كانط والحداثة الدينية
«إن دينًا يُعلن الحرب على العقل سوف يُصبح مع مرور الزمن غير قادرٍ على الصمود أمامه.»
(١) مقدمة
(١-١) لماذا الحداثة الدينية؟
إن «الحداثة الدينية» مفهوم نستعمله هنا بكل حيطة وتوجُّس فلسفِيَّين، مُسترقين السمع إلى ما به تتقوَّم الحداثة في هذه الأوطان التي تخصُّنا والتي نتدبَّرها بعقولٍ قد تكون مضادة للحداثة ما دُمنا لم نشارك فعلًا في صيانة الحداثة لا على جهة العلم ولا على جهة السياسية.
(١-٢) لماذا كانط والحداثة الدينية؟٧
نحن نفترض أن الغرب قد انخرط في ضربٍ من الحداثة الدينية مُواكِبة للحداثة العلمية والسياسية، أي في استعمالٍ مدنيٍّ حديث للدين. نجد في كتاب الدين في حدود مجرد العقل (١٧٩٣م) لكانط عبارته التامَّة، وفيه يقترح معالجة عقلية طريفة للدين قائمة على مكاسب العقل الحديث وصورة المجتمع المدني وبخاصة مبدأ الحرية وأخلاق المواطنة الكونية.
فإن كان فيلسوف كونجسبرج قد انشغل في نقد العقل الخالص (١٧٨١م) بفحص شروط إمكان الحداثة العلمية، وإن كان قد شرع في نقد العقل العملي (١٧٨٨م) لمبادئ حداثة أخلاقية، وإن كان قد خصص نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) لرسم ملامح حداثة إستطيقية، فهو يبدو لنا في كتاب (١٧٩٣م) عاكفًا على تعيين الدرب الآمن نحو حداثة دينية، أي فهم واستعمال الدين «في حدود مجرد العقل».
إن الأمر يتعلق عنده بالخروج بالدين من فضاء الملَّة إلى أفق المواطنة الكونية. كيف ينقلنا كتاب الدين في حدود مجرد العقل من دين مِلل ونِحل، أو دين عبادة إلى دين عقل محض، أي دين حرية؟ ذلك هو معنى الحداثة الدينية التي تنقلنا من دين الاستبداد الروحاني القائم على الأوهام الدينية من جنس الحماسة والخرافة والإشراق والخوارق، إلى دين الجماعة الإتيقية الكونية القائم على العقل الأخلاقي المحض وعلى حُسن تدبير للحرية الأصلية في الإنسان نفسه.
إنه من أجل أن نتبيَّن معالم الحداثة الدينية التي نفترضها ثاوية في كتاب الدين في حدود مجرد العقل لكانط، سوف نقف في لحظة أولى على إحصاء شروط إمكان هذه الحداثة، مثلما تُصرِّح بها أو تُضمرها حرفية نص الكتاب المُحرجة بتوتر دائمٍ ما بين رقابة العقل النقدي ورقابة القائمين على تدبير المدينة، وهو توتُّر مضاعف تُضمره استراتيجية التسمية: «الدين في حدود مجرد العقل»؟ ما دلالة هذا الاسم؟ هل هناك دين خارج حدود العقل؟ ثم نقف عند معماريات الكتاب وهي القائمة أيضًا على توترٍ صارخ ما بين الشر الجذري في أبعاده المُختلفة والخير الأصلي في الإنسان الذي عليه أن ينتهي بحُسن تدبير للحرية في أفق جمهورية الفضيلة أو الجماعة الإتيقية الكونية. وتكتمل معماريات الدين العقلي عند كانط بفضح لاذع للاستبداد الروحاني بوصفه مبدأً لكل دين ْخارج حدود العقل، مَوقِّعًا نظرية فريدة في نقد الوْهم الديني داعيًا إلى دين حرية ضد دين استبداد ووهم.
ودريدا يُبدي استياءً فلسفيًّا مريرًا من هذه الأطروحة الكانطية: إذ يسأل: أين الإسلام واليهودية إذن من مِثل هذا الكتاب؟ وهل «الدين في حدود مجرد العقل» هو الدين في حدود المسيحية المجردة؟ كيف تستقيم عندئذٍ حداثة دينية قائمة على المواطنة الإتيقية الكونية مع مسيحية جذرية تُقصِي بقية المِلل والنِّحل؟
(٢) شروط إمكان الحداثة الدينية
(٢-١) كيف الكلام على الدين في عصر الرقابة؟
بذلك نُلاحظ أن كانط قد حاول الدفاع عن وجاهة كتابه عن الدين بطريقتَين متباينتَين: من جهة، يقول للحاكم إنه كتاب للعلماء وليس للعامة؛ ومن جهة يقول للعلماء هو كتاب للعامة وليس للنُّخبة. يبدو أن هذا التردُّد ربما يُعبِّر عن حرج الفكر النقدي أمام مجالٍ يُحاول أن يتملك فيه المهارة الكافية للكتابة في عصر الرقابة. لقد كان على كانط أن يُفكر في الدين بمحض العقل واضعًا نصب عينَيه خطرَين اثنين: خطر السقوط في فخ الرقابة السياسية، إذا ما زجَّ بالدين في مجال النقد. وخطر خيانة فلسفته النقدية نفسها إذا ما تراجع النقد لدَيه أمام موضوعة الدين.
لقد كان بروتاغوراس يقول: «لا أستطيع أن أُقرَّ إن كان الإله موجودًا أم غير موجود، فالمسألة مُعقدة والعمر قصير.» كانط يقول هو أيضًا في عبارات مُماثلة إن العقل البشري من جهة ماهيته نفسها بوصفه عقلًا مُتناهيًا لا يستطيع أن يحسم أبدًا إن كان هناك الإله أم لا … تلك القضية لا تُهمه أصلًا.»
(٢-٢) ما هي الدلالة التي يرتضيها كانط لعبارة «الدين في حدود مجرد العقل»؟
هل هناك دين داخل العقل ودين خارج العقل؟ دين عقلي أو دين مجنون؟
يشتغل كانط على دلالة عنوانه بوصفه يصلح لديه لا لتعيين موضوع كتابِه فحسب، بل بخاصة إلى توقيع منهج نقدي أصيل في السير بمجال الديني على درب ضربٍ من الحداثة الدينية القائمة على العقل آلة ميتافيزيقية خالصة، وعلى الحرية مفتاحًا مَدنيًّا لا بديل عنه، وعلى الإنسان أفقًا لمواطنةٍ كونية استكشافية.
(٣) أطروحة كانط: الدين من «الشر الجذري» إلى «جمهورية الفضيلة»
تقوم معماريات كتاب الدين في حدود مجرد العقل على توترٍ فلسفي ما بين موضوعة الشرِّ الجذري وأفق الجماعة الإتيقية الكونية بوصفها علاجًا فلسفيًّا مأمولًا لشرٍّ مُتجذِّر في الطبع البشري.
قبل تفكيك هذه المسيحيات الكانطية السعيدة بحسب ريكور أو المُفزعة بحسب دريدا، لنتعرَّف على ملامحها الأساسية في دلالتها المُحايدة، كما يعرضها كتاب الدين في حدود مجرد العقل.
إن القارئ لهذا الكتاب يُمكن له أن يرتسم معالم الحداثة الدينية عند كانط كما يلي: هي حداثة تجد مجالها في الأخلاق المحضة، وآلتها المتعالية الخالصة في مبدأ الحرية وأفقها الهادي في إنسانية كونية افتراضية.
إن الدين الذي يشتغل عليه كانط هنا هو إذَن ضرب من الدين العمومي المدني الذي يهدف إلى نوع من التربية الأخلاقية المدنية للإنسان تنقلنا من «المواطن السلبي» إلى «المواطن النشيط».
خاتمة: حداثة دينية أم مسيحية فلسفية؟ كانط أمام أسئلة دريدا
كيف يمكن لأطروحة كانط أن تصمد أمام أسئلة دريدا المُشككة؟
إن علينا التنبيه إلى أن كانط هو الذي أرشدنا إلى هذا الخيط الخطير الرابط بين العقل والدين، أو بين الحداثة والمسيحية، وكانط هو الذي يُعلمنا أننا لن نفهم شيئًا من الدين ما دُمنا لا نزال نُعارض بحمق ما بين العقل والدين، أي ما بين الحداثة التقنية العلمية والدين نفسه. لذلك بدلًا من تعارُضه مع الدين، يُقرر العقل النقدي أن يَحتضنه، أن يحتمله ويفترضه. لذلك أيضًا للعقل والدين عند كانط منبع واحد … إنهما أمر واحد وهو معنى اعتبار كانط أن تاريخ الدين هو تاريخ للشر الجذري في وجوهه المختلفة. وقد رأينا كيف كان كانط يُجهد نفسه من أجل تعيين أصلٍ عقلي للشر الجذري، ضد الأصل الأسطوري-التاريخي له. فالشر لا ينبع من التاريخ إنما ينبع من العقل، أي من الإنسان، أي من الحرية. وتاريخ الشر وتاريخ الدين أمرٌ واحد، ما داما يبدآن مع العقل بوصفه جذرًا وأصلًا في آنٍ معًا.
J. Derrida, “Foi et savoir” in Lareligion, Paris, Seuil, 1996, pp. 20-21.
انظر: فتحي المسكيني، «ما هو الإرهاب؟ نحو مساءلة فلسفية»، ضمن: دراسات عربية، العدد ١-٢، السنة ٣٤، نوفمبر/ديسمبر (١٩٩٧) ص ص٢–٢٥.
وقارن أيضًا: جان بودريار، «روح الإرهاب» الفكر العربي المعاصر، ١٢٠-١٢١ السنة ٢٠٠١ ص٢٦–٣٢.
J. Derrida, “Foi et savoir,” in: Lareligion, op. cit., p. 57.
Alain Renault, Kant aujourd’hui, Paris, Aubier, 1997, p. 21 et sq.
E. Kant, Critique de la raison pure,in Œuvres philosophiques I, Paris, Gallimard, 1980, pp 735, 739.
انظر مقالنا الذي خصصناه لمناقشة قراءة ريكور لكتاب كانط في الدين تحت عنوان «كانط والتأويلية». الفكر العربي المعاصر، ١٢٠-١٢١ ص ص٤١–٤٧.