مدخل

لا أدري متى حدث ذلك على وجه التحديد، حين تأملتُ ظاهرةً غريبةً في حياتي الأدبية، وهي أن موقفي من أدب توفيق الحكيم يتَّسم بسلبيةٍ واضحةٍ، فإنني لم أكتب عنه مقالًا واحدًا، ولم أكن أقرأ له بانتظامٍ، وإنما كنتُ أتابع من إنتاجه تلك الأعمال التي تثير الشغب بين النقاد. والحق أنني كثيرًا ما ملتُ إلى الجناح النقدي المعادي للحكيم في اتجاهه الفكري، وكثيرًا أيضًا ما اتخذت موقف اللامبالاة من أعمال هذا الفنان الغارق إلى أذنيه — في تصوري حينذاك — في دنيا المطلقات المجردة، بعيدًا عن الواقع اليومي لحياة الشعب في بلادي.

أستطيع أن أقول إن هذا الموقف أخذ من عمري عشر سنواتٍ كاملة، تبدأ حوالي عام ١٩٥٢م، وهي الفترة التي عبرت عن نفسها في كتابي «سلامة موسى وأزمة الضمير العربي»، ومقدمة «أزمة الجنس في القصة العربية»، ومعظم فصول «كلمات من الجزيرة المهجورة». وكلها تعبر عن لحظة الاكتشاف الأولى للمنهج العلمي في فكرنا الحديث. واللحظات الأولى تتسم دائمًا بالحماس المفرط والمبالغة المسرفة، وهي من سمات الحرص على «إيمان ما» تمكنت جذوره في القلب والعقل، حتى خُيل لي أنني عثرت على المفتاح السحري لحل ألغاز الوجود وفك طلاسم الكون. وإنتاج تلك المرحلة كلها يتصف أولًا بهذا النوع من الارتياح والثقة، وهي تتضح في درجة الإطلاق والتعميم والحسم التي تتفاوت حقًّا من عملٍ إلى آخر، ولكنها في النهاية تشكِّل طريقًا ما إلى فهم المنهج العلمي أقرب ما يكون إلى الطريق الميتافيزيقي أو الطريق الوجداني العاطفي، وإن شئت فسمِّه مزيجًا من الميتافيزيقا والعاطفة!

كيف تمَّ ذلك؟ كيف يمكن أن يجمع الكاتب بين طريقين متناقضين في وقتٍ واحدٍ؟ إننا لن نستطيع أن نفهم الأمر على النحو الصحيح إلا إذا وضعنا أيدينا على أسرار عملية التفاعل بين الفكر والواقع بشكلٍ عامٍّ، وبين المفكر وواقعه بشكلٍ خاصٍّ.

ولعلَّه من الملاحظات الشخصية التي تؤكد ضرورة طرح القضية على هذا النحو، هو أن إنتاج تلك المرحلة الأولى في حياتي الأدبية قد نال استحسانًا بصورةٍ من الصور من أغلب الأدباء «المُجايلين» لسنِّي، وهذا يعني أن تلك الكتابات كانت تشبع فيهم نزوعًا معينًا يشبه ذلك النزوع الذي تولَّد في نفسي قُبيل أن أبلغ العشرين، وهو نزوع الجيل الذي وُلد فيما بين الحربين العالميتين، في سنوات الدمار الاقتصادي الشامل، والانهيار السياسي والتحلل الاجتماعي، حتى لم يعد هناك أملٌ سوى ذلك النور القادم من الشرق، من بين نيران أول ثورةٍ اشتراكيةٍ في العالم.

وبقدر ما أصبحت الاشتراكية — في القرب منها أو البُعد عنها — معيارًا أمينًا صادقًا لضمير هذا العصر، بقدر ما التهبت قلوبنا الغضَّة ترحيبًا بهذا الأمل العظيم، وأمسى النضال من أجل الاشتراكية لكي تعم بلادنا والعالم هو غذاءنا اليومي، بل هو قضية حياتنا أو موتنا. وبقدر ما تحتوي الاشتراكية على جانبها الإنساني، تحتوي أيضًا على جانبها العلمي، بغير أن تتناقض إنسانيتها مع قوانينها العلمية، بل إن هذه القوانين لم تكن إلا اكتشافًا لإنسانية الإنسان.

واتسعت القلوب الصغيرة بين ضلوع أبناء جيلي للجانب الإنساني، وضاقت عقولنا الصغيرة عن استيعاب جانبها العلمي. وكان طبيعيًّا لذلك أن يتعاظم حماسنا وأن تقلَّ معرفتنا، ومن ثم كان طبيعيًّا أن يتسلل إلينا الجمود العقائدي في يسرٍ ولينٍ، وأن يتحول المنهج العلمي من حيث المضمون إلى فكرةٍ ميتافيزيقيةٍ تلبِّي احتياجات الحس الديني الواثق المطمئن، ومن حيث الشكل إلى وجدانٍ عاطفيٍّ يجسد عذاب الحرمان الطويل الذي عانيناه — في غالبيتنا — أثناء طفولتنا، وكنا ما نزال نعانيه في صبانا وشبابنا. لقد تكاتفت حقًّا ظروفٌ عديدةٌ مريرةٌ في خنق الاشتراكية والفكر العلمي، كما تضافرت ظروفٌ أخرى في خنقنا نحن، وهكذا تجسم الخلل في أجهزة الإرسال والاستقبال على السواء.

كانت الاشتراكية والفكر العلمي يعانيان من ويلات الحصار الاستعماري الذي يطوِّق الفكر والتجربة، أو النظرية والتطبيق، بسياجٍ يحُول بينها وبين الشمس؛ لذلك ضلت طريقها حينًا ناحية اليسار، وحينًا ناحية اليمين، ولكن الحصيلة الختامية كانت النظام الستاليني. وهو تورم يساري في ظهر الحركة الاشتراكية، حماها زمنًا طويلًا من غائلة التطويق الاستعماري المحكم، وعوقها زمنًا آخر لم يُكتب له البقاء الطويل. وفي كلا الحالين لم تنجُ الاشتراكية من آثار عبادة الفرد، والانغلاق على الذات، والابتعاد إلى حدٍّ كبيرٍ عن حركة الفكر العالمي المعاصر بكل ما يشتمل عليه هذا الفكر من محاولات جديدة لفهم العالم.

أما نحن أبناء ما بين الحربين، فقد تلقينا تراث الانحراف اليساري في التجربة العالمية مع ظروفٍ جديدةٍ تمامًا على عالمنا المعاصر، فقد ظهر النظام الاشتراكي كقوةٍ عالميةٍ لها خطرها في الثقل العالمي، وتطورت العلوم الحديثة، فدخلت الإنسانية عصرًا تاريخيًّا جديدًا هو عصر الفضاء، وظفرت معظم بقاع الكرة الأرضية باستقلالها، ولم تعد البرجوازيات الوطنية تُلقي بعلم الاستقلال في الوحل، لم يعد من المحتم أن تخون الثورة، بل راحت توالي اجتهاداتها في خلق تجربةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ تقهر بها رواسب التخلف والقهر الأجنبي معًا، ولم تجد أمامها سوى حلٍّ واحدٍ، هو الاشتراكية. ولكن الطريق إلى هذه الاشتراكية لم يعد واحدًا، أضحت هناك طرقٌ عديدةٌ ووسائل عديدةٌ إلى الاشتراكية، كشفها الالتحام الوطني مع الواقع الاجتماعي المتطور، والمناخ الحضاري المتقدم في عالمنا المعاصر. هكذا ووجه الجيل الثوري الجديد بظاهرةٍ نوعيةٍ مختلفةٍ عن ظواهر العالم القديم الذي أثمر المسلَّمات الرئيسية والتفصيلية في مقولات الفكر العلمي. ولم تكن مقومات القدرة على الخلق والكشف في مستوى الحصيلة النظرية والتطبيقية من الفكر العلمي الوافد علينا إبان انحرافه اليساري، كانت حصيلتنا من التضخم اليساري أكبر من أن تناضلها قدرتنا على الابتكار. كذلك لم تكن هذه القدرة في مستوى التخلف الحضاري والتقاليد غير الديمقراطية التي تزينت بها بلادنا منذ عصور الانحطاط. كانت حصيلتنا من التخلف والقهر أكبر من أن تناضلها قدرتنا على الابتكار.

وهكذا استجبنا للتحديدات المسبقة في ظلِّ ظروفنا المريرة، ظروف التخلف والفوضى الحضارية والقهر الأجنبي. لم نستطع أن نتلبس بروح الفكر العلمي، ونضيف إليه أبعادًا جديدةً مُستقاةً من واقع التجربة الجديدة، وإنما تورطنا في أحبولة الشكل والمظهر دون أن نتعمق المضمون والجوهر؛ لهذا السبب قلتُ إننا في السياسة، وفي غيرها من العلوم الإنسانية، كنا أقرب إلى الفهم الميتافيزيقي للمنهج العلمي، وأقرب إلى الوجدان العاطفي، أو إلى ذلك المزيج المركب من الميتافيزيقا والعاطفة. كانت حالتنا بالضبط هي حالة انفصالٍ بين الشكل والمضمون، حالة التقوقع داخل النصوص بين الحروف الميتة دون الولوج إلى علم التجربة الحيَّة التي صاغتها هذه النصوص، التجربة التي أعطت الحروف حياتها وحيويتها، وبالتالي مرونتها وقابليتها لكل ما يضيفه «الخاص» إلى «العام» من سماتٍ تُثري النظرية والتطبيق جميعًا.

ولقد أدى انفصال الشكل عن المضمون إلى ازدواجاتٍ فكريةٍ غاية في الخطورة بين الأجيال المناضلة تحت راية الفكر الاشتراكي؛ فقد تعددت الطرق اللاعلمية لفهم المنهج العلمي، وأصبحنا نرى مَن يمارس أسلوبًا براجماتيًّا أو ميكيافيليًّا أو مسيحيًّا في تطبيق قواعد الفكر العلمي. ولم تكن النتيجة في مجال الفكر وفي مجال الواقع على السواء إلا مجموعة من الأخطاء تؤدي إلى مجموعةٍ جديدةٍ من الأخطاء، التي تولِّد بدورها أخطاءً جديدةً، وهكذا. وكانت النتيجة بطبيعة الحال هي العزلة الكاملة عن تطورات العالم المعاصر، ودلالات هذا التطور في ميدان الفكر العلمي، وانعكاسات الثورات النظرية والتطبيقية على واقعنا المحلي وتجربتنا الخاصة.

هذه العزلة وحدها بكلِّ ما تملك من مظاهر التفتُّت والانطواء، وأحيانًا اليأس، هي الحافة التي أيقظت أقدامنا على مدى التهرؤ المنهجي في أرضنا الفكرية. ولكن بمقدار ما كانت عليه حالتنا من سوءٍ بالغٍ، دبَّت اليقظة الثورية في أوصالنا تغيِّر حياتنا رأسًا على عقبٍ، ليس في السياسة فحسب، بل في كافة مسارب وجودنا. انزاح عن كاهلنا عبء الانحراف اليساري الذي أفقدنا القدرة على الرؤية الصحيحة.

ولقد كان اتضاح الرؤية في جوهره التئامًا بين الشكل والمضمون للمنهج العلمي في وعينا. بدأنا نتمثل روحه خطوةً خطوةً مع تمثل واقعنا وطبيعته. ولم تقتصر الرؤيا الواضحة على الفكر السياسي فحسب، بل تجاوزته إلى آفاق حياتنا الفكرية كلها. وبعد أن كنا طيلة السنوات الماضية نطبق مقاييس الفكر العلمي على إنتاجنا الأدبي بصورةٍ ميكانيكيةٍ تخلو من حرارة الخلق والاكتشاف، تبلور اهتمامنا الرئيسي في الحقل الأدبي في نقطتين؛ الأولى هي الكشف عن طريقنا الخاص، وما يتميز به من قوانينَ نوعيةٍ مفصلةٍ، تختلف بالضرورة عن القوانين التي تضبط الحركة الأدبية في العالم الخارجي. والنقطة الثانية هي مراجعة كل ما أصدرناه من أحكامٍ تقييميةٍ على تاريخنا الأدبي. والنقطتان كلتاهما تكملان بعضهما البعض. فالنقطة الأولى تبرهن — على سبيل المثال — أن كاتبًا مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم ليس «كاتبًا برجوازيًّا» وحسب، إن ذلك التقييم التقليدي كان يجرنا في أغلب الأحيان إلى صبغ إنتاج هذا الأديب أو ذاك بما اصطبغت به البرجوازية في فكرنا من ألوان الوحل والخيانة، وبالتالي كانت هناك مجموعةٌ من الكليشيهات المعدة سلفًا لتصنيف الكتاب سياسيًّا واجتماعيًّا على ضوء الخريطة الفكرية السائدة على وعينا حينذاك. أما النقطة الثانية المتولدة من الأولى بالضرورة فهي إعادة تقييم هؤلاء المفكرين والفنانين الذين قد لا يدينون بما نؤمن به حقًّا من خصائص الفكر الاشتراكي العلمي، ولكنهم ينضوون بصورةٍ أو بأخرى تحت لواء الثورة المعاصرة في بلادنا، وبالتالي أصبح كاتبٌ مثل نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، مفكرًا ثوريًّا، بالرغم من تفاوت قربه أو بُعده عن تفاصيل الفكرة الاشتراكية.

بل إن هاتين النقطتين تؤديان إلى دراسة مختلف الظواهر الفكرية في أدبنا الحديث، مهما اتسمت هذه الظواهر بالسلب أو بالإيجاب، ما دامت لها فاعليةٌ مؤثرةٌ في الحركة الاجتماعية مباشرة، أو في محيط الحركة الأدبية وحدها. لذلك فقد حاولتُ منذ عام ١٩٦٢م أن أحدد لنفسي تخطيطًا جديدًا يتسق مع تفكيري الجديد؛ فأكملت تأليف كتابي «أزمة الجنس في القصة العربية»، الذي تناولت فيه بالنقد والتحليل إنتاج عشرة من كُتَّابنا، تختلف اتجاهاتُهم الفكرية والأدبية اختلافًا كبيرًا. وأنجزتُ خلال عامين كتابي «المنتمي» حول أدب نجيب محفوظ، الذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٦٤م. وفي العام الذي يليه بدأتُ في تأليف كتابي «الرواية العربية في رحلة العذاب»، يتناول إنتاج عشرة آخرين من كُتَّابنا. ثم جمعت بعض دراساتي ومواجهاتي النقدية والفكرية في كتابٍ واحدٍ، هو «مذكرات ثقافة تُحتضر»، وكلها تؤرخ لهذه المرحلة الجديدة من مراحل تطوري الفكري التي لا ريب أنني أجد لها بذورًا في بعض فصول «سلامة موسى»، ومقدمة «أزمة الجنس»، ولكنها لم تنبت بصورةٍ أكثر وضوحًا إلا في إنتاج السنوات الأربع الأخيرة. وليس هذا الكتاب، «ثورة المعتزل» في أدب توفيق الحكيم، إلا نتاجًا لهذه المرحلة الجديدة.

فقد كان توفيق الحكيم في تصوري السابق مجرد فنانٍ مُنعزلٍ، يقضي عمره في برجٍ من العاج، يتسلى بمعادلاتٍ رياضيةٍ تصوغ الكون والمجتمع والإنسان صياغاتٍ ذهنيةً مجردةً. ثم التقيت مع أدب الحكيم لقاءً جديدًا، فسَّر لي أشياء كثيرة، كانت على درجةٍ كبيرةٍ من الغموض.

و«ثورة المعتزل» هو صورة بالحجم الطبيعي لهذا اللقاء الجديد مع أدب توفيق الحكيم، فهو ليس كتابًا أكاديميًّا بالمعنى الجامعي المتداول لهذه الكلمة، وإنما هو محاولةٌ للإجابة على هذا السؤال: كيف يفكر الحكيم؟ إن القسم الأول هو الأساس النظري الذي تعتمد عليه الإجابة في القسمين الآخرين. وهذا الجزء النظري هو ثمرة تطورات المنهج العلمي من شبلي شميل وسلامة موسى ومفيد الشوباشي وعصام حفني ناصف وإسماعيل أدهم ومحمد مندور، إلى محمود العالم ولويس عوض ومحمد أنيس وعبد العظيم أنيس وغيرهم من بُناة فكرنا الثوري المعاصر. فبالرغم من كافة أوجه السلب التي يمكن أن يحصيها المراقب لتاريخنا الفكري على طريقة بناء المنهج العلمي في حياتنا الفكرية، فإن ما لا ريب فيه أن استقرار هذا المنهج في أرضنا هو أكبر المكاسب الثورية لنضال الاشتراكيين العلميين في بلادنا، فقد استطاعوا أن يشقوا سبيلًا لهذا المنهج الثوري بين ركامات المناهج الاستعمارية والغيبية، على الرغم من قوة هذه المناهج المعادية للثورة، وسيطرة القوى الاجتماعية التي تؤيدها وتدعمها. وسوف يؤكد التاريخ هذه الحقيقة على مر العصور والأجيال، وهي أن الماركسيين المصريين قد سجَّلوا كفاحًا بطوليًّا لدرجة الاستشهاد من أجل ترسيخ قواعد المنهج العلمي، وتسويده على بقية المناهج؛ وأنهم دون غيرهم هم الذين تمكنوا من إقصاء بقية المناهج المستوردة من الغرب الاستعماري، وأثبتوا لأكبر قطاعٍ ممكنٍ من المثقفين أن طبيعة أرضنا لا تستجيب لهذه الفلسفات جميعها؛ لأنها نظراتٌ جزئيةٌ لبضع فئاتٍ من برجوازية المجتمع الغربي، ليس لها من نظائرَ في مجتمعنا. أما الماركسية فهي الفلسفة التي تتمتع بنظرةٍ شاملةٍ أصيلةٍ للطبقة أو الفئات الثورية للنهاية؛ لذلك تغور جذورها في أعماقنا وأعماق أرضنا.

إن القسم الأول، وعنوانه «ثورة المعتزل في البرج العاجي»، ليس إلا متابعة لأفكار الحكيم النظرية التي طرحها في مقالاته المتفرقة وكُتبه، على ضوء هذا المنهج. فقد حاولت فيه أن أجول مع الحكيم في حياته الواقعية «رحلة العمر»، وأن أتعرَّف على التيار الأدبي الذي يجري معه «فنان الحياة»، والتيار الفكري العام الذي ينضوي تحت لوائه «راهب الفكر»، والنظام الفكري الخاص الذي بناه «المفكر التعادلي»، وأخيرًا القيم السياسية والاجتماعية التي يدعو إليها «المفكر السياسي». وليس هذا تصنيفًا أكاديميًّا كما سنرى، على الرغم من اشتمال كل فصلٍ من هذه الفصول على التطور التاريخي لكل فكرةٍ من الأفكار، وإنما هو أقربُ إلى صياغة القضايا الفكرية في إطارٍ من الحوار المفتوح بين الكاتب والقارئ والمنقود.

أما القسم الثاني «عودة الروح إلى الرواية المصرية»، فهو إحدى ثمار الجهود المستمرَّة في النقد الروائي على يد علي الراعي وعبد القادر القط وأنور المعداوي وسيد قطب وصلاح الدين ذهني وغيرهم. هذا الجزء يحاول أن يتعرف على ما قامت به بعض أعمال الحكيم، مثل «عودة الروح» و«عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف»، من دورٍ رياديٍّ خلَّاقٍ في تاريخ الرواية المصرية. بل ربما كان أثر الحكيم في أدبنا الروائي يفوق أثره في أدبنا المسرحي. لذلك فهذه الفصول الثلاثة ليست إلا إحاطة مفصلة بالقيم الفنية والفكرية لكلٍّ من هذه الروايات، حتى نستنير بها في رؤية «طريقنا الخاص» إلى خلق الرواية المصرية، وما تتضمنه من سماتٍ تتميز بها وحدها، بحيث إنها استطاعت الامتداد إلى إنتاجنا الروائي الحديث.

والقسم الثالث والأخير هو «موعد الحياة مع المسرح المصري»، محاولة أيضًا لإثبات أن الدراما المصرية قد وُلدت في صورتها القريبة من التكامل بين أحضان «أهل الكهف» وما تلاها من أعمال الحكيم. ليس هذا إغفالًا للتراث المسرحي السابق على توفيق الحكيم، ولكن اعترافًا بأهمية الدور التاريخي لهذا الفنان الذي انعطف بمسرحنا انعطافةً جديدةً في النوع والكيفية، لا في الدرجة والمستوى فحسب. وكانت هذه الانعطافة تحقيقًا واعيًا لمعنى الدراما في صورتها القريبة من التكامل، فهي ليست ثورةً على ما سبقها من تراثٍ، وإنما هي البداية الحقيقية لهذا التراث. ويحاول هذا القسم كذلك أن يبحث عن الخطوط الفكرية للحكيم التي تبينَّاها فيما سبق بالقسم الأول، يحاول إعادة اكتشافها في أعماله المسرحية وكيفية تحققها الفني. إلا أن «الفكر» في مسرح توفيق الحكيم هو القيمة الأولى التي يتابعها الباحث بالكشف والتقييم، فهو لا يتعرض للفن — بمعناه الضيق — إلا حين تضطره ظروف «الفكرة» التي يعرض لها بالتحليل. والحق أنني لا أفهم الفكر في الفن على أنه المحتوى والإطار، أو الشكل والمضمون، فلستُ أستطيع أن أتصور «الفن» مجرد وعاءٍ من خزف اللفظ وأدوات التعبير، كما أنني لست أستطيع أن أتصور «الفكر» مجرد مقولاتٍ فلسفيةٍ جامدةٍ تشبه المعادلات الرياضية. يبدو أن هذه التصنيفات أمست صيغًا متخلفةً في النقد الأدبي، بحيث إن الناقد والمفكر أصبحا شخصيةً واحدةً في أدبنا الحديث.

فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحقق شيئًا نافعًا لقارئه، فإن الفضل الأول يعود إلى هذه اليقظة الثورية التي دبَّت في أوصال الفكر الماركسي في بلادنا، بحيث أضحى هذا الفكر قلعةَ الدفاع الأولى عن ثورتنا المعاصرة. وإذا لم يستطع، فإن اللوم كله يقع على عاتق المؤلف الذي لم يحسن لقاءه الجديد مع أدب توفيق الحكيم.

يناير (كانون الثاني) ١٩٦٦م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤