الفصل السابع

الحرب والسلم في أفق المواطنة الكونية أو كانط في فضاء هابرماس

المقدمة

قد لا يكون الكلام عن الحرب بوصفها جريمة العصر الحالي في حدِّ ذاتها، مِثلما يشير إلى ذلك هابرماس،١ غير ضربٍ من التحذلُق الفكري٢ لمُتفرج٣ يشعر بمُتعة كلبية هي بلا مُتعة٤ أمام صناعة الموت الأولى. لكن في فضاء المدن التي تُنضدها الأمركة الكونية وصدام الأصوليات، قد لا تُحسِن الكتابة سوى ضرب من الإستطيقا السالبة التي أرادها أدرنو٥ جماليات قُبح تحاكي حضارة القُبح التي تنتمي إليها إما طوعًا على جهة المحاكاة وإما كرهًا على جهة إنتاج الأصوليات.
أما عن السِّلم فحدِّث وبكل الحرج الساكن في لُغات الكون. ذلك أنها صارت إلى مجرد موضوعة يُقلبها الساسة على طاولة البرلمانات؛ ذلك أن السِّلم قد لا تصلح في عصر الإرهاب الكوني لغير سكان المقبرة، لأنهم هؤلاء فقط من لا يقتتِلون، أما الأحياء فمِن مزاجٍ مخالف، مثلما جاء ذات رسالة على لسان ساخر لليبنتز يعتبر كل مشاريع السِّلم «مجرد تصنُّع ولهو غير مُجدٍ لحشدٍ من السُّذَّج.»٦
ومع ذلك، إن كان لكل هؤلاء أسبابهم، وفي عالم يكاد يكون، وضد نبوَّة ليبنتز نفسه، أقبح العوالم المُمكنة٧ فإن للفكر أيضًا أسبابه التي تدعوه إلى التفكير دومًا ومرة أخرى، وضد كل ضروب الشرور التي يزرعُها البشر في مُدنهم الضالَّة وذلك من أجل أن تكون الدولة أعدل (أفلاطون) أو من أجل أن يكون الإنسان غاية في حدِّ ذاته في عالم يسعى إلى سِلمٍ دائم (كانط) أو من أجل فضاء عمومي حُر تحكمه آداب الفعل التواصلي ضد وسائل التعتيم الأيديولوجي والدمغجة الإعلامية (هابرماس).

قد تكون تلك هي الأسباب التي دفعت بكانط إلى كتابة مشروع السلم الدائم (١٧٩٦م) والتي حدت بهابرماس أن يكرم هذا المشروع المُسن بمناسبة مرور مئويَّتَين كاملتَين على ظهوره، في كتاب بعنوان سلم دائم، المئوية الثانية لفكرة كانطية (١٩٩٦م).

وفق أي نوع من الضيافة الفلسفية يستقبل هابرماس فكرة كانط في السِّلم الدائم؟

إن الأمر يتعلق، على حدِّ عبارة هابرماس نفسه، «بإعادة صياغة لهذه الفكرة باعتبار الوضعية الحالية للعالم».٨ هو إذن نقد قائم على الفحص التاريخي وإعادة صياغة الإطار المفهومي لهذه الفكرة تحيينًا لها وتكريمًا وإحياءً واحتفالًا واستقبالًا في آنٍ معًا. لكن لِمَ يخصُّ هابرماس هذه الفكرة الكانطية بالذات، في السِّلم الدائم، ومن بين كل أفكار فلسفة كانط العظيمة، بهذا التكريم وذاك الاحتفال؟ هل السبب محض الصدفة التاريخية العارضة وهي مرور مائتي سنة كاملة على فكرة كانط في السِّلم الدائم؟ إنما الأمر خاص بفكرة المواطنة الكونية أفقًا وهدفًا نهائيًّا لدولة السِّلم الدائم، فكانط على حدِّ تعبير هابرماس «قد اكتشف بُعدًا ثالثًا» للنظرية السياسية هو الحق الكسموسياسي.٩ إن ما يُهم هابرماس من مشروع كانط هو فكرة الفضاء العمومي الذي صمَّم أركيولوجيته هابرماس بنفسه.١٠ إن كانط على حدِّ عبارات هابرماس، هو صاحب استباق وبُعد نظر عميق لفضاء عمومي على مستوى الكوكب.١١

إن هدفنا في هذا البحث هو الاشتغال على مشكلة الحرب والسلم التي صارت إلى ضرب الأنطولوجيا الخاصة بنمط إقامة الإنسان في العالم الحالي؛ وذلك من خلال القراءة التي يُقدمها هابرماس لمشروع كانط في السِّلم الدائم. من أجل ذلك نُقسِّم قولنا هذا إلى ثلاث مراحل؛ حيث نبدأ في مرحلة أولى بعرض فكرة كانط في السلم الدائم. من أجل أن نتعرف في مرحلة ثانية على مقومات قراءة هابرماس لهذا المشروع الكانطي، ثم ننتهي في مرحلة ثالثة إلى فحص إمكانية راهنية هذا المشروع في عصرٍ صارت الحاجة فيه إلى الاشتغال على السِّلم أكثر من أي عصر آخر.

(١) عرض لمشروع كانط في السلم الدائم: أو السلم الدائم من شعار أخروي إلى مطلب مدني، كيف الطريق إلى دولة الحق الكوني؟

(١-١) «الفلسفة السياسية» الكانطية: نحو الدولة الكسموسياسية

قد يكون هذا السؤال هو الصياغة الكفيلة بتجميع الرهان الأساسي الذي اشتغلت عليه فلسفة كانط السياسية. وهي فلسفة امتدت لديه من مقالة «فكرة تاريخ كوني من وجهة نظر كسموسياسية» (١٧٨٤م) إلى نزاع الكليات (١٧٩٨م) مرورًا بمشروع السلم الدائم (١٧٩٦م) ومذهب الحق من ميتافيزيقا الأخلاق (١٧٩٧م). إنها فلسفة تجد أشكالها الرئيسية في صياغة القضية الخامسة من فكرة تاريخ كوني (١٧٨٤م) حيث يعلن كانط «أن أكبر مشكلة للنوع البشري تلك التي تُجبره الطبيعة على حلِّها هي إدراك مجتمع مدني قائم على الحق الكوني.»١٢
لكن، أي حلٍّ يقترحه كانط لهذه المشكلة؟ إن الأمر يتعلق عنده بمشروع دستور كوني هدفه السلم الدائم أو ما يُسميه الدولة الكسموسياسية. وهو الأمر الذي ينتهي إليه كانط في خاتمة مذهب الحق قائلًا: «إن هذا الدستور الكوني والدائم للسِّلم، يُمثِّل الغاية الأساسية التامَّة لمذهب في الحق في حدود مجرد العقل.»١٣ لكن أي سِلم دائم مُمكن بين بشرٍ لا يشهد تاريخهم، في نظر كانط على «غير نسيج من الجنون، وأحيانًا خُبث وتعُّطش إلى التدمير الرهيب.»١٤ وأي سلم دائم مُمكن بين بشر «ليست حالة الطبيعة لديهم سوى حالة حرب، إن لم تكن مفتوحة فهي على الأقل مُستعدة دومًا للاشتعال»؟١٥
يفتتح كانط مشروعه في السِّلم الدائم على عنوان يَعتبره قولًا هجائِيًّا، نحَتَه بحسب رواية كانط فندقي هولندي على واجهة محلِّه الذي رسم عليه مقبرة. هذا القول هو «نحو سِلمٍ أبدية».١٦ وكأننا بكانط إنما يستلف هذا الشعار من مجاز المقبرة إلى مشروع السلم داخل المدينة ومن أبد المَوتى الساكن إلى ديمومة الزمن البشري الصائر إن شعار «نحو السِّلم الأبدية» الذي انطلق منه اشتغال كانط على فكرة سِلم أبدي في أفق المواطنة الكونية، هو قول قد يكون كانط قد التقطه من بعض رسائل ليبنتز التي يقول فيها: «لقد عثرت على بعض من مشروع السيد القديس-بطرس (Mr. Saint-Peter) من أجل إقامة سلم دائم في أوروبا. إنني أستحضر شعار مقبرة في عبارات «سلم دائم» ذلك أن الأموات لا يقتتلون أبدًا، في حين أن الأحياء من مزاج مُخالف.»١٧

إن كانط يستعيد هذا الرسم نفسه لكن من أجل التحوُّل به من سخرية المُفكر من مشاريع القساوسة إلى اشتغال الفلسفي الجدِّي، ومن مجاز المقبرة إلى مفهوم الأمل في سِلم دائم. فالسِّلم لدى كانط لن يكون مجرد شعار يرمز إلى لهو المقهى أو صمت المَقبرة، إنما هو إمكان بشري لمجتمع مدَني قائم على دولة الحق الكسموسياسي وعلى إمكان تهذيب للإنسان بغاية ارتقائه إلى مقام المواطنة الكونية. فالسِّلم في السياق الكانطي لم يعُد موضوع سخرية الفيلسوف إنما يكون هدف كل دولةٍ وغاية كل اجتماع بشري، والمعنى الأخير لكلِّ المدن الفاضلة التي حدَّث عنها الفلاسفة جميعًا. إن المدينة التي يشتغل عليها كانط ها هنا ليست مدينة الفضيلة أو العدل أو الخير أو السعادة، إنما هي مدينة السِّلم أساسًا.

لقد كان ليبنتز في نظره قاسيًا جدًّا حينما كتب يقول «لكن أي سِلم دائم يمكن أن نُقيمه بين أناسٍ يسمحون، وبشكلٍ عمومي، بقواعد مُضادة إطلاقًا لكل مشاريع السِّلم (…) لم يعُد هناك أي حقٍّ بين البشر ولا أية عقيدة. ولا أي سِلم دائم يُمكن أن نتمنَّاه (…) ليس هذا سوى تصنُّع ولهو غير مُجدٍ لحشد من السُّذَّج.»١٨
ولم يكن ليبنتز لوحده مَن سخر من مشاريع السِّلم الدائم التي افتتح القول فيها البطرس القديس (١٧١٢م)، فروسُّو يذهب هو الآخر المذهب نفسه، حينما كتب حول مشروع القديس يقول: «وهكذا على الرغم من أن هذا المشروع كان حكيمًا جدًّا فإن وسائل تحقيقه تُنبئُنا ببساطة المؤلف، لقد كان يتخيل بكل طيبةٍ أنه لا ينبغي علينا سوى عقد مؤتمر سلمٍ واقتراح بنود له يتم توقيعها وكل شيءٍ سيسير حينئذٍ على أحسن ما يرام. فلنقل إن هذا الرجل النزيه يدرك من خلال مشاريعه حينئذٍ نتائج الأمور كيفما سيحدث، غير أنه يُقدِّر مثل الأطفال وسائل تحقيقها.»١٩ يكتب كانط مشروع السلم الدائم ضد ليبنتز وضد روسو، على الرغم من كونه لا يُحيل على أيٍّ من هذَين الفيلسوفَين؛ فقد لا يُريد لمقالته أن تكون ذات طابعٍ خصامي إنما يريدُها مشروعًا نظريًّا كاملًا لسِلم دائم، أفقًا استكشافيًّا لجمهورية التنوير.
إنه من أجل ألَّا تتحوَّل المدن إلى مقاهٍ مؤقتة تُقابلها مقابر أبدية، يكتب الفيلسوف مرة أخرى غير آبهٍ أن يسقط فعل الكتابة لدَيه في مجرد أحلامٍ كاذبة. وكأنه ينحت طريقَه ما بين أحلام خيالٍ متحمس مغرور وأحلام العقل الحكيمة التي تضع هدفًا لها فيتو عمليًّا نهائيًّا يقول: «لا ينبغي أن يكون هناك حرب أصلًا …»٢٠ إنه، ومن أجل ألَّا تكون هناك حرب أصلًا، يكتب كانط مرةً أخرى بدلًا من جميع الفلاسفة الذين يئسوا من مشاريع السِّلم وسخروا من آمال القساوسة. فكانط يتحول بالسِّلم ها هنا من موضوعة رجاءٍ دينية إلى مشروعٍ فلسفي غايته تهذيب الإنسان الحديث والارتقاء به من بربرية المتوحشين القائمة على العنف والحرب، إلى الضيافة الكونية بوصفها مبدأً لإقامة مجتمع السِّلم الدائم٢١ إنه مشروع سِلم دائم في أفق المواطنة الكونية؛ بمعنى وحدة المجتمع الذي يُعلِّم مواطنيه كيف الارتقاء إلى مقام المواطن في العالَم وفي إطار فضاء عمومي قائم على مبدأ العمومية شرطًا لكل قانونٍ عادل، هو المجتمع الكفيل بالسير نحو السلم الدائم.

فكانط هنا يستحيل إلى مُعلِّم للإنسانية الحديثة لضربٍ من الالتزام الأخلاقي أو من التربية السياسية للمواطن هو بمثابة التنضيد لما يُسميه هابرماس بالفضاء العمومي. لكن ما بين الدولة الكسموسياسية أو المواطنة الكونية اللذين علَّق عليهما كانط آمالًا فلسفية جدَّ متفائلة في أفق إشكالية التنوير القائمة على القول بإمكانية تقدُّم البشر نحو كمالِهم الأخلاقي، والفضاء العمومي القائم على التعتيم الأيديولوجي الذي يفضحه روَّاد مدرسة فرانكفورت كاشِفين القناع عن خطورة أيديولوجيا التنوير، مسافة هي الفاصلة ما بين فكرة كانط في السِّلم الدائم وقراءة هابرماس لها.

يقول كانط في القضية السابعة من فكرة تاريخ كوني: «إننا على قدْرٍ عالٍ من الثقافة بواسطة الفن والعلم، وإننا أيضًا مُتحضِّرون إلى حدِّ الإرهاق، من جهة التمدُّن والرفاهة الاجتماعية. لكن ما زال ينبغي علينا الكثير حتى نُصبح متخلِّقين.»٢٢
لكن ما السبيل نحو الارتقاء إلى مقام مكارم الأخلاق؟ يظهر كانط متأرجِحًا ما بين اليأس والتفاؤل يقول: «… لكن ما دامت الدول تُركز قواها كلها على أهدافها التوسُّعية العنيفة التي لا جدوى من ورائها، وما دامت تعول باستمرار على الجهد البطيء للتهذيب الباطني لنمَط تفكير مواطنيها (…) لا يمكن أن ننتظر أية نتيجةٍ من هذا النوع. ذلك أنه ينبغي من أجل ذلك عمل داخلي طويل الأمد لكل أمةٍ بغاية تهذيب مواطنيها».٢٣
يحرص كانط دومًا على أن يكون الفيلسوف هو مَن يقوم على مثل هذا التهذيب والترشيد للمواطن وذلك بالاستعمال العمومي لعقله مثلما يُشرِّع لذلك في مقاله «ما هي الأنوار؟»٢٤ وإن مشروعه في السلم الدائم يدخل ضمن هذا التهذيب للمواطن من أجل ضرب مخصوص من المواطنة قائمٍ على الحق الكسموسياسي. إن هذا المشروع الكانطي الذي ينقل السلم من المقبرة إلى المدينة، ومن القديس إلى الفيلسوف، ومن سُخرية المقهى إلى جدِّية العقل، ومن أبد الآلهة الأخرس إلى زمن البشرية الحي، هو ضرب من التدبير لفضاء المواطنة الحديث.

كيف شاء كانط أن يُصمم سياسة الدولة الحديثة؟

«نحو السِّلم الأبدية» أمام هذا المجاز يسأل كانط: إلى من يتوجَّه هذا الرجاء أو ذاك النداء سواءً كان سخريةً أم هجاء؟ هل هو يتوجَّه إلى الناس بعامَّة، أم إلى الساسة بخاصة أم هو قول خاص بالفلاسفة؟

السلم الأبدي شأنُ مَن مِن كل هؤلاء الأحياء الذين يتقاسمون الفضاء العمومي؟ أهو شأن العوام الذين تعلَّم كانط بفضل روسو كيف يُحبهم، أم هو شأن الساسة الذين يسكنهم نهَم الحرب، أم هو شأن الفلاسفة الذين يستسلمون إلى الحلم الجميل بالسِّلم الدائم والذين لا يرى فيهم الساسة غير مُتحذلِقين حالِمين لا جدوى من نظرياتهم أبدًا؟٢٥
إن كانط لا يُريد أن يحسم في هذه المسألة ضِمن مقالة ١٧٩٦م، إلا أننا نعثُر لدَيه على إجابةٍ شافية عمن يكون مسئولًا عن السلم الدائم في أحد هوامش كتاب نزاع الكليات (١٧٩٨م)، يقول كانط: «لقد تم إخراج أطلنطا أفلاطون، يوطوبيا مور (More)، أقيانوس هارينغتون (Harrington)، سفيرانبيا آلاس إخراجًا مسرحيًّا الواحدة تلوَ الأخرى، لكن لم يقع أبدًا القيام بمحاولة تحقيقها، (باستثناء الجبار الفاشل لجمهورية استبدادية لكرومويل (Cromwell)) أن نأمُل في ظهور كيان سياسي فاضل آجِلًا، مهما كان الأمر متأخرًا. أن نُفكر بذلك هو حلم عذب، ومع ذلك أن نقترب من ذلك أكثر فأكثر ليس فقط أمرًا قابلًا للتفكير من جهة أن ذلك يتطابق مع القانون الأخلاقي، إنما هو واجب لكنه لا يخصُّ المواطنين إنما يخصُّ قادة الدول.»٢٦
إن هذا النص الكانطي يعطي للفلاسفة ما لهم وللساسة ما عليهم، فللفلاسفة حق التفكير في السِّلم الدائم وعلى قادة الدول واجب العمل على الاقتراب منها أكثر فأكثر. إن الفيلسوف هنا إنما يُبرئ ذمَّته من كل تأويلٍ مغرض في عصر تعرَّض فيه كانط نفسه إلى مُراقبة صارمة ومنعٍ له من الاشتغال على مسائل مُحرجة منها مسألة الدين بخاصة.٢٧

(١-٢) مضمون مقالة «السلم الدائم»

تحتوي مقالة مشروع السلم الدائم لكانط على فصلَين وتذييلَين وملحقَين: يتضمن الفصل الأول ستة بنود أولية لسِلم دائم، أما الفصل الثاني وهو الأهم ففيه يقترح كانط ثلاثة بنود نهائية للسلم الدائم. وفي المُلحقات عنصران: الأول خاص بما يضمن السِّلم الدائم أما الثاني فبند سرِّي فيه فحص لدور الفيلسوف وعلاقته بالسائس في إطار هذا المشروع. أما التذييل ففيه يقف كانط عند التعارُض ما بين السياسة والأخلاق في عنصر أول وفي عنصر ثانٍ عن إمكانية الاتفاق بينهما بواسطة الفكرة المُفارقة للحق أو مبدأ العمومية.

أما عن البنود النهائية للسِّلم الدائم التي يُشدِّد كانط على أهميتها القصوى فهي ثلاثة:

البند الأول عن أن الدستور المدني لكل دولة ينبغي أن يكون جمهوريًّا؛ ذلك أن الجمهورية هي النظام السياسي الوحيد عند كانط القادر على ضمان:

  • (أ)

    الحرية التي لأعضاء المجتمع بوصفهم بشرًا.

  • (ب)

    لخضوع الكل إلى تشريعٍ واحد بوصفهم ذواتٍ.

  • (جـ)

    لحقِّ المساواة التي لهم بوصفهم أعضاءً في الدولة.

إن ما يُهم كانط من هذا الدستور الجمهوري في إطار مشروع السِّلم الدائم هو أنه فقط «بحسب هذا النمَط من الدستور، ينبغي على كلِّ مواطن أن يُساهم بموافقة في اتخاذ قرارٍ بشأن أن تكون هناك حرب أم لا، لكن أن يُشرِّع المرء (للحرب) معناه أن يُشرِّع ضد نفسه لكل مصائب الحرب.»٢٨ أما في دستور غير جمهوري، فإن اتخاذ قرار الحرب قد لا يُكلِّف قائد الدولة أقل ممَّا تُكلف مُتَعه الخاصة من طعامٍ وصَيد وتجوال.٢٩
أما البند النهائي الثاني فيقترح فيه كانط أن «يتأسس الحق العام على فيدرالية دول حرة»٣٠ أي أن يُقيم الشعوب معاهدة بينهم، هي «ضرب من الحلف نُسميه فيدرالية (…) دولة مؤلَّفة من قوميَّات تمتدُّ إلى كل شعوب الأرض.»٣١
أما البند الثالث من أجل سلم دائم فهو أهم البنود حيث يتعلق بما يَعتبره هابرماس اكتشاف كانط الفريد أو البُعد الثالث لنظرية الحق العام. إنه الحق الكسموسياسي القائم على مبدأ الضيافة الكونية ويُعرِّفُها كانط قائلًا: «إن الضيافة تعني فحسب الحق الذي لكلِّ أجنبي في ألَّا يُعامَل داخل البلاد التي حلَّ بها بوصفه عدوًّا.»٣٢ ويُعطى كانط أمثلة تاريخية مضادة لمثل هذا المبدأ: من ذلك مثلًا الحق البربري الذي يُمارسه العرب ضدَّ كل من يقترب من قبائلهم في صحرائهم الشاسعة. أما عن أوروبا «فكم تبتعِد أُمَمُها الراقية عن مثل هذا الكمال الأخلاقي القائم على الضيافة الكونية وأي شطط في الظلم يُمارسه هؤلاء حينما يذهبون لاكتشاف بلادٍ أخرى، وهو ما يعني في عرفهم غزو تلك البلاد!»٣٣
أما عن البند السري الخاص بالسِّلم الدائم فأخطر البنود بالنسبة إلى مصير الفيلسوف في علاقته بسياسة الدولة. لذلك هو بند سري يُبدي كانط تردُّده حول إمكانية إقحامه ضمن مشروع سلم دائم. إن الفيلسوف ها هنا لا يطلب من السائس شيئًا غير أن يستمِع إليه وأن يَستشيره في خصوص الحرب والسِّلم. ويحرص كانط على صياغةٍ دقيقة لهذا البند قائلًا: «إن البند الوحيد من هذا النوع هو التالي: إن قواعد الفلاسفة بشأن الشروط التي تجعل السِّلم الدائم مُمكنًا، ينبغي الرجوع إليها من طرف الدول المُسلحة للحرب.»٣٤ إن على السائس بحسب كانط أن يدعو الفلاسفة وأن يسمح لهم بإبداء آرائهم في شأن الحرب والسِّلم.
أما المبدأ الذي تقوم عليه دولة المواطنة الكونية التي تهدف إلى سِلم دائم فهو ما يُسميه كانط بمبدأ العمومية Principe de la publicité. ويصوغ كانط هذا المبدأ كما يلي: «كل الأفعال الخاصة بحق الغير والتي لا تكون قاعدة قابلة لأن تكون عمومية. هي أفعال غير عادلة».٣٥ إن هذا المبدأ ليس أخلاقيًّا محضًا إنما هو أيضًا مبدأ حقوقي يضمن الاتفاق بين السياسة والأخلاق في خصوص السلم الدائم. وكانط يسوق له صياغة موجِبة تقول «إن كل القواعد التي تحتاج من أجل أن تكون فاعلة إلى العمومية، تتفق مع السياسة والأخلاق معًا.»٣٦

ذلك هو أهم ما تضمن مشروع السلم الدائم لكانط، هي خمس أفكار أساسية:

في الأولى تحديد لنوع الدستور الذي يصلح لأن يكون أرضيةً سياسية خاصة للسير نحو دولة السِّلم الدائم (الجمهورية). وفي الثانية تعيين لطبيعة العلاقة بين الدول من أجل ضمان حرية كل دولة واستقلالها وفي الوقت نفسه تحالف الجميع على سلمٍ دائم لكل العالم (فيديرالية الدول). أما الثالثة فخاصَّة بالحق الكسموسياسي بما هو قائم على مجرد مبدأ الضيافة الكونية. أما الفكرة الرابعة فتُرتب علاقة الفيلسوف بالسياسة، أما الخامسة فتُشرِّع للمبدأ الأساسي للعمومية وفق عبارة حنا آرندت الذي يتحكَّم بكل العملية السياسية لدى كانط٣٧

(١-٣) قراءة هابرماس لمشروع كانط في السلم الدائم

يَعتبر هابرماس، منذ بداية كتابه، أن كانط صاحب اكتشافٍ طريف في مجال نظرية الحق هو مفهوم الحق الكسموسياسي الذي يعتبره هابرماس بمثابة البُعد الثالث في مجال المذهب الكانطي في الحق العام. إلا أن القرنَين من الزمن اللذين يفصلاننا عن كانط كفيلان باستشراف حدود فكرة كانط في السلم الدائم بوصفه الهدف النهائي للدولة الكسموسياسية القائمة على الحق، هما الأمر الذي حدا بهابرماس إلى رسم حدود هذا المشروع الكانطي من خلال الأفكار التي نحصيها كما يلي:

  • أولًا: إن فكرة كانط حول الحرب لا تصلح إلا لأفق التجربة التاريخية لعصره.
  • ثانيًا: وإن الدولة الجمهورية ليست الدولة الأمثل للسِّلم الدائمة، فهي ليست أكثر سلميةً من أنواع الدول الأخرى.
  • ثالثًا: وإنه من المُحال علينا اليوم أن نعتقد في إمكانية بناء وصيانة فيديرالية دول حُرة على مجرد التزامٍ أخلاقي.
  • رابعًا: وإن كانط لم يكن على حق حينما اختزل دولة الحق في الحق الأصلي الذي بحوزة كل امرئٍ بوصفه إنسانًا. فهذا الأمر يجعل الأفراد متحوِّزِين على الحقوق ويُعطي الأنظمة الحقوقية الحديثة بِنية فردانية صرفة.٣٨
  • خامسًا: وإن مشروع كانط لم يكن يحتاج إلى اللجوء إلى مشروع ميتافيزيقا للأخلاق من أجل أن يُفسِّر لنا كيف «يمكن تحويل الاتفاق على مجتمع وقع ابتزازه بشكلٍ مرَضي إلى كلٍّ أخلاقي.»٣٩
  • سادسًا: إن اعتبار كانط أن السيادة الدولية أمر لا يمكن تجاوزه أدَّى به إلى تصور الوحدة الكسموسياسية على أنها فيدرالية دول وليست فيديرالية مواطنين كونيين.٤٠
  • سابعًا: وإنه لم يكن بوسع كانط أن يتنبأ بتغيُّر بِنية الفضاء العمومي إلى فضاء تُهيمن عليه وسائل الإعلام الإلكترونية. وتُصاب فيه الكلمة بالتشويه والدمغجة بدلًا من النُّصح والتنوير. وإنه بالتالي لم يعُد بوسعنا أن نُعوِّل على قدرة الفيلسوف على إقناع الساسة بنظريات الحق والعدل مثلما شرَّعت لذلك مقالة السلم الدائم لكانط.
ينطلق هابرماس من نصٍّ يعتبره أساسيًّا من كتاب نزاع الكليات. يقول فيه كانط: «إن فكرة دستور يتفق مع الحق الطبيعي للبشر، بمعنى ذلك الذي ينبغي فيه على الذين يُطيعون القوانين أن يكونوا في الوقت نفسه مُشرِّعين لها، هي أساس كل أشكال الدولة، وأن المجتمع المُطابق لها وفق مفاهيم محضة للعقل، يُسمَّى مثالًا لاأفلاطونيًّا، ليس خيالًا فارغًا، إنما هو المقياس الأبدي لكلِّ مؤسسةٍ سياسية عامة، وهو يُبعد كل حرب.»٤١

إن ما يسترعي استغراب هابرماس في هذا النص هو بالضبط الجملة الأخيرة فيه، أي «ويُبعد كل حرب» وهو ما يعني عنده أن قواعد حق الأشخاص التي تتحكم بالحرب والسِّلم ليست سوى قواعد مؤقتة إلى حين بلوغ النزعة السلمية الحقوقية التي تُحضر لها مقالة مشروع السِّلم الدائم مقام دولة كسموسياسية، وبذلك يقع القضاء على كل حرب.

يبدو كانط ها هنا بمثابة من يُعلِّق آمالًا كبرى على دولة الحق الكسموسياسي التي قد لا تكون سوى حلمٍ عذب من أحلام الفلاسفة، أو قد لا يُدركها سوى «شعب من الملائكة» بعبارات كانط نفسه، وبالطبع إن عذر كانط الوحيد ها هنا في رأي هابرماس، على مثل هذه المعالجة المتفائلة لمشكلة الحرب هو الحق العقلي كأرضية مفهومية لمشروعه، والأفق التاريخي المحدود لتجربة عصره. لكن بيننا وبين كانط قرنين من الزمن قد يجعلان مشروع كانط في نظر هابرماس عرضةً لمشاكل مفهومية ولصعوبة مصالحته مع العصر الذي ننتمي إليه.

هل ما يزال ها هنا الحديث عن الحرب والسلم في لغة كانط، أي في لغة فلسفة تؤمن بأن عصرها برمَّتِه هو عصر النقد والتنوير، وبأن شعبها بكامله قادر على الخروج بنفسه من حالة القصور إلى حالة الرشد، وبأن الدول بإمكانها أن تسترشد بنداء العقل، أن يُدرك حالة السلم الدائم؟

يرى هابرماس أن المشروع الكانطي قائم على معالجة محدودة لمشكلة الحرب لذلك بالضبط انتهى ذات المشروع إلى حلٍّ كفيل بإعادة النظر بمسألة السلم.

إن كانط لم يشتغل أبدًا ومباشرة وبشكلٍ صناعي مخصوص على مشكلة الحرب في حدِّ ذاتها وبوصفها صناعة الموت. إنه ينادي بضرورة التفكير بمشروع سلمٍ دائم في أفق حقٍّ كسموسياسي كأفق استكشافي لمواطنة كونية، وذلك ضد الحرب بما تُسببه من كوارث جمَّة ضد النوع البشري. ومن بين شرور الحرب، لا يهتم كانط في مرتبة أولى بالأموات، مثلما يلاحظ ذلك هابرماس، إنما يُهمه أساسًا أهوال العنف والخراب وأعمال السلب والنهب وتفقير البلاد، وخصوصًا استعبادها وفقدانها حريتها والهيمنة الخارجية وانتشار الأخلاق البربرية.

إن دولة السلم التي يُحدِّث عنها كانط إنما تستمدُّ هدفها من وضع حدٍّ للحرب. إلا أن هذه الحرب التي ينشغل بها كانط إنما ماهيتها نزاعات محدودة بين دول مختلفة، لكنه لم ينشغل البتة بفكرة حروب كونية، حروب إبادة وتدمير شامل. إنه لم يكن يتوفر في حدود التجربة التاريخية لعصره على غير حروب محدودة من وجهة نظر تقنية، ولم يكن ليخطر بباله أبدًا، كما يقول هابرماس، «التفكير بحرب أطرافها إرهابيون وسلاحهم القنابل».٤٢
لا وجود في ذهن كانط بعدُ لفكرة حربٍ مُجرَّمة في حد ذاتها، أما عن السلم الدائم الذي يُفترض أن يضع حدًّا لحرب محدودة في الزمان والمكان والترسانة التقنية، فهي تبدو لهابرماس مجرد أمارةٍ من أمارات الدولة الكسموسياسية التي تماثل ضروب العقد الاجتماعي التي يتحول وفقها الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية.٤٣
إن عيب كانط الأساسي في ذهن هابرماس هو ثقته المفرطة في مجرد التزام أخلاقي قادر على إقامة حلف دولي على سلمٍ دائم بين الدول. إن ما ينقص كانط هو اشتغال جدِّي على جهاز حقوقي من أجل ضمان إمكانية بناء فيدرالية من الدول قادرة على التحالُف من أجل حق كسموسياسي، وسلم دائم بين الشعوب، وهو ما يُعبر عنه هابرماس قائلًا: «إن كانط لا يُخبرنا كيف يمكن المحافظة على هذه الكنفيدرالية العالمية وتحصينها من دون أن نمتلك جهازًا حقوقيًّا لهذا الدستور. إن الكنفيدارلية التي يُناط بعهدتها تأسيس سلم دائم ينبغي أن تتميز عن التحالفات العرضية، لكن مجرد إلزام أخلاقي غير كافٍ لضمان هذه المواطنة الكونية. لقد أبصر كانط جليًّا بإحراج كهذا في الوقت نفسه الذي كان يموه فيه بمجرد نداء للعقل.»٤٤

إن هذا النداء الكانطي للعقل لا يكفي من أجل بناء دولة سلمٍ دائم، فثقة كانط المفرطة في أخلاق الاحترام هي علة الطابع المحدود لمشروع كانط لدولة المواطنة الكونية.

أما عن فكرة القضاء العمومي فقد أدخلها كانط درءًا للشكوك عن فرضية المواطنة الكونية، أي من أجل ألَّا تحصل لدَينا ريبة بأن مشروع التحالف بين الشعوب هو مجرد فكرة متحمِّسة. إن فكرة الفضاء العمومي المدني، بحسب قراءة هابرماس، هي التي تحمل في درجة أولى مهمة المُراقبة، فهي من يمكنها أن تمنع بواسطة النقد العمومي إمكانية القيام بمشاريع شريرة غير متلائمة مع القواعد العامة. فكانط يُحيل على دور الفيلسوف بوصفه «مُعلِّم حقوق» ويُشدد على حقه في أن ينشر بشكلٍ عمومي حُر القواعد العامة التي تخص الحرب والسلم.٤٥
ويقف هابرماس هنا عند نص كانطي يُشير إلى اهتمامه بشكلٍ مخصوص. يقول كانط: «أن يصير الملوك فلاسفة، أو أن يصير الفلاسفة ملوكًا، أمر لا ينبغي علينا البتة انتظار وقوعه، ولا ينبغي علينا أيضًا أن نتمنَّاه، ذلك أن متعة المُلك تفسد ضرورة حكم العقل وتُشوِّه حريته، لكن ألَّا يتألم الملوك أو الشعوب الملوك، أي الشعوب التي تحكم نفسها بنفسها، وفق قوانين المساواة من إمكانية أن تنقرض طبقة الفلاسفة أو أن تكتفي بالصمت، إنما يسمح لها على العكس من ذلك أن تسمع بحرية، وذلك هو مطلب دولة التنوير.»٤٦
نص مُثير يقف عنده هابرماس مُعلِّقًا عليه بما يلي: «لقد كان كانط يفكر بدولة فريديرك الثاني،٤٧ لذلك كانت له الأسباب لكي يخشى المراقبة.»٤٨
إن عيب كانط في نظر هابرماس هو ثقته المفرطة في قوة الإقناع التي كان يتمتع بها الفيلسوف … لقد كان كانط يُعوِّل على شفافية الفضاء العمومي ذي الطابع الأبدي والحسَّاس للحِجاج، وهو يتكلم لا عن العموم بل عن المواطنين المُثقفين. ذلك أن كانط لم يكن بوسعه أن يتنبأ بإمكانية تغير بنية الفضاء العمومي الذي تحول إلى فضاء تهيمن عليه وسائل الإعلام الإلكترونية المدنية على المستوى الدلالي والمشغولة بصورٍ ووقائع افتراضية، أضف إلى ذلك أنه لم يكن بوسع كانط أن يتوقع التشويه الذي أُصيبت به الكلمة، بوصفها عند كانط وسيلة تنوير، وإذا بها استحالت في العصر الحالي، كما يشير هابرماس، إلى دمغجة صمَّاء واستعمال مُخادع للغة.٤٩
ومع كل ذلك يغفر هابرماس لكانط «حجاب الجهل» هذا الذي يتمتع به وهو الذي، بعبارات هابرماس، كان يُعطي لكانط الجرأة على استباقٍ بعيد النظر لفضاءٍ عمومي على مستوى الكوكب لم تكد الإنسانية الحالية لتشرع بعدُ في توضُّح معالمه.٥٠

(١-٤) ماذا تبقى من كانط في فضاء هابرماس؟

إنه على الرغم من أن التصور الكانطي للتحالف السِّلمي بين الشعوب يحتاج إلى أكثر من مجرد الالتزام الأخلاقي، ومن أن فكرة الحق الكسموسياسي الكانطية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة، فإن هابرماس يعترف بالمكاسب الكانطية التالية:

  • (١)
    إن فكرة السلم الكونية التي حرص مشروع كانط على صيانتها لم تكفَّ أبدًا عن التطور والتجذُّر في الفضاء السياسي الحالي، منذ تأسيس المجتمع الأُممي في جنيف. وأن هذه الفكرة اتخذت منذ الحرب العالمية الثانية صورةً ملموسة في المؤسسات والمبادرات السياسية.٥١
  • (٢)

    وإن التحديات التي نجمت عن كوارث القرن العشرين جعلت تطوُّر هذه الفكرة أمرًا مُلحًّا وهو إطار حرَّك الفكر الكوني كلَّه بعامة.

  • (٣)
    وإنه ما وراء حُجب الحرب الكونية التي زج هتلر (Hitler) العالم فيها، تحول العالم من الحق الدولي إلى حق المواطنة الكونية، ومن جرائم الحرب إلى التنديد بالحرب كجريمة في حدِّ ذاتها.٥٢
  • (٤)

    وإن كانط صاحب استباق لفضاء عمومي كوني يجعل من المُمكن أن يحتجَّ الجميع على أي اعتداءٍ يُقترَف بشأن إنسان في أي ركن من الأرض.

  • (٥)
    وإن فكرة حق المواطنة الكونية التي بشَّر بها كانط لم تعُد، في نظر هابرماس، مجرد مُبالغة مُتحمسة في مذهب الحق، إنما هي درجة الاكتمال القصوى الضرورية للحق المدني والعمومي.٥٣
  • (٦)
    ويحرص هابرماس على الاعتراف بأهمية مبدأ العمومية الذي شدَّد عليه كانط مبدأً لكل العملية السياسية لدَيه. إذ إن كانط هو عند هابرماس مَن حرص على صياغة العلاقة الحميمة بين التنظيم الحقوقي والثقافة السياسية لشعبٍ ما، وأهمية ذلك في تجذُّر فضاء الحرية وتحضُّر أمة وتقدُّمها.٥٤
أما لو حفرنا قليلًا في ذاكرة هابرماس الفلسفية وبحثنا عن مكان كانط في «الفضاء العمومي» لهابرماس، وهو ما مثَّل عنوان أطروحته (١٩٦٢م)، فإن كانط يبدو في مرتبةٍ أساسية ضمن الأركيولوجيا التي يُصممها هابرماس لمبدأ العمومية في المجتمع البرجوازي؛ إذ هو صاحب «النظرية المُكتملة لمفهوم الرأي العام»٥٥ إلا أن عيب كانط بوصفه النموذج الليبرالي للعمومية، يتمثل عند هابرماس في «تمييزه ما بين نجاة الدولة وسعادة المواطنين» وهو ما يُفسِّر التناقُض في فلسفته بين الموافقة على أيديولوجيا النظام والمُطالبة بالأخلاقية.٥٦ إن النسق الكانطي يبدو في فضاء هابرماس قائمًا على جملةٍ من الأوهام السياسية والتي من بينها التفاؤل في البُعد الأخلاقي لسياسة المدينة والوعي الذي في دائرة العمومية بوصفها «رأيًا عامًّا» وثقته في قُدرة الفيلسوف على الإقناع والتنوير.
أما عن الإنسان الذي يُحدِّثنا عنه كانط بوصفه غاية جمهورية التنوير، فهو لا يعدو أن يكون الصياغة القصوى للعلاقة الكلاسيكية: برجوازي، إنسان، مواطن.٥٧

خاتمة

ماذا لو فرضنا، وضمن صراع العمالقة ما بين كانط وهابرماس، ومع نيتشه أن «الفِكَر الكبرى هي الأحداث الكبرى»، ألا نرى حينَها أن دولة السِّلم الدائم التي تفكَّر بها كانط، بديلًا عن كل ضروب المدن الفاضلة الفاشلة، إنما هي الحدث الأكبر في حضارة الحرب الدائمة؟ لكن ألا تكون فكرة كانط في السلم الدائم في أُفق مواطنة كونية قد ذهبت إلى أبعد ممَّا صمَّم لها صاحبها، وذلك متى صارت هذه الفكرة من مواطنة كونية في سِلمٍ دائم إلى أمركة كونية تزرع الحرب الدائمة حيثما صمَّم ذلك البرابرة الجدد؟

إلا أن كانط كان قد استشرف إمكانية تحول الدولة الكسموسياسية إلى كيانٍ سياسي يتحكم بكل الدول، أو إلى ما يُسميه كانط بمملكة كونية. لذلك اكتفى كانط ببناء فكرة الحق الكسموسياسي على مجرد التزام أخلاقي واستعمال عمومي للعقل وإرشاد فلسفي للسياسة، وهو أمرٌ لم يشأ هابرماس أن يغفره لكانط، مُطالبًا بصياغة حقوقية لمِثل هذه الدولة الكسموسياسية. لقد كان كانط يُدرك جيدًا أن تحول الحق الكسموسياسي إلى حوزة دولةٍ عالمية أمر على قدْرٍ رهيب من القُبح والفظاعة. لذلك كتب عنها في مقالة مشروع السلم الدائم يقول: هي «استبداد يقتل الأرواح ويجتث الخير من جذوره ويسقط عاجلًا أم آجلًا في فوضى عارمة.»٥٨
إن كانط كان قد استبق مخاطر مثل هذه الدولة الكونية منذ ١٧٩٣م حيث كتب في أحد هوامش الدين في حدود مجرد العقل: «إن المملكة الكونية تقضي على الحرية والفضيلة والعلم والذوق والأخلاق (…) هذا الوحش الفظيع (الذي تفقد داخله القوانين شيئًا فشيئًا قوَّتها)، سوف ينقرض بنفسه بعدما أن يكون قد ابتلع كل جيرانه …»٥٩

وفعلًا، ألم تتحول فكرة الدولة الكسموسياسية في العهد الإمبراطوري الجديد إلى وحشٍ فظيع يزرع الحرب والموت في الفضاء الكوني الذي أراده كانط؛ فضاء الحرية وهابرماس؛ فضاء الفعل التواصلي؟ وألم تصدُق نبوَّة كانط بإمكانية انقراض مثل هذا الوحش على جدران البُرجَين؟

حرص كانط كان أبعد من هابرماس إذن على أن يبقى مطلب الكونية مجرد فكرةٍ استكشافية خوفًا من الخطورة الثاوية داخل استعمالٍ سياسي قبيح لها.

وفعلًا ماذا نشهد اليوم من الدولة العالمية الحالية: مواطنة كونية لسلمٍ دائم بين شعوب متساوية ومُستقلة، أم أمركة كونية وحروب مترحِّلة ومقابر جماعية يحفرها القراصنة الجُدد وبمُتعةٍ كلبية لا تختلف كثيرًا عن متعة أكَلَة لحوم البشر؟

وأمام هذا المشهد العالمي الحالي الذي تختلِط فيه الكوميديا بالتراجيديا، وضحكة هوميروس (Homer) بسخرية السؤال السقراطي، وجدية كانط بعدَمية نيتشه، قد لا يبقى من فلسفة كانط غير تشخيصٍ سوداوي للتاريخ البشري: «إن المعدن الذي قُدَّ منه البشر على قدْرٍ من الاعوجاج بحيث يستحيل معه أن نصنع منه أي شيءٍ مُستقيم.»٦٠
ومرة أخرى نقول ضد هابرماس إن كانط لم يكن متفائلًا بالقدْر الذي رآه فيه هابرماس وأنه كان يُدرك جيدًا ما يمكن أن يُثيره مشروعه الأخلاقي في السلم الدائم من سخرية السائس نفسه، وكأنه كان يشقُّ طريقَه ما بين نداء مسئولية الفيلسوف أمام الشرِّ المُتجذِّر في مُدن البشر وسخرية الساسة من النظريات الحالمة. ولذلك لم يكن يُعوِّل فعلًا لا على البشر الذين قُدَّت جيناتهم من الشرِّ المحض، ولا على الساسة الذين يسكنهم شرَه الحرب ومتعة الملك، لذلك كتب في أحد هوامش كتاب نزاع الكليات: «… لا ينبغي علينا أن نُعوِّل كثيرًا على البشر في تقدُّمهم نحو الأفضل من أجل ألَّا نتعرَّض إلى سخرية السائس، الذي يعتبر هذا الرجاء مجرد حلمٍ لدماغٍ مُتحمِّس.»٦١ وعلى الرغم من ذلك بإمكان الفيلسوف أن يحلم بدلًا من الإنسانية جمعاء، لكنه لا يحلم كفردٍ من أجل التنفيس عن مرضٍ نفسي أو عقدةٍ مرضية مِثلما حال الأحلام لدى فرويد (Freud)، إنما حلم الفيلسوف هو حلم العقل الذي يتَّسع لفضاء الإنسان الكوني. فليحلم الفيلسوف ما شاء له ذلك، فأحلامه أفكار تُوجِّه الإنسانية نحو عالَمٍ بلا حدود، وطوبى لأحلام الفيلسوف فأحلامه تنشيط لأفكارٍ ثاوية في هذا التنِّين البشري النائم.
يقول كانط: «عَذْبٌ أن نخترع بواسطة الفكر مؤسَّسات سياسية تتلاءم مع مطالب العقل. ولكن — وكانط يبدو هنا واقعيًّا أكثر من اللازم — من الغرور أن نقترِحها ومن الذنب أن نُحرِّض الشعب لتدمير المؤسسات القائمة.»٦٢

إن كانط يبدو على حق، ومرة أخرى، فيما أبعد من هابرماس حينما قصر مهمة الفيلسوف على الدفاع عن حُرية التفكير وعن التهذيب الأخلاقي للإنسانية من أجل توجيهها نحو مُستقبل يكون فيه الإنسان غاية في ذاته، والوطن عالَمًا بلا حدود والدولة حقًّا كسموسياسيًّا قائمًا على ضيافة كونية لا تُفرِّق ما بين أعجمي أو أعرابي.

إن مهمة الفيلسوف ليست صياغة الدساتير الحقوقية؛ فتلك مهمة المُشرِّعين والساسة والحقوقيين. إن دور الفيلسوف ليس مواجهة الدولة القائمة، إنما هو يفكر أمام الإنسانية برمَّتها وفي أفق دولةٍ بلا حدود وبلا جنسية وخارج سقف المِلَل والنِّحل … إنه مواطن كوني في عالَمٍ يتسع للجميع، عالم هو حديقة أبيقور (Epicurus) الفكرية.
وقد يكون كانط قد أدرك، أكثر من هابرماس، صعوبة مهمة أن يفكر الفيلسوف في سلمٍ دائم «لشعب من الشياطين»٦٣ وليس لفضاءات الفعل التواصُلي وآداب النقاش. ولو استلفنا من دولوز ما به ننظر ثانيةً إلى كانط ضدَّ هابرماس، لقُلنا، وفق عبارة بهيجة لدولوز وغاتاري (Guattari) في ما هي الفلسفة؟: «لا ينقُصنا التواصُل، بل على العكس، لدَينا منه أكثر مما ينبغي، ينقصنا الإبداع. تنقصنا مقاومة الحاضر.» ففي شعب من الشياطين تبدو مقاومة الحاضر مُمكنة باختراق حدوده المُخططة من أجل اختراع فضاءات صقيلة بعبارة ألف مسطح لدولوز وغاتاري.
لقد كان كانط يُدرك جيدًا، ومرةً أخرى، فيما أبعد من هابرماس أن المسافة الفاصلة بيننا وبين دولة السِّلم الدائم لمواطنة كونية في العالَم هي ذات المسافة التي تفصل الشياطين عن الملائكة، لذلك كتب يقول «… وإلى أن يحين ذلك الوقت ينبغي أن يُوجَد ملائكة وليس بشَر تهيمن عليهم غرائزهم وميولاتهم.»٦٤
وإن كانت فكرة كانط في السلم الدائم قد تبدو حالِمة وقابلة للسخرية، مثلما كان ليبنتز قد سَخِرَ من مشاريع السلم في عصره، فإن كانط يبقى أبعد من هذه السخرية ومن ذاك النقد؛ إذ هو على وعيٍ بأن مسألة السِّلم ليست في الفرق ما بين الخيال والواقع، إنما تكمن في مسئولية الفيلسوف تجاه الإنسانية، وهو معنى النص الذي نقرؤه في خاتمة مذهب الحق من ميتافيزيقا الأخلاق. يقول كانط: «إن المسألة لا تكمُن فيما إذا كان السِّلم الدائم أمرًا واقعًا أم خياليًّا (…) إنما ينبغي أن نفعل وكأنما يُوجَد هذا الأمر وذلك من أجل أن نُقيم سلمًا دائمًا ونضع حدًّا للهلاك الناجم عن الحرب.» ويضيف كانط: «أن نضع حدًّا للحرب (…) إن هذه القاعدة واجب».٦٥

فليغفر هابرماس لكانط إذن، وهو العامل في أفق إشكالية كانطية لضربٍ من التنوير الجديد، ثقته في الفيلسوف وفي شفافية الفضاء العمومي وفي الالتزام الأخلاقي للدول تجاه السِّلم الدائم، وليحتفل بكانط من رفع عاليًا حرية التفكير والاستعمال العمومي للعقل والخروج بالشعوب من حالة القصور إلى حالة الرُّشد، ومطلب العمومية مقياسًا لقوانين عادلة بين البشر. أما ما تبقَّى فهابرماس يُدرك جيدًا أن السلم الدائم صار إلى حدث تشرئب له أعناق الشعوب أملًا في اختراقِ حِيَل الساسة وأمكنتهم المُخطَّطة بالطاغوت نحو فضاءات صقيلة لبشرية قادرة بشعوبها على مقاومة الحاضر بمِلَله وأصولياته ومواقع الاضطهاد فيه.

وأخيرًا، إن تكن فكرة السِّلم الدائم لكانط لا هي من قبيل الخيال ولا هي من قبيل الواقع فهي ككل الأفكار العظيمة في مقامٍ أبعد من مقاييس البشر، مثلها مثل فكرة الإله نفسه لدى كانط، هو مقام كأنما هي موجود، ذلك أن كانط يُعلِّمُنا ها هنا أن الفرق لدى البشر ما بين الممكن والمُحال خيط رفيع جدًّا.

خاتمة

ماذا نتعلم من كانط راهنًا؟

  • (١)
    الكونية: ربما كان كانط هو الفيلسوف «الكوني» الوحيد أو هو على الأقل أكثر من شرَّع لكونية العقل وأحرص من دافع عنها، فالحداثة التي فكَّر بها كانط بخاصة في مقالته عن التنوير، لا تبدو البتة عنده حكرًا على أحد، بل هي مهمة خاصة بالإنسانية قاطبةً بوصفها انتماءً جغرافيًّا محضًا إلى الأرض.

    إن كانط لا يؤمِن كثيرًا بالتاريخ، ولا يُهمه أبدًا الماضي ولا التقليد ولا الانتماء، فهي جميعًا لدَيه «ذات مسار عبثي لا حكمة فيه» أو هي نسيج من الجنون والخبث والتدمير الرهيب، إنه إذ يعوِّل على البشر بما هم كذلك وبالحرية الأصلية التي لهم، يراهن كانط على الكونية ضد الهوية وعلى المدنية ضد القوميات، وعلى العقل مرجعًا لكل قِيَم البشر ضدَّ كل أنواع الوصايا اللاهوتية أو الميتافيزيقية، وهو بذلك يُراهن على الجغرافيا السياسية والجيو-فلسفة بدلًا من التاريخ وفلسفة التاريخ، وعلى النقد والتحليل بدلًا من «الاسم الطنَّان للأنطولوجيا» بحسب عبارة لكانط نفسه.

    إننا نعتقد بذلك أن فلسفة كانط قد تُساعدنا على التخفيف من وطأة الانتماء ومن ضروب الشوفينيات في اتجاه التدرُّب على الدخول في أفقٍ استكشافي كوكبي لشكلٍ من المواطنة الكونية في العالم. إنها فلسفة تُعلمنا كيف «يمكن أن نُوجَد معًا» وكيف نستعمل سويًّا العالَم والمدن بوصفنا مواطنين كونيين. إننا مع كانط نتعلم، بوصفنا مواطنين في العالَم، كيف نتخلص مما سمَّاه فوكو ﺑ «ابتزاز الحداثة»، وذلك يعني أنه بوسعنا أن نتجاوز حدود الزوج المنطقي الأبله، الذي يُهيمن على ممارستنا الفكرية ويُصيب عقولنا بضربٍ من العطالة والدوغمائية: هل نحن مع التنوير أم ضدَّه؟ هل نحن في الحداثة أم ضدَّها؟ وهو أمر يرهن النمط الذي نرتضيه لعلاقتنا بالراهن ولإقامتنا في العالم.

    سوف يكون علينا حينها مواجهة الأسئلة المُحرجة التالية: هل نحن قد خرجنا من الحداثة مثلما أنجز ذلك أقطاب الفكر الغربي الحاليون، إما على جهة الهدم والتفكيك أو السخرية الكلبية؟ أم أننا لم نَمر بها أصلًا باعتبارنا لم نشارك مباشرة في صياغة قِيَمها الخاصة؟ هل نحن راهنون أم رُهُون ودُيُون؟ هل نحن مالكون لأدوات تشكيل ذواتنا وفق العصر الذي نحن فيه، وكفيلون بهذا العصر الذي نحن فيه مُختصمون، أم نحن رهن وراهن أعجف أُصيب بالهزال والإعياء الأنطولوجي؟

  • (٢)
    فن العيش معًا: إن فلسفة كانط تُزعزع لدينا وهمًا تاريخيًّا خطيرًا يخصُّ ممارسة المُحدثين المشحونة بالضغينة والوعي التعيس للعلاقة بين الذات والآخر، وهي علاقة رسمَت، منذُ دهر من الزمن، للشرق صورةً نمطية هي صورة الضحية، أو هو المُستعمَر والمتخلِّف وموطن الإرهاب، في حين اتخذ فيها الغرب صورة البطل المُستنير (أو هو المستعمِر) والمتقدم، موطن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.

    إنه بوسعنا أن نجد في قواعد التنوير الثلاث التي صاغتها الفقرة ٤٠ من تحليلية الجليل من نقد ملكة الحكم لكانط ما به تُضمَّد جراح الغريب (الذي تحدَّث عنه بادئ ذي بدء سفسطائيُّ أفلاطون) أو الآخر الذي ارتقى إلى مستوى المفهوم مع هيجل ووصل إلى ضربٍ من التسامُح المسيحي المُكتمل فيما سماه ريكور ﺑ «هو نفسه بما هو آخر». إن هذا الهو بما هو آخر كان قد استبقه كانط في الصياغة التالية: «ينبغي أن نفكر دومًا بدلًا من كل كائنٍ بشري آخر.» إنها قاعدة التفكير المُنفتح على الآخر التي تجد مبدأها الميتافيزيقي في الصياغة الكونية بوصفها ممارسة إتيقية طريفة للعلاقة مع الآخر أو الغريب أو الغير. ونحن هنا إذ نتفلسف من موقع اللغة العربية، ولا يفوتنا أن نُذكِّر بما لآداب الضيافة في عادات العرب من شأنٍ إتيقي جليل في تدبُّر العلاقة بالغريب. وقد تجد الثقافة الغربية الحالية التي وصلت إلى ضربٍ من الانفصام الرهيب، مثلما يُشخِّصه دولوز وغاتاري، في هذا المبدأ الكانطي ما به تُعالج أمراضها قبالة الغريب، وما أحوجنا نحن العرب المُعاصرين إلى ما يُسمِّيه نيتشه ﺑ «العافية الكبرى» في ترتيب علاقتنا بأصولنا التاريخية من جهة، وبانتمائنا الجغرافي إلى كوكب الأرض الذي تتدبَّره عقول غربية من جهةٍ أخرى.

  • (٣)
    التفاؤلية: إنَّ كانط يوفِّر لنا نمطًا طريفًا من التعلق بالراهن: إنه تعلُّق لا يكون على جهة الحلم بالمُستقبل مثلما تتعزَّى بذلك اليوطوبيات الحديثة (إرنست بلوخ نموذجًا) ولا هو على جهة الخوف من الكارثة (بنيامين) ولا هو أيضًا على جهة تمجيدٍ للحاضر واحتفالٍ بطوليٍّ به (أوجست كونت (August Comte)).

    مع كانط لم يعُد بوسع الفيلسوف أن يكون بطلًا. ولنقل إن زماننا الحالي ليس أبدًا زمن أبطال، فأصنامُنا وأوثاننا قد أفَلَتْ معًا ومنذ زمن. حَسْبُ المفكر أن يتَّخذ لنفسه مقامًا يكون له فيه من الشجاعة على استعمال عقله نصيبٌ ما.

أما عن مستقبل الشأن البشري، فحتى الآلهة كما يقول كانط في إحدى صفحات نزاع الكليات، «عاجزون عن التنبؤ به لأنه تاريخ الحرية.» ولكن قد نحتاج إلى قسطٍ كبير من تفاؤلية كانط بالمستقبل من أجل أن يكون الإنسان الكوني والحُر والجريء على استعمال عقله قريبَ التحقُّق وليس مجرد حلمٍ من أحلام الفلاسفة.

١  Jürgen Habermas, La paix perpétuelle: le bicentenaire d’une idée kantienne, trad. de l’Allemand par Rainer Rochlitz, Paris, Éditions du Cerf, 1996, p. 16.
٢  Kant, Projet de paix perpétuelle, in Œuvres philosophiques III, Paris, Gallimard, 1986, p. 833.
٣  تلك هي أطروحة حنا آرندت في قراءتها لفلسفة كانط السياسية، إذ تعتبره «مجرد متفرج يكتفي بتأمُّل الفعل السياسي.»
Hannah Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, trad. fr, Paris, Seuil, 1991, p. 33.
٤  تلك هي ميزة المُتعة الجمالية مثلما صمَّم مفهومها كانط في نقد ملكة الحكم.
Kant, Critique de la faculté de juger, in Œuvres philosophiques, II, Paris, Gallimard, 1985, p. 967.
٥  T. W. Adorno, Théorie esthétique, Paris, Klincksieck, 1995, pp. 74–94.
٦  Cité par le traducteur français de Projet de paix perpétuelle in Kant, in Œuvres philosophiques, III, op. cit., note, p. 1396.
٧  يعتبر كانط فكرة ليبنتز المشهورة القائلة بأنَّ هذا العالم الذي نحن فيه إنما هو أحسن العوالم المُمكنة، أروعَ الأوهام التي نحتتها الفلسفة. انظر:
E. Kant, Les progrès de la métaphysique en Allemagne, in Œuvres philosophiques, III, op. cit., p. 1238.
٨  Jürgen Habermas, op. cit., p. 10.
٩  Ibid., p. 7.
١٠  وذلك ضمن أطروحة دكتوراه هابرماس وعنوانها الكامل:
J. Habermas, L’espace public, Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, traduit de l’allemand par Marc B. de Launay, Paris, Payot, 1978, p. 324.
١١  J. Habermas, La paix perpétuelle, op. cit., p. 42.
١٢  E. Kant, Idée d’une histoire universelle au point de vue cosmopolitique, in Œuvres philosophiques II, op. cit., p. 193.
١٣  E. Kant, Métaphysique des moeurs, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 629.
١٤  E. Kant, Idée d’une histoire universelle au point de vue cosmopolitique, op. cit., p. 188.
١٥  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 340.
١٦  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 333.
١٧  E. Kant, Œuvres philosophiques III, op. cit., p. 1396.
١٨  A. Philonenko, La théorie kantienne de l’histoire, Paris, Vrin, 1986, p. 109.
١٩  Cité par A. Philonenko, Ibid.
٢٠  E. Kant, Métaphysique des mœurs, op. cit., p. 628.
٢١  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 350.
٢٢  E. Kant, Idée d’une histoire universelle, op. cit., p. 199.
٢٣  Ibid.
٢٤  E. Kant, Réponse à la question: Qu’est ce que les lumières?, in Œuvres philosophiques, II, op. cit., p. 211.
٢٥  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 333.
٢٦  E. Kant, Conflit des facultés, in Œuvres philosophiques III, op. cit., note, p. 904.
٢٧  لكانط حكاية كاملة مع الرقابة، إذ منع من الاشتغال على الدين منذ صدور كتابه «الدين في حدود مجرد العقل ١٧٩٣» انظر:
E. Kant, Conflit des facultés, pp. 805–813.
٢٨  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., pp. 341-342.
٢٩  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 343.
٣٠  Ibid., p. 345.
٣١  Ibid., p. 348.
٣٢  Ibid., p. 350.
٣٣  Ibid., p. 351.
٣٤  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 363.
٣٥  Ibid., p. 377.
٣٦  Ibid., p. 382.
٣٧  Hannah Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, Paris, Seuil, 1991, p. 78.
٣٨  J. Habermas, Paix perpétuelle, op. cit., p. 64.
٣٩  Ibid., p. 48.
٤٠  Ibid., p. 56.
٤١  E. Kant, Conflit des facultés, op. cit., p. 902.
٤٢  J. Habermas, op. cit., p. 13.
٤٣  Ibid., p. 16.
٤٤  Ibid., p. 22.
٤٥  J. Habermas, op. cit., p. 38.
٤٦  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 364.
٤٧  J. Habermas, op. cit., p. 40.
٤٨  Ibid., pp. 40-41.
٤٩  Ibid.
٥٠  Ibid., p. 42.
٥١  J. Habermas, op. cit., p. 48.
٥٢  Ibid., p. 49.
٥٣  J. Habermas, op. cit., p. 42.
٥٤  Ibid., p. 46.
٥٥  J. Habermas, L’espace public, op. cit., p. 112.
٥٦  Ibid., p. 120.
٥٧  J. Habermas, L’espace public, op. cit., p. 120.
٥٨  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, op. cit., p. 361.
٥٩  E. Kant, La religion dans les limites de le simple raison, in Œuvres philosophiques III, op. cit., p 47-48.
٦٠  E. Kant, Idée d’une histoire universelle, op. cit., p. 195.
٦١  E. Kant, Conflit des facultés, op. cit., p. 903.
٦٢  E. Kant, Idée d’une histoire universelle, op. cit., p. 903.
٦٣  E. Kant, Projet de paix perpétuelle, p. 360.
٦٤  Ibid., p. 359.
٦٥  E. Kant, Métaphysique des mœurs, op. cit., p. 629.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤