مقدمة الطبعة الثانية

لعلَّه ليس جديدًا القول بأنَّ توفيق الحكيم ظاهرةٌ فريدةٌ في أدبنا الحديث؛ ذلك أنه ربما كان الوحيد من بين أبناء جيله الذي استطاع مواصلة العطاء منذ بدأ يكتب حتى الآن، أي: بعد أن تجاوز السبعين، على مدى نصف قرنٍ أو يزيد. وربما كان الوحيد أيضًا في ريادته للعديد من الأشكال الفنية التي استقرت في الوجدان العام والتراث الأدبي معًا، ولم تعد تراثًا فحسب، بل أضحت سياقًا متدفقًا كل يوم. ولكن الجديد حقًّا هو أن توفيق الحكيم طيلة هذا العمر الأدبي والفني كان مجرِّبًا أولًا وقبل كل شيءٍ، فحصاده أقرب لأن يكون مجموعة تجارب لم يضع لها نقطة الخاتمة بعدُ، أما نقطة البداية فظلت دومًا هي تجديد الحياة بتجديد عصارتها الفكرية والجمالية، فالجمود عنده هو الموت؛ لهذا نراه في السبعينيات يحاول الإنصات بكل ما أُوتيَ من قوًى وإمكانيات إلى دبيب «الجديد» من حوله، سواءٌ كان هذا الجديد من أرض مجتمعه أو مما تصطخب به الدنيا في العالم الخارجي. وقد تخفق محاولته أو تنجح، ولكنَّه في جميع الأحوال لا ينعزل عن مجرى الحياة الدافق. وهو في جميع الأحوال كذلك، لا يتخلَّى عن مجموعةٍ من الضوابط التي جعل منها بوصلته الهادية بين تيارات البحر المتلاطمة الأمواج.

أول هذه الضوابط هو إيمانه العميق بمصر؛ حضارتها وشعبها وتاريخها. إيمان الحكيم بمصر هو عصب الأدب والفن الذي يكتبه، عصبه الرئيسي. إنه يرى في مصر، أرضًا وناسًا وتراثًا، قلبه النابض بالحياة، أو هي المعنى الذي تنطوي عليه الحياة، وبالتالي فهي تستحق أن يعيش من أجلها الإنسان، وأن يضحِّي في سبيلها بكل ما يملك. مصر عند توفيق الحكيم ليست حدودًا جغرافيةً فقط، وإنما هي وطنٌ روحيٌّ في عمق الأعماق. وقد يكون هذا الإيمان بمصر إيمانًا ميتافيزيقيًّا أو رومانسيًّا، سمِّه كما شئت، ولكنه أبدًا لم يكن في يومٍ من الأيام إيمانًا عنصريًّا. وهنا يجيء الضابط الثاني بين الضوابط التي تحكم عقله ووجدانه، وهو الإيمان العميق بالحضارة الإنسانية، أيًّا كان المركز الذي اتخذته بالأمس أو اليوم أو غدًا، في مصر أو اليونان أو أوروبا أو الشرق. إنه يرى الحضارة الإنسانية وحدةً واحدةً بناها الإنسان، ولا يزال يبنيها، في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا فضل لإنسانٍ على آخر إلا بمقدار ما يقدمه لهذه الحضارة من جهدٍ وإبداعٍ، والبشر جميعًا شركاء في الحضارة الإنسانية المعاصرة، مهما كان موقعها في الشرق أو الغرب، في الشمال أو الجنوب؛ ذلك أن الحضارة الحديثة ليست حضارةً أوروبيةً خالصةً، ونسبتها إلى أوروبا، أو الغرب عامة، إنما هو نتيجة ازدهارها الحالي في هذا المكان من العالم. ولكن الحضارات السابقة، بما فيها حضارتنا نحن المصريين، قد أسهمت في تكوين وتشكيل هذه المرحلة الأوروبية، وبالتالي فمن حقنا أن نأخذ عنها كما سبق وأن أعطيناها، بل إنه ليس حقًّا فحسب، وإنما هو ضرورةٌ تاريخيةٌ لمَن شاء التقدم بديلًا للانقراض.

وثالث هذه الضوابط هو إيمان الحكيم العميق بالديمقراطية، بأوسع معاني الديمقراطية، فالحرية لديه لا تتجزأ، وإلا كانت شكلًا بلا مضمونٍ، وإلا كانت قناعًا زاهيًا لوجهٍ دميمٍ، وإلا كانت لعبةً سياسيةً للتخدير الاجتماعي. من هنا فهو يختلف مع المضمون البرجوازي للديمقراطية، حيث تصبح الليبرالية لافتةً براقةً، تُخفي جريمة النهب الرأسمالي المنظَّم. إنه ضد الفاشية الجديدة أيًّا كانت الشعارات الزائفة التي ترفعها. وهو أيضًا، وفي نفس الوقت، ضد الدكتاتورية باسم العدل الاجتماعي؛ لأنه يعلم مقدمًا أن للديمقراطية عيوبها التي لا علاج لها إلا بمزيدٍ من الديمقراطية. وكذلك، فإن العدل الاجتماعي في جوهره هو تجسيدٌ لأوسع معاني الديمقراطية وأعمقها وأشملها؛ ديمقراطية الجماهير الصانعة للحياة، فإذا تناقض العدل مع الديمقراطية فالعيب ليس فيهما، وإنما في الفهم الناقص لمعنى العدل ومعنى الديمقراطية. وليس البديل قطعًا هو الدكتاتورية؛ لأن الدكتاتورية هي التي تتناقض تناقضًا جذريًّا مع العدل الاجتماعي.

تلك هي الضوابط الرئيسية الثلاثة التي تشكل فيما بينها بوصلة توفيق الحكيم في الفكر والعمل. والحكيم، فوق أنه ظاهرةٌ فريدةٌ في أدبنا الحديث، فهو ظاهرةٌ تاريخيةٌ، بمعنى أننا لا نستطيع الوقوف على جوهره الثابت إلا في سياقه التاريخي المتحرك. ومن هنا كان العنصر المنهجي الأول في هذا الكتاب هو رؤية الحكيم في تطوره، لا بمعزلٍ عن المجتمع، ولا بمعزلٍ عن خطواته داخل هذا المجتمع. إن اقتناص إحدى المراحل في حياته وتعميمها وإطلاق القول فيها هو خطأٌ فكريٌّ فادحٌ، وإنما النظر إلى حلقات هذه الحياة في سلسلةٍ واحدةٍ هو المنهج الذي يحمينا من الزلل في الوقوع بين براثن الإطلاق والتعميم. ولقد أثبت الحكيم بمواقفه العملية أنه يتجاوز نفسَه دائمًا، وبالتالي تجيء تجاربه الفنية انعكاسًا حيًّا عميقًا لهذا التجاوز الدائم للنفس، وهو في تجاوزه لا يتنكر لماضيه وتراثه، وإنما يدعمه ويطوره في آنٍ، إنه على الأقل يقدم البرهان على أن التطور الشخصي للمفكر والفنان احتمالٌ قائمٌ على الدوام مهما بلغ من العمر.

ومنذ أواسط الستينيات، وخاصةً بعد هزيمة ١٩٦٧م، قدَّم الحكيم مجموعةً من الشواهد الفكرية والفنية والعملية على صحة المبدأ القائل بأن الارتباط الحي الديناميكي بين الكاتب وشعبه، وبينه وبين عصره؛ هو الباعث الحقيقي والأول لتطوره. ومن هنا رأيتُ أن أضيفَ إلى هذه الطبعة الجديدة فصلًا تابع خطوات الحكيم الأخيرة، التي حاول فيها بكل ما يستطيع، أن يقترب من روح أمتنا وروح عصرنا. وقد اتبعتُ في هذا الفصل منهجًا مغايرًا للمنهج السائد على طول الكتاب من ناحية الشكل، فقد اعتبرت ما كتبه من مسرحٍ أو قصصٍ حواريةٍ أو مقالاتٍ شيئًا واحدًا لم أفصل بينه لتمايز أُطره الفنية، وإنما اتخذت هذه الأشكال جميعها هوامش للتدليل على رؤى الحكيم الجديدة في الفكر والفن.

وقد أسعدني عند صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب، أنه استُقبل من النقاد والقرَّاء استقبالًا أعتزُّ به. وأيًّا كان الخلاف في وجهات النظر التي أبداها البعض، فإن الخلاف ذاته كان دليلًا على ضرورة التقييم الشامل لفكرنا الأدبي الحديث من ناحيةٍ، وعلى أن فكر الحكيم وفنَّه من الخصوبة حقًّا بحيث إنه يحتمل العديد من الاجتهادات في التفسير والتأويل.

د. غالي شكري
مارس (آذار) ١٩٧٣م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤