مقدمة الطبعة الثالثة

بعد أن صدرت الطبعةُ الثانية من هذا الكتابِ بقليل، قامت الضجة الكبرى حول كُتيب توفيق الحكيم «عودة الوعي»، الذي صادر فيه على المرحلةِ الناصرية، وقال إنه كان غائب الوعي طيلة عشرين عامًا، وإنه يطالب بفتح ملف عبد الناصر ونظامه لأنه المسئول عن كلِّ ما حاق بمصر والعرب من هزائم.

كان ذلك عام ١٩٧٤م.

بعدها بثلاث سنوات قامت القيامة؛ لأن السادات قام بزيارة القدس المحتلة، ثم عقد اتفاقيات كامب ديفيد، وأخيرًا أبرم معاهدة الصلح المنفرد مع إسرائيل. وفي هذه الخطوات كلها كان توفيق الحكيم رائد الكُتاب المصريين الذين أيَّدوا الرئيس، وباركوا الصُّلح.

هنا ظهر موقفان حاسمان من توفيق الحكيم وفنِّه؛ أولهما يقول بأنَّ الحكيم لم يتغير قط، هكذا كان قبل الثورة الناصرية، وهكذا كان أثناءها، وها هو ذا الآن يفصح عمَّا لم يكن يستطيع التعبير عنه في بعض الأوقات، ولكن الرجل هو هو لم يتغير قط طيلة ستين عامًا من الكتابة.

وللحقِّ، فقد عثر أصحاب هذا الموقف في ماضي الحكيم على ما يؤيد وجهة النظر هذه بكثيرٍ من الاستشهادات والمواقف.

وقال أصحاب الموقف الثاني: كلَّا، ليس هذا صحيحًا، فقد وقف الرجل في الماضي ضد الفاشية وكان الألمان في العلمين بالقرب من الإسكندرية، وإنه استلهم التراث العربي الإسلامي في معظم ما كتب، ولم يكتب حرفًا بالعامية إيمانًا منه بالفصحى الميسَّرة، وإنه قاوم الأجهزة وطغيانها في الزمن الناصري، ووقف إلى جانب الشباب في زمن السادات … وبالتالي فما بدر منه عام ١٩٧٤م وبعده، وعام ١٩٧٧م وبعده، ليس أكثر من انقلابٍ شاملٍ من جانب الرجل على نفسه، وقد خان تراثه قبل أن يخون أمته.

أين كنتُ من هذين الموقفين، وأنا صاحبُ أول كتابٍ متكاملٍ عن توفيق الحكيم، صدر للمرة الأولى عام ١٩٦٦م؟!

في كتابي «من الأرشيف السري للثقافة المصرية» (ط أولى ١٩٧٥م) جوابٌ على سؤال «عودة الوعي»، وفي كتابي «اعترافات الزمن الخائب» (ط أولى ١٩٧٩م) جوابٌ على سؤال «الصلح مع إسرائيل».

وأحبُّ هنا، لمَن يقرأ كلا الكتابين، أن أُوجز الجواب على السؤالين هكذا:

• ليس صحيحًا أن هناك «توفيق الحكيم» واحد، لم يتغير طيلة أكثر من نصف قرن، وليس هناك كاتبٌ غيره في أي أدبٍ من آداب العالم لم يتغير، كلُّ كاتبٍ، كإنسانٍ، يتغير، وكمثقفٍ يتغير أيضًا. مع ذلك، يبقى صحيحًا أن ثمَّة محاور رئيسية في حياة كل فنانٍ أو مفكرٍ نادرًا ما تتغير.

وعندما يكتب الحكيم «عودة الوعي» قائلًا إنه كان غائب الوعي عشرين عامًا، فإنَّني والقرَّاء معي لا نقيم لهذا الكلام وزنًا؛ لأن ما أنتجه في العشرين عامًا قد استقلَّ بتأثيره الموضوعي عن «آراء» صاحبه التالية. إنَّ العمل الفني والفكري لا يعود ملكًا لصاحبه بعد صدوره، وإنما هو يؤدي دوره الفاعل في النفوس والعقول، بغضِّ النظر عن التطورات الشخصية لصاحبه، خاصةً وأنه إذا كان قد غاب عن الوعي فعلًا، لكان عليه أن يكون شجاعًا كما فعل بعض الكتاب في كلِّ الأزمنة، ويحرق كتبه في أوسع ميادين القاهرة، ويحرِّم على الناشرين طبعها، ويناشد القرَّاء إتلافها أينما وُجدت.

وهو الأمر الذي لم يحدث إلى اليوم، بل لا زال توفيق الحكيم يُعيد طبع ما أنتجه خلال العشرين عامًا الناصرية، ويسجل عناوينها في قائمة مؤلفاته المنشورة في صدر كل كُتبه الجديدة، ومعنى ذلك ببساطةٍ أنه يعترف بها.

يعترف ﺑ «السُّلطان الحائر» و«الصفقة» و«الأيدي الناعمة» و«إيزيس» و«يا طالع الشَّجرة» و«الورطة» و«بنك القلق» و«رحلة الغد» و«الصرصار ملكًا» و«الطعام لكل فم» و«رحلة الربيع والخريف»، وغيرها مما يشكِّل العصر الذهبي لإنتاجه. فلو أن المؤرخ حذف هذه الأعمال من عمر توفيق الحكيم الأدبي والفني، ماذا يتبقَّى له مما كتبه أيام الملك فاروق أو أيام الرئيس السادات؟ لا شيء، سوى ما يحمل قيمة تاريخية في الماضي، أو ما يحمل موقفًا سياسيًّا في الحاضر.

والأعمال الأولى التي تحمل قيمةً تاريخيةً، هي أعمالٌ وطنيةٌ تعادي الاستعمار، ولا علاقةَ لها بإسرائيل، التي لم تكن قد وُجدت، والأعمال الجديدة — أين هي؟ — التي تحمل موقفًا سياسيًّا، كعودة الوعي، لن يبقى منها شيءٌ؛ لأن الحكيم في أي وقتٍ لم يكن رجلًا سياسيًّا، أما بعض الأعمال التي قد تتحدى الزمن لبعض الوقت، فهي التي أنتجها حين كان «غائب الوعي» كما يصف نفسه. وإذا كانت غيبة الوعي تدفعه لكتابة مثل هذه الأعمال، فليت وعيه يستمرُّ غائبًا!

إن «عودة الوعي» ليست أكثر من منشورٍ سياسيٍّ مُبتذلٍ سوف ينساه عن ظهر قلبٍ، أما الأعمال التي نادت بالعدل الاجتماعي والحرية فسوف تبقى شاهدًا ضد «الوعي العائد» للحكيم.

ولعلِّي لم أعرف كاتبًا ظلم نفسَه كتوفيق الحكيم؛ فهذا الرجل الذي يدَّعي أنه كان غائب الوعي هو الذي كتب «السلطان الحائر» عام ١٩٥٩م (وهو تاريخٌ ذو مغزًى في الرحلة الناصرية) يندِّد بالسيف وينتصر للقانون، في وقتٍ صعبٍ تناقضت فيه الثورة مع أكثر من فريقٍ سياسيٍّ، وكانت تلجأ في حل التناقض إلى أيسر الحلول، وهو السجن والمعتقَل، كان كاتبًا شجاعًا كامل الوعي حين أعلن بأعلى صوتٍ أن حيرة السلطان يجب أن تتوقف باتخاذ جانب القانون، ونبذ منطق السيف.

وكانت الدولة الناصرية أيضًا من الشجاعة بحيث وافقت الرقابة على نشر المسرحية، ووافق المسرح على عرضها.

وفي عام ١٩٦٦م، قُبيل الهزيمة بعامٍ واحدٍ، نشر الحكيم في أوسع الصحف المصرية انتشارًا — الأهرام — مسروايته «بنك القلق»، التي نقد فيها أجهزة الأمن نقدًا مباشرًا، وحذَّر القيادة السياسية من أن غياب حرية المواطن يقود حتمًا إلى فقدان حرية الوطن.

وللمرة الثانية، كان رجلًا شجاعًا، وكانت الدولة الناصرية في مستوى المسئولية الأدبية، فوافقت على نشر «المسرواية» في الصحيفة والكتاب.

لم يفقد الرجل وعيه كما يظن، أو كما يريد للبعض أن يظن.

ولست أريد أن أذكر «المآثر» الناصرية على توفيق الحكيم، حتى إنه أصبح في ذلك الوقت «مؤسسةً مستقلةً» نقدها من المحرمات. في عام ١٩٥٧م كان المرحوم رشدي صالح قد بدأ ينشر عدة مقالاتٍ في نقد الحكيم، فما كان من عبد الناصر إلا أن صرَّح: «لقد تأثَّرت برواية عودة الروح»، ومنحه أرفع وسامٍ في الدولة، وأصدر الأوامر بوقف الحملة النقدية في جريدة الجمهورية.

وفي العهد الناصري أيضًا تحولت أعماله إلى مسلسلاتٍ إذاعيةٍ وتلفزيونيةٍ، وأفلامٍ سينمائيةٍ، وعروضٍ مسرحيةٍ، وتقررت كُتبه بمئات الألوف من النسخ على برامج التعليم، مما جعله يصبح خلال تلك الفترة من أصحاب الملايين، الأمر الذي لم يحظَ به أيُّ كاتبٍ في مصر، كالعقاد أو طه حسين.

وليس هذا عيبًا، وأي أديبٍ يستحق أكثر من ذلك.

وهو ليس مطالبًا برد الجميل، ولا أي أديبٍ آخر؛ لأنه حقٌّ وليس منحةً.

وأكثر من ذلك أنه كان مُصيبًا في نقد أجهزة الدولة عام ١٩٥٩م وعام ١٩٦٦م، كما كان مُصيبًا في دعم الاتجاه نحو الاشتراكية حين كتب «الطعام لكل فم».

ولكنه بالقطع لم يكن غائب الوعي حين كان ينقد أو حين كان يؤيد، أو حين كان يغتني بمكافآت النقد والتأييد.

لذلك، لستُ أجدُ نفسي مع الذين «اكتشفوا» جذور الموقف الراهن للحكيم في «كل» أعماله ومراحله منذ بدأ يكتب.

ولكني أيضًا لست مع القائلين بأنه كان الخير المطلق في الماضي، وقد انقلب رأسًا على عقبٍ.

• توفيق الحكيم جزءٌ من ظاهرةٍ أشمل، فإلى جانبه يقف نجيب محفوظ وحسين فوزي، على سبيل المثال لا الحصر، ولا يمكن اتهامُ هؤلاء الناس بأنهم «غيَّروا مواقفهم فجأةً مقابل المال أو الأمن»، فليس من بينهم فقيرٌ أو يمكن الاعتداء عليه.

إنَّهم أبناء جيلٍ شارك بفكره وفنِّه في التمهيد للثورة، ولكن التكوين الروحي لهذا الجيل كان قد تم إنجازه في رحاب ثورةٍ سابقةٍ، حتى ثورة ١٩١٩م بقيادة سعد زغلول، حينذاك كان «الجلاء والدستور» هما محور العمل الوطني المصري، وكانت الوطنية المصرية هي العصب المركز الحساس في العقل والوجدان؛ لذلك كان التراثُ الفرعونيُّ في الآداب والفنون المصرية حينذاك دائرةً رومانسيةً تحتمي بالمجد الغابر في مواجهة الحضارة القاهرة، وكان الفكر الغربي هو الوجه الآخر للعملة، أي: محاربة الغزاة بأسلحتهم، فكما أنهم تقدموا لدرجة الغزو، بالفكر والتكنولوجيا، علينا أن نتعلم منهم لنطردهم ونصبح مثلهم.

هكذا كان تفكير الأعيان والتجار والموظفين وأصحاب الشركات من محمد علي إلى ثورة ١٩٥٢م، وهو الفكر الذي تبدَّى في معادلة التوفيق بين التراث والعصر. وكانت الطبقة الوسطى التي نشأت أصلًا في حضن الاستعمار، ومن رحم الإقطاع، هي أكثر الشرائح الاجتماعية المصرية احتفالًا بهذه المعادلة، غير أن التراث، الذي بدا لجزء منها هو الإسلام، نبذته المصالح المضادة لتركيا و«جامعتها الإسلامية»، وازدهرت التيارات الأخرى التي تُزاوج بين التراث الفرعوني والغرب في وقتٍ واحدٍ؛ لأن التيار القومي العربي كان بالغ الضعف بسبب النشأة الانفصالية للبرجوازيات العربية.

كان هذا التيار في النقد والثقافة والسياسة المصرية من أبرز التيارات الوطنية؛ لأنه كان الأكثر تعبيرًا — في الآداب والفنون — عن معنى «النهضة» و«التقدم» و«الحضارة» لدى الطبقة الوسطى الصاعدة.

وفي هذا السياق كان توفيق الحكيم من روَّاد هذه «النهضة» بعد ثورة ١٩١٩م، فقد كتب «عودة الروح» و«أهل الكهف» و«يوميات نائب في الأرياف» و«الرباط المقدس» في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن، ليؤكد على هذا المعنى للنهضة والتقدم والحضارة؛ نهضة مصر ذات التاريخ الفرعوني (عودة الروح)، وعودة القديم الحتمية إلى الأكفان لأن الجديد قد وُلد (أهل الكهف)، وضرورة الالتفات إلى الفلاح – الثروة المدفونة في الريف الإقطاعي (يوميات نائب)، وقضية الجنس في «الرباط المقدس».

في الثورة الناصرية تحقق الحلم، ولكن على نحوٍ مغايرٍ؛ الإصلاح الزراعي والتصنيع والجلاء والتنمية الاقتصادية، كلها أحلام الطبقة الوسطى منذ ثورة ١٩١٩م، وقد أخذت طريقها التدريجي إلى التحقق.

ولكن هناك أمرين؛ أولهما لم يتحقق، والثاني جديدٌ، ولم يكن حلمًا في خيال الطبقة الوسطى أو ضميرها. أما الأول الذي لم يتحقق فهو الليبرالية البرجوازية. أما الذي تحقق ولم يكن واردًا في جدول أعمال البرجوازية فهو اتساع الدعوة القومية العربية، وتجسدها حينًا من الزمن في دولة الوحدة.

ومن المفيد التذكير هنا، بأن توفيق الحكيم بالذات — وإنصافًا للتاريخ — لم يكن قط من أنصار الليبرالية الوفدية أيام الملك، بل هو صريحٌ فكرًا وفنًّا في معاداة التجربة الديمقراطية القصيرة في ذلك الزمن، وهو صاحب فكرة «الكل في واحدٍ»، التي جاءت في رواية «عودة الروح»، والتي أعلن الرئيس عبد الناصر تأثره بها. لذلك، أجدني أتحفظ كثيرًا إذا قلت إن الحكيم أحد الرجال الذين «فُجعوا» في حلم الديمقراطية الذي لم يتحقق مع الثورة. غير أنه طالما كتب «السلطان الحائر» و«بنك القلق»، نستطيع الإيحاء بحذرٍ أنه كان بهذا القدر أو ذاك أحد أبناء الجيل الذي فقد أحد أحلامه الرئيسية في مسيرة الثورة المعقدة.

غير أن الفاجعة الحقيقية كانت في «الحلم» الذي لم يحلمه ذلك الجيل، وهو القومية العربية.

كانت الوطنية المصرية بالثورة قد استنفدت أغراضها وأشكالها وآفاقها القديمة. كان المشهد الاجتماعي في الأربعينيات قد تغيَّر، ولم تعد الطبقة الوسطى وحدها سيدة المسرح. وفي غمرة تراكم الأحداث بين معاهدة ١٩٣٦م وحريق القاهرة في يناير ١٩٥٢م، تبيَّن الارتباط الجنيني بين وجهَي قضية الثورة؛ الوجه الوطني بالجلاء، والوجه الاجتماعي بتغيير السلطة. وأقبل عام ١٩٤٨م ليؤكد وجهًا ثالثًا كان خافيًا، هو الوجه القومي العربي.

لم يكن جيل ثورة ١٩١٩م، أو جيل ما بين الحربين، الذي ينتمي إليه توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسين فوزي، قد تكوَّن في ضوء هذه المتغيرات المتلاحقة لمفهوم الوطنية المصرية ورؤيا الاستقلال. كانت «إسرائيل» قد وُلدت، ولكنها بقيت في مخيلة ذلك الجيل وكأنها حدثٌ خارج السياق، حتى حين ضربت غزة في فبراير ١٩٥٢م، بدا الأمر غريبًا أو عدوانيًّا على أكثر تقدير، وحين شاركت في عدوان السويس بدت إسرائيل كشريكٍ استعماريٍّ للغرب في حملةٍ تأديبيةٍ لمصر التي جرؤت على تأميم القناة. وحين وجَّهت ضربتها الاستراتيجية عام ١٩٦٧م بدت أخطاء النظام والعروبة هما السبب الأول، وتأتي إسرائيل باحتلالها ﻟ «سيناء» في المقام الثاني.

لم يكن الجيل قادرًا على تجاوز نفسه أو التاريخ، فقد وُلد وعاش وناضل وتكوَّن في ظلِّ رؤيا محددة، هي الوطنية المصرية ذات التاريخ الرأسي المتجه غربًا. وأقبلت الرؤيا الجديدة لتضيف التاريخ الأفقي المتجه شرقًا، فوقع التناقض الحتمي، ولكنه التناقض السلمي. لم يكن الحكيم أو محفوظ أو فوزي، أو مَن شابههم، من الشيوعيين أو الإخوان المسلمين أو الوفديين، فلم يُصِب أحدَهم مكروهٌ في الرزق أو الأمن، خاصةً وأنهم لا يشتغلون أصلًا بالسياسة العملية أو الحزبية؛ لذلك كان هناك اتفاق جنتلمان غير مكتوبٍ، وهو نسيان الحلم الذي لم يتحقق (الليبرالية البرجوازية)، والحلم الذي لم يكن واردًا (القومية العربية).

وظل الاتفاق ساري المفعول دون حوارٍ، أو أنه كان الحوار المستحيل. بقيت إسرائيل في مخيلة الجيل «معتدية على الحدود المصرية» لا عدوًّا قوميًّا، وأصبح الدعم لثورة الجزائر أو اليمن أو الوحدة مع سوريا سعيًا إمبراطوريًّا للهيمنة على الجيران، لا عملًا قوميًّا.

وساعدت الثغراتُ الفادحة الثمن في البناء الاجتماعي الداخلي على الغزو الصهيوني، فكانت الهزيمة عام ١٩٦٧م نهاية مرحلةٍ وبداية أخرى، لم تُسجَّل رسميًّا إلا في مايو (أيار) ١٩٧١م حين انفرد السادات بالسلطة، وبدأ الانقلاب التدريجي على المرحلة الناصرية. حينئذٍ وجد توفيق الحكيم وأبناء جيله أنفسهم في بيئتهم الطبيعية، وخاصة بعد حرب ١٩٧٣م، فقد انزاح الحلم الذي لم يرد على مخيلتهم (العروبة)، وعادت الوطنية المصرية إلى المفهوم الرأسي المتجه غربًا، تحقق الحلم الذي لم تحققه الناصرية (الليبرالية كما يتوهمون في عصر السادات)، بل تحقق هذا الحلم — بتعدد الأحزاب — دون أن يجيء بالملكية أو الاحتلال البريطاني، وقد تحقق السلام مع إسرائيل التي ستنسحب من سيناء.

هكذا يجود التاريخ، بشكلٍ استثنائيٍّ، بأن يعيد نفسَه، ولو في صورةٍ هزليةٍ لا يهم، فالأهمُّ أن السادات قد استطاع في وهم جيلٍ رائدٍ من مفكري وأدباء مصر، أن يلغي عشرين عامًا من التاريخ، وأن يصل بين العصر السابق للثورة والعصر الجديد وكأنهما عصرٌ واحدٌ من مرحلتين؛ مرحلة الحلم ومرحلة التحقق، وما بينهما ليس أكثر من كابوسٍ، وقد رحل. فلا المشهد الاجتماعي لمصر ذاتها قد تغيَّر، وإسرائيل ليست أكثر من جارةٍ متحضرةٍ، والفلسطينيون يستحقون العطف، والعرب بدو أو برابرة لا يستحقون الحرب من أجلهم. أما مصر ذات التاريخ الفرعوني العريق فلها أكثر من لقاءٍ مع التاريخ اليهودي العريق، وأكثر من لقاءٍ مع الغرب الذي لم يعد حضارةً قاهرةً، ولم نعد نحاربه بأسلحته، بل أمسينا جزءًا منه، فنحن «قطعة من أوروبا» كما تمنى الخديوي إسماعيل منذ أكثر من مائة عام.

إنه رؤيا الطبقة الوسطى ومفهومها للوطنية المصرية قبل ثورة ١٩٥٢م، وعلى مدى قرن ونصف إلى أيام سعيد باشا. وما يعرفه السادات، ولا يدركه توفيق الحكيم، أن هذه الرؤيا وذلك المفهوم قد انتهيا من الوجود الواقعي لشعب مصر العربي، وأن الطبقة التي يتوهم ذلك الجيل أنه يعبر عنها قد تغيرت تمامًا، ولم يعد متعلقًا بذلك المفهوم الرومانتيكي للوطنية المصرية إلا وكلاء الاستيراد والتصدير، وهؤلاء لا يشكلون طبقةً في الأرض المصرية، في الإنتاج الوطني المصري. إنهم «حالةٌ» عابرةٌ لا تكنس التاريخ، بل التاريخ هو الذي سيكنسها و«كابوسها» معها.

ماذا كتب توفيق الحكيم خلال السنوات الثماني الماضية؟ لا شيء يستحق الذِّكر، فقد توقف فنيًّا عن الإبداع؛ لأن رؤياه الفكرية — مع جيله — توقفت عن العطاء.

وليس «عودة الوعي» أو تأييد كامب ديفيد، إلا مواقف سياسية، تنسجم تمامًا مع الرؤيا الميتة التي كانت وطنية يومًا طويلًا ضد الاتحاد، وانتهت موضوعيًّا مع الثورة، ولم تُبعث قط إلا مع الثورة المضادة، هكذا يرتبط المصيران.

باستثناء «المواقف السياسية»، ليس هناك عملٌ فنيٌّ جديدٌ على صعيد الفكر والجمال عند توفيق الحكيم، ومع هذا لم يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا أنتجتُ حين كنتُ غائب الوعي، ولماذا توقفتُ حين عاد؟

نحن نعرف الجواب. لقد كان الحكيم رائدًا في تاريخ الأدب المصري الحديث، حين كان مفهومه للوطنية المصرية رومانتيكيًّا ثوريًّا، وقد كفَّ الحكيم عن العطاء حين عاكس الزمن ووقف ضدَّ التاريخ، أو حين تجاوزه الزمن، وداعبته سخريات التاريخ.

وهذا الكتاب يحتفل بالجزء الرائد من أدب توفيق الحكيم، وهو الجزء الأكبر من حياته وفنِّه وفكره، أما الجزء الآخر والأقل، والذي كفَّ فيه عن العطاء، فإنه ليس جديرًا بالتوقف إلا حين تُكتب المأساة المصرية الكاملة في ظل الثورة المضادة.

د. غالي شكري
باريس، ١ / ٦ / ١٩٨١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤