ريكور قارئًا كانط: مدخل إلى تأويلية الدين أو ما معنى «الدين في حدود مجرد العقل»؟
مطلبنا في هذا البحث هو الوقوف على ضربٍ من الإحصاء لما وصل إليه البحث الفلسفي في ملف علاقة كانط بالتأويلية. ونحن نقف ها هنا على ثلاث وجهات نظر متنازعة:
-
(١)
موقف أول يسمح بإمكانية الحديث عن تأويليةٍ فلسفية عند كانط، نجده خاصة لدى بول ريكور.٩
-
(٢)
موقف ثانٍ يردُّ على أطروحة ريكور، ويعتبر أن النقد لدى كانط إنما قام بديلًا عن التأويلية.١٠
-
(٣)
موقف ثالث يتَّسم بالغموض والالتباس هو موقف غادامير الذي انتهى إلى اعتبار كانط «ذكرى» طيبة يحتفظ بها كل فلاسفة التأويلية والفينومينولوجيا من هوسرل (Husserl) إلى هيدجر.١١
سوف ننطلق في هذا البحث من أطروحة بول ريكور من أجل أولًا: اختبار مفهوم التأويلية الذي يصرفه ريكور على فلسفة كانط. ثانيًا: الوقوف على حدود قراءة فلسفة كانط من وجهة نظر الفلسفة التأويلية، للوصول ثالثًا وأخيرًا إلى معالجة إمكانية الحسم في علاقة كانط بالفلسفة التأويلية بعامة.
خطة هذا البحث تتوزع إذن على ثلاثة مستويات:
-
(١)
كانط بوصفه صاحب «تأويلية فلسفية» أو أطروحة ريكور.
-
(٢)
حدود أطروحة ريكور أو النقد ضد التأويلية.١٢
-
(٣)
النقد أم التأويلية: آفاق المسألة.
(١) كانط صاحب «تأويلية فلسفية» أو أطروحة ريكور
إلا أن ريكور لا يتوقف في هذا المستوى من البحث عند معالم تأويلية ضمنية عند كانط، بل يبلغ اهتمامه بكانط حدَّ اعتبار هذا الأخير صاحب تأويلية فلسفية تامة الشروط، يجد لها مقامًا صناعيًّا مُستقرًّا في أحد الكتب التي تنتمي إلى مرحلة النضج لدى كانط وهو كتاب الدين في حدود مجرد العقل الذي نشره سنة ١٩٧٣م.
لِمَ يُخرج ريكور هذا النص الكانطي من دائرة الفلسفة النقدية ويُنزله ضمن مجال الفلسفة التأويلية؟ بل لماذا يتجرأ ريكور على تغيير العنوان الذي أراده كانط لنصِّه بعنوانٍ يريده ريكور أن يكون دليلًا على آثار «تأويلية فلسفية» سكت عنها؟ أليس في الأمر نية احتواء تأويلي للنص الكانطي، من حيث أن «الاحتواء» مأخوذًا في معنى «التملك» بواسطة العنف التأويلي، هو بدوره مقصد كل ممارسة تأويلية؟
إن بِنية الدين مثلما يكشف عنها كتاب الدين في حدود مجرد العقل بوصفها بنيةً قائمة على وقائع التمثيل والاعتقاد والمؤسسة، إنما تحتمِل، في اعتبار ريكور، طابعًا تاريخيًّا موجبًا، وهي تاريخية لا يمكن لوقائع العقل أن تتمتع بها، وذلك لأنها وقائع مُتعالية، أي مستقلة عن كل تجربةٍ تاريخية فعلية.
إلا إن هذا الاعتبار قد يَجرُّنا إلى إحراجاتٍ قد تُسقطنا في المجالات التالية: إذا كان الدين واقعة تاريخية، والعقل واقعة مُتعالية لا تاريخية فهل يصح:
أولًا اعتبار الدين والعقل على طرفي نقيض، أي اعتبار الدين لا عقلي واعتبار العقل لا تاريخي؟ وهل يمكن ثانيًا تأويل الدين في حدود مجرد العقل؟ وثالثًا أي تقاطع بين الدين والعقل داخل كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل؟
هنا يشير علينا بول ريكور بضرورة تأوُّل مفهوم التاريخية العالقة بواقعة الدين تأوُّلًا يسمح للديني التاريخي بالتناغُم مع العقلي المتعالي، وبالتالي يُبرئ عنوان كتاب ١٧٩٣م من تهمة التعارض بين الدين والعقلي. وحينها يشتقُّ ريكور السؤال الأصيل الذي تشتغل عليه تأويلية كانط للدين: كيف يمكن أن نُعيد تأويل الدين «تأويلًا عقليًّا» يسمح بضربٍ من التناغُم بين الديني التاريخي والمتعالي اللاتاريخي؟
إن ريكور لا يكتفي بتحديد المعالم العامة لهذه التأويلية الفلسفية الكانطية في الدين، إنْ من جهة الموضوع (واقعة الدين نفسها) أو من جهة الموضع الفلسفي الذي يخصُّها (التاريخي الوجودي) أو من جهة السؤال المركزي الذي يُحدد دائرتها (ماذا يُمكنني أن أرجو؟) بل يذهب إلى تأويل المضمون الفعلي للكتاب ومنهجه الفلسفي ومواقف كانط الأساسية فيه على أنها أدلة صريحة على مثل هذه التأويلية الكانطية في الدين.
وهكذا فإن أهم ما نخرج به من أطروحة بول ريكور التي تَعتبر كتاب كانط الدين في حدود مجرد العقل تأويلية فلسفية هو التالي: إن الأمر يتعلق بتأويلية للدين وليس بنقدٍ له، من أجل أن:
-
(١)
هذا الكتاب يتعلق بواقعة الدين أي بالموضوع الأصلي للتأويلية.
-
(٢)
وهو كتاب ينهض بتأويلية لأنه يختص بالإمكان الأصيل لكل دين، أي إمكان الرجاء.
-
(٣)
وهو تأويلية لأنه يشتغل على المضامين اللاهوتية الأساسية أي على وقائع الخطيئة والمسيح والعقيدة والكنيسة.
(٢) حدود أطروحة ريكور: «النقد ضد التأويلية»
وإضافة إلى ذلك يمكن أن نستند إلى مقاربة تاريخية من أجل تبيُّن الصعوبات التي قد نسقط فيها إذا ما اعتقدنا أن كانط صاحب تأويلية فلسفية في الدين. ويمكن أن نختزل الاعتراضات التاريخية على قراءة ريكور لكانط فيما يلي:
-
(١)
إن الدين في حدود مجرد العقل هو كتاب وَرَدَ في ظرفٍ تاريخي دقيق (١٧٩٣م) اقترن بظاهرة الرقابة التي فرضتها السلطة الألمانية على كل ما يُكتَب في الدين مما جعل البعض (Cohen) يذهب إلى اعتبار هذا الكتاب مجرد احتجاجٍ كانطي على إجراءات الرقابة، ومن ثمة هو كتاب ظرفي وهو ينتمي حسب البعض إلى صنف الكتابات الجمهورية (Ecrits populaires)، وبالتالي من الصعوبة أن نحسم، انطلاقًا من هذا الكتاب، في علاقة كانط بالتأويلية.
-
(٢)
إن كانط قد بقي غير مُهتم بالتأويلية التي أسَّسها جورج فريدريتش ميار (George Friedrich Meier)، أشهر مَن اضطلع بالتأويلية في عصره، وذلك على الرغم من كونه كان يعتمِد مؤلَّف ميار نفسه في المنطق متنًا لدروسِه.٣٧
-
(٣)
إن هذا الكتاب الكانطي قد لاقى معارضةً شديدة من طرف المشتغلين على تأويل الأناجيل وأصحاب «تأوُّلية الكتاب المقدس» (L’herméneutique biblique) مثل أيشهورن ( Eichhorn) وروزنمولر ( Rosenmüller) وباور ( Baurer).٣٨ فكيف يكون كانط إذن صاحب تأويلية في الدين وكتابه قد جمع ضده أهم مَن اشتغل بالتأويلية الدينية في عصره؟
(٣) النقد أم التأويلية؟
نحن لا ندعي في هذا القسم الأخير من هذا البحث إمكانية الحسم في هذه الإمِّية التي أحرجت عقولًا من صنف ريكور وغادامير وهابرماس، فهي إمِّية صارت إلى رهان فلسفي يُناظر ما بين كل المُشتغلين بمبحث المعنى (فلسفة اللغة أو فلسفة التأويل) وأولئك الذين اضطلعوا بالنقد مثلما أراده كانط نفسه، بوصفه نقدًا لوهم المعني الذي يَنزِع إليه العقل خارج حدود عالم الظواهر، أو مثلما مارسه روَّاد مدرسة فرنكفورت بوصفه نقدًا للأيديولوجيات وفضحًا لكل ادِّعاء يَفترض وجوده معنًى أخيرًا للتجربة الإنسانية. إنما نحن نسعى فقط هنا إلى الوقوف على إحصاء لنتائج هذا النقاش الفلسفي الراهن المتعلق بعلاقة كانط بالتأويلية.
لقد انتهى بنا البحث على ضرب من «النقيضة الفلسفية»، هي هذا التناقض بين أطروحتين تدَّعي كل منهما أنها على نصيبٍ من الصلاحية والمعقولية. أيهما على حقٍّ إذن؟ إن كانط يُعلمنا هنا أن ليس بإمكاننا الحكم بالصواب أو بالخطأ، أي عبر مقياس الحقيقة على نتاجات العقل، فالأثر الفلسفي الذي هو مدار النقيضة ها هنا شأنه شأن الأثر الفني والفعل الأخلاقي إنما يتنزل في مقام ما بعد الحقيقة، أي مقام الجدل المتعالي أو «نزاع العقل مع نفسه»، وهو ما يُسميه كانط نفسه مجال «التفكير» بدلًا من مجال «المعرفة».
سوف نكتفي إذن في نهاية هذا البحث ببسط الملاحظة التالية التي نعتبرها فرضيةً أو أفقًا لمعالجةٍ مستقبلية أوسع لمثل هذه المسألة.
-
(١)
في تصدير الطبعة الثانية من نقد العقل المحض نشهد وقوف كانط على مسألة الدلالة، وذلك حينما يعتبر أن النقد نفسه إنما يُعلمنا كيف نتناول الموضوع من جهة الدلالة المُضاعفة؛ إذ هو من جهةٍ ظاهرة، ومن جهة ثانية شيء في ذاته،٤١ وعليه يُمكننا اعتبار هذا النص الكانطي شاهدًا على ضربٍ من الوعي التأويلي لدى كانط وذلك في معنيين اثنين: في مرة أولى لأنه وقف على مسألة دلالة الأشياء وهو في ذلك على قرابةٍ بموضوع انشغال فلاسفة التأويل، ومرة ثانية لأنه اعتبر الموجود قابلًا للتأويل لأنه يحتمل أكثر من معنى.٤٢
-
(٢)
قد تسمح لنا الجدلية المُتعالية من نقد العقل المحض وذلك على عكس التحليلية المُتعالية التي لا يفعل فيها كانط غير بناء شروط إمكان معرفة الطبيعة ضمن إشكالية الحكم المُعين بأن نعثر لدى كانط على ضربٍ من الوعي التأويلي حيث نُلاحظ اضطلاعه صناعيًّا صريحًا بإحدى القواعد التقليدية للتأويلية: «أن نفهم مؤلَّفًا أفضل مما فهم نفسه.»٤٣ فهو حين عزم على تحديد دلالة مصطلح «الفكرة» (Idée) اصطدم بواقعة اللغة وصعوبة أدائها للمعنى المقصود. وهنا يجد كانط نفسه أمام الإحراج التالي: إما الاضطلاع بالمفاهيم الفلسفية مثلما استقرَّت داخل المصطلح الفلسفي التقليدي، وإما بناء مُصطلحه الخاص، أي استحداث مفردات جديدة في اللغة، وهنا قرَّر كانط أن يشتغل على مصطلح «الفكرة» مثلما وضعه أفلاطون، لكنه أعلن قُدرته على فهم أفلاطون «أفضل مما فهم نفسه». ها هنا يبدو لنا كانط فيلسوفًا تأويليًّا يعترف بمشكل اللغة وبواقعة اختلاف اللغات وثرائها ويُقرر أن يحافظ على التراث بل وأن يؤوِّله، وإذا به يُقدِّم تأويلًا للمعنى الذي أعطاه أفلاطون نفسه لمفهوم الفكرة تأويلًا يُحوِّل الفكرة من الدلالة التأمُّلية لها إلى الدلالة العملية وهو مقصد فلسفة كانط نفسه.٤٤
-
(٣)
نحن نشهد مرةً أخرى في نقد ملكة الحكم وذلك على عكس نقد العقل العملي الذي يُقدم فيه كانط قراءة نقدية للفعل الإنساني خالصة من كل علاقةٍ بالأميري والمحسوس على وعيٍ تأويلي لدى كانط يجد عبارته في مفهوم «التفكر» الذي يفتح الفلسفة على «آخَر» غير فلسفي أو «خارج» لا ينتمي إلى منطق الحقيقة ولا إلى اهتمام المعرفة، بل هو مجال المعنى الذي يجد نموذجه في الجميل والجليل وعالم الغائية بعامة. وهنا نكتفي بالإشارة إلى ما كتبه ريدولف ماكريل (Rudolf Makkreel)٤٥ حول أهمية نقد ملكه الحكم في استباق بعض قواعد التأويلية الفلسفية التي اضطلع بها دلتاي شلايرماخر إلى حدود ريكور نفسه.
-
(٤)
وأخيرًا يمكن استحضار شاهد آخر نعثر عليه ضمن مقال نشره كانط سنة ١٧٩١م بعنوان «في الشكوك على كل المحاولات الفلسفية في موضوع الثيوديسا».٤٦ وهو مقال يُمهِّد فيه كانط لكتابه الدين في حدود مجرد العقل وينتقد كل المحاولات التي قام بها الفلاسفة (ليبنتز وولف) في مجال الثيوديسا من أجل تبرير حكمة الله وقدرته تبريرًا نظريًّا. ونحن نقف في هذا المقال على اشتغالٍ صناعي كانطي على مفهوم التأويل، بل على بوادر موقف كانط ونظريته الخاصة في التأويل حيث ميَّز بين نوعَين من التأويل: «تأويل مذهبي» (Interprétation doctrinale) اشتغل عليه بلغة كانط الدوغمائيون (ليبنتز وولف) و«تأويل أصيل» (Interprétation authentique) هو مقصد كانط نفسه، حيث لا يتعلق الأمر بتأويل عقلي نظري بل بتأويل عقل عملي وهو معنى «الثيوديسا الأصيلة» (La théodicée authentique) التي نجد صياغتها في نقد العقل العملي وفي فلسفة الأخلاق بعامة.٤٧
خاتمة
E. Kant, Critique de la raison pure, op. cit., pp. 1015 (AK, III, 236-237).
E. Kant, Kant, “Lettre du 22 février 1792 à Johann Gottlieb Fichte,” traduction de Jacques Rivelaygue, in Œuvres philosophiques III, Paris, Gallimard, 1986, pp. 245–247 (AK, XI, 2, 309).
Ricoeur, op. cit., p. 20.
وإذا كان السؤال الأول عند كانط نظريًّا والثاني عمليًّا فإن الثالث يفتح أفق «الرجاء» الإنساني. لكن هل يقصد كانط بذلك أفق الرجاء الذي يوفره لنا الدين بخاصة؟
Denis Thouard, op. cit., p. 634.
M. Heidegger, Kant et le problème de la métaphysique, Introduction et traduction de l’allemand par Alphonse de Waelhens et Walter Biemel, Paris, Gallimard, 1953, pp. 92–95.
وهو مبدأ يبدو، كما يُبين مؤرخو الفلسفة الألمانية، أن كانط استلهمه من الفقرة ٩٢٩ من كتاب المنطق اللاتيني (Logica Latina) لوولف (Wolff)، حين نبه هذا الأخير إلى إمكانية أن يفهم المؤوِّل نصًّا غامضًا أفضل من كاتبه. انظر:
Denis Thouard, op. cit., p.634, note 8.
F. Schleiermacher, Herméneutique, traduction et introduction de Marianna Simon, Genève, Éditions Labor et Fides, 1987, ch. 5.
P. Ricoeur, “Une herméneutique philosophique la religion; Kant,” in Lecture 3, op. cit., p. 35.