الفصل الخامس

تحليلية الجميل أو في ذاتية الكوني عناصر الحداثة الجمالية لدى كانط

تقديم

لئن درج الفلاسفة القدامى على تقسيم الفلسفة إلى ثلاثة أنواع من العلوم، هي الفيزياء والإتيقا والمنطق،١ فإن الفلاسفة المُحدثين قد أدرجوا، ضمن مجال الفلسفة، ملكةَ تفكُّرٍ إضافية تحمل اسم «الإستطيقا». وعليه أصبحت الفلسفة لديهم «فلسفة نظرية» تتعلق بالطبيعة وتحمِل اسم «الميتافيزيقا»، و«فلسفة عملية» وتتعلق بالفعل البشري، وتُسمَّى «فلسفة الأخلاق»، و«إستطيقا»، وتخصُّ مجال «الإحساس» بعامة.٢

إن المُتأمِّل في هذَين الضربين من جغرافية الفلسفة يتبادر لذهنه للتوِّ السؤال التالي: ما الذي دفع بالمُحدثين إلى جعل الفلسفة تتسع إلى أكثر من ميتافيزيقا للطبيعة وميتافيزيقا للأخلاق، أي إلى اكتشاف الإستطيقا التي لم يشأ القدامى أن يرتفعوا بها إلى مرتبة العلوم الشريفة الجديرة باهتمام الفيلسوف؟ لِمَ احتاج الفيلسوف الحديث إلى اكتشاف مهارة تفلسفٍ إضافية، ألِنَقصٍ في أدوات الفلسفة التقليدية أم لِحدثٍ طارئ غيَّر طريقة تَمثُّل الإنسان لمكانته في العالم مما دفع بالفيلسوف الحديث إلى إعادة ترتيب البيت الفلسفي بعامة؟

إن غرضنا في هذا القول هو بيان شروط ولادة الإستطيقا بوصفها حدثًا فلسفيًّا تزامن في الفلسفة الحديثة مع ظهور إشكالية الذاتية أنموذجًا عبَّر به فلاسفة العصور الحديثة عن طريقة المحدثين في تمثُّلهم لمكانة الإنسان في العالم ولعلاقته بالطبيعة. إن ظهور الإستطيقا ليس إذن بالأمر الهجين ولا هي بخاطرة مرت بذهن السكولاستيكي الفيلولوجي الألماني ألكساندر غوتليب بومغارتن (Alexander Gottlieb Baumgarten)٣ بل ظهرت عن حاجة فلسفية إلى التفكُّر في مجالٍ أقْصَتْهُ الفلسفة التقليدية من اعتبارها، هو مجال المحسوس الذي لا يتمتَّع بشرَف المعقول.
لا يقصد هذا البحث إلى استعراض تاريخ اشتغال الفلسفة على الفن، إنما يطلب بيان شروط ولادة فلسفة الفن نفسها من جهة ما هي إستطيقا، أي من حيث هي قد أصبحت مقامًا جديدًا للتفكير في الفن ميَّز موقف المُحدثين عن موقف اليونان تمييزًا حادًّا. لذلك هو مدخل إلى فلسفة الفن، وفي معنى أدق هو مساءلة الفن من جهةٍ مُحددة هي مسألة «دخول الفن في أفق الإستطيقا»٤ بحسب عبارة لهيدغر، نحن نفهمها بوصفها إشارة إلى مولد الإستطيقا، أي إلى مولد الخطاب الفلسفي في الفن في ضوء إشكالية الذاتية، وذلك على وجه الخصوص مع كانط ضمن كتابه الشهير نقد ملكة الحكم؛ فإن كانط في هذا الكتاب قد استأنف القول في الجمال الذي سَنَّهُ بومغارتن تحت عنوان الإستطيقا، وذلك بقصد إعطائه أساسًا فلسفيًّا متعاليًّا. وهو ما صار اليوم مُقررًا بوصفه، بحسب عبارة غادمير، «ولادة الإستطيقا الفلسفية بالمعنى الأخص للكلمة وتأسيسها مع كانط».٥

ونحن في هذا البحث سوف ندرس أولًا مولد «الإستطيقا» لفظًا ثم مفهومًا؛ وثانيًا دراسة طبيعة العلاقة بين الإستطيقا والذاتية؛ وثالثًا وأخيرًا فتح الإستطيقا على مسألة التواصلية بعامة، انطلاقا من التسليم بأن الفن هو أعلى درجات التواصُل الكوني بين البشر.

(١) ما هي الإستطيقا؟

(١-١) مولد المفهوم لدى بومغارتن

(أ) اللفظ

ينطلق بومغارتن من المُماثلة التالية: كما أنه قد وقع نحت عبارة λοуɩκη (Logikè)، أي علم ما هو بَيِّن أو المنطق، من لفظة λοуɩκος (Logikos) أي ما هو بَيِّن أو المنطقي، كذلك يمكن نحت عبارة αισθητικη (Aisthètikè)، أي العلم بالمحسوس من لفظة αισθητος (Aisthètos) أي ما هو محسوس.٦ ولذلك فإن المعنى الحرفي أو الأوَّلي للفظة إستطيقا αισθητικη، Esthétique هو مرادف لما تعنيه لفظة Sentio في اللاتيني أي الإحساس بعامة، أي أكان ناجمًا عن حسٍّ ظاهر أو عن حسٍّ باطن.

(ب) المفهوم

إن الإستطيقا لم تُصبح مفهومًا أي مصطلحًا معتمدًا لتخريج دلالة أو مسألة فلسفية صارمة، إلا مع بومغارتن. وقد ظهر المفهوم لأول مرة في آخِر كتابه تأمُّلات فلسفية في بعض الموضوعات المتعلقة بماهية الشعر (١٧٣٥م)،٧ حيث اعتمد تمييزًا قديمًا بين αισθητα (Aisthèta) أي الأشياء المحسوسة، وνοητα (Noèta) أي الأشياء المعقولة، لتخريج مصطلح الإستطيقا، بحيث إذا كان القول في الأشياء المعقولة هو موضوع المنطق، فإن القول في الأشياء المحسوسة هو موضوع الإستطيقا. كذلك خصَّص بومغارتن في كتاب الميتافيزيقا (١٧٣٩م) اهتمامًا خاصًّا بالإستطيقا نزَّلها فيه منزلة أحد العلوم التي تتألَّف منها الميتافيزيقا إلى جوار علم النفس والمنطق.٨
أما في كتاب الإستطيقا نفسه (١٧٥٠م)، فإننا نجد في الفقرة الأولى من مُقدماته تعريفًا دقيقًا وجامعًا لموضوعها هو أن الإستطيقا تعني «علم المعرفة بالمحسوس»،٩ لكن هذا التعريف لا ينبغي أن يؤخَذ في معناه السائد، فإن بومغارتن يذهب بهذا التعريف مذهبًا طريفًا هو فهم المحسوس بوصفه يجد في ظاهرة الجمال كماله الخاص. إنه يفترض أن الجمال هو أكمل درجات المحسوس، ومن ثمة هو أحد أشكال الحقيقة، بل هو الحقيقة نفسها من جهة ما هي محسوسة. أن الإستطيقا هي إذن علم اكتمال المعرفة بالمحسوس.١٠ إنها تسمية ولا شك تُثير بعض الغموض عند المتفلسفة الذين تعودوا الفصل الحاد بين العلم والفن، وهو غموض جعل بومغارتن نفسه يتراوح في الإشارة إلى غرض الإستطيقا بأسماء مُتعددة ومُتباينة أحيانًا مثل «نظرية الفنون الحرة» أو «غنوصيولوجيا دنيا» (Gnoséologie inférieure) أو «فن جمال التفكير» (Art de la beauté du penser) أو «فن المُماثل للعقل» (Art de l’analogon de la raison).١١
وهذه القرابة التي أرادها بومغارتن بين الجمال والحقيقة، أي بين الإستطيقا والمنطق، قد أدَّت به إلى اعتبار الإستطيقا ضربًا من ميتافيزيقا الجمال. لقد كان مشروعه هو التأسيس الميتافيزيقي للقواعد الكلاسيكية للفن والذوق. وهي قواعد يجمعها بومغارتن لأول مرة في عرض منطقيٍّ تام.١٢

(٢) الإستطيقا والذاتية

إن قصدنا هنا هو أن نُبَيِّن كيف أن الإستطيقا قد أخذت مع كانط في صياغة بِنيتها الفلسفية الحاسمة، وهذا الدخول قد تزامن في الحقيقة مع تحول في بِنية الفلسفة نفسها، إذ إن الفلسفة مع كانط قد أفلحت أخيرًا، بعد محاولات ديكارت ولوك (Locke) وباركلي (Berkeley) وهيوم، في تأسيس المسائل الأساسية للفلسفة الحديثة على إشكالية الذاتية تأسيسًا داخليًّا. لذلك فإنَّ غرَضنا هو التساؤل عن هذا التزامن الذي حصل ما بين تأسس الفلسفة على الذاتية ودخول الفن في أفق الإستطيقا. وبعامة إن المطلوب هو معالجة هذه الصعوبة: ما هي طبيعة العلاقة ما بين الإستطيقا والذاتية؟

(٢-١) مفهوم الذاتية

إذا كانت الولادة الفلسفية لمسألة «الذات» (Sujet) ترجع إلى التأمُّلات الميتافيزيقية لديكارت (١٦٤١م) — وإنْ كنا قد أصبحنا اليوم نعلم أنه لم يستعمل هذا المصطلح بهذا المعنى وإنما عبَّر عنه بصيغة «أنا أفكر» — فإن صياغة الدلالة الحديثة لمصطلحات «الذاتي» و«الموضوعي»، ثم «الذاتية» و«الموضوعية» لاحقًا مع أقطاب المثالية الألمانية بدءًا من فيخته، إنما هو حدث متأخر جدًّا عن مولد الكوجيطو الديكارتي. فإن مؤرِّخي المسألة يُشيرون إلى أن بومغارتن١٣ هو أول من استعمل بشكلٍ صناعي صِفَتَي «الذاتي» و«الموضوعي» في دلالتهما الحديثة، حيث نقل مصطلحَي الذاتي والموضوعي من دلالتهما المنطقية، أي دلالة الحامل والمحمول، إلى دلالةٍ جديدة، بموجبها يدل الموضوعي على «الحقيقة الميتافيزيقية» والذاتي على «التمثيل (Représentation) الذي في النفس لما هو حقيقي من جهةٍ موضوعية».١٤
على أن مفهوم «الذات» ومن ثمة مصطلحات الذاتي والموضوعي، إنما لم تُصبح مستعملة استعمالًا صناعيًّا وصارمًا في دلالتها الحديثة إلا مع كانط ضمن نقد العقل المحض. ففي هذا الكتاب يعمد كانط ليس فقط إلى التوسيع من استعمالات مصطلح «الذات» ليشمل دلالات «الأنا» و«الأنا أفكر» و«الوعي» و«الوعي بالذات»، وبوجهٍ ما العقل الإنساني بعامة، بل هو يُقدِّم صياغة دقيقة وصريحة لمفهوم «الذات المُفكرة» (Sujet pensant).١٥ إنه مع كانط يُصبح مفهوم الذات والموضوع مُصطلحَين ناظمَين لجملة مفاصل إشكاليته، وذلك لا ينطبق فقط على نظرية المعرفة، ولا على المسألة العملية، بل، وهو ما يُهمنا هنا، على مسألة التأسيس الفلسفي للإستطيقا.

(٢-٢) الذاتية بوصفها شرط إمكان الإستطيقا

إن الإحالة على إستطيقا بومغارتن بوصفها أول كتابٍ تظهر فيه الدلالة الحديثة لمُصطلحي الإستطيقا والذاتية في نفس الوقت، يُساعدنا مساعدة كبيرة على تبيُّن نوع التحضير الفلسفي الذي حقَّقه بومغارتن، سواء من حيث المصطلحات أو من حيث المسائل، لما سوف يضطلع به كانط من تأسيسٍ مُتعالٍ للإستطيقا بوصفها إستطيقا الذاتية. فإن ما نعثر عليه لدى بومغارتن في شكل عرض منطقي لقواعد إنتاج الجمال، نجده لدى كانط في صيغة تحليلية للجميل تريد أن تكون متعالية أي قادرة على تأسيس شروط إمكان الحكم الجمالي بشكل قبلي.

إن الأمر لا يتعلق رغم ذلك بمجرد تطبيق لمبدأ الذاتية النظري الذي ضُبط ضمن نقد العقل المحض، في حقل مُغاير هو الإستطيقا، بل إن كانط نفسه يؤكد أن الذاتية لا تبلُغ دلالتها الثرية إلا ضمن نقد ملكة الحكم: إن الذاتية التي نقصد إلى إيضاحها هي بالتحديد الذاتية الإستطيقية. فإن كانط قد افتتح الفقرة الأولى من نقد ملكة الحكم بالتنبيه إلى أن التمييز بين الجميل والذي ليس بجميل لا يتم عن طريق الذهن، فهو ليس موضوع معرفة، وإنما بإحالته على «الذات (Sujet) وعلى الشعور باللذة والألم اللذيْن من شأنها. فإن حكم الذوق ليس بذلك حكم معرفة، فهو ليس بحكم منطقي، بل هو إستطيقي، بمعنى هو حكم لا يمكن أن يكون المبدأ المُعيَّنُ له شيئًا آخر إلا ذاتيًّا (Subjectif)».١٦
إن نقد ملكة الحكم هو بمثابة تفصيلٍ لهذا التلازم الداخلي بين الذات وبين الشعور باللذة والألم اللذيْن من شأنها، أي بين الذاتي والإستطيقي. إن حكم الذوق ليس حكم معرفة لأنه لا يتعلق بموضوع خارجي. ومن أجل أنه ليس حكم معرفة فهو ليس حكمًا منطقيًّا. علينا إذن أن نفهم الحُكم الذوقي من جهة الذات وحدَها، أي من جهة لا يكون المطلوب فيها أن نعرف موضوعًا ما، بل أن نحكم على شيءٍ ما بأنه جميل أو غير جميل. إن الذات هي مصدر ليس فقط لمعيار الحكم بل لإمكانية الحكم نفسها. فالذوق يعمل في نطاق المخيلة التي تستند إلى الشعور باللذة والألم، وبهذا المعنى الدقيق هو إستطيقي. فالإستطيقي ذاتي محض من أجل أنه ليس له من أساس سوى الشعور باللذة والألم. هنا ينبغي أن نُبَيِّنُ مفهوم الشعور (Sentiment) ووجه تمييزه عن «الإحساس» (Sensation) فالشعور إحساس مخصوص يختلف عن معنى الإحساس إذا أخذناه في معنى «تمثُّل شيء» أو موضوعٍ ما، أي في نطاق مسألة المعرفة حيث تؤدِّي الحواس دور تقبل الحدوس الحسِّية؛ إن الشعور هو إحساس لكنه لا يتعلق بالموضوع مثل الإحساس في نطاق مسألة المعرفة، بل هو يتعلق بالذات وحدها. إن الشعور ذاتي مَحض لا يصلح حتى لمعرفة الذات لتنفسها. إنه «ما ينبغي أن يبقى دومًا ذاتيًّا محضًا».١٧

ومن حيث أن بِنية الذات هنا هي مبسوطة من قِبل كانط من خلال مفهوم «الذوق» فإن تحليلية الجميل هي بمثابة بسط مُتدرِّج للحكم الذوقي مفحوصًا عنه طبقًا للوظائف المنطقية للحكم، وهي أربع: الكيف والكم والعلاقة والجهة.

فأما الفحص عن الحكم الذوقي من جهة الكيف (مسألة المصلحة) فإن أهم ما ينبغي الاحتفاظ به هو التمييز الكانطي بين الجميل (le beau) والمُمتع (L’agréable) والخير (Le bien) ومن ثمة التمييز بين ضروب الإشباع التي من شأن كلٍّ منها. وبخاصة أن الإشباع الذي يُعيِّن حكم الذوق هو مُستقل عن كل مصلحة، على خلاف المُمتع والخيِّر فهُما مرتبطان دومًا بمصلحةٍ ما: فالجميل هو ما كان موضوعًا «لإشباعٍ أو ألَم على نحو مُستقل عن كل مصلحة.»١٨ وأما الفحص عن الحكم الذوقي من جهة الكم (مسألة المفهوم) فإن أهم ما نخرج به منه هو أطروحة كانط الشهيرة من أن «الجميل هو ما يُمتع على نحو كوني ومن دون مفهوم.»١٩ وأما الفحص عنه من جهة العلاقة (مسألة الغائية) فإن أهم مكسب نظري هنا هو التنبيه إلى أن الحكم الذوقي ليس له من الغائية سوى صورتها فحسب، فهو لئن كان يتأسس على غائيةٍ ما فهي غائية من دون غاية. إنه حكم مُستقل عن كل انجذاب أو عاطفة. ولذلك فإن تعريف الجمال هو: إن «الجمال هو الصورة التي من شأن غائية موضوعٍ ما، من حيث هي مُدركَة في هذا الموضوع من دون تمثُّل ما.»٢٠ وأخيرًا فإن النتيجة الكبرى للفحص عن حكم الذوق من حيث الجهة (La modalité) (مسألة الضرورة) فهي تتعلق بطبيعة الإشباع الذي يوفِّره الجميل هل هو مشروط أو لازم في نفسه. وأهم ما ينتهي إليه كانط هو الإقرار بنحوٍ من «الضرورة الذاتية»، التي تستمد شرط إمكانها من ضرب من «الحس المشترك» (Un sens commun) الذي، من حيث هو قائم على نحوٍ من «الانخراط الكوني» (Adhésion universelle) في الحكم الذوقي، يُضفي على تلك الضرورة الذاتية نمطًا من الضرورة الموضوعية، بحيث إن التعريف الرابع والأخير للجميل هو أن «الجميل هو ما هو معروف من دون مفهوم بوصفه موضوعًا لإشباعٍ ضروري».٢١

(٣) الإستطيقا مقام للتواصل: الفن ومسألة الكونية

إن النتيجة العامة لتحليلية الجميل هي أن الذوق «ملكة حكم وتقويم لموضوعٍ ما بالإضافة إلى القانونية الحرة للمخيلة.»٢٢ إن الصعوبة هنا تكمُن في الحديث عن مخيلة حُرة ورغم ذلك مُطابِقة لقانونٍ ما، والحال أن من يَهب القانون هو الذهن. لذلك فالرهان هو بيان كيف أن الذوق ليس اعتباطيًّا وإنما يتوافق مع نمَط خاص من القانونية لا بُدَّ من استكشافها. ونحن نعرف منذ الآن أن أحكام الذوق ليست مُعينة للموضوعات بل هي نتيجة تفكر (Réflexion) الذات في الشعور باللذة والألم اللذَين من شأنها.
بيد أنه علينا أن نُنَبِّه هنا إلى أن كانط قد أقحم تمييزًا طريفًا بين ضربَين من الأشياء التي تمتعُ من نفسها، هما الجميل (Le beau) والجليل (Le sublime)، ومن ثمة هو قد وسَّع توسيعًا حاسمًا مجال الإستطيقا وصار يتحدث عن نوعَين متباينَين من الأحكام الإستطيقية، نوع خاص بالجميل ونوع خاص بالجليل. أما عن الفرق بين المفهومَين فإن الجميل متعلق بشيءٍ محدود، من جهة الكيف، وفي نطاق الاشتغال على مفهوم غير مُتعيِّن من مفهومات الذهن، وهو مصاحَب مباشرة بشعور بعلوِّ الحياة والانجذاب ولعب المخيلة؛ في حين أن الجليل هو مُتعلق بشيء لامحدود، من جهة الكم، وفي نطاق مفهوم غير مُتعين من مفهومات العقل، ومصاحَب بشعور لا يحدث إلا على نحوٍ غير مباشر.٢٣
ومن أجل أن أحكام الجليل مثلها مثل أحكام الجميل أحكام إستطيقية فإن كانط قد أخذ آخر المطاف في استنباط موحَّد للحكم الذوقي الذي تتأسس عليه تلك الأحكام جميعًا. وإن أهم نتيجتَين لهذا الاستنباط هما: أولًا أن «مبدأ الذوق هو المبدأ الذاتي الذي من شأن ملكة الحكم بعامة»؛٢٤ وثانيًا إقرار مبدأ «تواصلية (Communicabilité) الإحساس»٢٥ الإنساني.

إن القراءات المعاصرة لكتاب نقد ملكة الحكم، وبخاصة تلك التي أخذت تَعتبر التواصل بين الذوات مُشكلًا جوهريًّا للعقل الفلسفي، قد وجدت فيه طرافة قوية، وذلك بخاصة من جهة مفهوم «الحس المشترك» الذي بسطه كانط في الفقرة ٤٠ من هذا الكتاب. ومن أجل أن إحدى مقومات إشكالية التنوير التي التحم بها كانط هو رهان الكونية، فإن هذه القراءات قد انتهت إلى ما يُشبه المقام المُتحكم في وجه الاستفادة من الحلقة الثالثة والأخيرة من المتن النقدي، ألا وهو الدفع بالبحث نحو مساءلة جديدة لطبيعة العلاقة بين مبدأ الذاتية ورهان الكونية الذي يشد كل طرحٍ جدي لمسألة التواصل.

(٣-١) الذوق بوصفه حسًّا مشتركًا

إذا كان حكم الذوق ليس له ضرورة حكم المعرفة ولا كونيته، فهو رغم ذلك ينطوي على نمط يخصُّه من الضرورة ومن الكونية. وحسب كانط يمكن للشعور باللذة والألم أن يؤدي هذا الدور فهو لئن كان بلا مفهوم فهو كوني. من أجل ذلك لا بُدَّ من توفر نوع من «الحس المشترك» حتى يُصبح حكم الذوق مُمكنا. إن المقصود بذلك ليس «الحس السليم» (Le bon sens) فهذا الأخير لا يُحكم بواسطة الشعور وإنما بواسطة المفاهيم. لذلك يُحدد كانط الحس المشترك بأنه «مفعول ناتج عن الأداء الحُر لملكات المعرفة التي لنا».٢٦
إن الجديد في الفقرة ٤٠ من نقد ملكة الحكم هو أن قصد كانط لم يعُد موجَّهًا إلى بسط معنى الحُكم الذَّوقي بوصفه مُتعلقًا بالجميل أو بالجليل، بل صار متعلقًا بتحديدٍ طريفٍ لمفهوم الذوق بوصفه ضربًا مخصوصًا من «الحس المشترك». فأما معنى «الحس» فلا ينبغي أن يؤخَذ في دلالته المعرفية، أي بوصفه حسًّا أي آلة لتقبُّل الحدوس الحسِّية، بل إن كانط قد انطلق من تملُّكٍ جديد للمعنى التقليدي للذهن المشترك (L’entendement commun) أو بادئ الرأي، أي الذهن قبل اكتساب المعارف من حيث هو ما يُميز بني البشر بعامة، لكنه قد أضفى عليه دلالة أكثر دقةً هي أن المقصود هو «فكرة حس مشترك بين الجميع (Un sens commun à tous) بمعنى فكرة ملكة حُكم هي في التفكُّر الذي من شأنها تضع في الحسبان، من جهةٍ ما تفكر على نحوٍ قبلي، نمط التمثيل الذي من شأن الناس جميعًا، وذلك من أجل أن تبسط بوجه ما حكم العقل الإنساني في جملته، ومن ثمة أن تفلت من الوهم الذي، ومن حيث هو ناجم عن شروط ذاتية متعلقة بالجزئي، يُحدث على الحكم تأثيرًا سيئًا.»٢٧

إن معنى الذوق هنا هو أنه حسٌّ مشترك ينطلِق من الذات التي تتفكَّر في الشعور الذي من شأنها، لكنها لا تفعل ذلك إلا من أجل أنها تفترِض قبليًّا أن ذلك الحكم موافق لنمط التمثيل الذي من شأن الناس جميعًا. وهكذا فإن حكم الذوق هو في آنٍ واحد حكم الذات بقدْر ما هو حكم العقل الإنساني في جُملته من حيث ما هو نحوٌ من الحس المشترك بين الجميع.

(٣-٢) الحكم الذوقي بين الذاتية والكونية

إنه لئن أكد كانط منذ الفقرة ٨ من نقد ملكة الحكم أن «كونية الإشباع في الحكم الذوقي لا تُتمثل إلا ذاتيًّا»٢٨ فهو ما لبث يؤكد في الوقت نفسه على حاجة الحُكم الذوقي إلى نوعٍ من «الانخراط الكوني» في ذلك الحكم حتى ينطوي على قدْر من الضرورة. لذلك يفترض كانط أن شرط أن يكون الحكم الذوقي ضروريًّا هو استناده إلى حسٍّ مشترك ليس له هنا أي وظيفة سوى إضفاء مسحة من الكونية على الحكم الذوقي؛ فالحكم الذوقي إستطيقي من جهة ما هو مُتأسس على الذاتي، أي على الشعور باللذة والألَم الإنسانِيَّين، لكنه من جهةٍ أخرى حكم من جهة ما هو مُتأسس على الحسِّ المشترك بوصفه هو بالتحديد ملكة حكم تؤدي هنا دور العقل الإنساني في جُملته في مجالٍ ليس له أن يعرف ولا أن يفكر في الموضوعات وإنما أن يتفكَّر في نشاط الذات نفسها فحسب. فالذوق حسٌّ مشترك من جهة ما هو حِس أولًا ومن جهة ما هو مشترك ثانيًا. إن الحس يعني هنا «الشعور باللذة»٢٩ لكنه مُشترك لأنه قابل للتواصُل مع الذوات الأخرى. وهكذا نخلُص إلى النتيجة الجامعة التالية: إنه «يُمكننا أن نُعرِّف الذوق بأنه ملكة الحُكم على ما يجعل الشعور الذي يُوفره لنا تمثُّلٌ مُعين قابلًا للتواصُل على نحوٍ كوني، من دون توسُّط أي مفهوم.»٣٠

خاتمة: حدود الإستطيقا الكانطية

إن كانط لئن أفلح في رسم معالم التأسيس الحديث لفلسفة الفن على الذاتية، ومن ثمة ضبط وجه دخول الفن في أُفق الإستطيقا، فإن مشروعه قد ظلَّ يُعاني من بعض الصعوبات الجوهرية؛ فهو ظل يُفكر في الجمال على منوال الجمال الطبيعي، وليس على منوال الجمال الفني بحدِّ ذاته (هيجل)؛ كذلك بقِي ينظر إلى الفن في صلةٍ وطيدة بالأخلاق (نيتشه)؛ وهو آخر الأمر قد أهمل البُعد التاريخي والاجتماعي للفن (أدورنو).

ورغم ذلك فإن التواصُلية (Communicabilité) هي المكسب الفلسفي من إستطيقا كانط، سواء من جهة المصاعب التي تنطوي عليها (النقيضة التي تقع فيها ملَكة الحُكم الإستطيقي بين الأطروحة القائلة بأن حكم الذوق لا يتأسس على مفهومات، وإلا صار مُمكنًا الجدال في شأنه، والأطروحة المضادة القائلة بأن حكم الذوق مؤسَّس على مفهومات وإلا لن نستطيع حتى أن نتناقش في شأنه)٣١ أو من جهة الآفاق التي فتحتها للفلسفة المعاصرة، مثلًا قراءتها السياسية لمفهوم الحس المشترك ومسألة التواصُل (حنا آرندت).٣٢
١  وهو تقسيم نجده عند أرسطو في الأرغنون. كتاب المواضع (الطوبيقا)، I، ١٤، ١٠٥ ب ١٩.
٢  E. Kant, Critique de la faculté de juger. Première Introduction, traduit de l’allemand par Alexandre J.-L. Delamarre, Jean-René Ladmiral, Marc B. de Launay, Jean-Marie Vaysse, Luc Ferry et Heinz Wismann, Paris, Gallimard, Coll. Folio/Essais, 1985, pp. 21–23.
٣  هو ألكسندر غوتليب بومغارتن (١٧١٤–١٧٦٢)، تلميذ وولف، اشتُهر لدى المُعاصرين بعد نشره ما بين ١٧٥٠ و ١٧٥٨ كتابه الإستطيقا (Aesthetica) في مُجلدَين، حيث استعمل لأول مرة مصطلح إستطيقا للإشارة إلى القول الفلسفي في الجمال. كذلك هو معروف لدى قراء كانط بكتابه الميتافيزيقا، حيث اعتمدَه متنًا لدروسه الرسمية.
٤  M. Heidegger, Chemins qui ne mènent nulle part, traduit de l’allemand par Wolfgang Brokmeier, Paris, Gallimard, Collection Tel, 1992, p. 100.
٥  Hans George Gadamer, L’art de comprendre. Écrits II: Herméneutique et champ de l’expérience humaine, Paris, Aubier, 1991, p. 141.
٦  A. G. Baumgarten, Esthétique, précédée des Méditations philosophiques sur quelques sujets se rapportant à l’essence du poème et de la métaphysique, traduction, présentation et notes par Jean-Yves Pranchère, Paris, Éditions de L’Herne, 1988, p. 246.
٧  Ibid., pp. 75-76.
٨  A. G. Baumgarten, Esthétique, op. cit., p. 79.
٩  Ibid., p. 121.
١٠  Ibid., p. 127.
١١  A. G. Baumgarten, Esthétique, op. cit., p. 121.
١٢  Ibid., pp. 151 sq. Cf. Présentation du traducteur.
١٣  A. G. Baumgarten, Esthétique, op. cit., pp. 151-152.
١٤  Jocelyn Benoît, “La subjectivité,” in Notions de philosophie II,sous la direction de Denis Kambouchner, Paris, Gallimard, Coll. Folio/Essais, 1995.
١٥  E. Kant, Critique de la raison pure, traduction d’Alexandre J.-L. Delamarre et François Marty, Paris, Gallimard, Coll. Folio/Essais, 1980, p. 175.
١٦  E. Kant, Critique de la faculté de juger, traduit de l’allemand par Alexandre J.-L. Delamarre, Jean-René Ladmiral, Marc B. de Launay, Jean-Marie Vaysse, Luc Ferry et Heinz Wismann, Paris, Gallimard, Coll. Folio/Essais, 1985, § 1, pp. 129-130.
١٧  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 3, pp. 132-134.
١٨  Ibid., § 5, p. 139.
١٩  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 9, p. 150.
٢٠  Ibid., § 17, p. 171.
٢١  Ibid., § 22, p. 176.
٢٢  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 22, p. 177.
٢٣  Ibid., § 23, p. 182.
٢٤  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 35.
٢٥  Ibid., § 39.
٢٦  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 20, pp. 173-174.
٢٧  Ibid., § 40, p. 244.
٢٨  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 8, p. 142.
٢٩  Ibid., § 40, p. 247.
٣٠  E. Kant, Critique de la faculté de juger op. cit., § 40, p. 247.
٣١  Ibid., § 56, p. 299.
٣٢  Hannah Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, traduit de l’anglais par Myriam Revault d’Allonnes, Paris, Seuil, 1991, septième conférence, pp. 68 sq. Aussi: Pierre Livet, “Sens commun et politique,” in Esprit, 1988, n° 7-8, pp. 50–55.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤