التياترو … هو عبارة عن تصوير بعض الحوادث التاريخية والوقايع الزمنية مع تخلله
بالألحان الموسيقية فهو يجمع بهذه الطريقة التفننية بين لذات الحواس الظاهرية والباطنية،
وبيان ذلك بالنسبة للعبة التياترية المشهورة باسم «فوست» … ولا ينبغي أن يتوهم أن اقتصاصها
هو مجرد حكاية وقائع الرجل المنفسد الأخلاق المسمى فوست وقصة مصائب الفتاة المسكينة المسماة
باسم مرجريته هذه كما يحكي لنا قصاصنا حكاية ألف ليلة وليلة أو سيرة عنترة بن شداد مثلًا،
بل هي حكاية بطريقة شعرية عجيبة، وكيفية سحرية غريبة على لسان فوست ذاته؛ بحيث يقص بنفسه
قصة ما أصابه من العشق والغرام واعتراه فيه من خيبة الأمل والآلام. وتقص مرجريته بذاتها
أولًا قصة ما كان قائمًا بها من صفات العفة وبساطة الأخلاق ثم كيفية وقوعها بإغواء الشيطان
في شَرَك الفساد والنفاق … وكل ذلك يتراءى للعيون على مثال عجيب ومنوال غريب جدًّا بحيث
يتصور للناظر أنه عين اليقين. وبينما البصر يتلذذ برؤية مجموع تصوير هذه الهيئات التي
تتعاقب صورها وتتوالى مناظرها على ميدان اللعب بحيث يشاهد كلما انكشف الستار منظرًا جديدًا
وملعبًا مفيدًا وتتلذذ الآذان بما يتخلل ذلك بواسطة طقم الموسيقى من بديع الأنغام والألحان؛
إذ تمتلئ القلوب بالشفقة على حال مرجريته المسكينة وتشتد من الغضب والنفور من الشيطان
الغَرور، ويعترينا حينئذٍ من الحزن والانقباض كما لو اعترانا بعض الأمراض أو حصل لنا
مصاب
في بعض الأقارب والأحباب سواء بسواء، ومتى رجعنا إلى منازلنا من بعد رؤية هذه المناظر
العجيبة ومشاهدة هذه الملاعب الغريبة نقول في أنفسنا: إن العلم ولو بلغ من الاتساع فإنه
يضر
بصاحبه إذا لم يكن مصحوبًا بالدين، وإن الأولى بالإنسان أن يبقى بحالة الجهل من أن يتحلَّى
كمثل فوست هذا بقلائد العرفان إذا كانت قد أودت به وأدته للوقوع في النيران، ويرينا
الاعتبار بمصائب مرجريته هذه ما قد يحصل لبعض البنات البريات في العشائر والفامليات ذوات
البيوتات من الوقوع في مثل هذه المصيبة الخطيرة … فنعتبر بتلك الآثار أجمل الاعتبار،
ونستنتج من ذلك أنه يجب أن يكون مطمح الأنظار في تربية البنات ما أمكن هو حسم مادة هاتين
الرذيلتين اللتين تكونان غالبًا هما السبب في سقوطهن في مهاوي الإغواء وإيقاعهن في أشد
البلوى؛ وهما: شدة الميل للزهو والبهرجة، وحب الزينة المبهجة.»
١٠
وفي ١ / ٤ / ١٨٨٨ كتبت جريدة «الراوي» مقالًا نقديًّا تطبيقيًّا عن عرض مسرحية «عائدة»،
قالت فيه: «… أسير بالقارئ إلى زيزينيا لأمثِّل لأبصاره مثال «عائدة» … لأريه كيف كانت
حالة
جوقتنا العربية، فيحكم على باكورة أعمالها التي بدلًا من أن تكون زاهرة زاهية كانت ذابلة
مظلمة. فأين محاسن الإلقاء وأين غرائب الحركات؟ أين بدائع التمثيل وباهر الأصوات؟ وأين
عجائب الألحان وأين … عفوك يا راداميس إنني لا أعرِّض ها هنا بك ولا أروم بالجوقة التي
علمتها شرًا، إنما أنا مذكركم بالغلط، مُراجِع عليكم النقص في هذا الفن عسى تفيد الذكرى
وينفع الانتقاد. فقد رأيت عائدتكم لا تُحسِن الإلقاء وابنة فرعونكم تخاف أن تشير بيدها
فيتحرك ساكن الهواء وملككم على رأسه التاج وفي يده الصولجان ومن حوله العساكر والجنود،
وهو
مع ذلك مرتج الصوت مرتجف الرُّكَب يكاد يأخذه الإغماء! فأين صولة الملوك وأين أبهة الملك
…
يا لخسارة هذا الفن أن يتداوله بيننا من لا يقدر على القيام به! ويا لعارنا إذا رأى الأجنبي
ملك مصر الظافر وجنوده الباسلة تمثِّلهم قوم لا يشابهونهم إلا ملبسًا وعدة … ولست في
موقف
المنتقد لأبين العيوب دون أن أذكر المحاسن، فقد رأيت في الجوق ثلاثة يجمل بهم اسم الممثل
…
لم أرَ لسواهم حسنة، فقد كانوا لروحها جسمًا ولقلبها قالبًا.»
١١
وفي ١ / ٦ / ١٨٨٨ كتبت مجلة «الراوي» أيضًا مقالًا عن معنى النقد المسرحي، تحت عنوان
«الانتقاد» — لأن بعض الجرائد هاجمتها بسبب المقال السابق — قالت فيه: «… علمتني التجارب
أن
الانتقاد مرقاة الكمال وأنه الواسطة الوحيدة لاطراح رداء الجهل؛ ولذلك نرى أمم المدنية
وشعوب الحضارة ورجال الأدب وأهل العلم معتمدين عليه يخصصون له ساعات برمتها ويصرفون عليه
من
أوقاتهم الثمينة ما يضنون به على سواه من أعمال الأدب وأشغال الصناعة والعلم. ولعمر الحق
إن
البلاد التي نتمثل بها في دقة الصنائع وتقدم المعارف وانتشار الآداب ونحاول التشبه بها
في
المدنية والحضارة والحرية والمساواة لم تصل إلى الدرجة التي نراها فيها ولم تبلغ المنزلة
التي بلغتها إلا بالانتقاد. فكم بينهم من عالم! وكم من كاتب وخطيب وشاعر وصانع برع في
عمله
وحذق في مهنته ونبغ في عمله وأصبح في مقام تخفض له الرءوس والهام، وما كان تقدمه وفلاحه
إلا
بما يراه من نقد العارفين ويؤخذ عليه من الخطأ والغلط الذي أتاه وهو غير عالم به! وكيف
يُرجى تقويم أودٍ وإصلاح خطأ وفاعله لا يدري به ولا يعرف إلا أنه مصيب في قوله محسن في
عمله؟ أيهبط عليه وحي من السماء أم يجيئه ملك ليبين له موضع الغلط ومحل الهفوة فيسعى
في
إصلاحهما؟! أم حُظرت علينا كلمة الحرية وحُكم علينا بالخمول حتى لا تقوم للعرب قائمة
ولا
ينهض للغتهم ساقط … كيف لا تترك مؤلَّفًا ولا عملًا دون أن تنتقده وتظهر غثه من سمينه
سالكة
في ذلك مسلك الجِد طالبة كمال العمل؟! فإذا كان أهل تلك البلاد وهي في زهوة المدنية وقمة
الحضارة ويانع العلم وباهى الآداب والتقدم والنجاح تطلب المزيد وتشكو القصور والإهمال
والفتور فماذا نقول نحن؟! وبأي كلام بقي قومنا يخاطبون؟! تلك حزازة صَدْر أودعتها القرطاس
مستلفتًا إليها أنظار الأدباء ليمعنوا فيها النظر حتى إذا رأوني مصيبًا يعملوا بالانتقاد
عملًا يكفل لنا الإصلاح والفلاح.»
١٢
وفي ١ / ٧ / ١٨٨٨ نشرت مجلة «الراوي» مقالًا جديدًا من مقالاتها النقدية، تحت عنوان
«التمثيل» قالت فيه: «… نجيء الآن بهذه الأسطر … وهي عبارة عن رأي لنا في التمثيل اقتبسناه
بطول التجربة والاختبار … نقول: إن الروايات مرآة الأخلاق تنعكس بها أشعة عادات الأقوام
الغابرين وتظهر على وجهها عوائد القوم الحاضرين، فتظهر للرائي في شكلٍ من التمثيل لا
يظنه
إلا واقعة جارية تحت أبصاره. والناظر إلى مشهد تمثل به أشخاص عديدون يميل بالطبع إلى
الصالح
منهم وينفر من رجال السوء؛ فيكتسب الحسن من خصال البعض ويصحبه وينظر إلى القبيح من أفعالهم
فيتجنبه. فلذلك يجب في الروايات مهما كان مغزاها ومبناها أن يكثر فيها الحث على العمل
الجيد
والحذر من الدنيئات، وأن تُختم بخذل اللئيم الخسيس والظالم المعتدي والمتكبر الجائر
والمُرائي المخادع والغادر الخائن والنمام الواشي … وإظهار شأن الفاضل العفيف المحسن
الباسل
المقدام ورفعه إلى منزلة تثير الغيرة في نفوس الناظرين؛ فتتولد في صدورهم الرغبة في محاكاة
أفعاله واتباع خُطَّة سيره.
ولما كانت الروايات مقصود بها تهذيب الطباع وتثقيف الأخلاق وإفادة الناظرين كان لا
بد
فيها من براعة الإنشاء وحسن النسق في التأليف وإيراد حوادثها بكلام فصيح وتعبير رشيق
يؤثر
في النفوس ويكون له في قلوب السامعين وقع حسن. ويجب مع ذلك أن تخلو الرواية من الألفاظ
البذيئة والتعبيرات السفيهة، وأن يُحافَظ فيها على الآداب وقواعد التهذيب؛ لكي تتم بها
الفائدة. ولسنا نُنكِر أن الروايات التمثيلية مطلوب فيها شيء آخر وهو تسلية الخواطر وإبهاج
العين والناظر وتشنيف الآذان ولهو البال. وبالنتيجة فإن هناك غاية أخرى غير الاستفادة،
فهي
قضاء ساعة طرب وسرور. فإذا لم تكن الجوقة الممثلة مستعدة كامل الاستعداد من حيث الأهلية
للتمثيل والعلم بمواقع التأثير، مع لمحة جمال على وجوه الممثلات ورخامة صوت وحسن غناء
في
أفواه المغنين والمغنيات لم تفِ بالغرض المقصود ولم تأتِ بالغاية المرغوبة.»
١٣
أما نقد النصوص المسرحية، فكان له نصيب أيضًا من مقالات مجلة «الراوي»، عندما قالت
في
١ / ٩ / ١٨٨٨، تحت عنوان «رواية عواقب الأمور في الحسد والغرور»: «هذا عنوان كُتيِّب
ليوسف
أفندي جورجي المحامي أمام المحاكم الأهلية، لَفَّقه قصةً لا يُعرف أولها من آخرها، وأصدرها
في ثوب من اللغة خَلقة اتسعت فيه الخروق حتى عجزت عنها إبرة الرافئ. وإنا نأخذ على حضرة
الكاتب تعرضه للتأليف دون أن يكون على استعداد لشيء من أنواع الإنشاء، فإنك ترى الرواية
مشحونة بالأغلاط المتنوعة الأشكال حتى تكاد لا تخلو فيها عبارة من التشويش والغلط. فنحن
وإن
نكن نثني على همته ونشكر له سعيه في طريق الأدب إلا أننا ننصح له أن يقرأ أولًا قواعد
اللغة
ويطالع كتب الإنشاء فتحسُن عبارته وتسلم جملته، ثم يكتب ويؤلف.
هذه كلمة نسوقها على سبيل التذكير والنصح راجين من صاحب الرواية غض الطرف عما رميناهُ
به،
فما هو إلا صادر عن إخلاص نية وصدق خدمة للآداب وذويها والله المستعان. وما نخص بهذا
القول
رواية جناب المحامي، فقط بل نوجهه على حَدِّ مَثَل من يخاطب الجارة لتسمع الكَنَّة، فلقد
اطلعنا عند أحد الأصدقاء على كتاب ضخم الحجم كبير القطع عنوانه رواية «زنوبيا» نموذج
السيدات فخبط في كتابته خبط عشواء وجاء فيه بعبارات مشوشة مشحونة بالأغلاط وحشاه من الألفاظ
العامية ما جعلنا نظن عند أول وهلة أنه قصد به تسلية سائقي المركبات وأمثالهم من أولاد
الطرق والشوارع. ولكنا لما رأيناه يستبيح الكتاب عذرًا في تطفله على مائدة التأليف وعفوًا
عما ربما يقع له فيه من الهفوات، علمنا أن صاحبنا ممن يحسبون التأليف جمع كلمات إن طابقت
قواعد اللغة أم خالفتها. ثم رأينا له في ختام كتابه الذي جعل ثمنه الزهيد ثلاثة فرنكات
إعلانًا عن رغبته في طبع كتاب آخر من مثله، وأنه لا يُضعف همته ما قد يراه من انتقاد
البعض
على عمله أو عدم استحسانهم له.»
١٤
وتتوالى المقالات النقدية المسرحية بعد ذلك في شتى الأمور، ففي ١ / ١٢ / ١٨٨٨ نجد
مجلة
«الراوي» تقول تحت عنوان «التمثيل»: «… إن للنظام والتدريب تعلقًا عظيمًا في شأن إتقان
التمثيل، وهذا الأمر متوقف على دراية وخبرة مدير الجوق، فإذا لم يكن هذا المدير ممن يحسنون
التمثيل ويُعرفون بمواقع الإجادة والغلط فلا يتم للممثلين إتقان ولا يسيرون في طريق الكمال.
وبقي أمر خطير عليه وحده يتوقف إتقان العمل … الموسيقى التي ترافق نقراتها نغمات المغنين
فتعينهم على حسن العمل وتوقع في نفوس السامعين طربًا ورهبة يُتمَّان حركات الممثل ويكملان
معنى كلامه … ثم إن اختلاط مواضيع الروايات عندنا لعثرة في سبيل مهارة الممثل، فإن الرواية
العربية الواحدة تجمع بين المضحكة والمحزنة والنثرية والشعرية والغنائية والجدية والهزلية
إلى آخر ما هنالك من أنواع الروايات التمثيلية التي لا يمكن قط لفرد أن يتقن ألعابها
كلها …
فلو جهد كُتَّابنا المشتغلون بخدمة الأدب في حصر موضوع الروايات وتقسيم أنواعها وترتيبها
على نظام روايات الإفرنج وجعل ممثلين مخصوصين لكل ضرب … لصحت عندنا الحالة … فلقد ثبت
إذن
أن أمورًا ستة [مطلوبة] لمن يطلب الإصلاح في فن التمثيل … فأولها: حسن الوضع من حيث الإنشاء
والتبويب. وثانيها: خلو الروايات من الألفاظ البذيئة مع المحافظة على الآداب وقواعد
التهذيب. وثالثها: جمال الوجوه وحسن الأصوات. ورابعها: الموسيقى. وخامسها: حصر الأنواع.
وسادسها: حصر المُمثِّل.»
١٥
وفي ١٠ / ٥ / ١٨٩٤ قالت جريدة المقطم، تحت عنوان «كلمة في التمثيل العربي»: «… أما
صناعة
التمثيل فلم تزل منحطة عندنا بالنسبة إلى ارتقائها عند الأوروبيين، لا لعيب في اللغة
العربية ولا لقصور في واضعي الروايات؛ بل لأن الذين يبرعون في صناعة التمثيل نفسه قلائل
جدًّا في كل مكان، وهم من النوابغ الذين يُعدُّون على الأصابع كالنوابغ في الغناء والنظم
والتصوير. وهؤلاء النوابغ إن وُجدوا عندنا لا ينتظمون في سلك الممثلين رجالًا كانوا أو
نساءً، ما لم يروا التمثيل مرفوع المنزلة كثير الربح … فمتى صار للتمثيل عندنا هذه المنزلة
أقبل عليه كل مَن فيه الملكة الطبيعية لإتقانه. إلا أن التمثيل لا ينال هذه المنزلة ما
لم
يوفَّق أولًا بأُناس من هؤلاء النوابغ يرضون بما فيه من الضِّعة ويعلون مناره بأنفسهم
ويدرسون قواعده في أشهر دُور التمثيل، حتى يبتدئوا من حيث وصل الأوروبيون لا من حيث ابتدءوا
منذ مائة عام.»
١٦
وعن عرض مسرحية «حُسن العواقب»، قالت الجريدة أيضًا: «… إن هذه الرواية جمعت أشتات
الحِكم
والمواعظ ورقيق الأشعار وبليغ الأمثال، وذلك كله مما أعاره الحاضرون سمعًا وقدروه قدره.
وحبذا لو نقح بعض الكلام الذي قاله غضوب على أثر رميه سعادًا بالرَّصاص حتى لا تخجل العذراء
من تلاوته كله على مسمع من أبيها وأمها! وحبذا أيضًا لو ملِّحت الرواية بفصل هزلي وزِيد
فيها الغناء ولو في دار الحريم! وهي فيما سوى ذلك من أفضل الروايات التمثيلية التي سمعناها،
فلمؤلفها مزيد الشكر. هذا من قبيل الرواية نفسها، أما الممثلون فالوالي والأمير طاهر
وزوجته
وابنته والأمير سعيد وعليهم ما دار أكثر التمثيل أجادوا غاية الإجادة. والوالي رزين حكيم
برعيته شأنه شأن ولاة المشرق المشهورين بالعدل والدعة، وحبذا لو زاد صرامة في معاملة
القائد
فإن ذلك أوفى إلى العدل. والأمير طاهر هُمَام مقدام، وهو روح الراوية وبيت قصيدتها، وقد
مثَّل استبداد المشارقة في بيوتهم كما مثَّل الوالي عدلهم في رعايتهم. وزوجته أبدت من
الحكمة والرصانة وحسن النظر في العواقب من المجاهرة بالرأي مع الحشمة والدعة ما مدحها
عليه
الحضور. وكذا الأمير سعيد والسيدة سعاد فإنهما عمدا الرواية والمعتمد فيما فيها من الغناء
والطرب وبث لواعج الوجد والهيام وإظهار العفة والبسالة والإقدام، وقد أجادا فيما مثَّلاه
غاية الإجادة …»
١٧
وفي ١٩ / ٥ / ١٨٩٤ قالت جريدة المقطم، تحت عنوان «التمثيل والمراسح لأحد وجهاء البحيرة»:
«… وإذا قابلنا فن التمثيل عندهم [أي في أوروبا] وفن التمثيل عندنا وجدنا بونًا عظيمًا؛
لأننا إذا ترجمنا رواية من رواياتهم اجتهدنا في مسخها لا نسخها، وحولنا معناها الأصلي
والقصد الجليل الذي وُضعت لأجله وضمَّناها أبياتًا شعرية لا معنى لها ونكاتًا هزلية ولو
كانت من نوع الروايات المحزنة، وغضضنا الطرف عن تضمينها الآداب والحكم التي تهذب الأخلاق
وتؤسس المبادئ الصحيحة في العقول. وإذا دخلنا مرسحًا أوروبيًّا رأينا الحضور فيه شاخص
الأبصار منتبهين إلى كل ما يقال، فيستحسنون الحسن ويستنكرون القبيح. وبخلاف ذلك مراسحنا
الشرقية؛ فهي عبارة عن مجتمعات لقضاء الوقت سدًى، ولا يقصدها إلا من أحب أن يمتع طرفه
بما
حوله أو يشنف آذانه بسماع الأغاني العشقية والنكات الهزلية. فإن بكى الممثل وانتحب ضحكوا
وقهقهوا وإن كره الحياة وانتحر صفقوا وهللوا …»
١٨
وفي الفترة من ١٨ / ١٠ / ١٨٩٤ إلى ٣ / ١ / ١٨٩٥ كتب توفيق عزوز بجريدة السرور مجموعة
مقالات تحت عنوان «فن التشخيص في مصر»، قال فيها: «… أما فن التشخيص فيمتاز عن غيره …
بعدة
مزايا … أولًا: بالنظر لما له من الوقع الحسن والتأثير الكبير في النفوس … ثانيًا: لتعميم
فايدته على عموم الناس من عام وخاص ودانٍ وقاص. وليس يخفى أن عامة الأفراد في كل أمة
هم في
الغالب أكثر من الخاصة ولا شك أنهم هم الأحوج إلى تدميث الأخلاق وتقويم السلوك أكثر من
غيرهم إن لم أقل دون سواهم، فأنَّى لمثل هؤلاء القوم أن يتثقفوا ويتهذبوا مع جهلهم بالقراءة
والكتابة وعدم إمكانهم فهم كلام خطيب مصقع … ثالثًا: لأنه لا يورث الملل والكلل شأن غيره
من
الوسائل الأخرى كمطالعة الكتب المطنبة أو سماع الخطب المسهبة … رابعًا: لأنه سريع النفع
وشيك الفائدة مضمون النتيجة … ولكنني أقول … إن مداومة الحضور إلى مراسح التشخيص بضع
دفعات
متواليات مدة ليست بمديدة وسماع بعض روايات ليست بعيدة يكفي للقيام بهذا التغيير الخطير
أعظم قيام. خامسًا: يمتاز فن التشخيص أيضًا … بمزيد الهمة ألا وهي بأن وقايع رواياته
ومناظرها شديدة الرسوخ في الذهن بمعنى أنها لا تبرح من مخيلة الناظر ولا تغادر ذاكرة
السامع
… ولذا ترى أن أهم المسائل التاريخية الكثيرة الوقائع البطيئة الحفظ السريعة النسيان
إذا
شُخِّصت في المرسح بمرأًى وعلى مسمع من الناس يتذكرونها برمتها ولو بعد حين. سادسًا:
يمتاز
فن التشخيص أيضًا عن سواه، لأن فيه نوع من الاقتصاد في النفقات؛ إذ إن من رام أن يتعلم
التاريخ برمته يتكلف مئونة جلب الكتب والأساتذة … وكل هذه أمور تحتاج إلى مبالغ طائلة
…
ولكن من رام حضور مرسح تشخيص لا يصرف إلا دريهمات معدودة تقوم مقام كل ذلك. سابعًا: أنه
يوفر للإنسان جانبًا من الصحة والوقت اللذين هما أثمن كل ثمين … (عيوب مراسحنا التشخيصية)
…
وتلك العيوب في حوزتها تنقسم إلى قسمين: عيوب تُنسب لواضعي الروايات التشخيصية ومؤلفيها،
وعيوب تُنسب لمشخصيها ومعلميها. وأكبر العيوب التي يرتكبها مؤلفو الروايات التشخيصية
هو وضع
رواياتهم في قالب لا يفيد البسطاء الذين هم أحوج الناس إلى الاستفادة … وهناك عيب آخر
يرتكبه أولئك المؤلفون وهو أنهم يُدخلون في رواياتهم مسائل خرافية لا حقيقةَ لها ربما
رسخت
في أذهان البسطاء وظنوها حقائق لا ريب فيها … من هذا القبيل رواية «محاسن الصدف» و«أنس
الجليس» و«هناء المحبين» … ومن أكبر العيوب أيضًا ترجمة الروايات الإفرنجية؛ لأن عوايد
أهالي تلك البلاد تخالف عوايدنا فما يفيدهم … لا يفيدنا … أما عيوب المراسح نفسها فهي؛
أولًا عدم وجود روايات كافية في كل مرسح … وهناك عيب آخر وهو عدم جعل الملابس التشخيصية
من
جنس وقايع الرواية؛ فبينما تكون وقايع الرواية فرنساوية وإنكليزية ترى الملابس عربية
أو
تركية …»
١٩
وفي ١٧ / ١ / ١٨٩٨ كتبت جريدة البصير مقالًا تحت عنوان «عود إلى التمثيل»، تحدثت
فيه عن
أسباب تأخر الفن المسرحي في مصر، ومن هذه الأسباب: الحكومة والفرق العربية ومؤلفو
المسرحيات، فقالت في ذلك: «… أما الحكومة فلأنها أعطت هذا الفن الجليل كل الإهمال، وشحَّت
على أربابه بقليل من كثير مما تنفق على الأجواق الأوروبية، فهي بذلك ملومة كل اللوم بل
لا
أستحي إذا قلت إن عملها هذا يشينها ويحط كرامتها في أعين أبنائها فضلًا عن الأجانب. وأما
الأجواق العربية فلأن غالب الممثلين فيها من طبقة لا يفهمون معنى ما يحفظون فلذلك يجيء
تمثيلهم ناقصًا؛ ولأن كثيرًا من الروايات التي يمثلونها مكتوب على نسق المقالات لا نسق
الروايات فتراها منسوجة بالسجع البارد المتكلف الذي يُبعد التمثيل عن الشكل الطبيعي ويضيع
تأثيره المقصود؛ ولأن مديري هذه الأجواق أكثرهم ممن لم يأخذوا هذا الفن عن أصله بل اكتفوا
بمزاولته بأنفسهم. والذي يسمعني أقول أجواق ومديرون يحسب أن بلادنا ملأى بهم! والحقيقة
أن
الموجود لدينا منهم ثلاثة أجواق: الجوق العربي المصري لإسكندر أفندي فرح، وجوق الشيخ
أبي
خليل القباني وجوق قرداحي أفندي. أما جوق قرداحي أفندي فمتجول في الأرياف ولا أعرفه وما
شهدت تمثيله مرة لأذكره بالحسنة أم بالسيئة. وأما جوق الشيخ أبي خليل فقد اشتُهر بوجود
السيدة ملكة سرور المطربة فيه أكثر من اشتهاره بالتمثيل. ولا أقصد بذلك الحط من مقام
هذا
الفاضل فإني والله يعلم أحبه لأدبه ودماثة خلقه وأعتبره لما أرى من اجتهاده وسعيه الدائم
مع
تقدم سنِّه في خدمة هذا الفن، ولا أنكر أن كثيرًا من رواياته حسن المغازي أدبي النتائج،
كان
يمكن أن يؤثر في المشاهد التأثير المطلوب من اتباع الفضيلة واجتناب الرذيلة لولا ما أُنكره
عليه من ضياع الفصاحة في أكثر هذه الروايات؛ فإنها مكتوبة بالعبارة الضعيفة والسجع المتكلف،
ولا يخفى أن اللغة لها التأثير الأول على النفس، فلا تفعل حكمة باهرة في عبارة نافرة
ولا
يؤثر الوعظ الشائق إلا في اللفظ الجزل الرائق، وفي قوله إن من الشعر لحكمة وإن من البيان
لسحرًا خير شاهد على ما نقول. أما جوق فرح أفندي فشهرته في أمرين: جودة الروايات، وبراعة
الممثلين. ومرجع هذين الأمرين إلى شخصين هما: الشيخ نجيب الحداد أحسن المؤلفين في هذا
الفن
عندنا، والشيخ سلامة حجازي أبرع الممثلين وأفضل الموسيقيين فيه …»
٢٠
وفي ٢٧ / ١ / ١٨٩٨ استكملت جريدة البصير مقالها السابق، قائلة تحت عنوان «التمثيل»:
«لقد
ارتكبت في الكلام عن التمثيل وسبب تأخره وانحطاطه عندنا خطأ كبيرًا؛ إذ عزوت ذلك إلى
أسباب
ثلاثة هي: الحكومة والأجواق العربية والمؤلفون، ونسيت أهم هذه الأسباب وأحقها بالذكر
وهو
الشعب. وأريد بالشعب الوسط والعامة منه … فإن هؤلاء هم الشعب كله وهم الذين يرقون بلادهم
وينشئون مجدهم ويحيون معالمهم، وهم الذين يوجدون في الشعب كتبة وعلماء وشعراء ومخترعين
ومكتشفين وقادة أفكار وقادة حروب ورجال همة وأرباب عزيمة … إذن الشعب أهم أسباب تأخر
التمثيل … أريد بالشعب الوسط والعامة منه فهؤلاء أحبابنا وإخواننا وعليهم معتمدنا وفيهم
تحقيق آمالنا، وإن كان القسم العظيم منهم تائهًا في ميدان اللهو ونزق الشبيبة مقبلًا
على
محالِّ البطالة وحانات الخمور وأندية اللعب مدفوعًا إلى ذلك بعامل الشباب … وهذا هو أكبر
سبب في بقاء التمثيل على حاله من التقهقر والضعف فإنما قِوام الأجواق بالحضور من هذا
الشعب
الذين يكثرون التردد عليها، ولو عمَّت هذه الرغبة الشعب كله أو نصفه أو ربعه لكفى ذلك
لعمران أجواقنا وغناها، فنتج عن ذلك إتقانها فجودة الروايات فجودة المؤلفين، وعقب ذلك
نهضة
أدبية في الشعب …
إن معظم الشعب جاهلٌ قدرَ الروايات التمثيلية، وجهله هذا هو أحد أركان تأخر هذا الفن
الشريف، فلو أبدى الشعب رغبة وتشوقًا إلى حضور الروايات لترتب على ذلك نجاح التمثيل فنجاح
الأجواق فنجاح المؤلفين، ولا يمضي زمن حتى يكون لنا من أرباب هذا الفن عدد نفاخر به ونباري
سوانا من الأمم … فاليونان يفتخرون بهوميروس وأوربيدس وسواهما أكثر من افتخارهم بذي القرنين
الكبير. وتعتز فرنسا بكورنيل وراسين وفولتير وهيكو وغيرهم من فحول الكتاب والشعراء أكثر
من
اعتزازها بكوندي ونابليون. وتفتخر إنكلترا بشكسبير وحده أكثر من افتخارها بنلسون وغيره
من
مشاهير القواد، وأعظم من افتخارها بالملكة فيكتوريا العظيمة. بل إن هذه الملكة نفسها
تعظِّم
هذا الشاعر وتُعيِّد مع الأمة في عيده العظيم … فلا يُطلب منا إلا الإقبال على حضور هذه
الروايات وتشجيع مؤلفيها وتنشيطهم حتى إذا رأى الغرب أن في الشرق نورًا يضيء من أدمغة
المؤلفين وأفواه الممثلين ذكر الشعب الشرقي بالمديح والثناء، فوقف الغربي من الشرقي موقف
الرجل من الرجل لا موقف الشيخ من الغلام.»
٢١
وفي ١ / ٨ / ١٨٩٨ قال نقولا الحداد في جريدة الثريا تحت عنوان «التمثيل وفلسفة تأثيره»:
«… ما التمثيل إلا معرض تستعرض فيه العواطف والفضائل والرذائل والعوائد والأخلاق، فكما
يبتهج الناظر باستعراض المناظر الجميلة هكذا تبتهج النفس باستعراض العواطف الواضحة في
صور
الملامح البدنية. ولا يخفى أن العواطف تتفاهم بلغة الملامح، فبقدر ما يجيد الممثلون في
إظهار إحساسهم وانفعالاتهم المقتضية أدوارهم يتأثر المشاهدون وتتحرك عواطفهم تبعًا لملامح
الممثلين. فالتأثير من التمثيل غير متناهٍ لأن الإجادة فيه غير متناهية أيضًا؛ ولهذا
لا
نعجب إذا رأينا الحضور في الملعب يذرفون الدمع مدرارًا إشفاقًا على الممثل إذ يمثل دورًا
محزنًا، أو يطفرون فرحًا مع الممثل إذا كان فرحًا مسرورًا؛ لأن العواطف تحاكي نظراءها
…
وهنا مهارة الممثلين إذ إنهم يلعبون بعواطف الحضور … والعجيب أن الأجواق المتقنة لهذا
الفن
تفعل في النفوس ما لا تستطيع فعله الحوادث الحقيقية؛ أي إنه كثيرًا ما يؤثر تمثيل رواية
ما
بالحضور تأثيرًا لا تؤثره حوادثها لو جرت فعلًا. ولهذا يعتبر أن للتمثيل قوة فعالة في
تغيير
الأخلاق تبعًا لغايته …
ولا ريب في أن القارئ يزداد عجبًا على عجب إذا قلت إن السر في تأثير التمثيل إنما
هو
«التمثيل»، ولكيلا يتسرع بالتهكم قائلًا «وفسر الماء بعد الجهد بالماء» أقول: إن المراد
بلفظ التمثيل الأخير إنما هو المجاز توسعًا وأعني أن السبب في تأثير التمثيل كونه شيئًا
مجازيًّا لا حقيقيًّا لاعتبار أن المجاز أوقع من الحقيقة، ولإيضاح ذلك أقول: إن ألذ ما
ترتاح إليه النفس وتتحرك له العواطف هو الفنون الجميلة وأساس أكثرها «المجاز» أو تقليد
الحقيقة أو تمثيلها، وهو السبب في جمالها. فالتصوير والرسم إنما هما تقليد الحقيقة أو
تمثيلها. والشعر مداره على المجاز الذي هو استعارة أجزاء حقائق لتمثيل شيء موهوم ممكن
أو
مستحيل، وهذا التمثيل هو مجاز أو تقليد للحقيقة … احتمال أن يكون المجاز أكمل من الحقيقة
والتقليد أتقن من الشيء الأصلي والاصطناعي أتم من الطبيعي؛ لأن الممثل أو المقلد أو المصطنع
يجمع كل المحاسن ويغفل كل العيوب …
إن الرواية التمثيلية تكون مجموع وقائع مستغربة ومعجبة بيد أنها غير مستحيلة الحدوث
فيفعمها المؤلف من المصادفات والنوادر والاتفاقات الممكنة التي لم يسمع وقوع مثلها، ويجمع
فيها كثيرًا من الحوادث المهمة والمؤثرة مغفلًا الوقائع الزهيدة التي لا قيمة ولا تأثير
لها، ثم يرتبها ترتيبًا ملائمًا ذا وقع حسن فتأتي معجبة ومدهشة من طبعها. ولذلك يكون
للرواية الاختراعية مزية على قصة الحادثة الحقيقية بأنها جامعة للحوادث الغريبة وخالية
من
الوقائع التافهة.
ومهما كانت الحوادث الحقيقية نادرة ومستغربة ومدهشة فالراوي يقدر أن يتفنن في وضع
الرواية
حتى تفوق الحادثة الحقيقية كمالًا وجمالًا وتأثيرًا. ثم إن أحاديث الرواية تمتاز بفصاحة
لغتها وبلاغتها وتوفر العبارات المؤثرة فيها والأفكار الفلسفية والحكمية السامية والنكات
اللطيفة ونحو ذلك مما يخلو بالكلية من الحادث الحقيقي … ثم إن للممثلين العمل الأهم في
قوة
التأثير، والماهرون منهم يفوقون بإتقان تمثيل أدوارهم الأشخاص الحقيقيين الذين جرت الحوادث
معهم فعلًا؛ وذلك لأن الممثل يتمرن على تمثيل دوره حسب مقتضاه حتى تصبح ملامحه وحركاته
البدنية طوع إرادته، فيمثل دوره على أتم ما يمكن بدون تكلف أو تصنع حتى يفوق شخص الحادث
الحقيقي في إظهار عواطفه والتعبير عن حاساته وانفعالاته النفسانية … وللمشهد عمل في التأثير
إذ يكون مطابقًا لوقائع الرواية فتتغير مظاهره بتغير الدور. ومثله الملابس أيضًا إذ توافق
أحوال الرواية وزي العصر والبلاد اللذين تنسب إليهما. وإذا استوفى التمثيل جميع هذه
الكماليات المتقدمة تعاضدت كلها على تصوير الحادث المقصود بأكمل ما يكون وتناصرت على
إظهار
القصد المراد وتعبير المعنى المقصود تعبيرًا تفهمه القلوب فتحرك به عواطف الحضور، وذلك
هو
سر تأثير التمثيل.»
٢٢
وفي ٢ / ٨ / ١٨٩٩ قالت جريدة مصر: «… حضرنا أمس تمثيل رواية «أوتلو» التي وضعها شكسبير
الشاعر الإنكليزي الطائر الصيت في مرسح العتبة الخضراء، يمثلها جوق حضرة الممثل البارع
سليمان أفندي القرداحي، فعرفنا من تفنن أوتلو في إلقائه وتمثيله ومن إحسان يعقوب في تحايله
أن التمثيل العربي قد يمكن أن يبلغ يومًا من الأيام الدرجة التي يناظر بها التمثيل
الإفرنجي، بالنظر إلى استعداد المشتغلين بهذا الفن وقابليتهم للتقدم والارتقاء ولقلة
مؤلفي
الروايات في الشرق قياسًا على فقر الأجواق العربية. وعدم وجود شعب ينشط هذا الفن الجميل
ويرقيه تجد الروايات التمثيلية قليلة لا تتجاوز الطيبة منها اثنتين أو ثلاثًا. ولخوف
أصحاب
الأجواق أن يُمَلَّ تمثيل رواية تجدهم يُبدلون أسماءها، كما اضطُر ممثل «أوتلو» أمس أن
يلقِّب هذه الرواية التي طبَّقت شهرتها الآفاق بأم العجائب والغرائب أو رواية «الخائن
سيده»، وهذا لا يمكن تلافيه إلا بتقدم هذا الفن وغناه الذي يحمل كتاب العربية بعدئذٍ
على
الانصراف إليه بمؤلفاتهم وبنات أفكارهم …»
٢٣