هانس جوناس١ ضد كانط: إتيقا المُستقبل أو تشخيص لخيبة أمل فلسفية
تقديم
يتميز الوضع الإتيقي المعاصر بضربٍ من المفارقة المُحرجة ما بين زحم النظريات الإتيقية وتنوُّعها من جهة، وضرب من «الفراغ الإتيقي» أو «ضياع البراديغم» الذي من شأنه أن يُوجِّه الإنسانية الحالية الوِجْهَة الكفيلة بضخامة تكنولوجيا عصر التقنية وهول نتائجها من جهةٍ أخرى.
كيف السبيل إلى إتيقا أصيلة في حجم تكنولوجيا العصر؟ ويبدو أن هذا السؤال قد بقي في مقام السؤال ما دامت الإجابات الحاضرة لم تفلح بعد في فرض براديغم إتيقي يفي بحاجة الإنسانية الحالية إلى إتيقا كفيلة بمواجهة عصر التقنية.
ذلك هو المقام الإشكالي الذي ارتضته إتيقا المسئولية لهانس جوناس أحد تلاميذ هيدجر: هل انشغل جوناس بالإتيقا بدلًا من أستاذه الذي ارتأى فيها انشغالًا قد فات أوانه؟ أو ليست كل إتيقا بوصفها شأنًا فلسفيًّا. إنما تأتي دومًا متأخرة بالنسبة إلى عصرها؟
ونحن أيضًا أمام مسئولية تجد في نموذج مسئولية الآباء على أبنائهم نمطية خاصة، هي مسئولية لا يُسأل فيها الجميع إنما هي حِكر على الساسة والمثقفين.
وهي مسئولية أنطولوجية تقوم على تصوُّر غائي للطبيعة وتهدف إلى إعادة الاعتبار للتصوُّر الأرسطي القديم للعالم وإلى سدِّ الهوة بين الطبيعة والحرية وبين الوجود والواجب وذلك ضد كل الجهد الذي قامت به العصور الحديثة لتفسير علمي للظواهر لا مكان فيه لأية كيفيات خفية. فأي مستقبل لإتيقا مُضادة للحداثة؟
تلك هي إحراجات إتيقا المستقبل التي نُشخِّص عبرها جملةَ خيباتِ أملٍ فلسفية لإتيقا تُنظِّر لمُستقبل من دون أمل، وفي لغة الأمر القطعي الكانطي لإتيقا الماضي التي لم تعُد تستوفي هيئة المُستقبل، وهي تقوم على مسئولية لا تسأل أحدًا خارج دائرة فئة مُختارة من الساسة والمُثقفين، أي أولئك الذين صارت المسئولية عندهم مهنةً يتقاضون عليها أجرًا. أما الإنسان المواطن الذي دفع الثمن باهظًا كي يصير كذلك، فطفل سلبي رجع يرزخ تحت ثقل صورة الأب، أو الكاهن أو الملك الراعي … وكلها صور عبودية طلقتها الإنسانية منذ زمن … فلِمَ هذا الرسم وتلك اللوحة المُلطخة بالجراح؟!
هذا المقال ينقسِم إلى لحظاتٍ ثلاث: في الأولى نترك فيها المجال لنظرية المسئولية نفسها فنستعرض مقوماتها ونرسم معالمها كما ارتضاها جوناس بنفسه. أما في اللحظة الثانية فنرسُم حدود إتيقا هانس جوناس بالنظر إلى المساهمات الفلسفية الحديثة الكبرى (كانط، نيتشه وإرنست بلوخ).
وفي اللحظة الثالثة نستعرض حدود هذه الإتيقا بالنظر إلى إتيقا النقاش لآبل.
(١) مقومات إتيقا المستقبل
(١) ضمن أي أرشيف فلسفي يُقيم هذا الكتاب باحثًا لنفسه عن أرض إتيقية بِكر يرى صاحبنا ألَّا فيلسوف قبلَه سبقه إلى غزوها؟
مبدأ المسئولية: كتاب إتيقا موجَّهة إلى الحضارة التكنولوجية الحالية أراده صاحبه «بوصلة» تقترح على الإنسانية الحالية كيف التوجُّه في مجال العمل الوجهة الكفيلة بضمان شروط إمكان إقامة مُستقبلية في عالم تُهدد التكنولوجيا الحالية باستنفاد موارده وتشويهه بل وبانقراضه.
إما أن نفعل وفق اقتناع بمبادئ الفعل من دون احتساب لنتائجه وذلك كمِثل رجل الدين أو النقابي المُحتج أو السياسي المُعارض، وإما أن نفعل إثر تحسُّب دقيق لنتائج أفعالنا وتنبُّؤ بتأثيراتها البعيدة على الإنسان بعامَّةٍ بين هذَين النموذجَين من التوجُّه الإتيقي في الفعل البشري تقوم إذن هوة سحيقة، وهي تلك التي تُقابل ما بين المُتعصب لدينٍ أو المتحزِّب لمذهب أو المُعتصم بأمة وآخر يُريده ماكس فيبر مسئولًا عن أفعاله مُحتسبًا لنتائجها ولمخاطرها البعيدة.
ضمن أية جهة إتيقية يمكن لكتاب مبدأ المسئولية لهانس جوناس أن يُقيم إذن؟
مبدأ المسئولية: يريده جوناس إتيقا أصيلة بريئة من سقم ما يُسميه إتيقا الماضي التي وفق اعتباره فشلت في مقاربة سويَّة للفعل البشري باعتباره مبادئ ونتائج في آن. كيف المصالحة في أفعالنا إذن ما بين مبدأٍ ذاتي ومسئولية أنطولوجية تجاه الإنسانية بل تجاه المُستقبل والوجود برمَّته؟
لعل هذه المعضلة دفعت جوناس إلى العودة إلى كانط ناحتًا مَبدأه الإتيقي على منوال الأمر القطعي الكانطي. لكن إذا كان الأمر الأخلاقي الكانطي يقول:
مسافة نظرية كبيرة تفصل ما بين ميتافيزيقا الواجب المتعالي اللاتاريخي وميتافيزيقا الوجود في زواله وحدثيته وقابليته للاندثار والفساد: تلك الفاصلة ما بين ميتافيزيقا عقل الأنوار وأنطولوجيا فينومينولوجيا المسئولية.
(٢) لماذا نحت جوناس مبدأه الإتيقي إذن في لغة كانطية لم تعُد قادرة على استيفاء هيئة إتيقا المستقبل؟
إن ما تعلَّمه جوناس من هذا الكتاب الفلسفي الأول في حياته الفكرية أمران أساسيان: الأول إمكانية التعويل على الأخلاق في اتجاه توجيهٍ ناجع للفعل البشري في علاقته بالعالم. أما الثاني فهو ضرورة تأسيس الأخلاق على مبدأ أُسس مُلزِم كوني سمَّاه كانط الأمر القطعي للواجب وسمَّاه جوناس الأمر الأنطولوجي للمسئولية.
لقاء نظري سعيد يجمع بين هذين المُصنفين في الأخلاق لكن بينهما تقوم مسافة تُقاس بقرنَين من الزمن من عمل العقل وعودته المُستمرة على نفسه مُتدبِّرًا أمر بيته الفلسفي. هي المسافة الفاصلة بين ميتافيزيقا الذات وميتافيزيقا الوجود، أي بين أخلاق الواجب المُتعالية اللاتاريخية التي تستقي مبدأها الأسمى من مبادئ ماقبلية في العقل البشري، وبين إتيقا المسئولية التي تتجذَّر في صميم التجربة البشرية التاريخانية.
إلا أن جوناس لئن تدرب على تعديل أوتاره الفلسفية داخل كتاب كانط في الأخلاق، ولئن شرَّع لإتيقا المسئولية في لغة الأمر القطعي الكانطي، فإنه يقترح إجراء تحوير جذري على الصياغة الكانطية، من أخلاق مبادئ بلا أنطولوجيا، إلى إتيقا مسئولية تستقي شروطها من رؤيةٍ أنطولوجية متكاملة. إن جوناس يعيب على كانط أنه بقي تحت سحر معقولية عصر الأنوار الطوباوية القائمة على وَهْم التقدُّم بالإنسانية نحو إمكانية اكتمالها.
في حين تفرض علينا التكنولوجيا الحالية أن نتواضع أكثر في آمالنا، المطلوب من إتيقا المستقبل هو الاشتغال على مبدأ إتيقي كفيل بالمحافظة على الإنسانية في وجودها نفسه، وهو أمر لم يكن مطروحًا أبدًا على مفكري عصر الأنوار.
إن عيوب الأخلاق الكانطية كما تأولها جوناس وأراد تجاوزها هي التالية:
-
(١)
إن الأمر القطعي الكانطي هو أمر قائم على اعتبار منطقي أكثر من قيامه على شروط أخلاقية. ذلك أن عبارات من قبيل «أفعل – يحب – يمكن» الكانطية إنما لا تطلب غير التوافق بين نداء العقل العملي وقاعدة الفعل التي تنبع من تشريع كوني قبلي.
-
(٢)
إن التصور الكانطي للأخلاق لا يضع في حسبانه البتة إمكانية أن يكفَّ النوع البشري يومًا عن الوجود … فهي فلسفة لم يكن بوسعها أن تضع في اعتبارها أبدًا إمكانية أن تكون سعادة الأجيال الحاضرة إنما هي قائمة على تعاسة الأجيال القادمة.
-
(٣)
إن الأمر الأخلاقي الكانطي يبقى محدودًا لأنه يتوجَّه إلى الفرد، فهو أمر أخلاقي ظرفي فحسب لا يستطيع أن يُدخل في اعتباره النتائج البعيدة للفعل الأخلاقي، فأخلاق كانط هي أخلاق مبادئ لا تستوفي ماهيتها من مسئولية موضوعية مرتبطة بالتجربة وبالتاريخ البشري إنما من مبادئ ماقبلية لذات مستقلة مُتعالية.
-
(٤)
لقد كان الحدس الأخلاقي الكانطي، في عبارات جوناس نفسه، أكبر مما أملاه عليه منطق نسقه الأخلاقي. لم تستطع فلسفة كانط الأخلاقية أن تكون إذن في حجم «جلالة حدسه الأخلاقي الذي أراد أن يُعبِّر عنه الأمر القطعي نفسه.»٢٢ أما عيوب الأخلاق الكانطية التي لا تُغتفر فهي:
في إحصاء جوناس ثلاثة:
-
(١)
صورية القانون الأخلاقي وخلوه من أية دلالة أنطولوجية.
-
(٢)
اعتبار الطبيعة مُحايدة من وجهة نظر إتيقية.
-
(٣)
الفصل ما بين الواجب والوجود. ضد هذه الثغرات التي تتخلل أخلاق كانط يقترح جوناس — وذلك في إطار النقلة التي يقترح إنجازها من نموذج ترنسندنتالي إلى تمثل إيكولوجي للإتيقا — أن يؤسس الإتيقا على الأنطولوجيا.
إن إتيقا المسئولية تقترح بذلك مهمة جديدة على إتيقا المستقبل: معالجة الهوة الفاصلة بين الوجود والواجب؛ بين ما يُوجد في تجربتنا الحديثة التاريخية المباشرة وما ينبغي أن نفعل من أجل المحافظة على هذا الوجود وهذه التجربة وذاك المستقبل.
إن الطبيعة التي يُحدِّثنا عنها جوناس إذن ليست هي ذات الطبيعة التي تصورها العقل الحديث بوصفها موضوع معرفة علمية، فهذا التصور الغائي للطبيعة الذي توهَّم العقل الحديث طردَه منذ ديكارت، يسترجعه جوناس في اتجاه اعتبار الطبيعة موضوعة إتيقية ينبغي أن تدخل ضمن إتيقا المسئولية. هذا التصوُّر يمكن أن نُلخِّصَه في النقاط التالية:
-
يَعتبر جوناس أن الطبيعة تتضمن ضربًا من الغائية المبثوثة في أدنى عناصر الحياة وصولًا إلى أقصاها أي الإنسان بوصفه كائنًا حرًّا صانع غايات؛ فالإنسان يسكنه هاجس غائي دائم هو هاجس تحويل المادة من أجل المحافظة عليها أي بغاية مقاومة اللاوجود.
-
إن الطبيعة البشرية تشارك الطبيعة الحيوية نفس نمط الوجود؛ أي قوة التجدد في الكائن الحي وهو أمر يُعبِّر عنه الإنسان من خلال تحويله المُستمر للمادة إلى موضوعات غائية لمقاومة العدم.
-
إن إتيقا جوناس تعطي مملكة الكائنات الحية قيمةً في حدِّ ذاتها. ها هنا يصير النبات والحيوان من منزلة أداتية محضة (موضوعات تجربة) إلى موضوع لمسئولية الإنسان.
-
إنه لم يعُد من واجبنا إذن أن نفعل في اتجاه خير الإنسان فحسب، إنما ينبغي علينا التفكير أيضًا في خير الأشياء الخارجة عنا، لأنها هي بما فيها يكون وجودنا مُمكنًا، ومن دونها قد نتحول إلى عدم.٢٦
إن مبدأ المسئولية إذن يشتق دلالته من تصور أنطولوجي عام يؤسسه جوناس على أولوية قطعية مُطلقة للأمر التالي:
«إن إنسانية ما تكون.» لكن أي تصور للإنسانية يعمل في اتجاهه مبدأ المسئولية؟ من المسئول فينا ومن السائل؟ ها هنا نعثر على إجابة لجوناس اعتبرها النقاد والمفكرون بعده ثغرة أساسية في تصوُّره لإتيقا المسئولية. ذلك أن المسئولية عنده إنما هي علاقة قائمة على عدم التماثُل بين السائل والمسئول: إنها مسئولية الأنا تجاه آخر لا ينبغي عليَّ أن أُطالبه بمسئولية مُماثلة. إن الآخر الذي أسأل عنه لا يُماثلني فهو ليس بعدُ أنا، لأن هذا الآخر لم يوجَد بعد، إنه يسكن المُستقبل وأنا فقط من ينبغي أن يعمل في اتجاه ضمان وجود هذا الآخر في المستقبل. إنها مسئولية تجاه الأجيال اللاحقة، أي تجاه المستقبل. إلا أن هذا المستقبل لم يوجَد بعد.
هل هي مسئولية تجاه اللاوجود؟
-
المسئولية الطبيعية وهي مسئولية الآباء على أبنائهم.
-
المسئولية التعاقدية: أي القائمة على عقدٍ من قبيل ذلك القائم بين الموظف وصاحب العمل.
-
والمسئولية السياسية وهي مسئولية السائس على المسوس ضمن المجتمع المدني.٢٨
لكن أي الأنماط يصلح نموذجًا للمسئولية الأنطولوجية التي يبحث عنها جوناس؟
هكذا يُظهر جوناس أن نموذج المسئولية الأصيل إنما يتجلَّى أمام أعيُننا في الطبيعة نفسها، فلِمَ نبحث عنه بعيدًا ولِمَ نُفرِّط فيه إذن؟
إن إتيقا المسئولية لا تبحث إذن عن موضعها النموذجي في العلاقات بين كهول راشدين ذوي ذواتٍ مُتماثلة وحقوق مُتساوية، إنما تستقي نموذجها من العلاقة التي وهبتها لنا الطبيعة بين الآباء وأبنائهم.
لكن إلى أي حدٍّ يمكن اعتبار شعوب برمَّتها أطفالًا/أبناءً لساسةٍ/آباءٍ لهم … وأية أُبُوَّة سياسية ما زالت مُمكنة في حضارة طلَّقت هذه الأشكال من الوصاية والعبودية للنوع البشري منذ قرون من الزمن؟
(٣) إتيقا الخوف من المستقبل
يتعلق الأمر بالمبدأ المنهجي الأساسي الذي تقوم عليه إتيقا المسئولية، أي مبدأ استكشافية الخوف وهي فرضية عمل أساسية عليها ينفتح الكتاب (١٩٧٩م) وإليها ينتهي. تتمثل هذه الفرضية في الانطلاق من استباقٍ وتنبؤ بالكارثة من أجل اتخاذ الوجهة الكفيلة باجتناب وقوعها. هذا المعنى يأتي جوناس على ذكره على امتداد الكتاب في صياغات مختلفة نذكر أهمها:
-
إن التنبؤ بما سيحدُث للإنسان — من جرَّاء هذه التكنولوجيا العمياء — من تشويهٍ وفساد هو وحده الكفيل بأن يهدينا إلى مفهوم الإنسان القادر على وقايتنا من كارثة كهذه.٣٠
-
طالما بقي الخطر لدَينا أمرًا غير معروف، فإننا سنبقى على جهلٍ بما ينبغي حمايته ولِمَ ينبغي علينا ذلك، فعلى عكس كل منطق وكل منهج، تنبع المعرفة في هذا المجال (الإتيقي) ممَّا يضاد ذلك الذي ينبغي علينا أن نحمي أنفسنا منه.
-
فالتعرف على الشر إذن لأَيْسَرَ لدَينا من التعرف على الخير. إن الشر لهو الأكثر ظهورًا وكثافة وهو بذلك أكثر إحراجًا لعقولنا من الخير. وربما يكون بوسع الإنسان أن يعيش في غياب الخير الأسمى، لكن ليس بوسعنا أن نحيا في حضور الشر الأسمى. إن تخمينًا وتنبؤًا سيئًا لَأكثَرُ نجاعة لنا ها هنا من أي معرفة بالخير والعدل والقِيَم النبيلة.
-
وبالتالي إن مغامرة التكنولوجيا بما فيها من مخاطرة قصوى تتطلَّب إذن مجازفة تفكير قصوى في حجمها.
ماذا نفهم من «استباق الكارثة» الذي يُعوِّل عليه جوناس بوصلةً تهتدي بها إتيقا المسئولية؟ هي ضرب من حالة الاستنفار القصوى التي تُخلفها هذه النظرية الإتيقية في اتجاه إنذارٍ للإنسانية وإقناع لرجال السياسة بضرورة الوعي بالخطر المُحدق بحضارة عصر التقنية، وكأننا أمام بيداغوجيا للأطفال.
إن الخوف ها هنا يكفُّ عن أن يكون مجرد حالة نفسية فردية، ويكف الخوف أيضًا عن أن يكون خوفًا من المرض، أو من الألم أو من الموت أو من الفشل … أو من أي سببٍ شخصي. إنه خوف كوني من النتائج المجهولة للتكنولوجيا الحالية التي تُهدِّد الحياة على الأرض … هو خوف من المستقبل.
(٢) إتيقا المستقبل ما بين يوطوبيا بلوخ وجينيالوجيا نيتشه
إن كتاب «مبدأ المسئولية» وإن استقى شروط إمكانه من الحضارة التكنولوجية الحالية فإنه كتاب يريد صاحبه مُصمِّمًا مثاليًا أوحدَ لإتيقا المستقبل. لكن كيف يُحدثنا جوناس عن المستقبل؟ يتعلق الأمر بالتبشير لمستقبل من دون يوطوبيا، أي من دون حلم ولا أمل. وماذا يتبقى حينها من المُستقبل غير الخوف من الكارثة أو انتظار العدم؟
لقد صاغ جوناس كتابه إذن على منوال عنوان كتاب «مبدأ الأمل» لأكبر العقول المصمِّمة لليوطوبيا الحديثة أي إرنست بلوخ. ﻓ «مبدأ المسئولية» هو إذن الرد المباشر على اليوطوبيا الماركسية التي يمثلها إرنست بلوخ في تصوُّره للمستقبل بوصفه قائمًا على مبدأ الأمل.
فيمَ تتمثل هذه اليوطوبيا الماركسية التي يعتبرها جوناس أخطر فلسفة حدثت عن المستقبل؟
إنها الفلسفة التي أخذت على عاتقها مهمة الدفاع عن المساواة بين البشر وعن تحقيق مجتمعاتٍ لاطبقية شرطًا وأفقًا لخير الإنسان وسعادته في المستقبل.
لكن أي بديل يُقدمه لنا جوناس لهذه اليوطوبيا القائمة على أيديولوجيا التقدم التي تصوِّر لِمُستقبل تهدِّده الكارثة. إنه يدعونا بذلك إلى التخلص من الأمل للتلبُّس بالخوف والرعب واليأس. إن منظر إتيقا المستقبل إنما يستبدل ها هنا قيمة سيكولوجية موجبة وناجعة هي قيمة الأمل، بقيمة سيكولوجية سالبة ومُدمِّرة وسوداوية. أوليست أحاسيس الخوف والرعب واليأس سوى مشاعر ارتكاسية قد لا تُبقى من النوع البشري غير الانتحاريين والعدميين؟ وماذا يكون المستقبل من دون أمل غير مُستقبل بلا أفق؟
إلا أن فلسفة نيتشه المضادة لليوطوبيا تنتهي في تأويل جوناس إلى فلسفةٍ لا تؤمن بالمستقبل، لذلك يفضل جوناس يوطوبيا ماركسية تأمُل في المستقبل على جينيالوجيا نيتشه التي تهدف إلى اقتلاع كل فلسفات الأخلاق من جذورها الأولى، مُشتغلة بذلك في أفق فلسفة أبعد من الخير والشر. ولا نعلم بأية حجة فلسفية أدخل جوناس إذن فلسفة نيتشه في أفق أخلاق المسئولية، والحال أنه يعلم جيدًا أن نيتشه فلسفة مضادة لمشروعه برمته وذلك لسببَين: أن نيتشه لا ينخرط البتة في أية حملة من حملات التبشير بالمستقبل: ماركسية كانت أو لاهوتية. ولأن نيتشه هو العدو اللدود لفلسفة المسئولية، إنه «فيلسوف اللامسئولية» على الإطلاق، كما يُصرِّح بذلك جوناس نفسه.
إن ما بين عدمية نيتشه وأنطولوجيا جوناس يجد كانط مكانه، والواجب الأخلاقي منزلته في مقابل مبدأ المسئولية، وهو الأمر الذي حدا بجوناس نفسه إلى التعبير عن إتيقا المستقبل في لغة الأمر القطعي الكانطي.
ويمكن إحصاء نقاط الفرق ما بين أخلاق الواجب وإتيقا المسئولية فيما يلي.
-
(١)
هو الفرق بين الواجب الذي ينبع من الإنسان بوصفه مُشرِّعًا لأفعاله لأنه يستوفي ماهيته من حريته والمسئولية التي تؤثم من دون اعتراف بأية حرية للإنسان.
-
(٢)
هو الفرق بين فلسفة الأمل في تقدُّم الإنسان نحو السعادة والفضيلة وإتيقا الخوف من الكارثة.
-
(٣)
هو الفرق بين فلسفة الإنسان وإتيقا الرعاع.
(٣) حدود «مبدأ المسئولية» في أفق الإتيقا المعاصرة
-
(١)
أما الجهة الأولى فتتعلق بطبيعة هذه الإتيقا بوصفها تنتمي إلى جنس المشاريع التأسيسية الكونية المُطلقة للفعل البشري. إن مشروع جوناس ما زال يعتقد في إمكانية التأسيس للإتيقا تأسيسًا ميتافزيقيًّا كونيًّا مطلقًا، وهو معني عودته إلى كانط مُتملِّكًا لصياغته المتعالية لمبدأ أخلاقي مطلق يعتقده جوناس كفيلًا بتوجيهٍ ناجع للفعل البشري المُدجَّج بآخِر تكنولوجيا العصر الحالي. لقد كان جوناس يعتقد أن إتيقا في ضخامة التكنولوجيا الحالية ينبغي أن تؤسَّس بصفةٍ مُطلقة وكونية ضمن «الميتافيزيقيا بوصفها مذهبًا في الوجود.»٤١ إلا أن تأسيسًا فلسفيًّا عقليًّا وكونيًّا صار اليوم أمرًا قابلًا للنقد، بل هو ينتمي إلى عصر كلاسيكي تجاوزته كبار العقول الفلسفية المُعاصرة، تلك التي يسكت عنها جوناس إهمالًا أو تجاهلًا أو لا مبالاة — وكلها لا تُبَرِّئ ذمته بأي حالٍ من الأحوال — ونذكر من هذه العقول: فيتنجنشتاين (Wittgenstein) وما يُسمَّى بالتذويب اللغوي للميتافيزيقا، هيدجر وما يُسميه بتحطيم تاريخ الأنطولوجيا، دريدا ومشروع تفكيك الأنطولوجيا. وأما مَن لا يزال ينخرط ضمن مشاريع التأسيس للفعل البشري من جنس كارل أوتو آبل فإن مشروعه الإتيقي ينبني على الاعتراف بطبيعةٍ حوارية حجاجية ذاتية لكل معقولية ولكل خطاب بشري. وهنا تظهر إتيقا جوناس في مرآة إتيقا آبل ضربًا من المناجاة الذاتية المُغلقة على نفسها وعلى فرضياتها الكلاسيكية التي تجاوزها الزمن المعاصر للفلسفة. فبالرغم من أهمية نظرية المسئولية التي يعتبرها آبل من أهم المشاريع الإتيقية المعاصرة التي ينبغي أخذها «مأخذ الجد»٤٢ فإن إتيقا جوناس التي تعتقد في إمكانية استنباط الواجب من الوجود إنما تسقط في مُغالطة منطقية وهي بذلك تنتهي في عيون آبل إلى إتيقا غير قادرة على استيفاء تأسيس للفعل البشري.وهنا نشهد كيف تتجاوز إتيقا آبل، التي تعتبر نفسها إتيقا للنقاش مقترنة بالبُعد التاريخي للمسئولية، إتيقا المسئولية لجوناس التي سقطت في ضرب من «الميتافيزيقا الدوغمائية».٤٣ يعتبر آبل إذن إتيقا جوناس، وإن كانت تُكْمِل إتيقا المبادئ الكانطية وذلك من جهة إضافة عنصر التاريخ الذي بالغ كانط في إهماله، إلا أنها من جهة التأسيس لمبدأ كونية العدالة، تأسيسًا متعاليًا وحرًّا من الميتافيزيقيا في آنٍ معًا، تسقط هذه الإتيقا فيما قبل أفق الأخلاق الكانطية٤٤
-
(٢)
أما العيب الثاني فينكشف في تصوُّر جوناس للطبيعة بوصفها منظومة من الغايات، وهنا ينكشف مشروع جوناس مرتدًّا بنا إلى تصوُّر مضاد للتصور الحديث للطبيعة؛ فالطبيعة مأخوذة ها هنا في معنًى أرسطي حسمت فيه الفلسفة الحديثة منذ ديكارت وكانط وهيجل. وحتى كانط الذي خصَّص للغائية كل القسم الثاني من نقد ملكة الحكم (١٧٩٠م) فإن الغائية عنده بقِيَت في مستوى قرارٍ متعالٍ لمِيتافيزيقيا «كما لو أن» حيث يكون للغائية ضربًا من المنزلة التي للأفكار الناظمة في مجال العقل النظري.
-
(٣)
أما العيب الأساسي لإتيقا المسئولية فهو التصوُّر الكوارثي الذي يتبنَّاه جوناس للتكنولوجيا الحالية. حيث يبدو جوناس وكأنه لا يُدرك أو هو لا يريد أن يُدرك غير الوجه السلبي تمامًا من التقدم التكنولوجي لعصر التقنية. لنفرض أنه أقنعنا بذلك فلِمَ يرفض أن يرى في الكارثة والهوة والعدم جزءًا من ماهية الإنسان ومن نمط إقامته في العالم بوصفه كائنًا قادرًا على تحمُّل وجوده وعلى تغييره بكل حرية؟ أليس الإنسان ضربًا من التناقُض ما بين القدرة على الوجود وعلى العدم والكارثة في آن؟ لِمَ لا نتركه إذن يعيش مغامرة الحلم والكارثة؟ لِمَ نفرض عليه منطقًا لمسئوليةٍ تجد نموذجًا في وصاية الإله-الأب، نموذج لِمَ يعُد قادرًا على إقناع الإنسانية الحالية؟
-
(٤)
وهنا نصل إلى الضريبة الكبرى لإتيقا المسئولية، أي مبدأ عدم التماثل بين السائل والمسئول وهو مبدأ قد يعرض الأمر القطعي الأخلاقي للمسئولية إلى اعتراض يكشف آبل عن خطورته: إتيقا جوناس تفسح المجال أمام إمكانية تطبيقها من طرف إتيقا عنصرية. إن مبدأ المسئولية لا يستطيع، في تأويل آبل له، أن يؤسس لحق المساواة بين جميع الناس: مثلًا لسكان العالم المتقدم بالنسبة لسكان العالم الثالث.
ما موقعنا إذن — نحن سكان العالم الثالث — من مبدأ المسئولية لجوناس، ذلك أنه لا يسأل ها هنا إلا من له القدرة على موضوع المسئولية: وبخاصة أن القدرة هنا هي قدرة عملية تكنولوجية أساسًا؟
خاتمة
أي مستقبل لإتيقا جمعت ضدها ألمع عقول الفلسفة الحديثة والمعاصرة: كانط وماركس ونيتشه وآبل؟ إنها إتيقا مضادة لكل أملٍ؛ لذلك أيضًا هي إتيقا خيبات الأمل الفلسفية التي يمكن إحصاؤها كما يلي:
- أولًا: هي خيبة أمل فلسفية بالنسبة إلى فلسفة الأخلاق الكانطية وذلك بتشويهها لمبدأ الواجب الإنساني بمبدأ المسئولية الكهنوتي.
- وثانيًا: هي خيبة أمل فلسفية بالنسبة إلى يوطوبيا إرنست بلوخ وذلك بتحطيمها لمبدأ الأمل واستبداله بمبدأ الخوف من الكارثة.
- وثالثًا: هي إتيقا مُخَيِّبة لآمال نيتشه حيث تعود بالإنسانية من جديد إلى جلباب الكاهن وجدران الكنيسة آمِلًا في صكوك غفران جديدة.
- رابعًا: وفيها يُخيِّب جوناس آمال آبل وهابرماس حيث تصير الإتيقا عنده إلى ضربٍ من المناجاة الذاتية التي لا تدخل في حسبانها العلاقة مع الآخر من جهة براديغم اللغة وإتيقا النقاش وفرضية الفضاء العمومي.
- خامسًا: وفيها يُخيِّب هانس جوناس آمال التكنولوجي حينما يصِف كل هذا الجهد البشري في التقدم بالإنسان وفي صنع مصيره بوصفه الكارثة والشر الأقصى.
- سادسًا: وهي إتيقا تُخيِّب آمال العلماء حينما ترتد بهم إلى تصور غائي للطبيعة كنسته العلوم الحديثة من العقل البشري منذ زمنٍ بعيد.
- وسابعًا: هي إتيقا تُخيِّب آمال المواطن نفسه بوصفه مواطنًا نشيطًا في المجتمع المدني وذلك بسعيِها إلى اعتباره رعية/أبناء يرزحون تحت وصاية الحاكم/الأب. وبخاصة أن هذا المواطن قد دفع الكثير كي ينزع عنه جُبة الرعاع ويصير إلى مواطن حُر يشارك في بناء الفضاء العمومي وسياسته.
على الرغم من أن عبارة «إتيقا المسئولية» إنما هي استحداث فلسفي من نحت ماكس فيبر، فإن قارئ هذا المُصنف الإتيقي الضخم، أي مبدأ المسئولية لجوناس، (ص٣٢٨) لا يُعثر فيه على ذكر لاسم هذا الرجل (فيبر) إلا مرَّتَين يتيمتين: في المرة الأولى التي يأتي فيها جوناس على ذكر فيبر (ص١١٢) عرضًا وبين قوسَين، وذلك في سياقٍ ينقد فيه جوناس العلم الحديث بعامة ودُعاة نزع القداسة عن العالم بخاصة، حيث يبدو ماكس فيبر لجوناس أهمهم. أما في المرة الثانية فيتكرم فيها جوناس على ماكس فيبر فيُخصص له هامشًا مطولًا يستنكر فيه انتصار هذا الأخير إلى عقلانية العصور الحديثة القائمة على المُحايدة الإتيقية للطبيعة وعلى أطروحة «العلم الحُر من كل قيمة» وهي في اعتبار جوناس أبشع عيوب هذه العدمية الفلسفية التي أصابت العقل الحديث من ديكارت إلى نيتشه. انظر المصدر نفسه، ص١٢٧.
وهنا نستنكر على جوناس تجميعه لفلسفاتٍ مختلفة لا تحمل نفس الانشغال الإتيقي في موقف إتيقي مُتجانس من قبيل جنيالوجيا إرادة القوة لنيتشه ووجودية القرار الأصيل لسارتر وأفق الأنطولوجيا الأساسية لهيدقير. حول علاقة جوناس بهيدجر انظر:
Dominique Janicaud, “En guise d’introduction à Hans Jonas,” in Esprit, 1988, 7-8, pp. 163–167.
ويتعلق الأمر بالباب الثاني من كتاب أسس ميتافيزيقا الأخلاق حيث يُخصصه كانط لبناء نظريته في الأمر القطعي بوصفها الأساس الميتافيزيقي نفسه لفلسفة الأخلاق.
وفيه يصرح جوناس نفسه إلى مُحاوره جرايش Greisch أي صاحب الترجمة الفرنسية للكتاب حول انشغاله بالغنوص موضوعًا لنيل دكتوراه. (١٩٢٨): إن انشغاله بالغنوص كان بمحض العرض والصدفة، وأن هيدجر هو الذي شجَّعه على اقتحام مثل هذا المجال الجذاب، وأن فلسفة الغنوص والدين بعامة صارت عنده منذ ذلك العهد إلى انشغالٍ دائم استغرق عنده حياة برمَّتها (المصدر نفسه ص٧).
كيف ينظر فيلسوف الغنوص إلى المسئولية الأخلاقية غير نظرة الكاهن إلى الخطيئة؟ لمزيد من التعرُّف على علاقة جوناس بالدين ورأيه فيه انظر:
Hans Jonas, “Heidegger et la théologie,” in Esprit 1988, 7-8, pp. 172–194.
F. Mann, “Un regard ratio-critique sur le rôle du sacré,” in Gilbert Hottois, op. cit., pp. 237–248.
Hans Jonas, “Technologie et responsabilité, pour une nouvelle éthique,” in Esprit, septembre 1974, n° 9, pp. 163–184.
A.-M. Roviello, “L’impératif kantien face aux technologies nouvelles,” in Hans Jonas: Nature et responsabilité, op. cit., pp. 49–68.
ويعلق دولوز على جينيالوجيا الأخلاق بوصفها تحتوي على أول سيكولوجيا للكاهن قائلًا: «إن ذلك الذي يعطي للضغينة شكلها، ذلك الذي يُوجه الاتهام ويتابع مسعى الانتقام وذلك الذي يتجرأ على قلب القِيَم، إنما هو الكاهن، وبوجهٍ أخص هو الكاهن اليهودي أو الكاهن في شكله اليهودي.»
G. Deleuze, Nietzsche et la philosophie, Paris, P.U.F, 1962, p. 144.
Nietzsche, La généalogie de la morale, Livre de poche, Librairie Générale Française, 1990, 2ème dissertation, § 2, 3ème dissertation, § 20.
Y. Yovel, Kant et la philosophie de l’histoire, Paris, Klincksieck, 1989.