في تأويلية الشر الجذري أو كانط في محراب أيوب
تقديم
وكان السؤال يمشي بعيدًا ليقول أكثر وليُحرج أكثر: ماذا للفيلسوف أن يأمُل من العقل النقدي لو نصَّبه حَكمًا في مجالٍ حرصت الشعوب دومًا على إلجام العوام عنه خوفًا من شدة جهلهم، وعلى تحصينه دون الفلاسفة رهبةً من قوة علمهم؟
سوف نشتغل في هذا المقال على الثيوديسا الكانطية بوصفها تؤرخ لمنزلةٍ طريفة ارتآها كانط لمجال الديني بعامة ولمجال التأويل بخاصة: هي منزلة «البين»: أي تلك التي تتنزَّل ما بين النقد بالمعنى التقني الصارم للكلمة وما بين التأويلية الدوغمائية السائدة في عصر كانط. إن كانط لا يبدو لنا ناقدًا للدين بالمعنى الصناعي للكلمة، أي راسمًا حدوده متملِّكًا لأُسسه ولنصوصه عارفًا بجغرافيته الخاصة مثلما يظهر لنا في نقد العقل المحض أو في نقد العقل العملي. وكانط أيضًا لا يبدو لنا مؤوِّلًا للدين في المعنى الدقيق للتأويلية في عصره بوصفها اشتغالًا على النصوص المقدَّمة من أجل تفسيرها (سبينوزا) أو من أجل الدفاع عن الحكمة الإلهية (ليبنتز).
تتوزع خطة هذا المقال على ثلاث مراحل: في الأولى نُحدِّد مفهوم الثيوديسا بوصفها تأويلًا للشر في التاريخ دفاعًا عن العدل الإلهي ضد الشُكَّاك والملحِدين. في الثانية نشهد كيف يُحطِّم كانط كل المحاولات الفلسفية في الثيوديسا مُستعرضًا حُججها ومُبَيِّنًا بطلانها واحدة واحدة. وفي المرحلة الثالثة والأخيرة نقف على المشروع الكانطي الذي به يُحضر بنِيَّة استقبال أساسية لفلسفة الدين أي مشروع التأويلية الأصلية التي تنقلنا من مديح للحكمة الإلهية إلى تأويل للحكمة البشرية ومن اعتبار تقليدي للإله إلى تفكُّر تأويلي بالإنسان في حريته التي له، وفي قدرته على مواجهة مصيره بنفسه. أما الإله فلا نملك عنه غير مفهوم أخلاقي كافٍ لتنظيم علاقتنا بالمطلق بعامة.
(١) مفهوم الثيوديسا
كيف لكانط أن يُعلِّم العقل الفلسفي الحديث كيف يفصل ما بين الحكمة الإلهية وإرادة البشر في صنع العالم الذي لهم من دون تأثيمٍ لله ولا دفاع عن قضيته؟ ذلك هو السؤال الذي حرَّك ثيوديسا كانط قارئًا لأهم ثيوديسا فلسفية حديثة تلك التي وقَّعها ليبنتز بشكل غير مسبوق.
إن الثيوديسا تنتمي إلى جنس الأقوال الدفاعية: إنها قول لا يفسر ولا يفكر إنما هو يُؤوِّل أي يُجهد نفسَه لتأويل الشر في العالَم كي يصالح بينه وبين الحكمة الإلهية نفسها. وهنا تبدو الثيوديسا تأويلًا في المعنى التقليدي للعبارة: أي الرجوع إلى الأول وهو الله ها هنا بوصفه علةً مُطلقة للعالم ولكل ما يحدث للبشر بما فيه ضروب الشرور الممكنة كلها.
(٢) حدود الثيوديسا الدوغمائية
هل سيستعمل كانط إذن حيلةَ النقيضات مرة أخرى لتطهير الفلسفة من الثيوديسا الدوغمائية؟
أي تأويل يُعطيه كانط للشر ما دام هو بداية التاريخ البشري وعلامة على الحرية وعلى صنائع الإنسان بل هو ما به يتميز الإنسان عن الآلهة، وهو في الآن نفسه شرط إمكان كلِّ ثيوديسا؟
بهذه التأويلية التي يقترحها كانط لمسألة الشر يُهيئ فيلسوفُ الثيوديسا الأصيلة فضاءَ استقبال لطريقته في تطهير الفلسفة من الثيوديسا النظرية. يتسع فضاء الاستقبال الذي هيَّأه كانط إلى ما يلي:
-
(١)
ثلاثة اعتراضات ناتجة عن الشرور الثلاثة وتقصد التشكيك في صفات الله.
-
(٢)
تسع مرافعات ترد كل ثلاثٍ منها على اعتراضٍ يمسُّ بصفة من صفات الله.
-
(٣)
تسعة تبكيتات يسوقها كانط لإبطال الثيوديسا جملةً وتفصيلًا.
أما عن الاعتراضات فهي بعدد أصناف الشرور ويُوجهها العقل البشري ضد القداسة والخير والعدل الإلهي.
الاعتراض الأول ضد القداسة الإلهية التي تتعارض مع أهم أنواع الشرور أي الخطيئة. إذن أية قداسة إلهية تلك التي تسمح بارتكاب الخطيئة؟
أما الاعتراض الثاني فيرفعه العقل ضد الخير الإلهي الذي يتعارض مع النوع الثاني من الشر، أي الألم والمُعاناة التي يشكو منها عدد لا يُحصى من الكائنات العاقلة. فأي خير ذاك الذي عنه يصدر الألَم والعذاب؟
أية قداسة مع وجود الخطيئة، وأي خير في وجود الألَم، وأي عدل مع انتشار الجريمة؟
وهنا يقوم الثيوديسيون مقام حُماة الإله؛ فإذا بهم يرتادون طريق التأويل فيؤلِّفون مُرافعات يُحصيها كانط كما يلي:
الرد الأول إذ يدافع عن القداسة الإلهية ضدَّ الاعتراض على الخطيئة البشرية، تقوم حُجتها الأولى على المبدأ التالي:
إن خطايا البشر ليست شرًّا مُطلقًا، وقد لا تكون شرًّا أصلًا من منظور الحكمة الإلهية. لكن كانط يرد هذه الحجَّة على أصحابها كاشفًا عن خطورتها بالنسبة إلى الأخلاق بعامَّة؛ إذ كيف لا يكون الشر البشري شرًّا تمامًا؟ وأية حُجة تلك التي تُبرر الشر الأخلاقي بتعلَّةِ أنه قد لا يكون شرًّا في ناموس الحكمة الإلهية؟
أما الحجة الثانية على قداسة الله ضد خطايا البشر فتقوم، وذلك على عكس الحجة السابقة، على تسليم الثيوديسا الدوغمائية بوجود الشر الأخلاقي لكنها تبرئ ذمة الإله وتُبرهن على استحالة منع الشر لأن أُسسه متجذرة في طبيعة البشر. لكن كانط يعكس هذا الرد ويكشف عن تهافته: فالثيوديسا تُبرر مرة أخرى الشر في العالم، وينبغي أن نكف عن تسمية هذا الشر بالشر الأخلاقي ما دُمنا لا ننسبه إلى البشر بوصفه خطيئتهم الخاصة.
أما الرد الثاني على الشر الفيزيائي دفاعًا عن صفة الخير الإلهي، فيتفرع هو الآخر إلى ثلاث حُجج:
في الأولى تُبرر الثيوديسا الشرِّ الفيزيائي حيث تُقيم البرهان على أن الإنسان يُفضل العيش مع الآلام أفضل من الموت، وأن الحياة السعيدة أكثر قيمةً من المُعاناة الناجمة عن الألَم.
وكانط يدحض هذا التفاؤل ويرى أن التعاسة والمعاناة تسود حياة البشر.
وفي الثانية تقول الثيوديسا بأنه لا يمكن أن نفصل في حياة البشر بين اللذة والألم. وكانط يرد بأن ذلك يجعل صنعة صانع الكون خُلفًا ولا معنى لها ولا تليق بالإله؛ إذ لماذا دعانا الخالق إلى الحياة إذا كانت الحياة لا تستحقُّ أن تُعاش؟
أما الحجة الثالثة فهي تجعل من الألم والتعاسة في العالم الحالي طريقًا ووعدًا بالسعادة في عالمٍ أفضل. وكانط يكشف عن بطلان هذه الحجة ببيان خُلف العلاقة ما بين عذاب الدنيا وسعادة الآخرة.
أما الرد الثالث الخاص بالدفاع عن العدل الإلهي ضد عدم التناسُب ما بين العقوبة والقصاص فيسوق الثيوديسيون ثلاث حجج:
الأولى ترفض القول بأن المُجرمين لا يعاقبون، ذلك أنهم وإن لم يُعاقَبوا في أملاكهم فإنهم يُعاقَبون في ضمائرهم. وكانط يردُّ ساخرًا أنه لا ينبغي أن نصنع وهمًا حول الضمير الطيب للأشرار.
أما في الحجة الثانية؛ لو فرضنا بعدم التناسُب ما بين الجريمة والعقوبة، فذلك أمر لا يريده صانع الكون، إنما يسمح به فقط من أجل إبراز عظمة الفضيلة. لكن كانط يرد: إن مُعاناة الإنسان الفاضل ليست حجة مُطلقة على الفضيلة بعامة.
هكذا أنجزت مقالة ١٧٩١م ما ارتضته عنوانًا لها: تهافت كل المحاولات الفلسفية في موضوع الثيوديسا. إنه عنوان يُنبئ عن جرأةٍ وحسم للأمر أكثر صرامةً من عناوين كانط الخاصة بمنطقة النقد نفسها، وكأننا نتحول من نغمة النقد الرصينة إلى إيقاع الدحض والتبكيت الخصامي. كل محاولات الفلسفة في الدفاع عن الحكمة الإلهية وتبريرها تبدو إذن لكانط مُتهافتة تمامًا، وذلك تحت وقع ضربٍ من التذويب اللغوي لكل الثيوديسات الفلسفية بردها إلى مجرد عراك ألفاظ أو بعض من الحجج التي لا تستحق حتى دحضها من فرط هشاشتها وبطلانها المفضوح. لكن ضد مَن يختصم كانط؟ أي فلاسفة أولئك الذين يتهافتون تحت قلم كانط وبمجرد مرورهم أمام عدسة العقل النقدي؟
يتعلق الأمر بجميع من كتب ثيوديسا، وبجميع من ادَّعى نفسه مُحاميًا على الذات الإلهية وبجميع من جعل من التأويل خادمًا للإله بدلًا من الاشتغال بما ينفع البشر أنفسهم بوصفهم المسئول الوحيد عن إتيان الشر في العالم، متميزين في ذلك عن الآلهة أنفسهم.
(٣) نحو ثيوديسا أصيلة
يميز كانط في مقالة «التهافت» بعد أن فرغ من حسم أمر المفهوم السائد في عصره عن التأويل، ما بين التأويل الدوغمائي الذي يُحوِّل صنعة التأويل إلى مذهبٍ أي إلى عقيدة جديدة، والتأويل الأصيل وهو الأفق الذي ينوي كانط أن يفتتِحه لاشتغال فلسفي نقدي على التأويلية بعامة. إن كانط يقترح علينا إذن ثيوديسا أصيلة في مقابل ثيوديسا مذهبية، إنه إذن لا ينوي التلفُّت عن صنعة التأويل لما أصابها من شططٍ ودوغمائية هي المصير المحتوم لكل قول يجعل من نفسه مذهبًا. فكانط هنا إنما يمنع الفلسفة من تأسيس مذاهب في التأويل، لأنه متى تحوَّلت التأويلية إلى مذهبٍ سقطت في التاريخ ما قبل النقدي للعقل وأصبحت حتمًا أرشيفًا من أرشيفات فلسفةٍ مضى زمانها وولَّى.
إنها تأويلية أصيلة وأصالة التأويل فيها تُقال على معانٍ ثلاثة:
-
أولًا: هي أصيلة لأنها على الرغم من كونها لا تستند على التقليد الفلسفي
للتأويل، فهي تتأصل ضمن طبيعة العقل البشري نفسه بوصفه قدرة عامة على
التشريع لعلاقته بالعالم مهما كانت طبيعة هذه العلاقة. وهنا للتأويل
أصوله في العقل العملي الذي ينجح دومًا فيما يفشل فيه العقل النظري:
وحده العقل العملي هو من يملك عن الإله فكرة سابقة عن كلِّ تجربة وعن
كل تعقل نظري.٤٤ فالإله من منظور الحكمة البشرية هو مُسَلَّمة من مُسلَّمات
العقل العملي، بل إن العقل العملي نفسه هو، حسب كانط، الوحيد القادر
على إعطاء الدلالة كلها لصنعة الله ومقاصده.
وهنا ينقلنا كانط من الثيوديسا النظرية إلى الحكمة العملية لتدبُّر علاقة الإنسان بالمطلق.
-
ثانيًا: والتأويلية الكانطية لن تكون أصيلة إلا ضمن الأفق الأخلاقي لمفهوم
الإنسان نفسه. وهنا إزاحة كانطية للثيوديسا عن اعتبار تقليدي للإله إلى
اشتغال نقدي على مفهوم الإنسان ما دام الإنسان هو سؤال الفلسفة ومدارها
الأصيل الذي تسبح في فلكه.
إن الإله الذي يتبنَّاه العقل العملي في ثيوديسا كانط هو عِلَّة أخلاقية تجعل الأمل في الخير الأسمى دافعًا لتقدُّمٍ أخلاقي بشري في اتجاه مملكة الغايات، حيث المصالحة ما بين سعادة البشر ومطلب الفضيلة الأخلاقي.
وقد نجدها هنا في عبارة ليوفال، ما يتوافق تمامًا مع المقصد الكانطي: «ينبغي أن ننظُر إلى الله وكأنه القدرة التي تضمن التقدُّم التاريخي في المعنى التام للكلمة.»٤٥وهنا تنقلنا التأويلية الأصيلة وفق عبارة لبلفال (Belaval) من الثيوديسا إلى الأنثروبوديسا.٤٦ -
ثالثًا: أما الدلالة الأخيرة للتأصيل الكانطي لمفهوم التأويل ففريدة من
نوعها؛ إذ نرى كانط وفي حركة تأويلية رشيقة، يرجع بنا إلى الأصول
الأولى للتاريخ الروحي باحثًا في أناجيل العهد القديم عن عبارة أصيلة
للتصوُّر الذي هو بصدد بنائه عن التأويل. يتعلق الأمر بالعودة إلى سِفر
أيوب من الكتاب المُقدس حيث يقول كانط: «إنني واجد مثل هذا التأويل
الأصيل، مُعبَّرًا عنه مجازًا، في سِفر من أسفار العهد القديم.» هو
سِفر أيوب.٤٧ وهنا نشهد كيف يُقدِم كانط على حركة تأويلية مضاعفة لا
يُتقنها غير الراسخين في العلم: إنها مُمارسة التأويل الأصيل تجسيدًا
له واختبارًا، وذلك على عينةٍ هي بدورها مثالًا أو نموذجًا أو مجازًا
على التأويلية الأصيلة نفسها.
إن هذه العودة إلى التراث الروحي هي بدَورها تأويلًا وتأصيلًا في آنٍ معًا. ذلك أن كانط برفضه الانخراط في مذهب التأويلية السائدة في عصره، لا يرفض ضرورة أي اشتغال على التأويل ولا يرفض ضرورة وحتمًا الاشتغال على الكتاب المقدس، إنما تراه يستعمل النصوص المقدسة استعمالًا مخصوصًا؛ إذ يبحث فيها عمَّا يشهد على تصوُّره الأصيل لفعل التأويل نفسه.
يروي لنا كانط قصة أيوب، مثلما ترويه لنا أسفار الكتاب المقدس، على أنه رجل ميسور رزقَه الربُّ نعم الحياة كلها وكان تقيًّا نزيهًا يضرب به الله الأمثال، إلا أن الرب شاءت حكمته، وذلك بإيعاز من شيطان ماكر، مثلما ترويه الحكاية نفسها٤٨ أن يمتحنه في تقواه فأفقده كل أولاده وأملاكه، ودخل أيوب بذلك في محنةِ الشرِّ المطلق التي عليه أن يتدبَّرها بنفسه بحكمة بشرية خالصة. فالحكاية كلها تدور بين أيوب في تدبُّره للشر الذي أصابه، مجازًا عن الإنسان الذي عليه أن يُواجِه مصيره بضربٍ من تدبيره المُتوحِّد، والطريق التي بها يتملَّق أصحاب أيوب٤٩ الإله وكأنه يُشبههم وكأنه يسمعهم وكأنه سيكافئهم.
إنها إذن ملحمة تراجيدية يجد كانط مغزاها الأصيل في هذا الفرق ما بين أيوب، مجاز الإنسان الأصيل الذي لا يطلب من الإله شيئًا غير براءته، وأولئك المُخادعين الذين يُتاجرون في الله ويتملَّقونه مُتوهِّمين أنه إله على مقاس ضعفهم وجَشَعهم الفظيع.
يظهر أيوب إذن في تأويل كانط في صورة الحكيم الذي اقتدر على تحدِّي الشر ومقاومته؛ إذ كان عليه أن يردَّ على استنكارٍ شيطاني قبيح.
أَلِإِرْضاءِ الله تتكلَّمون بالظُّلم أم لأجله تنطقون بالخداع؟
إن كانط لا يرجع إذن إلى الكتاب المقدس من أجل تفسيره ولا من أجل الدفاع عن حكمة الله الثاوية فيه. إنما هي عودة إلى الأصول من أجل البحث عن مجاز حي هو بمثابة المثال عن تأصُّل الأخلاق في الماهية الأصلية الخالصة للإنسان.
ذلك أن العنصر الأخلاقي الأصيل هو أداة البشر الوحيدة في مقاومة الشر واجتنابه. إن مجاز أيوب ها هنا يؤصل ويجوز العبور من ثيوديسا دوغمائية تُبرر الطرق الإلهية بمقياس قواعد الأخلاق البشرية وتُكيف الله على خطايا البشر وأوهامهم، إلى ثيوديسا أصيلة تصقل في الإنسان كل المُمكن الذي بحوزته وتدفعه إلى بناء مصيره بنفسه. أما علاقة الإنسان بربه فهي علاقة محض أخلاقية يمكن أن نعول على الذات البشرية لحلها عن طريق العقل العملي المجهَّز بكل التقنيات اللازمة لإدراك اللامشروط وللتعلق بالمطلق، أما عن تجربة الشر نفسها فيبدو أنها بحسب تأويلية كانط الأصيلة، تجربة لا تتطلب اعتبارًا ولا تبريرًا ولا تملُّقًا ولا بكاءً. إنما هي تتطلب حكمة عملية على مستوى الشخص نفسه، الذي عليه أن يصقل في نفسه عنصره الأخلاقي الخالص من أجل أن يعمل على اكتمال إرادته نفسها وهو ما فعله أيوب أو الإنسان الأصيل كما أرادته تأويلية كانط.
خاتمة
لقد حضرت بذلك مقالة: «في تهافت كل المحاولات الفلسفية في موضوع الثيوديسا» (١٧٩١م) معالم تأويلية أصيلة سوف تجد اكتمالها الأتم في أهم الكتب التي أتاها كانط في شيخوخته الفلسفية أي كتاب «الدين في حدود مجرد العقل» (١٩٧٣م).
ويُمكننا تلخيص معالم الثيوديسا الأصيلة مثلما أسستها مقالة ١٧٩١م في النقاط التالية:
- أولًا: هي تأويلية أصيلة تجد في العقل العملي مجالها الشرعي الوحيد وفي الأفق الأخلاقي للإنسان غاياتها القصوى وفي التاريخ الروحي للبشر مجازًا أصيلًا يجوِّز العبور من الفكرة الأخلاقية، مِثلما يُشرِّع لها العقل العملي، إلى الواقعة التاريخية الحية.
- ثانيًا: هي تأويلية أصيلة، وقد نجد في عبارة شاعت تحت قلم كارل أوتو آبل، أي عبارة «تأويلية مُتعالية»، استبصارًا أصيلًا بمقصد كانط: إذ هي تنبني على شروط الإمكان الثاوية في العقل العملي الخالص بعيدًا من ضروب الخرافة أو المعجزة أو شتَّى الأوهام البشرية الحالمة.
- ثالثًا: هي إذن تأويلية أصيلة مُتعالية تحفظ كرامة الفلسفة ولا تُبقي من الدين إلا ما تراه صالحًا لمنافع العقل وغاياته السامية.
- رابعًا: وهي تأويلية أصيلة مُتعالية لأنها قائمة على مكاسب الفلسفة المُتعالية التي تدحض كل ادِّعاء بإمكانية تخطي العقل البشري حدود التجربة البشرية المتناهية، لأن في ذلك خطر السقوط في الدوغمائية والمذهبية بأشكالها، مثلما ينتبه إلى ذلك، بعد كانط، روَّاد نقد الأيديولوجيات من قبيل أدرنو وماركوز وهابرماس.
- خامسًا: وهي تأويلية أصيلة مُتعالية تحفظ العنصر الأصيل الخالص في الإنسان، وتُعَوِّلُ على قُدرته في سدِّ الطريق أمام كل أوهام العقل الناجمة عن التطرف بأشكاله: لاهوت متطرف أو مادية بلا روح.
- سادسًا: وهي تأويلية أصيلة متعالية تنقلنا من علاقة تقليدية مع المقدس إلى علاقة حديثة معه، فلا ينبغي على البشر أن يستعملوا من المقدس إلا بقدْر ما ينفع الناس، أما ما تبقى فليس من شأن البشر أصلًا.
- سابعًا: هي تأويلية أصيلة مُتعالية تُحولنا من تبريرٍ للشر عن طريق الحكمة الإلهية مُستلفةً بذلك من الله ما به يُسدد الشر ضعفهم وخطاياهم التي لا تُحصى عددًا، إلى تأويل للشر البشري بوصفه فعلًا ناتجًا عن حرية الإنسان نفسها.
E. Kant, Œuvres Philosophiques I, Paris, Gallimard, 1980, p. 970.
E. Kant, Ibid., p. 1425.
Ibid., pp. 1364–1376.
E. Kant, Œuvres philosophiques II, Paris, Gallimard, 1985, pp. 863 sq.
ونجد لدى فيلوننكو Philonenko رأيًا مُشابهًا، نجد له صدًى في كتابه الهام حول مؤلَّف كانط حيث يلاحظ فيلوننكو غياب مقولة الشر الجذري في المؤلَّفات النقدية التي لم يكن كانط ليشتغل فيها إلا على مفهوم الواجب المحض؛ ذلك لأن الشر هو بالضبط «عجز البشر عن تحويل قواعد أفعالهم إلى قوانين كونية.» وهو عجز لا نعثُر عليه إلا في التجربة التاريخية للبشر وعليه يُمكننا التمييز لدى كانط إذن ما بين منطقة النقد المُتعالية ومنطقة التاريخ في شروره الجذرية وأمبيريقيته المُطلقة. قارن في هذا الشأن:
A. Philonenko, L’œuvre de Kant, II, Paris, Vrin, 1972, pp. 224 sq.
E. Kant, Œuvres philosophiques, I. op. cit., p. 751.
Leibniz, op. cit., pp. 9–19.
E. Kant, Œuvres philosophiques, op. cit., I, p. 318, II, p. 929, III, p. 170.
Leibniz, Essais de théodicée, op. cit., pp. 116-117.
Leibniz, op. cit., p. 117.
E. Kant, Œuvres philosophiques I, op. cit., p. 728.
Leibniz, op. cit., pp. 164–261.