الفصل الثاني

(يلاحظ أن الجالسين هم الذين كانوا يمرُّون مُسرعين في الفصل الأول – نفس المنظر الأول – إسماعيل ونور الدين – المكان مزدحم – خادم المقهى ليس عمارة.)

إسماعيل (فرحًا) : مرحبًا يا صناجة العصر وشاعر الزمان.
نور الدين : فُرِجَت فرجًا لا أول له ولا آخر.
إسماعيل : من حيث لا تحتسب.
نور الدين : وهل كان أحد يحتسب؟ من أين للناس هذا جميعه؟
إسماعيل : الأولاد الآن.
نور الدين (مقاطعًا) : شبع ودفء وملابس من صنع السماء.
إسماعيل : وزوجتك؟
نور الدين : كنساء بغداد جميعًا؛ كاسية آكلة سعيدة … سعيدة …
إسماعيل : سعيدة؟
نور الدين : أتريد الحق؟
إسماعيل : إذا شئتَ أن تقول.
نور الدين : الغريب أنها ليست سعيدة.
إسماعيل : كيف؟
نور الدين : تريد الأكل والملبس منِّي أنا، وتريد أن تطبخ، وتريد أن تشكو، وتريد أن تلعن سنسفيل آبائي، ولكنها لا تجد سببًا لشيءٍ من هذا أبدًا فهي غير سعيدة.
إسماعيل : هي إذن غير سعيدة؛ لأنها غير شقية؟!
نور الدين : إنها غير سعيدة؛ لأنها لا تمارس إنسانيتها.
إسماعيل : الطبيخ والشتيمة والشكوى هي الإنسانية!
نور الدين : أجزاءٌ من الحياة لا يمكن الاستغناء عنها.
إسماعيل : ولكن أنتَ سعيد؟
نور الدين : أما أنا فسعيد غاية السعادة.
إسماعيل : أكل ومرعى وقلة صنعة.
نور الدين : لا أحمل همَّ شيء؛ الأكل في البيت، والأولاد في أرغد عيش، والأشيا رضا والحمد لله.
إسماعيل : لا شغل إلا الشعر والجمال وموسيقى الحياة الهانئة حولك.
نور الدين (في نغمة يبين فيها نبرة من الحزن) : أنا في سعادة لا مثيل لها.
إسماعيل : وطبعًا أكملتَ الأبيات وصنعتَ بعدها قصائد وقصائد.
نور الدين : أي أبيات وأية قصائد؟
إسماعيل : البيتان، نظمتُ منهما بيتًا وشطره. طبعًا أكملت البيت الناقص.
نور الدين : أنا لا أذكر شيئًا عن هذين البيتين.
إسماعيل : لقد رويتَهما لي مرةً واحدة، ولكني حفظتُهما:
وقفتُ أُجيلُ الطَّرفَ حَوْلي فراعني
مدامعُ في عينَيَّ لا تتَحَدَّرُ
أهيبُ بها تَهمِي فتأبَى ترفُّعًا
  
ثم لم تكمل.
نور الدين : نعم تذكَّرتُ.
إسماعيل : هل أكملتَ البيت الناقص؟
نور الدين : لا لمْ أُكملْه، لماذا أكملُه؟
إسماعيل : لأن البيت لا بد أن يُكملَ.
نور الدين : لماذا؟
إسماعيل : لأن البيت لا يصبح بيتًا حتى يُكملَ.
نور الدين : وما أهمية أن يُصبحَ البيتُ بيتًا؟

(في أثناء هذا الحوار يلاحظ أن خادمًا غير عمارة يدور على الناس، ويقدِّم لهم فناجين، ولكنهم يردُّون الطلبات، ويعطونه نقودًا، فيردُّها هو أيضًا.)

إسماعيل : ليكون شعرًا.
نور الدين : وماذا يحصل إن لم يُصبحْ شعرًا؟
إسماعيل : ألا تُحِسُّ أنَّكَ تريد أن تقول شعرًا؟ أنت … أنت لا تريد أن تقول شعرًا؟
نور الدين : لا.
إسماعيل : والشعر؟!
نور الدين : ليذهب إلى جهنَّم وبئس المصير.
إسماعيل : لقد شبِعتَ فلتقل الشعرَ الآن وأنت مطمئن.
نور الدين : ومن أدراكَ أنني كنتُ أريد أن أطمئنَّ لأقول الشعر؟
إسماعيل : من منَّا لا يبحث عن الاطمئنان؟
نور الدين : أبحثُ عن الاطمئنان نعم، ولكن أَلا بُدَّ لي أن أقولَ الشعر؟!
إسماعيل : لقد خُلقتَ لتقول الشعر. ما فائدتُكَ في الحياة إن لم تقل الشعر؟!
نور الدين : وما فائدة الشعر في الحياة؟
إسماعيل : أنتَ الذي تقول هذا؟!
نور الدين : ولماذا لا أقوله؟
إسماعيل : لقد عشتَ كلَّ هذه الأيام التي مضَت؛ لأنك تقول الشعر.
نور الدين : وهل هذا يعني أن للشعر فائدة؟!
إسماعيل : لكَ على الأقل هو ذو فائدة كبيرة.
نور الدين : لأن هناك مغفَّلين يحبُّون أن يسمعوا مِثلي يمدح أمثالَهم.
إسماعيل : حتى أنت تقولُ هذا!
نور الدين : إنها الحقيقة؛ الحياة واقع والشعر زيف … زيف. الواقع لا يحب الزيف. الحياة لا تحب الشعر.
إسماعيل : حياة بائسة حقيرة تلك التي تتحدث عنها، حياة مهينة، كالشجر الذابل، كالبلبل الصامت، كالنهر الجاف.
نور الدين (ضاحكًا في سخرية) : إنه أنتَ الذي يحاول أن يقول الشعر؟
إسماعيل : يا ليتني! يا ليت! ولكن كيف أقول؟ إنه أنت الذي تعرف كيف تقول ولكنك صامت … صامت. لماذا؟! لماذا؟! (ثائرًا)، لقد شبعتَ بعد جوع وأحنت، وكنتَ قلقًا، فلماذا لا تقول؟! لماذا؟! لماذا يا نور الدين لماذا؟!
نور الدين : أريدُ أن أعيش، أريد أن أحيا.
إسماعيل : لا حياةَ لك بلا شعر.
نور الدين : لا حياة لي مع الشعر، أريد أن أعيش هذه الحياة دون أن أتكلَّمَ، أعيشها كالناس، كهؤلاء الناس، لماذا أقول أنا ليطرَبوا هم؟! لماذا أطرَبُ معهم؟! لماذا أكون أنا سلوتهم ولا أجد أنا من يُسلِّيني؟!
إسماعيل : ولكنك إن سكتَّ لا يجد الناس سلوَى.
نور الدين : ليذهبوا إلى الجحيم.
إسماعيل : ألا تجد السلوى في قول الشعر؟
نور الدين : أجد العناء والكدَّ، أجد نفسي في تِيهٍ من الألفاظ والمعاني؛ فالدنيا أمامي لا شيء إلا الكلمة والقافية، والمشاعر المحترقة والأعصاب المشدودة … إلى الجحيم فليذهب، إلى الجحيم …
إسماعيل : ولكن عندما تنتهي من البيت، عندما تجد اللفظة التي كنت تبحث عنها، حين تكتب المعنى الذي تريد قوله … ألا تُحِسُّ هذه الخفقة في قلبك، أنك خلقتَ شيئًا؟ ألا تساوي هذه الخفقة الدنيا كلها؟!
نور الدين : سئمتُ هذه الخفقة.
إسماعيل : لا تستطيع، إنها وُلدتْ معك … جزءٌ من كيانك … بعضٌ من دمائك، إنها أنت.
نور الدين : إني أعيش الآن، ألستُ كذلك؟! إني أعيش.
إسماعيل : الذي أراه أنك تموت.
نور الدين : دعني، دعني، لا أريد أن أقول شيئًا، ليس هناك ما أقوله، الناس شِباع مُكتسون لا مشاكل لهم، فلماذا أقول؟!
إسماعيل : لأنك لا بد أن تقول.
نور الدين : ماذا أقول؟
إسماعيل : افرح مع الناس، كن غناءهم في اطمئنانهم، كن ضحكتهم في فرحهم … كن هؤلاء الناس جميعًا، كن أنت نشيدهم وأهازيجهم.
نور الدين : الناس! أي ناس؟!
إسماعيل : إخوانك، أبناء حياتك، جيرانك، وأصدقاؤك … هؤلاء الناس.
نور الدين : أهم سعداء؟
إسماعيل : إنهم آمنون.
نور الدين : من أين لهم الأمن؟
إسماعيل : الرزق يأتيهم كل يوم.
نور الدين : وهم أَمِنوا رزق الغد؟
إسماعيل : لقد ضمنوا رزق اليوم.
نور الدين : إن القلق جزء من حياتنا نخلقه إن لم نجده، إنهم كما عهدتُهم في رعب ألَّا يأتيَهم في الغد ما جاءهم اليومَ من رزق.
إسماعيل : ولكنهم سعداء، سعداء يا نور الدين، أليسوا سعداء؟
نور الدين : إنهم يريدون أن يعملوا، العمل هو الشيء الوحيد الذي يجعلهم لا يُفكِّرون في القلق.
إسماعيل : ولكنهم سعداء يا نورَ الدين، أليسوا كذلك يا نور الدين؟! (في رجاء) إنهم سعداء يا نور الدين، أليسوا كذلك؟ إنهم سعداء؟
نور الدين : لا أدري، لعلني أخرِّفُ، نعم لعلهم سعداء، لعلني أخرِّفُ، ماذا يريدون أكثر من هذا ليكونوا سعداء؟! نعم لا بد أنهم سعداء.
إسماعيل (وقد هدأتْ نفسُه) : نعم إنهم سعداء.
نور الدين : يجب أن يكونوا سعداء.
إسماعيل : فلماذا لا تُغَنِّي سعادتهم يا نور الدين؟! غنِّ سعادتهم.
نور الدين : ولكني يا إسماعيل … ولكني …
إسماعيل : ولكنك ماذا؟
نور الدين : لا أريد أن أغنِّي.
إسماعيل : لا تريد!
نور الدين (يقوم) : لا أريد أن أغنِّي يا إسماعيل (يتجه إلى الطريق لينصرف).
إسماعيل : ألا تغنِّي يا نور الدين؟ ألا تغنِّي؟
نور الدين : أنت محقٌّ يا إسماعيل، كان يجب أن أغنِّيَ ولكني لا أريد، لا أدري لماذا؟! ولكني لا أريد.

(ينصرف.)

إسماعيل (يرفع صوته) : ولكن يجب أن تغنِّيَ يا نور الدين يجب أن تغنِّيَ، هه، يجب أن تغنِّيَ.

(يعلو صوت شخصين يجلسان على منضدة أخرى.)

الأول : أرأيتَ ما فعله الولد عمارة؟
الثاني : ترك المقهى وقعد في البيت.
الأول : عبيط.
الثاني : ميمون أحسن منه.
الأول : الولد عمارة كان خفيف الظل.
الثاني : ولكنه كان طمَّاعًا.
الأول : كل فِتيان المقاهي طماعون.
الثاني : ولكن ميمون لا يطمع.
الأول : إنه أشد طمعًا من عمارة.
الثاني (يتثاءب) : يا شيخ، إنه يرفض أن يأخذ لنفسه نقودًا.
الأول : إنه فقط يستطيع أن يُخفيَ طمعَه.
الثاني : أو لعله لا يحتاج إلى شيء.
الأول : نعم فعلًا، إنه لا يحتاج، إن أحدًا من الناس لا يحتاج إلى شيء.
الثاني : إننا في بغداد لا نحتاج إلى شيء.
الأول : إنما قل لي.
الثاني : أقول لك.
الأول : كم مرة تبادَلْنا هذا الحديث؟
الثاني : أي حديث؟
الأول : هذا الحديث عن عمارة وعن ميمون وعن الناس في بغداد.
الثاني : لا أذكر، كثيرًا ما تبادَلْناه.
الأول : لقد أصبحْنا نقولُه بالحرف الواحد لا نغيِّرُ فيه شيئًا.
الثاني : قل لي.
الأول : أقول لك.
الثاني : هل قلتَ إن الناس في بغداد لا تحتاج إلى شيء؟
الأول : نعم، ألا تعرف هذا؟
الثاني : إذن فلعل الناس في غير بغداد يحتاجون.
الأول : هل تريد أن تحتاج؟
الثاني : لا، ولكني أريد الناس أن تحتاج إليَّ.
الأول : إذا احتاج إليك الناس فلا بد أن تحتاج إليهم.
الثاني : وما البأسُ أن أحتاج إلى الناس، ويحتاجوا إليَّ؟ ألَا تكونُ حياةً جميلة هذه؟ أحتاجُ إلى الناس ويحتاجون إليَّ.

(يتقدَّم منهما ميمون.)

ميمون : قهوة، على مزاجك يا عم عباس.
عباس : أنا لا أريد قهوة.
ميمون : إذا انتظرتُكَ حتى تريدَ قضيتُ يومي كلَّه بلا عمل.
عباس : وما الذي يحدثُ إذا قضيتَ يومَكَ بلا عمل؟! أحسَنُ مِن مَن أنت؟
ميمون : ولماذا لا تريد القهوة يا عم عباس؟
عباس (يصمت لحظة) : والله يا بني لك حق، لماذا لا أريد القهوة؟ الظاهر أنني أصبحتُ أكسل حتى عن التفكير في طلب شيء، كسل، أنا لا أريد قهوة، أنا أكسل من أن أرفع الفنجان وأرشف القهوة … و… و… إلى آخر هذه الإجراءات السخيفة.
ميمون : اشربها على حسابي يا عم عباس، تحية منِّي.
عباس : وهل ذكرتُ شيئًا عن الحساب؟! هل ذكرتُ شيئًا عن الحساب يا عثمان؟!
عثمان : أبدًا، هو يا بني كسلان.

(ينادي أحد الجالسين إلى منضدة مجاورة على ميمون.)

الزَّبون : ميمون، يا ميمون.
ميمون : نعم يا عم سليمان، نعم.
الزَّبون : تعالَ وأنا أُريحُكَ من مسألة القهوة.
ميمون : لا يمكن أن تريحني يا عم سليمان.
سليمان : لماذا؟
ميمون : لأنني صنعتُ لكَ قهوة أنت الآخر.

(ينتقل ميمون إلى منضدة سليمان.)

سليمان : لا بأس عليك، تعالَ.
سليمان : أعرض عليك اقتراحًا.
ميمون : أنا تحت أمرك.
سليمان : تشرب أنت القهوتين.
ميمون : إنها أربع قهاوي.
سليمان : أربع قهاوي؟!
ميمون : أربع قهاوي.
سليمان : لا بأس اشربها أنت جميعًا، وأنا أدفع لك ثمنها بشرط.
ميمون : ما الشرط؟
سليمان : أن تجعلني أنا أصنع قهوتي.
أصوات : نعم، نعم، نريد نحن أن نصنع القهوة.
ميمون : انتظروا، انتظروا، على مهلكم، خذوا أنفاسكم، إذا صنعتم أنتم القهوة، فماذا أصنع أنا؟!
أصوات : تستريح.
سليمان : تجلس على أحسن منضدة تعجبُكَ ونخدمُكَ نحن.
ميمون : إن لَذَّتي في الحياة أن تُناديَني وأُجيبَكَ.
سليمان : وما الذي يجري لو ناديتَ أنتَ وأجبتُ أنا؟!
أصوات : كلنا نجيبه، كلنا نجيبه.
ميمون : الحال ينقلب، الطبيعي أن يجلس الزبائن ويخدم ميمون.
عباس : تتكلَّمُ وكأنَّكَ في المقهى منذ أعوام! إنك لم تأتِ إلَّا في اليوم الأخير؛ أقصد في اليوم الأغر الذي أصبحنا فيه لا نحتاج إلى شيء.
سليمان : لو كان عمارة هنا لقَبِلَ أن يجلسَ ونَخدمَه نحن.
إسماعيل : ولكن هذا الوضع يكون شاذًّا يا إخوان.
سليمان : وهل الوضع الذي نحن فيه طبيعي؟!
إسماعيل : يا إخوان!

(لا يلتفتون إليه.)

سليمان : هيه، ماذا قلتَ يا ميمون؟

(قبل أن يُجيبَ يدخل التاجر الغني – ينتقل ميمون إلى مكانه.)

ميمون : انتظر حتى أرى ماذا يريد هذا الزَّبون الجديد.

(يذهب إلى التاجر.)

ميمون : أوامر.
التاجر : أين عمارة؟
ميمون : زَبون قديم حضرتك؟
التاجر : أعرف عمارة.
ميمون : ترك عمارة المقهى.
التاجر : لماذا؟
ميمون : ولماذا يعمل؟
التاجر : ولماذا تعمل أنت؟
ميمون : لأن الناس لا بد أن تعمل.
التاجر : وعمارة أليس من الناس؟!
ميمون : هذا شأنه.
التاجر : أحضِر لي فنجان قهوة.
ميمون : أمرُكَ.

(يحاول أن يذهب إلى حيث يصنع القهوة، ولكن سليمان يسارع إلى ندائه.)

سليمان : اسمع يا ميمون، ميمون!
ميمون : نعم.
سليمان : ماذا طلب؟
ميمون : وماذا يهمك؟
سليمان : أريد أن أعرف فقط، ماذا طلب؟
ميمون : طلب قهوة.
سليمان : تأخذ كم وتجعلني أنا أصنع القهوة؟
ميمون : يا عم سليمان، دعْنا نشوف شغلنا.
سليمان : يا أخي وأنت ماذا يهمك؟ القهوة ستعمل، وستكون أحسنَ من قهوتك، وستأخذ حسابها، ثم أنت بعد ذلك ستأخذ بضعة دراهم من ثمن القهوة وبقشيشها.
ميمون : يا عم اتركنا لحالنا.
عباس : أهذا كلام يا ميمون؟ ماذا يحصل لو جعلتَ الرجل يعمل فنجان قهوة من نفسه وأنا سأساعده؟
ميمون : المعلم أبو الحسن يطردني.
عباس : وماله؟ ماذا يهمك لو طردك؟!
ميمون : ماذا يهمُّني؟! أصبح مثلكما أبحثُ عن أي إنسان يعطيني شغلة لوجه الله.
سليمان : الله يكسفك، امشِ، لا نريد شيئًا من وشك.

(ينصرف إسماعيل ويدخل بائع قماش يبدأ بعرضه على المنضدة الأولى حيث يجلس عليها اثنان.)

البائع : قماش من العال.
أحدهم : تعالَ.
البائع : يا أهلًا يا مرحبًا، أنا خدَّامك، أنا تحت أمرك.
المشتري : ماذا عندك من الأقمشة؟
البائع : حريرٌ من الهند، وكَتَّان من اليمن، وصوف من أفغانستان، عندي ما تريد وما لا تريد، عندي كلُّ شيء.
الآخر : هل عندك شيء من الجوخ؟
البائع : إن ما عندي من الجوخ لا يلبس منه إلا الخليفة، صنف جاء في قافلة الأمس ناعم كالحرير، صقيل كأنه منسوج من خيوط الذهب.
الأول : أرنا شيئًا من بضاعتك.

(البائع يفكُّ الأقمشة ويبدأ في العرض ويقاطعه الثاني.)

الآخر : هل عندك قطيفة؟
البائع : ناعمة كأحلام العذارَى تنساب كأنما الماء يصفق في الجداول، ألوان منها وألوان، أيَّ لون تريد؟
الأول : أرِنا ما عندك.

(يبدأ التاجر في عرْض بضائعه بينما يدخل عمارة وتتعالَى بعضُ أصواتٍ من الجالسين.)

أصوات (متناثرة) : عمارة، عمارة.

(عمارة يسير إلى التاجر في حزم وإصرار ويجلس على الكرسي المقابل له.)

التاجر : أهلًا عمارة، أهلًا، سألتُ عنك عندما …
عمارة (مقاطعًا) : عرفتُكَ.
التاجر : ماذا؟
عمارة : عرفتك.
التاجر : وما لكَ تقولُها وكأنك وجدتني لصًّا أو قاطعَ طريق؟
عمارة : يا ليتكَ كنتَ كذلك.
التاجر : إذن فأنت لم تعرفني.
عمارة : بل عرفتُكَ، عرفْتُ كلَّ شيء عنك.
التاجر : أنا لا أخجلُ من عملي.
عمارة : ولكن النفس تشمئزُّ منه.
التاجر : يا لك من غبي! إنني لا أعامل إلا الأثرياء والوزراء والملوك.
عمارة : إن هذا لا يعطي عملَكَ البريقَ الذي تحاول أن تُكسبَه إيَّاه.
التاجر : أنا تاجر الجَمَال، أنا بائع الأُنْس، أنا الذي أهَبُ هذه النفوس التائهة في بيداء الحياة ماءها، ورضاب السحر، وإشراق الجمال، وخفقة الفؤاد، وهمسة الهوى، وخلجة الحنان.
عمارة : إنك تتاجر في النفوس، في البشر، بِئسَتْ هذه من تجارة.
التاجر : ليس فيما أعمل ما يغضب الله.
عمارة : لا تقل هذا، لا تقل هذا.
التاجر : بل أقوله، ليس فيما أعمل ما يُغضب الله.
عمارة : تتمسَّكُ بالظاهر ولا تتطلَّعُ إلى العميق البعيد من أحكام الله! إنه لا يحب الرق، إنه يمقته، ألم يجعل فكَّ رقبة تقربًا إلى الله؟
التاجر : لو أراد لمنع.
عمارة : أراد أن يمتحن أمثالَكَ، يريد أن يرى هؤلاء الذين يتاجرون في إخوانهم.
التاجر : تجارة حلال.
عمارة : تبيع النفوس، نفوس البشر.
التاجر : أَنقُلُ الفتاةَ من المهانة إلى العِزِّ، ومن الفقر إلى الغِنَى.
عمارة : ليس مع العبودية عِزٌّ ولا غِنًى.
التاجر : هل شكَوْنَ إليك؟
عمارة : وهل الحرية تريد شكوى؟! إنها الحرية، بغيرها لا حياة …
التاجر : هل شكَوْنَ إليك؟
عمارة : هل يشكو القتيل وهو قتيل؟! إنَّ من تُسلَبُ حرِّيَّتُه يجد المصيبة أعظم من الشكوى.
التاجر : فأنت إذن لن تسعى لي في الزواج من قمر الزمان؟
عمارة : أنا لا أريد أن أعرفَكَ.
التاجر : أعطيك ما تطلبه.
عمارة : خذ هذا الكيس أولًا.
التاجر : أي كيس؟!
عمارة : ذلك الذي وضعتَه في جيبي.
التاجر : أنا لم أضع شيئًا في جيبك.
عمارة : خذه.
التاجر : إنه ليس لي.
عمارة : فمن أين جاءني؟!
التاجر : هل بعد هذه الأعاجيب التي نعيش فيها تسألني؟!
عمارة : إنهم لا يعطون مالًا.
التاجر : وهل أدري ماذا يعطون وماذا لا يعطون؟
عمارة : إنهم لا يعطون مالًا، وأنا لن أُبقِيَ هذا الكيس في حوزتي.
التاجر : ولكنه ليس ملكي.
عمارة : الواقع أنني لستُ واثقًا أنك صاحبه، ولكن مجرد الشك يجعلني أُصِرُّ على أن أردَّه لك.
التاجر : فأنت مُصِرٌّ؟
عمارة : غاية الإصرار.

(يترك له الكيس فيضعه التاجر في جيبه.)

التاجر : وقمر الزمان؟
عمارة : سأعمل كلَّ جهدي إن شاء الله على أن تتزوج من أي إنسان إلا أنت.
التاجر : أجادٌّ فيما تقول؟
عمارة : سوف ترى.

(يقوم ويتجه إلى حيث تُصنع القهوة.)

التاجر : تعالَ يا عمارة.
عمارة (دون أن يلتفت إليه) : أنا لا أعرفك.
ميمون : أنت عمارة.
عمارة : نعم، أنا عمارة، من أنت؟
ميمون : أنا الذي حللتُ مكانَك، الكلُّ يسأل عنك.
عمارة : وها قد جئتُ، فماذا تنوي أن تعمل؟
ميمون : سأستمر في عملي.
عمارة : لن أطردك من عملك ولكن عليك أن تساعدني.
ميمون : تتكلم وكأنك صاحب العمل.
عمارة : أنا صاحب العمل.
ميمون : بل صاحبه من يملكه.
عمارة : لقد نشأتُ هنا ولا أذكر ماذا كنت قبل أن أعمل في هذا المقهى، أتظن أن أبا الحسن سيطردني ويُبقيكَ؟
ميمون : فماذا ترى؟
عمارة : تساعدني.
ميمون : أمري إلى الله.
بائع الأقمشة : فأنتما إذن لن تشتريا شيئًا.
أحدهم : قل، هل اشترى منك أحد شيئًا منذ … منذ … منذ … هذا الذي نحن فيه؟
البائع : اشترِ أنت منِّي ولا تدفع.
أحدهم : لا أدفع!
البائع : أُقيِّدُه عليك، إلى ميسرة.
أحدهم : وهل هناك ميسرة أكثر من هذا؟!
البائع : فاشترِ.
الآخر : ولماذا نشتري؟
البائع : لأني أريد أن أبيع.
الآخر : ولكننا نحن لا نريد أن نشتري.
البائع : ولماذا لا تريدون؟
الآخر : لقد نِلْنا من الشراء كلَّ ما نطمع فيه.
البائع : أنت لم تشترِ شيئًا.
الآخر : لقد قضينا وقتًا طويلًا معك في الحديث والفرجة، وهذا أقصى ما نطمح إليه.
البائع : ولكني أريد أن أبيع.
الآخر : ابحث عن غيرنا.
البائع : أعطيك قطعة بلا ثمن.
الآخر : بلا ثمن؟!
البائع : بلا ثمن.
الآخر : وماذا؟!
البائع : تشتري مني قطعة أخرى مقابل ذلك.
الآخر : وماذا نفعل بها؟ نحن لا نحتاج إلى قماش.

(إسماعيل يقترب من البائع والزبائن.)

إسماعيل : أجائع أنت يا أخي؟
البائع : إن بيتي في بغداد.
إسماعيل : ففي بيتك طعام؟
البائع : نعم.
إسماعيل : وكِساء؟
البائع : قلت لك إن بيتي في بغداد.
إسماعيل : فما هذا إلَّا إصرارٌ منك على البيع.
البائع : وماذا أفعل إذا كنتُ لا أبيع؟!
إسماعيل : تعيش سعيدًا.
البائع : وكيف أعيش وأنا لا أعمل؟!

(تُطفأ أنوار المقهى، ويُضاء بيتُ أبي الحسن. جمالات وقمر الزمان.)

جمالات : أقوم أجهز المائدة.
قمر : أقوم معكِ.
جمالات : لا، لا أريدُ منكِ عونًا.
قمر : كيف؟ كيف يا أم؟
جمالات : منذ بدأ هذا الوارد الجديد وأنا أريد أن أعمل.
قمر : كنتِ تفعلينَ بي الأفاعيل، لأساعدكِ.
جمالات : كان هناك ما تُساعدينَني فيه.
قمر : الأكل بلا لحم.
جمالات : ولكن كنا نصنعه بأيدينا.
قمر : كان لذيذًا.
جمالات : كان لذيذًا! ما رأيك أن هذا الطعام الذي يجيئنا لا طعمَ له!
قمر : لأننا لا نصنعه.
جمالات : قطعًا.
قمر : من الذي يصنعه يا أم؟
جمالات : سلامٌ قولًا من رب رحيم، يا بنتي ونحن مالنا ومالهم.
قمر : ولكنَّا نأكله.
جمالات : وهل نستطيع ألَّا نأكلَه؟!
قمر : أقوم أنظف البيت.
جمالات : لقد نظفتُه اليوم ثلاث مرات.
قمر : أنظفه رابعة.
جمالات : بل جهزي أنتِ المائدة وسأنظف أنا البيت.
قمر : نظِّفي، نظِّفي ما شئتِ، فلن يَتركَ المللُ نفسَكِ.
جمالات : أشعر براحة وأنا أنظف البيت.
قمر : هذا إذا كان قذرًا، ولكنكِ لن تشعري بالراحة وأنتِ تنظفين الشيء النظيف، لن تشعري بهذه السعادة التي تعوَّدْتِ أن تشعري بها حين تمُرِّين بالممسحة فإذا بالشيء المترَّب القذر قد أصبح نظيفًا، ستمرِّين بالممسحة وستظل الأشياءُ كما هي، لن تُضفي عليها هذه اللمسة السحرية التي تعودْتِ أن تضفيها عليها حين تكون قذرة ثم تصبح نظيفة.
جمالات : لا أفهم شيئًا مما تقولين.
قمر : لماذا ننظف؟
جمالات : لتصبح الأشياء نظيفة.
قمر : لا، ولكن لنشعر بأن عملنا يأتي بنتيجته.
جمالات : لا أفهم.
قمر : يا أم إن العمل الذي لا يأتي بنتيجته لا طعمَ له.
جمالات (في ضَجَر) : جهِّزي المائدة وسأنظف البيت.
(تدخل جمالات وتبدأ قمر في تجهيز المائدة، ولكنها لا تكاد حتى يدخل عمارة.)
قمر : من؟ عمارة! هل عدتَ؟
عمارة : كان لا بد أن أعود.
قمر : المقهى بدونك شيء آخر.
عمارة : كل شيء أصبح شيئًا آخر يا ست قمر.
قمر : ولكنك عدتَ.
عمارة : ولكن الأمور لم تَعُدْ.
قمر : ماذا جرى للناس يا عمارة؟
عمارة : لا يستطيع أن يحلَّ المشكلة التي نحن فيها إلا فلسفة إسماعيل.
قمر : إسماعيل! لم أَرَه منذ بدأت هذه الحكاية.
عمارة : إنه يأتي إلى المقهى.
قمر : ولكن لا أراه.
عمارة : كيف؟
قمر : أصبح لا يأتي إلا والمقهى مزدحمة.
عمارة : أيقصد هذا؟
قمر : وكيف أعرف؟
عمارة : ألم يدخل إلى هنا أبدًا؟
قمر : منذ ذلك اليوم لم يدخل أبدًا.
عمارة : ماذا به؟
قمر : أراه من وراء الباب، ذاهل هو دائمًا، يتسمَّع ما يقوله الناس، ويشارك من لا يعرفهم الحديث، ولا ينظر إلى بابي أبدًا.
عمارة : عجيب أمره.
قمر : لقد فكرتُ أن أرسل إليه.
عمارة : ولماذا لم تفعلي؟
قمر : لم تكن أنتَ هنا.
عمارة : لم أكن أحب إسماعيل.
قمر : ثم ماذا حدث؟
عمارة : التاجر الذي …
قمر : نعم التاجر الذي كنتَ تحبه.
عمارة : فجعتُ فيه.
قمر : هل مات؟
عمارة : يا ليتَه.
قمر : إذن …
عمارة : عرفتُ تجارتَه.
قمر : ألم تكن تعرفها؟
عمارة : تاجر رقيق.
قمر : تاجر جوارٍ؟
عمارة : بيَّاع نفس بشرية.
قمر : فهو إذن تاجر رقيق.
عمارة : ماذا بكِ؟ كأن الأمر يُسيءُ إليكِ.
قمر : ولماذا يُسيءُ إليَّ؟
عمارة : يشتري الناس ويبيعهم.
قمر : هذه صناعته.
عمارة : أترضين به زوجًا؟
قمر : أنا لا أرضى به زوجًا ولو كان الخليفة.
عمارة : إذن فما لكِ تهلَّلتِ بالفرح؟
قمر : أعجبني أن يخطبني.
عمارة : وما الذي يعجبُكِ في هذا؟
قمر : يا غبي! ألا تفهم؟
عمارة : أفهميني.
قمر : إن الجمال هو بضاعته، صناعته، فإذا كان قد اختارني لنفسه، أفلا يعني هذا شيئًا؟!
عمارة : أنَّكِ جميلة.
قمر : أرأيتَ؟!
عمارة : أَوَلم تكوني عارفة أنَّكِ جميلة؟!
قمر : فرق بين أن أعرف وبين أن يقول تاجر الجمال إنه يريدني لنفسه.
عمارة : ويْلِي من النساء.
قمر : والآن ماذا تريدني أن أفعل؟
عمارة : أن تتزوجي إسماعيل.
قمر : وهل كنتُ أنتظر أمرَكَ؟!
عمارة : لا، ولكني أردتُ أن أقولَ هذا فقط.
قمر : يا لكَ من غبي.

(يُطرَق الباب فيذهب عمارة ويفتحه.)

عمارة : من؟ سيدي إسماعيل؟
إسماعيل : أنت هنا يا عمارة؟
عمارة : تستطيع أن تعتبرني لستُ هنا.
إسماعيل : بل إني أريدك.
عمارة : تريدني أنا؟
إسماعيل : طاب مساؤك يا قمر الزمان.
قمر : الحمد لله أنَّكَ ما زِلتَ تذكر اسمي.
إسماعيل (ذاهلًا) : الحمد لله.
عمارة : تريدني قلتَ؟
إسماعيل : نعم.
عمارة : إنها هنا وحدها للحظات الله يعلم متى تنتهي، ألا تزال تريدني؟!
إسماعيل : قل لي يا عمارة، هل أنت مسرور؟!
عمارة : وماذا يهمُّك؟
إسماعيل : أريد أن أعرف هل أنت راضٍ عن هذه الحال هنا في بغداد؟
عمارة : العجيب أنني لا أدري أننا نحيا في حلم.
إسماعيل : أهو حلم سعيد؟
عمارة : لستُ أدري يا سيدي إسماعيل، ولكن يبدو أن الناس تحب أن تظل الأحلام أحلامًا والحقائق حقائق.
إسماعيل : أصحيح هذا؟
قمر : نعم صحيح.
إسماعيل : هل أنت واثقة يا قمر الزمان؟
قمر : الناس يحبون أن تظلَّ الحياةُ حياةً والأحلامُ أحلامًا.
عمارة : غبتُ عن المقهى فلم أسترِحْ وعدتُ إليها فشعرتُ أنني أتنفَّسُ الهواء الذي يجب أن أتنفَّسَه.
إسماعيل : شكرًا يا عمارة، اذهب أنت.
عمارة : أهذا ما كنتَ تريدني فيه؟
إسماعيل : شكرًا يا عمارة.

(يخرج عمارة وينهار إسماعيل على الكرسي.)

قمر : ألهذا غبتَ عن المقهى؟
إسماعيل : حسبتُ الناسَ ستجنُّ من الفرح.
قمر : وماذا وجدتَ؟
إسماعيل : فرحوا يومًا ويومين ثم …
قمر : أنت ماذا يهمُّك؟
إسماعيل : يهمُّني الناس يا قمر الزمان.
قمر : وماذا تستطيع أن تفعل؟
إسماعيل : لقد فعلتُ وأستطيع أن أفعل.
قمر : أنتَ … أنتَ الذي فعلتَ.
إسماعيل : نعم لقد فعلتُ.
قمر : فعلتَ؟ ماذا فعلتَ؟
إسماعيل : لم أَبُحْ بسرِّي هذا لأحد، نعم لقد فعلتُ.
قمر : كيف؟
إسماعيل : لا يهمُّكِ كيف.
قمر : كيف لا يهمُّني؟
إسماعيل : المهمُّ أنني فعلتُ.
قمر : وماذا تنوي أن تفعل الآن؟
إسماعيل : لا أدري.
قمر : من أنتَ حتى تغيِّرَ أقدارَ الناس؟!
إسماعيل : حاولتُ أن أُسعدَهم.
قمر : إنهم لا يحبُّون سعادة لا يصنعونها بأيديهم.
إسماعيل : حاولتُ أن أعينَهم.
قمر : متى قالوا لكَ إنهم يريدون عونك؟
إسماعيل : أطعمتُ الجائعَ وكسوتُ العُريان.
قمر : وهدمتَ الحياة؛ فكَسِلَ الكادحُ، ونام اليقظان، وكفَّ عن السعي الناسُ، وانعدمت من الحياة معاني الحياة.
إسماعيل : لقد كفَّ نور الدين عن قول الشعر.
قمر : الناس لا تقول الشعر في حياة راكدة.
إسماعيل : وكفَّ الناسُ عن العمل.
قمر : ولماذا يعملون؟!
إسماعيل : لقد هيَّأتُ لهم كلَّ ما كان يَسعَوْن إليه.
قمر : فهم لا يَسعَونَ.
إسماعيل : أعيدُ الحياةَ كما كانت؟
قمر : جريمة أكبر.
إسماعيل (مذعورًا) : ماذا؟ ماذا قلتِ؟
قمر : لقد رأوا أحلامهم وهي حقيقة، إنهم يفجعون في هذا النوع من الحياة إن زال عنهم.
إسماعيل : ولكنهم غيرُ راضين عنه.
قمر : ولكنهم تعوَّدوه.
إسماعيل : لماذا لا ترجع الأحلام أحلامًا كما كانت؟
قمر : لأنها أصبحت حقيقة.
إسماعيل : ماذا فعلتُ؟
قمر : مسكين أنتَ، لقد تلاعبت بحياة الناس فلا بد أن تحمِلَ وِزرَك.
إسماعيل : ماذا أفعل؟
قمر : لو كنتَ فقيرًا وأردتَ أن تتزوَّجَ مني وسألتني ماذا أفعل لقلتُ لك نسعى معًا ولتمضِ بنا الحياة إلى غاياتها، أما الآن وأنت تجعلُ من نفسك منظِّمًا للحياة فعليك وحدَك أن تجد الحل.
إسماعيل : أقتلُ نفسي؟
قمر : هروب، وهروب لا يفيد.
إسماعيل : قمر الزمان، هل بوُسعِكِ أن تكتمي سرِّي هذا؟
قمر : أمَّا هذا فلست بحاجة أن تقولَه لي، فما كنتُ لأُذيعَ سرًّا أودعتني أنتَ أمانتَه.
إسماعيل : يا ربِّ ماذا أفعل؟
قمر : لا ملجأ إلا هو.
إسماعيل : يا رب.

(تُطفأ أضواء البيت ويُضاء النور على المقهى.)

التاجر : يا عمارة.
عمارة : يا ميمون اذهب إلى هذا الرجل، فانظر ماذا يريد؟

(ميمون يذهب إلى التاجر.)

ميمون : أمرك يا سيدي.
التاجر : أريد عمارة.
ميمون : وأنا لا أنفع؟
التاجر : يا ليتكَ يا بني كنتَ تنفع.
ميمون : أمرُكَ.

(يذهب ميمون إلى عمارة.)

ميمون : إنه يريدكَ أنتَ.
عمارة : وأنا لا أريده.
ميمون : وهل هذا شغل؟!
عمارة : هكذا أشتغل أنا.
ميمون : ولكن عملنا هنا أن تطيع أوامر الزبائن.
عمارة : والله لم يبقَ إلا هذا! أتعلمني أنت الشغل هنا؟!
ميمون : هذا لا يحتاج إلى تعليم.
عمارة : طيب، أمرك.

(يذهب عمارة إلى التاجر.)

عمارة : وبعدك، يا سيدي أنا لا أريد أن أكلمك.
التاجر : اقعد.
عمارة : قل لي، لماذا تريدني أنا بالذات أن أتكلم في هذا الموضوع؟
التاجر : ألم تفهم؟
عمارة : الذي أفهمه أنك تاجر عظيم، وأنك تستطيع أن تتقدم إلى أبي قمر وتخطبها دون هذه المقدمات السخيفة مع صبي المقهى.
التاجر : ألم تفهم؟!
عمارة : لا وربِّكَ لم أفهم.
التاجر : عجيبة!
عمارة : بل العجيبة أنَّكَ تريدني أن أفهمَ أشياء لم تقلها.
التاجر : لم أقلها؛ لأني واثق أنَّكَ ستفعلُها.
عمارة : ما هي؟
التاجر : الإجراءات اللازمة.
عمارة : وما هي؟
التاجر : ألم تعملْها؟
عمارة : أنا على كل حال لن أعمل شيئًا لصالحك أبدًا.
التاجر : حتى وإن كنتُ سأقدِّمُ إليك جاريةً هدية.
عمارة : آه، هذا إذن هو العرض الجديد.
التاجر : ما رأيك؟
عمارة : يا عم الله يفتح عليك، أتريدني أنا أن أملك جارية؟!
التاجر : وماله؟ الغذاء والكساء مكفولان والحمد لله، وأنت شاب في ريعان الشباب …
عمارة (مقاطعًا) : اسمع أنا لن أصنع شيئًا لصالحك أبدًا.
التاجر : طيب اترك هذه الحكاية الآن، أفهمتَ أولًا لماذا كلمتُكَ أنتَ ولم أُكلم أباها؟
عمارة : لا وحياتك لم أفهم.
التاجر : قدرتَ أنَّكَ لن تُكلِّمَ أباها حتى تسألَها هي أولًا.
عمارة : آه.
التاجر : هل سألتَها؟
عمارة : أتريدني إذن أن أكون عاملَ بريدِ الغرام؟!
التاجر : مجرد سؤال.
عمارة : إن أباها …
التاجر : دع أباها.
عمارة : إنه هو الذي …
التاجر : يا بني أنا تاجر، أتظنني لا أعرف كيف يخطب الناسُ زوجاتِهم؟!
عمارة : فلماذا لا تتركني إذن؟
التاجر : يا بني تاجر الجواري يعرف أسرار النساء، أنا لا أضمن أن أتزوج فتاة لا تريد هي الزواج مني.
عمارة : هذا إذن ما كنتَ تريدُه مني؟
التاجر : وما أزال أريده.
عمارة : اسمع أيها الرجل إن لم تترك هذه المقهى في الحال سأفضح أمرك للزبائن أجمعين.
التاجر : أتهديد هذا؟
عمارة : لن تقوم إذن؟
التاجر : إنني أستطيع أن أشتري هذه المقهى بزبائنها.
عمارة (بصوت مرتفع) : تاجر أنفس بشرية.

(يلتفت الزبائن ويستمر.)

عمارة : تاجر جوارٍ.

(ينتبه الزبائن ويُقدِمون إليه في بشاشة وترحيب.)

أحدهم : ماذا؟
آخر : تاجر الأُنس والصفاء.
عمارة : ماذا؟

(يخرج إسماعيل فيجد الزبائن مجتمعين على التاجر.)

إسماعيل : عمارة، ماذا يصنع هؤلاء؟
عمارة : يشترون الجواري.
إسماعيل : ماذا؟!
عمارة : طبعًا ما دام الغذاء والكساء قد توفَّر لهم فماذا يصنعون إن لم يشتروا الجواري؟
إسماعيل : غفرانك يا رب، أهذا ما صنعت؟! أهذا ما صنعت؟!
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤