الفصل السادس

دريدا قارئًا كانط أو التفكيك والإستطيقا

تقديم

يتعلق الأمر في هذه المقالة ببسط بعض الملامح الأساسية لتفكيكية يقترحها دريدا لكتاب نقد ملكة الحكم١ لكانط، في كتاب يحمل عنوان الحقيقة في الرسم٢ نشره سنة ١٩٧٨م. أي كانط ترسمه لنا تفكيكيةُ دريدا؟ وأي حداثة إستطيقية تُورِّطها أسئلة التفكيك وتطويها؟

نُقسِّم هذه المداخلة إلى مقدمة وخمسة عناصر، هي بمثابة استراتيجيات أحصيناها داخل تفكيكية دريدا للنص الكانطي؛ حيث نرصد كيف يخترق التفكيك إطار النص وبِنيته الداخلية وموضوعه وأمثلته والآفاق الاستكشافية التي يعمل ضِمنها. أما عن إطاره الذي يرسم له بِنيته الداخلية فهو لوحة المقولات التي يستوردها كانط من نقد العقل الخالص ليُقحمها «بضرب من العنف الماكر» في لوحة الجميل. أما عن موضوع الكتاب فهو اللذة المحضة التي لا منفعة من ورائها ولا مفهوم ولا غاية. إنها لذة تستحيل الي ضرب من عمل الحداد. أما عن الأمثلة التي تدل على الجمال من جنس الصوت المحض واللون المحض البسيط والإطار بلا لون والوردة بلا عطر، فتدل، في اعتبار دريدا، على تواطؤٍ خطير في العقل الحديث ما بين العقل والفن والدين المسيحي. أما عن المفاهيم الأساسية، أي الجمال الحُر والجمال التابع، فتشكو هي الأخرى من تناقُضٍ يُصيب جماليات كانط، في اعتبار دريدا، في موضع الجمال نفسه. وأخيرًا، وعن الإنسان بما هو الأفق الاستكشافي لفلسفة كانط، يُحدِّث دريدا وبكلِّ الحرج الكامن في نقد ملكة الحُكم عن أن إنسان جماليات كانط يقبع بين منزلتَين: منزلة الجمال التابع التي للحصان والمعمار، من جهة، ومنزلة الكائن الوحيد القادر على حمل نموذج الجمال ذاته، من جهة أخرى.

لماذا كانط في كتاب يحمل عنوان الحقيقة في الرسم؟

لا شيء في عنوان كتاب دريدا يُنبئ بإمكانية الاشتغال على كانط ولا على نقد ملكة الحكم لكانط، فقد لا تتوافق العناوين، ولدى فلاسفة التفكيك تحديدًا، مع مَضامينها. على الرغم من ذلك لا شيء في عنوان دريدا يُحضِّر لاستغراق الحديث عن نقد ملكة الحكم الإستطيقي لكانط ما يُقارب على نصف الكتاب؛ في حين يشتغل الباقي على موضوعات عالقة بالرسم. هل في نقد ملكة الحكم لكانط ما يُغري تفكيكية دريدا لقول الحقيقة في الرسم؟

إن عنوان الكتاب نفسه ليس من نحت دريدا، فهو قد استلفه، على حدِّ اعترافه، من بول سيزان (Paul Cézanne) الذي كان يقول: «أنا أدين لكم بالحقيقة في الرسم وسوف أقولها لكم.» (رسالة إلى إميل برنار (Emile Bernard)، ٢٣ تشرين الأول (أكتوبر ١٩٠٥م)).٣ أما دريدا فيعتبر هذا القول ديْنًا٤ يتعهَّد به. لكن أي ديْنٍ وأي عهد إذا كان الفيلسوف يعترف منذ بداية نصِّه بأنه قد لا يستطيع السيطرة على مِثل هذه الوضعية ولا حتى على ترجمتها ولا حتى على مجرد وصفها؟٥ وأي دَينٍ وأي عهد إذا كان دريدا قاصدًا كتابًا لكانط لا يحمل أي إخبار ولا أي تدقيق لا عن الحقيقة ولا عن الرسم؟
تتنزل إذن تفكيكية دريدا لكتاب نقد ملكة الحكم ضمن كتاب لا يختصُّ بكانط ولا بإستطيقا كانط، بحيث يكون التفكيك هنا خروجًا عن العنوان وعما يعِدُ به وعن إرادة الحقيقة السابقة عليه. ليس القارئ هنا لنص كانط، أي دريدا، بالقارئ العادي؛ أما عن القراءة التي يقترِحها فلا تُصنَّف في أي خانةٍ من خانات القراءات الأخرى من جنس البنيوية أو التأويلية أو النقدية أو البنائية.٦ ليس التفكيك، مثلما يُعرِّفه دريدا منهجًا أو مذهبًا أو علمًا أو فلسفةً، بل هو طريق أو درب نتعلَّم فيه كيف نتوجَّه في التفكير وكيف نخترق النصوص الكبرى في لحظات عطالتها وبطالتها الفكرية ومن خلال إرهاصاتها وفراغاتها ومواطن الفشل والتعثُّر فيها.٧
يكتب دريدا إذن عن كانط في كتابٍ يكتب فيه فيلسوف التفكيك أربع مرات حول الرسم: في المرة الأولى يطوي دريدا السؤال الفلسفي التقليدي حول الفن، وفي المرة الثانية والثالثة يشتغل على الرسم بين أدامي (Adami) وكارمل، وفي المرة الرابعة يكتب دريدا عن حذاء فان جوخ (Van Gogh) ما بين تأويليِّ هيدجر وشابيرو (Shapiro).٨ ما الذي في نقد ملكة الحكم الكانطية كفيل إذن بأن يدلَّنا على الحقيقة في الرسم بخاصة متى علِمنا أنَّ كانط لا يخص الرسم إلا بالدرجة الثالثة ضمن تصنيفه للفنون وذلك بعد الشعر والموسيقى؟
يقدم دريدا شاهدًا على الرسم في كتاب نقد ملكة الحكم لكانط، هو مفهوم «باررغا» Parerga. وهو عبارة يونانية نعثر عليها بين قوسين في آخر الفقرة ١٤ من تحليلية الجميل، وهي تعني Ornement الزخرفة التي تُحيط بالأثر. أما في اليونانية Parerga فتعني Hors d’œuvre ما هو خارج عن الأثر أو ما يطرحه الأثر جانبًا وما يضاف اليه، ما يُذيِّله أو ما يلحق به. أما دريدا فيعتبر أن هذا الذي من شأنه أن يخرج عن الأثر إنما هو يعاكسه، يجانبه ويفيض عنه، لكنه لا يُطرح جانبًا بل يلامس الأثر ويُعاضده من نقطةٍ خارجية ما.٩ ويُحيلنا دريدا على نصٍّ ثانٍ لكانط هو نص الدين في حدود مجرد العقل حيث نعثر في الهامش المطوَّل الذي يُذيل به كانط القسم الأول من الكتاب على مفهوم «باررغون»، أو على حدِّ تأويل كانط، الملاحظة العامة. وفي هذا الهامش يحصي كانط أربعة أصناف من الملحقات أي ما يخرج عن حدود العقل أو ما يفيض عن حاجة الدين العقلي؛ وهي الحماسة والخرافة والإشراق والقول بالخوارق.١٠
لكن لِمَ يبحث دريدا عن إطارٍ يُنزل فيه تفكيكيته لنصٍّ في فلسفة الفن في نصٍّ حول الدين؟١١ أي علاقة حينئذٍ بين الفن والدين؟ إن إحالة دريدا في كتاب حول الرسم على كتاب حول الدين تنبئ بضربٍ من العلاقة السرية أو من التواطؤ الخطير بين الدِّين والفن والعقل ضمن بِنية العقل الحديث. يقول دريدا مبررًا رجوعه إلى كتاب كانط حول الدين: «هذا المكان، شكل هذا المكان يُهمنا كثيرًا».١٢ إلا أنه من الجدير بنا أن نُلاحظ هنا الفرق بين «بَارِرْغَا» في مجال الدين و«باررغا» في مجال الفن: فإذا كانت الملحقات في مجال الدين هي ما يلفظه العقل الديني، أي ما يتبرَّأ منه لأنه يُهدد معقوليته ويُغريه بالخروج عن العقل والسقوط في الخرافة؛ فإن المُلحقات في مجال الفن فهي الزخرفة أو الزركشة التي يُمكنها أن تُنمِّي الذوق وتصقله وتُغنيه.
لكن ما علاقة باررغا بفن الرسم؟ إنه من اللوحة بمثابة الحدِّ الفاصل والواصل بين الداخل والخارج، فهو إذن ما يضمن اللعب داخل الأثر وخارجه وعلى حدود الإطار الذي يُعطيه شكلًا محضًا. إن نقد ملكة الحكم هي وفق عبارة دريدا «قول في الإطار».١٣ إنها قول في الإطار في معنيَين: الأول لأنها الإطار الذي كان كانط ينوي أن يجمع به ما بين مجال النظر ومجال العمل، إذ هي بعبارة كانط بمثابة «القنطرة فوق الهاوية».١٤ أما في المعنى الثاني فالإطار هو شاهد نموذجي على الجمال الحُر وعلى الذوق الأصيل مثلما يظهر في الفقرتَين ١٤ و١٥ من تحليلية الجميل. أما دريدا فقد وجد في نقد ملكة الحكم إطارًا حقيقيًّا بأن ينزل فيه ندوته حول فلسفة الفن، لذلك اختار مفهوم «باررغون» الكانطي عنوانًا حقيقيًّا لكتابه الحقيقة في الرسم، وهو ما يُصرح به قائلًا: «وإذا كان باررغون هو العنوان؟ هنا العنوان المغلوط هو الفن. ندوة تشتغل على الفن.»١٥ ولو كان بوسع القارئ العادي أن يتدخَّل داخل هذا الضرب من سياسة الصداقة ما بين النص الأساسي، أي نقد ملَكة الحكم، والنص القارئ له، أي الحقيقة في الرسم، لكان بوسعه أن يعثُر على أكثر من علامة كفيلة باستمالة نص كانط في فلسفة الفن إلى حقل تفكيكية دريدا حول الحقيقة في الرسم:
  • (١)
    إعجاب كانط الشديد بفن الرسم التشكيلي واعتباره فنًّا يتجاوز من بعيدٍ فن الموسيقى من جهة قُدرته اللامتناهية على تثقيف النفس والغوص بعيدًا في مجال الأفكار؛ وهو ما يُعبر عنه نص مُثير في آخر الفقرة ٥٣ من تحليلية الجليل: «إنني أُفضل الرسم التشكيلي من بين فنون الصورة والشكل، وذلك لأنه يُوجَد في مبدأ كل فنون الشكل الأخرى، وذلك بوصفه فن رسم، ولأنه، في الوقت نفسه، قادر على الغوص بعيدًا في مجال الأفكار.»١٦
  • (٢)

    اعتبار كانط الرسم في الفنون التشكيلية بعامة شاهدًا على الجمال الخالص وذلك في الفقرة ١٤ التي اختارها دريدا نفسه منفذًا أساسيًّا يغري صناعة التفكيك، لأن الفيلسوف يلجأ فيها إلى استعمال الأمثلة، لنقصٍ في المفهوم، إشارة إلى لحظة عطالة في النص الكانطي.

ينطلق دريدا من تأطيرٍ مُثير لكتاب نقد ملكة الحكم لكانط: «إنها تبدو تدبيرًا لنظام الهاوية ليس تجنبًا للسقوط في ما لا قرار له، بل هي نسج وطَيٌّ للنسيج إلى ما لا نهاية، إنها فنٌّ نصِّيٍ للنهوض من جديد، وضع للقوانين وإعادة تملُّكٍ، صياغة للقواعد التي تضغط على منطق الهاوية.»١٧ ذلك هو معنى (Parergon).
كيف يتدبر الحكم الإستطيقي منطق الهاوية؟ إنه يحتاج إلى منطق خاص جدًّا فيما أبعد من منطق الحقيقة وأجهزة مفاهيمها. إنه حكم من دون مفهوم. وعلى الرغم من ذلك يجد كانط في الإطار المنطقي للوحة المقولات ما به يُحلل مفهوم حكم الذوق. فيكتب كانط حينها أربع مرات من أجل رسم الإطار الكفيل بتحصين الجميل وتأمين حدوده.١٨ لماذا يستلف كانط من تحليلية الحقيقة الخاصة بالذهن في نقد العقل الخالص ما به يُعبِّر عن الجميل الممنوع عنده من الاقتران سلفًا بأي مفهوم؟ والذوق الخالص عند كانط يُقال في غياب المفهوم عبر الأمثلة: وهي ثلاثة: الوردة بلا عطرٍ، وإطار اللوحة، والموسيقى بلا نص. أيُّ جمالٍ إذن لوردةٍ بلا عطر وللوحة بلا لونٍ ولموسيقى من دون نصٍّ؟ يقال على معنيَين متناقضَين: صنف الجمال الحُر وصنف الجمال التابع، لكن هل تحتمِل عبارة الجمال هذَين المعنيَين المتناقضَين معًا؟ أما عن الإنسان فهو في كتاب كانط لا يرتقي إلى مستوى الجمال الحُر إذ هو مجرد جمال تابع ينتمي إلى نفس صنف الحصان والمعمار، لكنه مع ذلك هو عند كانط الكائن الوحيد الذي يملك نموذج الجمال.
هل الجمال المِثالي ومثال الجمال حينها أمران مختلفان؟ وأية مكانة للإنسان في نقد ملكة الحكم؟ أما عمَّا به نرتقي إلى مقام الكونية في مجال الإستطيقا الكانطية فهو حسٌّ مشترك لا نملك عنه، وفق عبارة دريدا، «أي حسٍّ مشترك». أية كونية إستطيقية لا يحسم أمرها غير القانون الأخلاقي وأُفق الأفكار الناظمة؟ تلك هي الصعوبات التي يُعاني منها النص الكانطي والتي بوسعنا أن نُحصيها داخل تفكيكية دريدا: إطار النص الكانطي يتوافق، على حدِّ قول دريدا «بشكل سيئ مع اللوحة»، والذوق الخالص الذي يجهد كانط نفسه لتأسيسه لا يظهر إلا قبالة ورودٍ جافة وإطار باهت وموسيقى خالصة من النص والموضوع. أما الجمال فهو عند كانط سلب مَحض لا يقترن لا بالمنفعة ولا بالمفهوم ولا بالموضوع ولا بالغاية نفسها. ألسنا إذن، وفق تعبير تراجيدي لدريدا، أمام نوع من «عمل الحداد»؟١٩

(١) إطار القول في الجمال

تنطلق تفكيكية دريدا لتحليلية الجميل من هامشٍ ألحقه كانط إلى الفقرة الأولى وذيَّل به نص الصفحة الأولى من الكتاب: «إن تعريف الذوق الذي يصلح هنا بوصفه نقطة انطلاقٍ هو التالي: إن الذوق هو ملكة حكم وتقويم للجميل. أما عما يسمح أن نُسمِّي جميلًا موضوعًا ما، فإن اكتشاف ذلك إنما يرجع بالنظر إلى تحليل أحكام الذوق. لقد بحثت عن اللحظات التي ترتبط بملكة الذوق في تفكُّرها من خلال متابعة الوظائف المنطقية للحكم (لأنه في حكم الذوق هناك دومًا علاقة بالذهن). وبكيف بدأت فهو ما يدخل بدرجةٍ أولى في اعتبار حكم الذوق.»٢٠

يتضمن هذا النص الهامش الذي يَعتبره دريدا نصًّا يسبق نصَّ العرض نفسه لأنه يَبْنِيه ويُبرر إطاره ونظامه معًا، فكرتَين تُحيل إحداهما على الأخرى وترسُمان ضربًا من الدور الذي تنفذ منه تفكيكية دريدا بحثًا عن موطن الصعوبة وعن منطق الهاوية تعريفًا للذوق بوصفه ملَكة حكم على الجميل وتعيينًا للنظام الذي به يمكن الكشف عن مفهوم الجميل نفسه. فإذا كان الذوق عند كانط لا يُعرَف إلا بوصفه حكمًا على الجميل، فإن الجميل نفسه لا يمكن الكشف عنه إلا بتحليل أحكام الذوق. فنحن حينئذٍ لا نعرف الذوق إلا متى تجلَّى الجميل، ولا نحكم على الجميل إلا متى ارتقَينا إلى الذوق. أيهما يدل على الآخر حينها في دائرة ممنوعة سلفًا عند كانط بأن تتحوز على مفاهيم؟

يلجأ كانط إذن إلى تحليل أحكام الذوق من خلال بسطها وفق الوظائف المنطقية للحكم، فهو يستورد بذلك الإطار الذي ضِمْنَهُ يرسم تعريفات للجميل، أو هو يرسم الجميل في شكل لغة محضة، من تحليلية المفاهيم من كتاب نقد العقل الخالص، وهو يستورد أيضًا من نفس هذا الكتاب بِنية ملكة الحكم نفسها بوصفها تنقسِم دومًا عنده إلى تحليلية وجدلية للحكم. هل هي مَحبَّة للتناظُر وانهمام بالشكل والتناسق المحض مثلما تذهب إلى ذلك أطروحة ساخرة لشوبنهاور؟ إن هذا الأمر وإن بدا في ظاهرِه مشروعًا ما دام يتعلق عند كانط بالحكم، فالذهن هو أيضًا وفق تعريف كانط «ملكة حكم متعالية»، فإن هذه النقلة لإطار منطقي إلى مجال إستطيقي لا تبدو مُنَزَّهة في تفكيكية دريدا من المشاكل والصعوبات.

يبدو النص الكانطي إذن منذ بدايته متورطًا بصعوبةٍ أساسية أو هو نصٌّ محرج بنقص وعطالة مُفجعة تتحوَّل في عبارات دريدا إلى «ضرب من العنف الماكر».٢١ إن كانط وبتطبيقه للوحة المقولات على مجال الجميل إنما ينقل وبعنفٍ إطارًا منطقيًّا من أجل فرضه على بِنية غير منطقية. فالحكم الإستطيقي، مثلما يُشدِّد على ذلك كانط بنفسه ومنذ الفقرة الأولى من الكتاب، ليس بحكم معرفة. ويترتب عن كل ذلك أن إطار لوحة المقولات التي بها يُقال الجميل عند كانط وعلى أربع جهاتٍ منطقية هي الكيف والكم والعلاقة والجهة، إنما «يتطابق بشكلٍ سيئ»٢٢ مع مجال الجميل. كيف يُقال عندئذٍ الجمال في لغة الحقيقة من دون أن يتضمَّن أي منطقٍ للحقيقة ولا أي مطلب للمعرفة؟ رُبَّ قولٍ هو دومًا قولٌ مُتلبس بنوع من ديكتاتورية الحقيقة أو من عنف الكتابة، في حين من المفترض عند كانط أن نبحث في الجميل عما به نخرج من مجال الكونية المنطقية إلى مجال الجمال الحُر، أو عما به نرسم خطوط إفلاتٍ من الكلِّي إلى العرَضي والجزئي والوقتي بوصفها مجال ملكة الحكم مثلما حدَّد ذلك كانط بنفسه في نص المقدمة الأولى من الكتاب.

إن هذا الإطار المنطقي الذي به يرسم كانط روافد لتحليلية الحكم الإستطيقي إطارًا يُبرِّرُه كانط تبريرًا مُستعجلًا ومُحتشمًا وعن طريق حجةٍ وحيدة، وهي حجة سيئة على حدِّ تعبير دريدا، وذلك بين قوسين ولمرتَين تتقابل فيهما الأولى مع الثانية تقابُل النص مع الهامش:

  • في مرةٍ أولى نقرأ داخل نص الصفحة الأولى من نقد ملكة الحكم، «يمكن أن تكون في علاقة بالذهن.»

  • وفي مرة ثانية نقرأ داخل هامش النص، ودائمًا بين قوسَين: «ففي حكم الذوق هناك دومًا علاقة بالذهن.»

  • إن التناقُض بين النصَّين؛ نص المُعقف الأول داخل النص، ونص المُعقف الثاني داخل الهامش وخارج النص، أمر ظاهر للعيان مباشرةً وبشكلٍ صريح يبدو فيه كانط في وضعيةٍ محرجة: هي وضعية المتذبذب بين علاقة مُمكنة أي مشكوك فيها، وعلاقة ضرورية يقينية ما بين الذهن والمخيلة، هي المسافة التي تفصل يمكن أن عن هناك دومًا.

وكأننا بنصِّ كانط المُثقل بالإحراج التالي: هل لا يزال شيء ما من الذهن في المخيلة بعدما غادرت مجال الحقيقة ودخلت مجال الإستطيقا؟ ويبدو في كل الحالات أن كانط مُجبَر على افتراض أنه لا يزال في المخيلة علاقة ما بالذهن تجعل القول في الجميل في لغة منطق الحقيقة أمرًا مُبرَّرًا. لكن أي تبرير هو؟

يقول دريدا: «إن للقوسَين، باريرغا داخل وخارج العرض الموضوع نفسه والغائية نفسها، هو تبرير (محرج جدًّا وبشكلٍ ظاهر للعيان) للإطار المستورَد وللتحليلية المفروضة، ملاذ سيئ التأمين…»٢٣

إن تبرير كانط إذن لإطار لوحة المقولات المستورد وللتحليلية المُسقَطة لا يعدو أن يكون سوى علامة على نقص، وليس هو سوى ملاذٍ سيئ التأمين لإقحام اللوحة المنطقية في إطارٍ إستطيقي لا يتوافَق معها. ويذهب دريدا إلى اعتبار هذا الإجراء الكانطي مُماثلًا لعلاقة قديمة يصعب على المرء التخلِّي عنها أو هو أيضًا كمثل إطار مُستعمَل يصعب علينا بيعه.

بنى كانط إذن كل نقد ملكة الحكم على علاقة مفترضة ما بين الذهن والمخيلة، هذه العلاقة هي، كما يقول دريدا، ليست يقينيةً ولا هي أساسية.

ويكشف دريدا هنا هشاشة كلِّ القول الكانطي في الجميل؛ إذ الأمر عندَه لا يعدو أن يكون سوى ضربٍ من التعنُّف المكر الذي يُمارسه كانط على الجميل. إن كل تحليلية الجميل لكانط تبدو إذن في قراءة دريدا مجرد رافد، ملحقًا يتبع فيه كانط ويواصل منطق الحقيقة مكتفيًا بتبريرٍ هامشي سيئ. وهنا تسجل تفكيكية دريدا نقصًا أو نقاط توقُّف أو عطالة ما في النص الكانطي: هو فكر لا يملك المفهوم الذي به يتفكَّر الجمال، وهو بالإضافة إلى ذلك فكر غير قادر على تبرير إقحامه لمنطق الحقيقة داخل مجال الإستطيقا، وهو مجال يمنعه كانط بنفسه من أية إرادة حقيقية أو رغبة في المعرفة. وهكذا تتضاعف الصعوبات التي تطفو على سطح نص نقد ملكة الحكم بفعل صناعة التفكيك منذ الفقرة الأولى من النص، فكانط في اعتبار دريدا لم يستطع أن يُبرر لنا لِمَ أقحم الجميل في إطار مقولات الذهن، وهو لم يُبرر لنا أيضًا النظام الذي سوف يتبعه في تحليلية الذوق؛ أي لماذا كان عليه أن يبدأ بالكيف بدلًا من الكم مُكتفيًا بإشارة مستعجلة ومبهمة وفي آخر الهامش.

إننا نشهد إذن ونحن أمام نصَّين: نص كانط الذي يؤسس لضربٍ من الحداثة الإستطيقية ونص دريدا الذي يورِّط نصوص الفلسفة الغربية بالتفكيك، نشهد، كيف يتضاعف على تعبير دريدا «عنف التأطير» عند كانط. إنه «عنف يحبس نظرية الإستطيقا في نظريةٍ في الجمال وهذه الأخيرة في نظرية للذوق، ونظرية الذوق نفسها في نظرية للحكم».٢٤

(٢) موضوع إستطيقا كانط

إن موضوع كتاب نقد ملكة الحكم يشكو هو الآخر في منظور تفكيكية دريدا من الصعوبات التالية:

  • (أ)
    إنه إلى حدود نهاية تصدير الكتاب لا شيء يُخبرنا بأن الأمر يتعلق في نقد ملكة الحكم بالاشتغال لا على الفن ولا على الجمال. إلا أن كانط يكتشِف، وفجأة في ثنايا النص، أن الأحكام التي نُسميها أحكامًا إستطيقية هي التي يمكن أن تُمثِّل موضوع الكتاب.٢٥ لكنها وفق تشخيص كانط هي أحكام مُصابة بغموضٍ ما في خصوص المبدأ الذي تقوم عليه. على الرغم من ذلك يمثل البحث عن مثل هذا المبدأ بوصفه مبدأً ﻟ نقد ملكة الحكم برمَّتها ووفق عبارات كانط نفسها «مهمة هذا النقد والقسم الأساسي فيه».٢٦
  • (ب)
    لذلك يلاحظ دريدا كيف يعتذر كانط بنفسه عن الغموض الذي قد يُصيب المعالجة والحلول التي يُقدمها كتاب ١٧٩٠م بوصفه يشتغل على «الطبيعة بوصفها فنًّا».٢٧
  • (جـ)
    ونراه أخيرًا يُحدثنا عن سِنِّهِ المتقدمة التي تفرض عليه أن يخلص سريعًا من المشروع النقدي من أجل أن يمرَّ إلى بناء القسم المُتعلق بالمذهب.٢٨

يرى دريدا في كل هذه الإشارات الكانطية صعوباتٍ ونقاط نقص في الموضوع. فالأحكام الإستطيقية التي يشتغل عليها كتاب كانط، تبدو في اعتباره، مجرد مثالٍ يُوجهنا في حُكمنا على الطبيعة بوصفها فنًّا. وهنا حريٌّ بنا أن نُشير إلى ضرورة التمييز عند كانط بين مفهومَين للطبيعة: مفهوم الطبيعة بوصفها جملةً من الظواهر القابلة للمعرفة عن طريق حدوسات الحساسية ومفاهيم الذهن ورسومات المخيلة، والطبيعة بوصفها نسقًا من التجارب الجزئية العرضية المُتعددة واللامتناهية. إن مجال نقد ملكة الحكم هو الاشتغال على المفهوم الثاني للطبيعة.

ما الذي يحصل لدينا من الحكم على الجميل؟ لذة محضة لا تتعلَّق بأية منفعة ولا بأي تمثُّل للموضوع: ذلك هو التعريف الأول الذي تصوغه الفقرة الخامسة من كتاب كانط في العبارات التالية: «أن الذوق هو ملكة الحكم وتقويم موضوع أو نمَط تمثُّل عن طريق إشباع أو ألَم بصرف النظر عن كل منفعة. إننا نُسمي جميلًا موضوع مثل هذا الإشباع.»٢٩ إن موضوع الكتاب إذن مجرد لذة محضة بلا رغبة ولا متعة، وهي لذة مثلما يقول دريدا جمعت ضدها «غضب نيتشه واستياء هيدجر».٣٠ لذة لامُبالية أو لانفعية: كيف يُفسِّر كانط هذا المفهوم الغامض؟ من أجل ذلك يسوق كانط مثال القصر:
«أنا الآن واقف أمام قصر، هل يُعجبني أو كيف أحكم عليه بأنه جميل أو قبيح؟ يسوق كانط إجابات مختلفة من نوع: إن هذا الصنف من الأشياء لا يُعجبني لأنها لا تُثير غير السذج والمُتسكعين، أو إن من يُعجبه هذا القصر هو كمثل شيخ قبيلة من الهنود الحُمر لا يُعجبه في باريس غير مطاعم الدجاج. أو قد أُجيب بأسلوب روسو حيث ينبغي أن نُجرِّم هؤلاء الأثرياء الذين يستعبدون الشعوب من أجل أشياء سطحية لا جدوى من ورائها. وحينما أجد نفسي على سطح جزيرة معزولة، ويكون بمقدوري إحضار هذا القصر وبإشارةٍ خاطفة، فلن أُضيع على الرغم من ذلك أي جهدٍ في هذا الأمر ما دامت الخيمة التي أسكنها مريحةً كفاية بالنسبة إليَّ.»٣١
كيف يُفكك دريدا هذا المثال الكانطي؟ هذا القصر الذي يبحث كانط إن كان هو جميلًا أو لا: كل الإجابات التي صاغها كانط تبدو أجوبة خارجة عن إطار السؤال نفسه، أو هي أجوبة لا تفي بغرَض السؤال الإستطيقي حول الجميل بالمعنى الكانطي للكلمة، إذ تقوم إجابتنا عن سؤال، في كل مرة، مفهوم الجميل في علاقته بالقصر من جهة دوافع خارجية تتعلق بنفسانيَّات إمبيريقية أو بأبعادٍ سياسية أو تقنية. وينبغي علينا أن نخرجها كلها من إطار ما هو إستطيقي محض عند كانط. هل هذا القصر جميل أم لا؟ ينبغي أن نعرف سلفًا عمَّ نتكلم وعمَّ نتساءل، والحال أن الخطاب ممنوع هنا من أي تعيينٍ سابقٍ عليه.٣٢

هل رسَم كتاب نقد ملكة الحكم الإطارَ بدقة؟ هل رسم جسرًا يُجوِّز المرور من النظر إلى العمل أم لم يفعل غير السقوط في الهوة عميقًا؟

(٣) مفهوم الذوق الخالص

يختار دريدا أن ينفذ إلى نص كانط عبر الأمثلة التي يَخصُّها كانط بعنوان صريح، يتعلق الأمر بالفقرة ١٤ من نقد ملكة الحكم، التي تحمل عنوانًا لها: «إيضاحات بواسطة أمثلة». إن مقصد كانط من هذه الفقرة صريح ومباشر: حيثما يغيب المفهوم تحضر الأمثلة لتوضيح بِنية حكم الذوق. ينطلق كانط من التمييز بين ضربين من الأحكام الجمالية: أحكام إمبيريقية وأحكام خالصة. في الأولى يختلط الذوق بالانفعال والانجذاب أما الثانية، وهي التي تُهمُّ كانط، فهي الأحكام المستقلة تمامًا عن كل تعلُّق بما هو إمبيريقي: مصلحة، أو انفعال، أو رغبة أو متعة.٣٣ من أجل توضيح بنية حكم الذوق الأصيل، يسوق كانط الأمثلة التالية: كل الألوان البسيطة وكل الأنغام المُرتجلة. أما في الفنون التشكيلية فالرسم هو الكفيل عند كانط بتحريك الذوق الخالص، وبالتالي لا يتعلق الذوق الأصيل عند كانط إلا بالشكل المحض البسيط أما ما له علاقة بالزخرفة والتزويق (Parerga) فلا يُنظَر إليه إلا بوصفه يُنمِّي الذوق من جهة شكلِه المحض، ويسوق كانط الأمثلة التالية: اللباس الذي يُغطي التمثال، إطار اللوحة والأعمدة التي تُحيط بالقصور، أما متى كان الإطار الذي يُحيط باللوحة إطارًا مُذهبًا مثلًا فهو يتحول حينئذٍ وفي اعتبار كانط إلى أمر «يؤذي الذوق ويفسده».٣٤
كيف يقرأ دريدا هذه الفقرة؟ ولماذا ينفذ دريدا إلى نص كانط عبر الفقرة ١٤ أي عبر الأمثلة؟ للقارئ العادي أن يُجيب: لأنه النص الأول والوحيد الذي يتعرَّض فيه كانط في كتاب نقد ملكة الحكم إلى مفهوم (Parerga). العبارة مثلما تظهر في نص كانط تشكو من النقص مرتَين: مرة لأنها ترِد بين قوسَين، ومرة أخرى لأنها تظهر في اللغة اليونانية. لكن لماذا الإحالة على اليونانية؟ هل يتعلق الأمر ببحث كانط عن كرامة شبه مفهومية لتحصين العبارة الفلسفية أم هو نقص في عبارة كانط وتردُّد فلسفي أمام المفهوم؟ لقد كان القول الفلسفي التقليدي كله ضدَّ ما يُسمِّيه كانط هنا زخرفةً أو تزويقًا أي ما هو خارج الأثر. غير أن كانط يبدو هنا لدريدا مُتردِّدًا أمام إقصاء هذا الشأن الخارجي أو إقحامه ضمن الذوق الأصيل؛ إذ يكشف النص الكانطي عن نوعَين من هذا الذي لا يعرف مكانه من الأثر: نوع يُنمِّي الذوق ونوع يُفسده. هل تتَّسِع العبارة لدلالتَين متناقضتَين؟ لماذا لم ينحت كانط مفهومًا خاصًّا به لهذا الذي اتفق تقليد العقل الغربي على إقصائه؟ ذلك لأن النحت في اللغة مُغامرة لا يوافق عليها، مثلما تتحدث عن ذلك إحدى صفحات الجدلية المتعالية من نقد العقل المحض.٣٥
لماذا يلجأ كانط إلى الأمثلة؟ لأنها، كما يُجيب دريدا، بمثابة العكاكيز التي يرتكز عليها الحكم متى كان محرومًا من المفاهيم. ويقف دريدا على عبارة عكاكيز ويُعلق ﺑ «أن الأمثلة هي هنا بمثابة العربات الصغيرة التي يُحمَل عليها الأطفال أو المُسنُّون أو المُصابون بإعاقة.» أي في اعتبار دريدا، كلُّ من لا يملك عقلًا كافيًا للفهم في مجال لا يُحدد له كانط مفاهيم. إلا أن هذه الأمثلة تبقى مُجرد أمثلةٍ، أي تُضاف فقط إلى الحكم أو تُلحَق به من أجل توضيحه. إن الأمثلة إذن لا يُمكنها أن تُعوِّض الحكم بل هي «لا تعوض شيئًا بل قد تُربك وقد تَقلب التوازن، قد تخلخل الفهم وتُدخل الفوضى (…) إنها تدل على ضرب من عمل الحداد.»٣٦
لكن لِمَ التركيز على أمثلةٍ قد تكون اعتباطية ولا قيمةَ لها في نقد ملكة الحكم؟ أليس بالأحرى كما يقول دريدا أن نبحث في هذا الأثر «عمَّا هو أقل هامشيةً وأكثر اقترابًا من المركز؟ لكن هل نعرف سلفًا موضع المركز داخل هذا النص؟ أو هل يَحضرنا بشكلٍ ما إطاره وحدوده القصوى؟» يُجيب دريدا بأن هذا الكتاب «أثر يمكن النفاذ إليه من جهاتٍ مختلفة.» أي أنه قابل للتأطير والحد والقطع والتمركز من نقاط عدة. إننا هنا أمام «إطار إشكالي».٣٧ وهنا نعثر في تفكيكية دريدا على نوعٍ من الفكرة الناظمة التي تُقرِّبنا بشكلٍ ما من دلالة التفكيك لديه: «إنني لا أعرف ما هو أساسي وما هو ثانوي داخل إطار ما (…) أين يُوجَد الإطار؟ هل يوجد؟ أين يبدأ؟ أين ينتهي؟ إننا هنا إذن في المركز المفقود للمُشكل.»٣٨
أما عن اختيار كانط لهذه الأمثلة، أي اللباس والإطار والأعمدة وجمعها معًا للتعبير عن معنًى واحدٍ هو مفهوم الذوق الأصيل، فيعتبِرُه دريدا «سوء اختيار»٣٩ يجمع أمثلة لا تستقيم سويًّا. وتتكاثف صعوبات النص متى تعلق الأمر بعبارة الزخرفة أو ما يلحق بالأثر؛ إذ يشكو الملحق عند كانط في عبارات دريدا من نوع من المرَضية الكامنة أو «مرضية الباررغا» (Une pathologie du parergon).٤٠ إن كانط لا يترك من الملحق أو الرافد إلا الإطار في شكله المَحض. ويُسائل دريدا النص الكانطي ساخرًا «إذا كان الشكل المربع هو لون الإطار في فنِّ الرسم التشكيلي، فما الذي يمكن أن يقوم حينئذٍ مقام المربع في الموسيقى؟ قد لا يكون في نص كانط إذن (بحسب عبارة مُثيرة لدريدا) من الإطار غير «الأطر الدائرية».»٤١

(٤) مفهوم الجمال

يتعلق الأمر بالفقرة ١٦ من تحليلية الجميل، حيث نعثُر مع دريدا على تمييزٍ كانطي مُثير بين نوعَين من الجمال: الجمال الحر والجمال التابع (La beauté libre et la beauté adhérente). أما الجمال الحُر فهو جمال لا يقترِن بأي مفهومٍ للموضوع الجميل. وفي مقابل ذلك يكون الجمال التابع مُقترنًا ضرورةً بمفهوم الموضوع وبالتالي بالغاية من ورائه.٤٢ فالجمال الحُر هو إذن جمال لا يُوجَد إلا لذاته، أما الجمال التابع فجمال من أجل غيره. يسوق كانط عن الجمال الحُر الأمثلة التالية: الورود، مجموعة من العصافير ومن الصدفات البحرية، وكلها عنده من صنف الجمال في ذاته؛ لأنها مصدر لذة جمالية حُرة أي لذة لا غاية من ورائها غير الجمالية نفسها، وهو معنى التعريف الثالث للجميل عند كانط بوصفه «غائية من دون غاية». أما عن الجمال الفني الحُر فتدل عليه الزخارف المنقوشة على أُطر اللوحات (في فنِّ الرسم التشكيلي) ومرة أخرى الموسيقى المُرتجلة من دون نصٍّ ومن دون موضوع.
أما عن الجمال التابع فيسوق كانط ثلاثة أمثلة: الإنسان (ولا يُهم كانط إن كان رجلًا أو امرأةً أو طفلًا) والحصان والمعمار (الكنيسة، القصر، الثكنة). كيف يفكك دريدا هذا النص الذي يُركز عليه تركيزًا خاصًّا بوصفه يشتغل على مفهوم الجمال عند كانط؟ يتعلق ﺑ «طريقة في تجفيف الورود» (Une façon de faner les tulipes).٤٣
أين يقطف كانط الوردة التي يجعلها براديغمًا موجَّهًا لنصِّ نقد ملكة الحكم؟ إنه لا يقطفها لا مِن الطبيعة ولا مِن الحديقة، بل من نصٍّ لسوسور (Saussure) الذي يُحيل عليه في الفقرة ٢٩ من تحليلية الجليل وبتقديرٍ خاص: «هو رجل روحاني بقدْر ما هو عميق.»٤٤ إن دريدا يرى في الورود الكانطية «ورودًا لا تُزهر إلا حذوَ القبور»٤٥ فهي ورود بلا عِطر ما دام شكل الوردة فحسب هو الذي يدلُّ عند كانط على الجمال الحُر. إنها وردة ضيَّعت عطرها من أجل أن تصير، وفق عبارات دريدا، في صنف الجمال الحُر الكانطي. ويُسائل دريدا حينها النص الكانطي أسئلة أقرب إلى الطابع الكلبي أو التراجيدي قائلًا: «ماذا لو حاوَلْنا أن نرسم إطارًا لعطر الوردة؟»٤٦
أما عن تحليلية الجمال عند كانط فغَير قادرة أن ترسم إطارًا لعطر الوردة، لأن ذلك العطر يُفلت من هاجس الشكل المحض. ذلك هو معنى الجمال عند كانط الذي يَستحيل في لغة التفكيك إلى «أسلوبٍ في تجفيف الورود» أي إلى أسلوب في تحويلها إلى موضوعات باهتة للقول الفلسفي الذي ما زال عند كانط سجينًا للتناقض التقليدي للوغوس الغربي بين الشكل والمادة أو العقل واللاعقل أو المنطقي وغير المنطقي. إننا على حدِّ عبارات دريدا أمام «مكنة مفاهيم لا شيء يمكن أن يُقاومها»،٤٧ وهنا يكشف دريدا عن ضربٍ من التواطؤ الثري الخطير ما بين الدِّين والفن والعقل داخل العقل الغربي إلى حدود هيدجر: يتعلق الأمر بفرضية الخلق عند المسيحيين وهي فرضية تمدُّ العقل الغربي الحديث «بدافع إضافي لتحويل المركَّب شكل/مادة إلى البِنية الأساسية لكل موجود. ها هنا تغيب العقيدة لكن رسوم الفلسفة المسيحية تبقى ناجعة.»٤٨
ويُربك دريدا بأسئلة التفكيك مفهوم الجمال الحُر عند كانط متسائلًا: أي معنى لأثرٍ من دون دلالة ولمُوسيقى من دون نصٍّ وللوحةٍ لا لون لها؟ كل إستطيقا كانط يمكن إذن أن نُعبر عنها في صياغة تفكيكية مُثيرة هي التالية: Le sans de la coupure pure إن الجمال الحُر الكانطي مُصاب بنوع من اللبس المحض، إنه جمال هائم تائه لم يُبقِ فيه كانط على غير إطار للوحة.٤٩
ويذهب دريدا بالتفكيك إلى حدِّ اعتبار النص الكانطي نوعًا من «قتل الجمال وقبره». ويمشي بنا التفكيك بعيدًا في الأثر الكانطي مُعلنًا لضربٍ من العصيان لإرادة الحقيقة الثاوية فيه، مُتوقفًا بنا هذه المرة عند مثالٍ ساقَه كانط، وربما لم يخطر بباله أبدًا أن مثالًا يتيمًا قد يُثير ضجةَ الفكر لدى فيلسوف التفكيك، هو مثال «زخارف الأطر» (Les rinceaux d’encadrement).٥٠ حيث يكشف دريدا كيف أن هذا الذي من المفروض أن يُقيم خارج الأثر صار عند كانط إلى بِنية وموضع الجمال الحُر. فماذا يتبقَّى لنا من اللوحة لو حذفنا كل تمثُّلٍ ودلالة ومادة وصورة ولون؟ لا يتبقى غير الإطار فحسب. ونشهد حينها كيف يرتبِك نصُّ كانط أمام أسئلة دريدا. فالأثر عند كانط لا يعني شيئًا؛ إذ لا شيء فيه يدل على غاية.
إن عمل الدلالة يبدو، وعلى عكس ما أراده كانط، في أَوْجُه: في الزخارف والارتجال المُوسيقي، أو في المُوسيقى بلا نصٍّ، كلها تُظهر ضربًا من إرادة القول إنها على الأقل تُظهِر شيئًا ما أو هي في شوقٍ محمومٍ نحو غايةٍ ما. لم يفعل كانط إذن أمام الجمال إلا قمع هذا الشوق وإرادة القول الكامنة فيه، إنه يقطعها قطعًا مَحضًا وبمحض جرةِ القلم. إن جميعها ينبغي أن تكون عنده جمالًا محضًا يقطع مع كل تعاطفٍ أو متعةٍ أو انجذاب.٥١
أما عن التصنيف الكانطي للجمال فيشكو هو الآخر من شرخٍ أساسي؛ فإذا كان كانط يحرص على الفصل النهائي ما بين جمالٍ حُرٍّ وجمالٍ تابع، قاطعًا مع كل تعطف بينهما. فكيف يجمع إذن الصِّنفَين في مقولةٍ واحدة؟ وهل يُقال الجمال على جهة الحُرية وعلى جهة التبعِيَّة بالمعنى نفسه؟ يُشير علينا دريدا بأن «هذا اللعب على الحدود ما بين حُرٍّ وغير حُرٍّ ليس مجرد تمرينٍ هندسي.»٥٢ إضافة إلى ذلك فإن عِبارتَي حُر وتابع ليست سوى محمولات لمفهوم الجمال. ويسأل دريدا نصَّ كانط قائلًا: «ألم يكن حريًّا بكانط أن يُحدد سلفًا مفهوم الجمال قبل أن يقترح علينا صفاتٍ له ومحمولات؟»٥٣

خاتمة: منزلة الإنسان في نقد ملكة الحكم

للإنسان هو الآخر في قراءة دريدا لنصِّ كانط نصيبًا من أسئلة التفكيك المُربكة. وهنا يقتحم التفكيك موضعًا عزيزًا على فلسفة كانط وعلى العقل الحديث برمَّته؛ إذ يُمثل الإنسان الشرط المُتعالي لإمكان الحداثة نفسها. إنه سؤال كانط الأساسي إذ هو الجامع لأسئلة فلسفته برمَّتها. ماذا إذن يحدث للإنسان في نقد ملكة الحُكم؟ في الفقرة ١٦ من تحليلية الجميل يُزحزح النص الكانطي الإنسان ويرجُّه، إنه مجرد جمال تابع؛ إذ الإنسان لا يشهد أبدًا على أي جمالٍ حُر فيُلقي به كانط في مكانٍ ما خارج الأثر، إنه يُصنِّفه إلى جانب الحصان والمعمار في صنفٍ مشترك من الجمال. ويقسِّم دريدا هذه الوضعية المُحرجة للإنسان في نص كانط إلى الأسئلة التالية:

  • (أ)

    ماذا عن جمال الرجل والمرأة الذي يُقرر كانط أنه ليس جمالًا إلا على جهة التبعِيَّة؟

  • (ب)

    ماذا عن مكانة الإنسان بوصفه «الكائن الوحيد القادر على تملُّك نموذج للجمال» مثلما تُقِرُّ بذلك الفقرة ١٧ من الكتاب؟ كيف يفسر كانط إذن العلاقة بين الإنسان بوصفه جمالًا تابعًا وبين الإنسان بوصفه الوحيد الحامل لنموذج الجمال الحُر؟

  • (جـ)
    لِمَ تَمثَّل كانط نسَق تصنيف الفنون الجميلة (في الفقرة ٥١) وفق نموذج المُماثلة الخاص بلُغة الإنسان وجسده؟ يقول دريدا: «مكان الإنسان، موضعه، من الصعب أن نتعرَّف عليه في المؤلَّف النقدي الثالث لكانط. إنه يبدو موضعًا متحركًا ومتعددًا.»٥٤
وقد لا يُمكننا، وفق دريدا، تبيُّن مكانة الإنسان في نقد ملكة الحُكم إلا انطلاقًا من القسم الثاني من الكتاب أي الخاص بالحُكم الغائي. هو إذن «كتاب ينبغي علينا قراءته من النهاية.»٥٥

هل رسَم نص نقد ملكة الحكم الإطار الذي به يُنقذ مجال الإنسان من منطق الهاوية؟ هل حصَّن أسوار الذات وبنى الجسر الذي يُجوِّز العبور، مثلما يأمُل كانط في ذلك، إلى مُواطَنة كونية يكون فيها الإنسان غايةً في ذاته؟ إن هذا الكتاب لم يفعل، وفق تفكيكية دريدا، غير فتح باب الهوة عميقًا، لكن ماذا فعل التفكيك؟ إنه لم يُبقِ من كتاب كانط غير فعل الكتابة نفسها.

هل وفَّى دريدا بما تعهَّد به، أي «قول الحقيقة في الرسم» عبر تفكيك نقد ملكة الحكم؟ أم لم يفعل غير تدمير إمكانية الحقيقة، تاركًا رسمًا بلا حقيقة، وأثرًا من دون كاتب، وفنًّا بلا جمال؟

١  E. Kant, Critique de la faculté de juger, in Œuvres philosophiques II, Paris, Gallimard, 1985.
٢  J. Derrida, La vérité en peinture, Paris, Champs, Flammarion, 1978.
٣  J. Derrida, La vérité en peinture op. cit., p. 6.
٤  Ibid.
٥  Ibid.
٦  لا بُدَّ أن نُشير هنا إلى العودات الملاحقة إلى نص نقد ملكة الحكم، حيث ما فتئ هذا الكتاب يفتح، منذ الرومانسية الألمانية، آفاقًا مختلفة من القراءة والبحث، إما على جهة الاستعادة النقدية التي انخرط فيها بخاصة روَّاد مدرسة فرنكفورت، أو على جهة التأويل مثل قراءة ماكريل، أو القراءة السياسية التي تقترحها حنا آرندت أو من طريق فكر الاختلاف مع دريدا وليوتار. راجع:
W. Benjamin, Le concept de critique esthétique dans le romantisme allemand, Paris, Champs Flammarion, 1986; R. Makkreel, Imagination and Interpretation in Kant: The Hermeneutical Import of the Critique of Jugment, Chicago University Press, 1990; H. Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, Paris, Seuil, 1991; J.-F. Lyotard, Leçons sur l’analytique du sublime, Paris, Galilée, 1991.
٧  J. Derrida, “Au-delà des apparences,” in: Le Monde de l’éducation, n° 284, Juillet 2001.
٨  J. Derrida, La vérité en peinture, op. cit., pp. 14-15.
٩  J. Derrida, La vérité en peinture op. cit., p. 63.
١٠  E. Kant, La religion dans les limites de la simple raison, in Œuvres Philosophiques III, Paris, Gallimard, 1986, p. 70.
١١  نشير إلى أن لهذا النص الكانطي منزلة خاصة لدى دريدا حيث خصَّه بالتفكيك في أحد نصوصه الكبرى حول الدين، راجع:
J. Derrida, “Foi et savoir: Les deux sources de la “religion’’ aux limites de la simple raison,” in La religion, séminaire de Capri, Paris, Seuil, 1993, pp. 9 sqq.
١٢  J. Derrida, La vérité en peinture, op. cit., p. 64.
١٣  Ibid., p. 79.
١٤  E. Kant, Critique de la faculté de juger, op. cit., pp. 929, 953.
١٥  J. Derrida, La vérité en peinture, op. cit., p. 22.
١٦  E. Kant, op. cit., pp. 1117-1118.
١٧  J. Derrida, op. cit., p. 44.
١٨  يتعلق الأمر بأربعة تعريفات لمفهوم الجميل، يصوغها كانط تباعًا كما يلي: الأول نجده في آخر الفقرة ٥ من تحليلية الجميل: «إن الذوق هو ملكة حكم وتقويم موضوع أو نمَط تمثُّل، عن طريق لذة أو ألَم، بصرف النظر عن كل منفعة. إننا نُسمِّي جميلًا موضوعَ مثل هذه اللذة.» أما الثاني فنعثر عليه في آخر الفقرة ٩: «الجميل هو ما يمتِّع على نحوٍ كوني من دون مفهوم.» أما التعريف الثالث فتُعلن عنه الفقرة ١٧: «إن الجمال هو شكل غائية موضوعٍ ما، بوصفه مدركًا ضمن هذا الموضوع من دون تمثُّلٍ لغايةٍ ما.» أما التعريف الرابع والأخير فهو غرض الفقرة 22: «الجميل هو ما يُعرف من دون مفهوم بوصفه موضوع إشباع ضروري.» انظر:
E. Kant, op. cit., pp. 967, 978, 999, 1004.
١٩  J. Derrida, op. cit., p. 92.
٢٠  E. Kant, op. cit., p. 957.
٢١  J. Derrida, op. cit., pp. 80-81.
٢٢  Ibidem.
٢٣  J. Derrida, op. cit., pp. 80-81.
٢٤  J. Derrida, op. cit., p. 81.
٢٥  J. Derrida, op. cit., p. 49.
٢٦  E. Kant, op. cit., p. 920.
٢٧  Ibid., p. 921.
٢٨  Ibidem.
٢٩  E. Kant, op. cit., p. 967.
٣٠  J. Derrida, op. cit., p. 54.
٣١  E. Kant, op. cit., p. 959.
٣٢  J. Derrida, op. cit., p. 53.
٣٣  E. Kant, op. cit., pp. 983–987.
٣٤  Ibidem.
٣٥  E. Kant, Critique de la raison pure, in Œuvres Philosophiques I, Paris, Gallimard, 1980, p. 1026. “Forger de nouveaux mots est une prétention de légiférer dans les langues qui réussit rarement”.
٣٦  J. Derrida, op. cit., p. 91.
٣٧  Ibid., pp. 73-74.
٣٨  Ibidem.
٣٩  Ibid., p. 74.
٤٠  J. Derrida, op. cit., p. 74.
٤١  Ibid., p. 94.
٤٢  E. Kant, op. cit., p. 990.
٤٣  J. Derrida, op. cit., p. 93.
٤٤  E. Kant, op. cit., pp. 1036, 1050.
٤٥  J. Derrida, op. cit., p. 94.
٤٦  Ibidem.
٤٧  J. Derrida, op. cit., p. 77.
٤٨  Ibid., p. 78.
٤٩  Ibid., p. 95.
٥٠  J. Derrida, op. cit., p. 111.
٥١  Ibid., p. 113.
٥٢  J. Derrida, op. cit., p. 114.
٥٣  Ibidem.
٥٤  J. Derrida, op. cit., p. 118.
٥٥  Ibid., p. 119.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤