الحرب والسلم في أفق المواطنة الكونية أو كانط في فضاء هابرماس
المقدمة
قد تكون تلك هي الأسباب التي دفعت بكانط إلى كتابة مشروع السلم الدائم (١٧٩٦م) والتي حدت بهابرماس أن يكرم هذا المشروع المُسن بمناسبة مرور مئويَّتَين كاملتَين على ظهوره، في كتاب بعنوان سلم دائم، المئوية الثانية لفكرة كانطية (١٩٩٦م).
وفق أي نوع من الضيافة الفلسفية يستقبل هابرماس فكرة كانط في السِّلم الدائم؟
إن هدفنا في هذا البحث هو الاشتغال على مشكلة الحرب والسلم التي صارت إلى ضرب الأنطولوجيا الخاصة بنمط إقامة الإنسان في العالم الحالي؛ وذلك من خلال القراءة التي يُقدمها هابرماس لمشروع كانط في السِّلم الدائم. من أجل ذلك نُقسِّم قولنا هذا إلى ثلاث مراحل؛ حيث نبدأ في مرحلة أولى بعرض فكرة كانط في السلم الدائم. من أجل أن نتعرف في مرحلة ثانية على مقومات قراءة هابرماس لهذا المشروع الكانطي، ثم ننتهي في مرحلة ثالثة إلى فحص إمكانية راهنية هذا المشروع في عصرٍ صارت الحاجة فيه إلى الاشتغال على السِّلم أكثر من أي عصر آخر.
(١) عرض لمشروع كانط في السلم الدائم: أو السلم الدائم من شعار أخروي إلى مطلب مدني، كيف الطريق إلى دولة الحق الكوني؟
(١-١) «الفلسفة السياسية» الكانطية: نحو الدولة الكسموسياسية
إن كانط يستعيد هذا الرسم نفسه لكن من أجل التحوُّل به من سخرية المُفكر من مشاريع القساوسة إلى اشتغال الفلسفي الجدِّي، ومن مجاز المقبرة إلى مفهوم الأمل في سِلم دائم. فالسِّلم لدى كانط لن يكون مجرد شعار يرمز إلى لهو المقهى أو صمت المَقبرة، إنما هو إمكان بشري لمجتمع مدَني قائم على دولة الحق الكسموسياسي وعلى إمكان تهذيب للإنسان بغاية ارتقائه إلى مقام المواطنة الكونية. فالسِّلم في السياق الكانطي لم يعُد موضوع سخرية الفيلسوف إنما يكون هدف كل دولةٍ وغاية كل اجتماع بشري، والمعنى الأخير لكلِّ المدن الفاضلة التي حدَّث عنها الفلاسفة جميعًا. إن المدينة التي يشتغل عليها كانط ها هنا ليست مدينة الفضيلة أو العدل أو الخير أو السعادة، إنما هي مدينة السِّلم أساسًا.
فكانط هنا يستحيل إلى مُعلِّم للإنسانية الحديثة لضربٍ من الالتزام الأخلاقي أو من التربية السياسية للمواطن هو بمثابة التنضيد لما يُسميه هابرماس بالفضاء العمومي. لكن ما بين الدولة الكسموسياسية أو المواطنة الكونية اللذين علَّق عليهما كانط آمالًا فلسفية جدَّ متفائلة في أفق إشكالية التنوير القائمة على القول بإمكانية تقدُّم البشر نحو كمالِهم الأخلاقي، والفضاء العمومي القائم على التعتيم الأيديولوجي الذي يفضحه روَّاد مدرسة فرانكفورت كاشِفين القناع عن خطورة أيديولوجيا التنوير، مسافة هي الفاصلة ما بين فكرة كانط في السِّلم الدائم وقراءة هابرماس لها.
كيف شاء كانط أن يُصمم سياسة الدولة الحديثة؟
«نحو السِّلم الأبدية» أمام هذا المجاز يسأل كانط: إلى من يتوجَّه هذا الرجاء أو ذاك النداء سواءً كان سخريةً أم هجاء؟ هل هو يتوجَّه إلى الناس بعامَّة، أم إلى الساسة بخاصة أم هو قول خاص بالفلاسفة؟
(١-٢) مضمون مقالة «السلم الدائم»
تحتوي مقالة مشروع السلم الدائم لكانط على فصلَين وتذييلَين وملحقَين: يتضمن الفصل الأول ستة بنود أولية لسِلم دائم، أما الفصل الثاني وهو الأهم ففيه يقترح كانط ثلاثة بنود نهائية للسلم الدائم. وفي المُلحقات عنصران: الأول خاص بما يضمن السِّلم الدائم أما الثاني فبند سرِّي فيه فحص لدور الفيلسوف وعلاقته بالسائس في إطار هذا المشروع. أما التذييل ففيه يقف كانط عند التعارُض ما بين السياسة والأخلاق في عنصر أول وفي عنصر ثانٍ عن إمكانية الاتفاق بينهما بواسطة الفكرة المُفارقة للحق أو مبدأ العمومية.
أما عن البنود النهائية للسِّلم الدائم التي يُشدِّد كانط على أهميتها القصوى فهي ثلاثة:
البند الأول عن أن الدستور المدني لكل دولة ينبغي أن يكون جمهوريًّا؛ ذلك أن الجمهورية هي النظام السياسي الوحيد عند كانط القادر على ضمان:
-
(أ)
الحرية التي لأعضاء المجتمع بوصفهم بشرًا.
-
(ب)
لخضوع الكل إلى تشريعٍ واحد بوصفهم ذواتٍ.
-
(جـ)
لحقِّ المساواة التي لهم بوصفهم أعضاءً في الدولة.
ذلك هو أهم ما تضمن مشروع السلم الدائم لكانط، هي خمس أفكار أساسية:
(١-٣) قراءة هابرماس لمشروع كانط في السلم الدائم
يَعتبر هابرماس، منذ بداية كتابه، أن كانط صاحب اكتشافٍ طريف في مجال نظرية الحق هو مفهوم الحق الكسموسياسي الذي يعتبره هابرماس بمثابة البُعد الثالث في مجال المذهب الكانطي في الحق العام. إلا أن القرنَين من الزمن اللذين يفصلاننا عن كانط كفيلان باستشراف حدود فكرة كانط في السلم الدائم بوصفه الهدف النهائي للدولة الكسموسياسية القائمة على الحق، هما الأمر الذي حدا بهابرماس إلى رسم حدود هذا المشروع الكانطي من خلال الأفكار التي نحصيها كما يلي:
- أولًا: إن فكرة كانط حول الحرب لا تصلح إلا لأفق التجربة التاريخية لعصره.
- ثانيًا: وإن الدولة الجمهورية ليست الدولة الأمثل للسِّلم الدائمة، فهي ليست أكثر سلميةً من أنواع الدول الأخرى.
- ثالثًا: وإنه من المُحال علينا اليوم أن نعتقد في إمكانية بناء وصيانة فيديرالية دول حُرة على مجرد التزامٍ أخلاقي.
- رابعًا: وإن كانط لم يكن على حق حينما اختزل دولة الحق في الحق الأصلي الذي بحوزة كل امرئٍ بوصفه إنسانًا. فهذا الأمر يجعل الأفراد متحوِّزِين على الحقوق ويُعطي الأنظمة الحقوقية الحديثة بِنية فردانية صرفة.٣٨
- خامسًا: وإن مشروع كانط لم يكن يحتاج إلى اللجوء إلى مشروع ميتافيزيقا للأخلاق من أجل أن يُفسِّر لنا كيف «يمكن تحويل الاتفاق على مجتمع وقع ابتزازه بشكلٍ مرَضي إلى كلٍّ أخلاقي.»٣٩
- سادسًا: إن اعتبار كانط أن السيادة الدولية أمر لا يمكن تجاوزه أدَّى به إلى تصور الوحدة الكسموسياسية على أنها فيدرالية دول وليست فيديرالية مواطنين كونيين.٤٠
- سابعًا: وإنه لم يكن بوسع كانط أن يتنبأ بتغيُّر بِنية الفضاء العمومي إلى فضاء تُهيمن عليه وسائل الإعلام الإلكترونية. وتُصاب فيه الكلمة بالتشويه والدمغجة بدلًا من النُّصح والتنوير. وإنه بالتالي لم يعُد بوسعنا أن نُعوِّل على قدرة الفيلسوف على إقناع الساسة بنظريات الحق والعدل مثلما شرَّعت لذلك مقالة السلم الدائم لكانط.
إن ما يسترعي استغراب هابرماس في هذا النص هو بالضبط الجملة الأخيرة فيه، أي «ويُبعد كل حرب» وهو ما يعني عنده أن قواعد حق الأشخاص التي تتحكم بالحرب والسِّلم ليست سوى قواعد مؤقتة إلى حين بلوغ النزعة السلمية الحقوقية التي تُحضر لها مقالة مشروع السِّلم الدائم مقام دولة كسموسياسية، وبذلك يقع القضاء على كل حرب.
يبدو كانط ها هنا بمثابة من يُعلِّق آمالًا كبرى على دولة الحق الكسموسياسي التي قد لا تكون سوى حلمٍ عذب من أحلام الفلاسفة، أو قد لا يُدركها سوى «شعب من الملائكة» بعبارات كانط نفسه، وبالطبع إن عذر كانط الوحيد ها هنا في رأي هابرماس، على مثل هذه المعالجة المتفائلة لمشكلة الحرب هو الحق العقلي كأرضية مفهومية لمشروعه، والأفق التاريخي المحدود لتجربة عصره. لكن بيننا وبين كانط قرنين من الزمن قد يجعلان مشروع كانط في نظر هابرماس عرضةً لمشاكل مفهومية ولصعوبة مصالحته مع العصر الذي ننتمي إليه.
هل ما يزال ها هنا الحديث عن الحرب والسلم في لغة كانط، أي في لغة فلسفة تؤمن بأن عصرها برمَّتِه هو عصر النقد والتنوير، وبأن شعبها بكامله قادر على الخروج بنفسه من حالة القصور إلى حالة الرشد، وبأن الدول بإمكانها أن تسترشد بنداء العقل، أن يُدرك حالة السلم الدائم؟
يرى هابرماس أن المشروع الكانطي قائم على معالجة محدودة لمشكلة الحرب لذلك بالضبط انتهى ذات المشروع إلى حلٍّ كفيل بإعادة النظر بمسألة السلم.
إن كانط لم يشتغل أبدًا ومباشرة وبشكلٍ صناعي مخصوص على مشكلة الحرب في حدِّ ذاتها وبوصفها صناعة الموت. إنه ينادي بضرورة التفكير بمشروع سلمٍ دائم في أفق حقٍّ كسموسياسي كأفق استكشافي لمواطنة كونية، وذلك ضد الحرب بما تُسببه من كوارث جمَّة ضد النوع البشري. ومن بين شرور الحرب، لا يهتم كانط في مرتبة أولى بالأموات، مثلما يلاحظ ذلك هابرماس، إنما يُهمه أساسًا أهوال العنف والخراب وأعمال السلب والنهب وتفقير البلاد، وخصوصًا استعبادها وفقدانها حريتها والهيمنة الخارجية وانتشار الأخلاق البربرية.
إن هذا النداء الكانطي للعقل لا يكفي من أجل بناء دولة سلمٍ دائم، فثقة كانط المفرطة في أخلاق الاحترام هي علة الطابع المحدود لمشروع كانط لدولة المواطنة الكونية.
(١-٤) ماذا تبقى من كانط في فضاء هابرماس؟
إنه على الرغم من أن التصور الكانطي للتحالف السِّلمي بين الشعوب يحتاج إلى أكثر من مجرد الالتزام الأخلاقي، ومن أن فكرة الحق الكسموسياسي الكانطية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة، فإن هابرماس يعترف بالمكاسب الكانطية التالية:
-
(١)
إن فكرة السلم الكونية التي حرص مشروع كانط على صيانتها لم تكفَّ أبدًا عن التطور والتجذُّر في الفضاء السياسي الحالي، منذ تأسيس المجتمع الأُممي في جنيف. وأن هذه الفكرة اتخذت منذ الحرب العالمية الثانية صورةً ملموسة في المؤسسات والمبادرات السياسية.٥١
-
(٢)
وإن التحديات التي نجمت عن كوارث القرن العشرين جعلت تطوُّر هذه الفكرة أمرًا مُلحًّا وهو إطار حرَّك الفكر الكوني كلَّه بعامة.
-
(٣)
وإنه ما وراء حُجب الحرب الكونية التي زج هتلر (Hitler) العالم فيها، تحول العالم من الحق الدولي إلى حق المواطنة الكونية، ومن جرائم الحرب إلى التنديد بالحرب كجريمة في حدِّ ذاتها.٥٢
-
(٤)
وإن كانط صاحب استباق لفضاء عمومي كوني يجعل من المُمكن أن يحتجَّ الجميع على أي اعتداءٍ يُقترَف بشأن إنسان في أي ركن من الأرض.
-
(٥)
وإن فكرة حق المواطنة الكونية التي بشَّر بها كانط لم تعُد، في نظر هابرماس، مجرد مُبالغة مُتحمسة في مذهب الحق، إنما هي درجة الاكتمال القصوى الضرورية للحق المدني والعمومي.٥٣
-
(٦)
ويحرص هابرماس على الاعتراف بأهمية مبدأ العمومية الذي شدَّد عليه كانط مبدأً لكل العملية السياسية لدَيه. إذ إن كانط هو عند هابرماس مَن حرص على صياغة العلاقة الحميمة بين التنظيم الحقوقي والثقافة السياسية لشعبٍ ما، وأهمية ذلك في تجذُّر فضاء الحرية وتحضُّر أمة وتقدُّمها.٥٤
خاتمة
ماذا لو فرضنا، وضمن صراع العمالقة ما بين كانط وهابرماس، ومع نيتشه أن «الفِكَر الكبرى هي الأحداث الكبرى»، ألا نرى حينَها أن دولة السِّلم الدائم التي تفكَّر بها كانط، بديلًا عن كل ضروب المدن الفاضلة الفاشلة، إنما هي الحدث الأكبر في حضارة الحرب الدائمة؟ لكن ألا تكون فكرة كانط في السلم الدائم في أُفق مواطنة كونية قد ذهبت إلى أبعد ممَّا صمَّم لها صاحبها، وذلك متى صارت هذه الفكرة من مواطنة كونية في سِلمٍ دائم إلى أمركة كونية تزرع الحرب الدائمة حيثما صمَّم ذلك البرابرة الجدد؟
وفعلًا، ألم تتحول فكرة الدولة الكسموسياسية في العهد الإمبراطوري الجديد إلى وحشٍ فظيع يزرع الحرب والموت في الفضاء الكوني الذي أراده كانط؛ فضاء الحرية وهابرماس؛ فضاء الفعل التواصلي؟ وألم تصدُق نبوَّة كانط بإمكانية انقراض مثل هذا الوحش على جدران البُرجَين؟
حرص كانط كان أبعد من هابرماس إذن على أن يبقى مطلب الكونية مجرد فكرةٍ استكشافية خوفًا من الخطورة الثاوية داخل استعمالٍ سياسي قبيح لها.
وفعلًا ماذا نشهد اليوم من الدولة العالمية الحالية: مواطنة كونية لسلمٍ دائم بين شعوب متساوية ومُستقلة، أم أمركة كونية وحروب مترحِّلة ومقابر جماعية يحفرها القراصنة الجُدد وبمُتعةٍ كلبية لا تختلف كثيرًا عن متعة أكَلَة لحوم البشر؟
إن كانط يبدو على حق، ومرة أخرى، فيما أبعد من هابرماس حينما قصر مهمة الفيلسوف على الدفاع عن حُرية التفكير وعن التهذيب الأخلاقي للإنسانية من أجل توجيهها نحو مُستقبل يكون فيه الإنسان غاية في ذاته، والوطن عالَمًا بلا حدود والدولة حقًّا كسموسياسيًّا قائمًا على ضيافة كونية لا تُفرِّق ما بين أعجمي أو أعرابي.
فليغفر هابرماس لكانط إذن، وهو العامل في أفق إشكالية كانطية لضربٍ من التنوير الجديد، ثقته في الفيلسوف وفي شفافية الفضاء العمومي وفي الالتزام الأخلاقي للدول تجاه السِّلم الدائم، وليحتفل بكانط من رفع عاليًا حرية التفكير والاستعمال العمومي للعقل والخروج بالشعوب من حالة القصور إلى حالة الرُّشد، ومطلب العمومية مقياسًا لقوانين عادلة بين البشر. أما ما تبقَّى فهابرماس يُدرك جيدًا أن السلم الدائم صار إلى حدث تشرئب له أعناق الشعوب أملًا في اختراقِ حِيَل الساسة وأمكنتهم المُخطَّطة بالطاغوت نحو فضاءات صقيلة لبشرية قادرة بشعوبها على مقاومة الحاضر بمِلَله وأصولياته ومواقع الاضطهاد فيه.
وأخيرًا، إن تكن فكرة السِّلم الدائم لكانط لا هي من قبيل الخيال ولا هي من قبيل الواقع فهي ككل الأفكار العظيمة في مقامٍ أبعد من مقاييس البشر، مثلها مثل فكرة الإله نفسه لدى كانط، هو مقام كأنما هي موجود، ذلك أن كانط يُعلِّمُنا ها هنا أن الفرق لدى البشر ما بين الممكن والمُحال خيط رفيع جدًّا.
خاتمة
ماذا نتعلم من كانط راهنًا؟
-
(١)
الكونية: ربما كان كانط هو الفيلسوف «الكوني» الوحيد أو هو على الأقل أكثر من شرَّع لكونية العقل وأحرص من دافع عنها، فالحداثة التي فكَّر بها كانط بخاصة في مقالته عن التنوير، لا تبدو البتة عنده حكرًا على أحد، بل هي مهمة خاصة بالإنسانية قاطبةً بوصفها انتماءً جغرافيًّا محضًا إلى الأرض.
إن كانط لا يؤمِن كثيرًا بالتاريخ، ولا يُهمه أبدًا الماضي ولا التقليد ولا الانتماء، فهي جميعًا لدَيه «ذات مسار عبثي لا حكمة فيه» أو هي نسيج من الجنون والخبث والتدمير الرهيب، إنه إذ يعوِّل على البشر بما هم كذلك وبالحرية الأصلية التي لهم، يراهن كانط على الكونية ضد الهوية وعلى المدنية ضد القوميات، وعلى العقل مرجعًا لكل قِيَم البشر ضدَّ كل أنواع الوصايا اللاهوتية أو الميتافيزيقية، وهو بذلك يُراهن على الجغرافيا السياسية والجيو-فلسفة بدلًا من التاريخ وفلسفة التاريخ، وعلى النقد والتحليل بدلًا من «الاسم الطنَّان للأنطولوجيا» بحسب عبارة لكانط نفسه.
إننا نعتقد بذلك أن فلسفة كانط قد تُساعدنا على التخفيف من وطأة الانتماء ومن ضروب الشوفينيات في اتجاه التدرُّب على الدخول في أفقٍ استكشافي كوكبي لشكلٍ من المواطنة الكونية في العالم. إنها فلسفة تُعلمنا كيف «يمكن أن نُوجَد معًا» وكيف نستعمل سويًّا العالَم والمدن بوصفنا مواطنين كونيين. إننا مع كانط نتعلم، بوصفنا مواطنين في العالَم، كيف نتخلص مما سمَّاه فوكو ﺑ «ابتزاز الحداثة»، وذلك يعني أنه بوسعنا أن نتجاوز حدود الزوج المنطقي الأبله، الذي يُهيمن على ممارستنا الفكرية ويُصيب عقولنا بضربٍ من العطالة والدوغمائية: هل نحن مع التنوير أم ضدَّه؟ هل نحن في الحداثة أم ضدَّها؟ وهو أمر يرهن النمط الذي نرتضيه لعلاقتنا بالراهن ولإقامتنا في العالم.
سوف يكون علينا حينها مواجهة الأسئلة المُحرجة التالية: هل نحن قد خرجنا من الحداثة مثلما أنجز ذلك أقطاب الفكر الغربي الحاليون، إما على جهة الهدم والتفكيك أو السخرية الكلبية؟ أم أننا لم نَمر بها أصلًا باعتبارنا لم نشارك مباشرة في صياغة قِيَمها الخاصة؟ هل نحن راهنون أم رُهُون ودُيُون؟ هل نحن مالكون لأدوات تشكيل ذواتنا وفق العصر الذي نحن فيه، وكفيلون بهذا العصر الذي نحن فيه مُختصمون، أم نحن رهن وراهن أعجف أُصيب بالهزال والإعياء الأنطولوجي؟
-
(٢)
فن العيش معًا: إن فلسفة كانط تُزعزع لدينا وهمًا تاريخيًّا خطيرًا يخصُّ ممارسة المُحدثين المشحونة بالضغينة والوعي التعيس للعلاقة بين الذات والآخر، وهي علاقة رسمَت، منذُ دهر من الزمن، للشرق صورةً نمطية هي صورة الضحية، أو هو المُستعمَر والمتخلِّف وموطن الإرهاب، في حين اتخذ فيها الغرب صورة البطل المُستنير (أو هو المستعمِر) والمتقدم، موطن الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان.
إنه بوسعنا أن نجد في قواعد التنوير الثلاث التي صاغتها الفقرة ٤٠ من تحليلية الجليل من نقد ملكة الحكم لكانط ما به تُضمَّد جراح الغريب (الذي تحدَّث عنه بادئ ذي بدء سفسطائيُّ أفلاطون) أو الآخر الذي ارتقى إلى مستوى المفهوم مع هيجل ووصل إلى ضربٍ من التسامُح المسيحي المُكتمل فيما سماه ريكور ﺑ «هو نفسه بما هو آخر». إن هذا الهو بما هو آخر كان قد استبقه كانط في الصياغة التالية: «ينبغي أن نفكر دومًا بدلًا من كل كائنٍ بشري آخر.» إنها قاعدة التفكير المُنفتح على الآخر التي تجد مبدأها الميتافيزيقي في الصياغة الكونية بوصفها ممارسة إتيقية طريفة للعلاقة مع الآخر أو الغريب أو الغير. ونحن هنا إذ نتفلسف من موقع اللغة العربية، ولا يفوتنا أن نُذكِّر بما لآداب الضيافة في عادات العرب من شأنٍ إتيقي جليل في تدبُّر العلاقة بالغريب. وقد تجد الثقافة الغربية الحالية التي وصلت إلى ضربٍ من الانفصام الرهيب، مثلما يُشخِّصه دولوز وغاتاري، في هذا المبدأ الكانطي ما به تُعالج أمراضها قبالة الغريب، وما أحوجنا نحن العرب المُعاصرين إلى ما يُسمِّيه نيتشه ﺑ «العافية الكبرى» في ترتيب علاقتنا بأصولنا التاريخية من جهة، وبانتمائنا الجغرافي إلى كوكب الأرض الذي تتدبَّره عقول غربية من جهةٍ أخرى.
-
(٣)
التفاؤلية: إنَّ كانط يوفِّر لنا نمطًا طريفًا من التعلق بالراهن: إنه تعلُّق لا يكون على جهة الحلم بالمُستقبل مثلما تتعزَّى بذلك اليوطوبيات الحديثة (إرنست بلوخ نموذجًا) ولا هو على جهة الخوف من الكارثة (بنيامين) ولا هو أيضًا على جهة تمجيدٍ للحاضر واحتفالٍ بطوليٍّ به (أوجست كونت (August Comte)).
مع كانط لم يعُد بوسع الفيلسوف أن يكون بطلًا. ولنقل إن زماننا الحالي ليس أبدًا زمن أبطال، فأصنامُنا وأوثاننا قد أفَلَتْ معًا ومنذ زمن. حَسْبُ المفكر أن يتَّخذ لنفسه مقامًا يكون له فيه من الشجاعة على استعمال عقله نصيبٌ ما.
أما عن مستقبل الشأن البشري، فحتى الآلهة كما يقول كانط في إحدى صفحات نزاع الكليات، «عاجزون عن التنبؤ به لأنه تاريخ الحرية.» ولكن قد نحتاج إلى قسطٍ كبير من تفاؤلية كانط بالمستقبل من أجل أن يكون الإنسان الكوني والحُر والجريء على استعمال عقله قريبَ التحقُّق وليس مجرد حلمٍ من أحلام الفلاسفة.
Hannah Arendt, Juger: sur la philosophie politique de Kant, trad. fr, Paris, Seuil, 1991, p. 33.
Kant, Critique de la faculté de juger, in Œuvres philosophiques, II, Paris, Gallimard, 1985, p. 967.
E. Kant, Les progrès de la métaphysique en Allemagne, in Œuvres philosophiques, III, op. cit., p. 1238.
J. Habermas, L’espace public, Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société bourgeoise, traduit de l’allemand par Marc B. de Launay, Paris, Payot, 1978, p. 324.
E. Kant, Conflit des facultés, pp. 805–813.