خاتمة

الفانتازيا الواقعيَّة

«أحاول دائمًا أن أشارك في هذا العصر، وكل ما أخشاه أن يكون بيني وبين العصر حجاب طالما أنا على قيد الحياة؛ لأن الأمرَ المؤسف في الشيخوخة هو أن يكون الإنسانُ حيًّا بجسمه فقط، متخلفًا بفكره وعقله، وأرجو ألا تحدث لي هذه الكارثة.»

توفيق الحكيم

١

في كتابي «ثقافتنا بين نعم ولا»، وجَّهت إلى توفيق الحكيم خطابًا مفتوحًا اتسمَت بعض عباراته بالعنف، مؤداها أن الحكيم ليس محتاجًا للهاث وراء موجات الشباب الهادرة من حوله؛ لأن ثورته في الأدب والفن هي الجذر البعيد لهذه الموجات، ولأن الكاتب عادةً لا يتجاوز مقتضيات التاريخ. وكان هذا المعنى تقريبًا هو مضمون رسالتي إلى نجيب محفوظ ولويس عوض، ولم يخطر ببالي قط أنني أطلب إلى أدبائنا الكبار أن يستريحوا من عناء الرحلة في أبراجٍ من العاج يطلُّون على نهر الزمن الصاخب، وإنما وددت القول بأن الشباب وحدهم هم القادرون على السباحة في هذه المرحلة، وأنهم بصوابهم وأخطائهم إنما يوجزون ملامحها وتفاصيل أيامها وتناقضاتها، وأن غاية ما يستطيعه الأديب الكبير هو أن يكون أمينًا لثورته الأولى، فيبارك الثورات التالية ولا يقف عقبةً في سبيلها. وكان توفيق الحكيم قد نشر في «الأهرام» تمثيليةً زعم أنها لأحد الأدباء الشباب، تعتمد في هيكلها العام وحوارها على التداعي اللفظي بحجة «التجديد»، وقد ردَّ توفيق الحكيم على هذا الفرض أو التصور لأدب الشباب بخطابٍ ندَّد فيه بهذا اللون من ألوان التجديد الخادع، وأنكر على بعض الأدباء الجدد قولهم إنهم جيلٌ بلا أساتذةٍ، وشعرتُ أن الحكيم قد انساق مع موجة المحافظين من الكُتَّاب الكبار، فظلم أبناء الموجة الجديدة ظلمًا فادحًا، فأدب الأصلاء منهم لا يمتُّ بصلة قرابة إلى هذا التجديد المزيف الذي افترضه الحكيم فرضًا، وأسس حكمه على هذا الفرض غير الواقعي؛ لذلك حاولت أثناء فترة مساهمتي في الإشراف على تحرير الملحق الأدبي والفني لمجلة «الطليعة»، أن أقدِّم الجيل الجديد من الأدباء المصريين تقديمًا جديدًا بنشر الجيد من إنتاجه، وتقييم ما أنجزه في الشِّعر والقصة القصيرة — خاصة — إبان الستينيات. على هذا النحو قدمت «الطليعة» لوحةً تقريبيةً لأدب الشباب أثبتت أهليته لأن يحتل مكانه في تاريخنا الأدبي، وأن لا علاقة بينه وبين الصورة التي صورها أو تصورها توفيق الحكيم.

كذلك كان من البواعث التي دفعتني لمحاورة الحكيم في رسالتي المفتوحة هو تحليله لظواهر العصر الجديد خارج ديارنا، كصعود الإنسان إلى القمر، وغليان الشباب في الغرب، لقد أكد لي هذا التحليل رغبة توفيق الحكيم الملحَّة في «الكلام» عن المشكلات الطارئة على دنيانا. وكنت أرى أن مجرد الحديث عما تموج به الحياة الجديدة في الثلث الأخير من القرن العشرين لا يعني أن الكاتب مرتبطٌ بعصره وروح هذا العصر، وإنما لا بد من الحصول على مجموعةٍ من المقومات الأساسية التي تجعل من الأديب كاتبًا معاصرًا، في مقدمتها أن يكون ابنًا رشيدًا لهذا العصر، لأكثر منجزاته الفكرية تقدمًا وشبابًا. تمامًا كمسألة «العالمية» التي لا تتأتى بالتركيز على الإنسان المجرد أو القضايا النظرية البالغة التعميم، وقد رأيت أن الحكيم كان يضع أحيانًا نظارةً على عينيه لا تنتمي إلى منجزات العصر في الرؤية، وأنه أحيانًا أخرى كان يركِّب بين جوانحه رادارًا يستقبل الظواهر الوافدة من بعيدٍ، ولكنه رادار من طرازٍ قديمٍ ليس بمقدوره أن يستوعب كافة الأبعاد ومختلف الزوايا. وكنتُ أخيرًا أرى في ذلك كله إهدارًا لطاقة الحكيم الخلاقة التي أمدت الأجيال المصرية المعاصرة كلَّها بما يجعل منه واحدًا من أهم الآباء الشرعيين لأكثر الجوانب إيجابيةً وإشراقًا في أدبنا الحديث.

لهذه الأسباب مجتمعةً، وجهت إليه رسالتي المذكورة، ولم تكن بعض العبارات الحادة التي تضمنتها إلا غيرةً على تاريخ الرجل، واستبصارًا بما قد يستطيع أن يلهم به الأجيال الصاعدة من تراثه الغني. ولحُسن حظي أن الحكيم فهم خطابي على هذه الصورة التي أجملتها. اختلف معي واتفق، ولكنه ظلَّ مدركًا لغايتي من نقد أعماله الأخيرة، وما زلتُ أرى أنه حين كان يغوص في أعماق المجتمع كان يأتينا بأطيب الثمرات، خاصةً تلك المستويات من «العمق» التي تضطرم في لجَّتها صراعات الحضارة والتاريخ والقوى الاجتماعية الطافية على السطح، أي كل ما يعنينا على الصعيد الوطني العام، أما حين كان يتشبث بموجةٍ هادرةٍ أو تيارٍ غلابٍ فقد يتعرف على منبعه حقًّا، ولكنه قليلًا ما كان يعي أين المصب، وهنا كان يقل العطاء، ولكن ذلك لا ينفي أن توفيق الحكيم في مجموع تجاربه كان ابنًا مخلصًا لهذا الشعب، وفيًّا لهذا الوطن، كما أن الشعب والوطن كلاهما كان البوصلة التي وجَّهَته نحو التراث من ناحيةٍ، والمعاصرة من ناحيةٍ أخرى. إنه كاتبٌ أصيلٌ ومعاصرٌ، ولكن بغير المعنى الذي قصدته بعض كتاباته الأخيرة، وإن كان تراثه في جملته يجسد خطًّا حيًّا متطورًا، انحاز قرب خاتمته إلى جانب التقدم التاريخي، تشهد بذلك مواقفه العملية، وتؤيده أقواله المباشرة، وسوف أعمد هنا، قبل الرحلة التفصيلية مع أعماله الأخيرة، إلى اقتطاف بعض «اعترافاته»، كما أحب أن أُسمي هذه الأقوال التي أدلى بها في لحظات الصدق الرائع مع النفس والآخرين.

  • حول تطور نظرته الاجتماعية يقول الحكيم: «في شبابي كنتُ شيخًا في التفكير، فعندما احتدمت معركة السفور والحجاب بالنسبة للمرأة، كان من الطبيعي لإنسانٍ شابٍّ من حيث العمر في ذلك الزمن أن ينحاز إلى صف المطالبين بتحرير المرأة وسفورها، ولكن العجيب أني كنتُ من المتشككين في أمر سفور المرأة وتحريرها، وظهر ذلك في مسرحيتي «المرأة الجديدة» التي كتبتها عام ١٩٢٣م، في أوائل العشرينيات من هذا القرن، حيث كانت حركة تحرير المرأة بعد ثورة ١٩١٩م من أهم ميادين النشاط الاجتماعي، وإني لأعجب اليوم وأنا في شيخوختي المتطلعة إلى المستقبل، والمنتمية إلى التقدم والتحرر، كيف كنتُ في شبابي بهذه العقلية الرجعية المتحجرة، ذلك يرجع إلى أثر البيئة والتنشئة الاجتماعية والعائلية التي كانت تضغط على عقلية الشباب وتجمدها تجميدًا، والنتيجة أنني عشتُ حياتي بالعكس، أو بالمقلوب؛ إذ كنت شيخًا متجمد العقل في شبابي، وهذا يدفعني لمطالبة شباب اليوم بأن يعيشوا حياتهم بمنطقها الطبيعي، فيصبحوا أصحاب عقليةٍ بعيدةٍ عن التجمد.»١ علينا بالطبع أن نحذر تقييم الحكيم لنفسه في بعض المواضع؛ إذ إن تطوره لم يكن على هذا النحو البسيط المستقيم، بل كان بالغ التركيب والتعقيد، فهو إذا كان قد اتخذ موقفًا متخلفًا من قضية المرأة عام ١٩٢٣م، فإنه اتخذ مواقف تقدميةً عديدةً من القضيَّة الوطنيَّة والاجتماعيَّة بعد ذلك بعشر سنواتٍ في «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف»، ولكن الدلالة العامة تبقى صحيحةً، وهي أن خط تطوره ظل دومًا للأمام.
  • لم تكن قضية تحرير المرأة وحدها هي القضية التي سجلت في الجدول البياني لتطور الحكيم نقطة نكوصٍ، وإنما كانت هناك أيضًا قضية الشرق والغرب التي تصدى لها في وقتٍ مبكرٍ حين كتب «عصفور من الشرق». وإذا غضضنا النظر عن المبررات التي يسوقها الحكيم للدفاع عن موقفه القديم، فإن ما يعنينا هو تطوره المعاصر، حيث يقول: «… لم يستطع الشرق أن يضيف كثيرًا إلى النهضة التي كان قد خطط لها في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن، وزاد الطين بلة أنه ابتُلي بمساوئ الحضارة الأوروبية من التكالب على المادة، بدون أن يضيف إليها محاسن النهضات من التجديدات الفكرية والمبتكرات العلمية والوثبات الفنيَّة التي رأيناها في ميادين العلم والفن والتكنولوجيا في الحضارات الغربيَّة، وكل ما شاهدناه عندنا قعود وهمود وتمسك بشعاراتٍ جامدةٍ، والتغني بأمجادٍ قديمةٍ لم نضف إليها شيئًا، ولم نجدد فيها؛ ولذلك كثر الكلام اليوم عما يُسمَّى بالانحلال الحضاري الأوروبي لإراحة أنفسنا من سباق النشاط الحضاري الحقيقي لأوروبا والعالم المتحضر. وترتفع الأصوات هنا وهناك تنعى حضارة أوروبا، وتتخذ من بعض الظواهر السطحية، كملابس الشباب أو مظاهر لهوهم، دليلًا على انحلال هذه الحضارات، متجاهلةً شتى نواحي النشاط المثمر والخلاق، والإنتاج الحقيقي في كلِّ ميادين النشاط الإنساني، والذي يقوده بحقٍّ أغلبيةُ الشباب في تلك البلاد.»٢ وربما كان التحفظ الوحيد على هذه الكلمات أن الحكيم لم يوضح ما يعنيه تمامًا بمساوئ الحضارة الأوروبية التي ابتُلينا بها، واكتفى بتسميتها «التكالب على المادة»، وهي تسميةٌ أخلاقيةٌ غامضةٌ لفرط عموميتها، وكان الأجدر به أن يميل إلى التفصيل، فيدعو الحضارة الرأسمالية باسمها الحقيقي، وحينئذٍ كان عليه أن يفرِّق بين نسيجين رئيسيين يشكلان فيما بينهما الحضارة الأوروبية المعاصرة، وأقصد بهما النسيج الاشتراكي في مواجهة النسيج البرجوازي، وهنا فقط يصح قوله بأننا ابتُلينا حقًّا بالطبيعة المحلية من الرأسمالية الأوروبية، وأمامنا البديل الحضاري الشامل في الاشتراكية. إن توفيق الحكيم سيقود هجومًا ضاريًا — بعد قليلٍ — على الاستعمار والرأسمالية، ولكنه يتجنب بمجهودٍ واضحٍ تقديم البديل الأكثر رقيًّا في مضمار التطور التاريخي. على أية حالٍ، كانت هذه الكلمات السابقة حول الشرق والغرب مدخله لمناقشة قضية التراث والعصر، فيقول: «… فنحن جميعًا نريد ما نسميه الأصالة، أي المحافظة على طابعنا وشخصيتنا؛ ولذلك نريد التمسك بكل عاداتنا وتقاليدنا، والانطواء على تراثنا القديم، ولكن ذلك كله لا يؤدي إلى الأصالة؛ لأن الشخصية المميزة للإنسان ليس في مجرد لباسٍ ظاهريٍّ قديمٍ، ولا في مجرد الاحتفاظ بنسبٍ أو حسبٍ في صورة حضارة قديمة، إن الشخصية المميزة لأي فردٍ ولأية أمةٍ هي في اجتماع عناصر كثيرة ومختلفة، تُهضم وتختلط، ويخرج منها عصارةٌ واحدةٌ تلوِّن الوجه بلونٍ صحيٍّ معينٍ؛ لذلك يجب أن نجمع في داخلنا الجيد الحي من تراثنا، مع الجيد العصري من الحضارات التي تعيش وتتطور من حولنا، يجب أن نركب قطار العصر بأمتعتنا الخاصة وحقائبنا المملوءة بأجمل بضائع تراثنا، مع أحدث وأنفع المعروضات في المحطات التي يمر بها قطارنا. إن الأصالة من التأصيل، أي إن ما ليس عندنا في الأصل نأتي به ونؤصله، وهكذا فعل الغرب يوم أخذ الكثير من الشرق وأصَّله عنده، وأصبح جزءًا من تراثه هو وشخصيته.»٣ ويطبق الحكيم هذا التصور لفكرة الأصالة على فنِّه الأثير، وهو المسرح، فيقول: «… والرأي الأرجح هو أنه ما دام المسرح ليس أصيلًا في أدبنا العربي، فلا بد إذن من أن نؤصِّله، أي أن نأتي به من بلاده ونزرعه في بلادنا، هكذا فعلنا في الزراعة مثلًا، جئنا بالقطن إلى مصر وأصَّلناه، وإذا به يصبح له شخصية عالمية، وإذا بالقطن المصري هو خير الأقطان. وسبق أن قلتُ إن أوروبا أصَّلت عندها الكثير من أفكار الشرق وآدابه وفنونه، واهتمت مثلًا بكتاب ألف ليلة وليلة، وأصَّلته في آدابها، وغذت أطفالها ببعض حكاياته، ونسجت على منواله في كل شيءٍ، وأصبح جزءًا من تراثها أكثر مما هو في تراثنا، مع أنه كان نابعًا منا.»٤ وفي مقدمة المشكلات التي تمسُّ قضية الأصالة والمعاصرة، أو التراث والتجديد كما يحب البعض أن يسميها؛ مشكلة التعريب، سواء في البلاد التي لا زالت اللغة السائدة فيها لغة أجنبية، أو في البلاد التي تتكلم وتكتب باللغة القومية، ولكنها تواجه المشكلة في التعليم الجامعي، وخصوصًا في المعاهد والكليات العمليَّة. في هذا الصدد يقول الحكيم: «ينبغي لنا أن نسير على حذرٍ، وبكل تؤدةٍ وتعقلٍ، وأن نتجنب المغالاة والاندفاع العاطفي، وأن ننظر إلى أي حدٍّ يؤدي بنا التعريب الكامل لمصطلحات العلوم إلى نوعٍ من الانفصال الحضاري، في وقتٍ نحن نسعى فيه إلى اللحاق بركب الحضارة، علينا أن نميز بين التعريب الذي يعرقل اتصالنا بالحضارة، والتعريب اللازم لشخصيتنا.»٥ ذلك هو التطبيق العملي لفكرته عن معنى أصالتنا وشخصيتنا وحضارتنا، أنها يجب أن تكون «نابعةً من حصيلة الإحاطة بجميع الثقافات والحضارات السابقة والمعاصرة، ومزجها وصبها في إناءٍ واحد، هو قلبنا. وعندما تصبح في دمنا فإننا نخرجها بعد ذلك وقد طُبعت بلون شخصيتنا وطبيعتنا ورائحتنا، ونضيف بهذا إلى تراث الإنسانية ما يزيدها ثراءً.»٦ إن حوار التراث والعصر في أدب توفيق الحكيم وفكره عميق الغور في عقله ووجدانه، وليس أمرًا طارئًا، فهو ينتمي إلى ذلك التيار الذي عرفته مصر خلال العشرينيات والثلاثينيات في مواجهة القهر الاستعماري والرجعية المحلية، وهو التيار الذي تجمَّع حول الفكرة المصرية، لا بدافعٍ عنصريٍّ، وإنما كمحاولةٍ لبعث الشخصية المصرية من رقادها الطويل بغير انفصالٍ — مطلقًا — عما حملته الحضارة الغربية معها من ثمار الفكر الجديد. إن أكثر الداعين إلى الفكرة المصرية في ذلك الوقت هم أنفسهم أكثر المتحمسين للحضارة الغربية، ومن هنا كانت وطنيتهم أبعد ما تكون عن شوائب التعصب العرقي، وإنما هم أبناء اليقظة القومية التي كان التأثر بالغرب من أبرز عناصرها، رغم تناقضها الرئيسي مع الاستعمار الغربي، فرنسيًّا كان أو إنجليزيًّا، يصف الحكيم تلك الأيام في رسائله المتبادلة مع طه حسين عام ١٩٣٣م في كتابه «تحت شمس الفكر» بقوله: «كنا في شبه إغماء، لا شعور لنا بالذات، لا نرى أنفسنا، ولكن نرى العرب الغابرين، ثم بدأت الذات المصرية واضحةً — على حد تعبيره — وبدأنا نعي ونحس وجودنا.» ويذهب في تحليل الفوارق المادية والروحية بين العرب والمصريين، وبين المصريين واليونان، تحليلًا انطباعيًّا صرفًا يكاد يكون تهويمًا ميتافيزيقيًّا قد يفيد الفن، فيكتب «عودة الروح»، ولكنه بالقطع لا يفسر للعقل ما يقنع به، انظره يقول: «إن المصريين نزلوا من بطن الأزل إلى أرض مصر»، فلا نستطيع أن نفهم كيف تمَّ ذلك، وما الفائدة من ورائه. وترحل معه في دهاليز الأفكار وكواليس الفنون حين يعقد المقارنات المتتالية في المنطق والفلسفة والتاريخ والعمارة والموسيقى والأدب بين «هؤلاء وأولئك»، فلا تكاد تعثر على أسانيدَ من العلم، ولا تأييدٍ من التاريخ، أو براهين من العقل، ولكنك تشعر به يتوهج بأهازيجَ عاطفيةٍ مشحونةٍ بالأسى والأمل في خلق مصر الجديدة. وتوفيق الحكيم لا يغيِّر كثيرًا، بعد طول الزمن، من هذه الآراء والمعتقدات، غاية ما هنالك أنه يتألم بعنفٍ من هول المسافة بين مصر والحضارة المعاصرة، وهو لا يلتمس الأسباب ولا يشخص العلاج، ويكتفي بتصوير الجراح. إنه لا يزال يرى في أحدث كتاباته «أن مصر عندما تفقد قوتها الفكرية لسببٍ من الأسباب، أهمها الاحتلال الأجنبي الطويل، فإنها لا تموت؛ لأنها لا تعرف الموت.»٧ ويرى أنها لم تكن مصادفةً أن يكتب «أهل الكهف»، المأخوذة عن القرآن، في موضوعٍ مسيحيٍّ، وعن تفكيرٍ في الزمن وثنيٍّ فرعونيٍّ؛٨ ذلك أن شخصية مصر هي في تكامل ملامحها ومسار تفكيرها عبر القرون والأحقاب،٩ كما أن مصر في حالة يقظتها ونهضتها تتخذ حضارتُها دائمًا شكلَ الحضارة الكاملة الجامعة لكل العناصر،١٠ ومَعِدة مصر قويةٌ «تهضم كل شيءٍ، ولا يبقى في النهاية غير مصر».١١ ومن خصائصنا المصرية الشعور بالبقاء: «تجده إما في كتلة الأحجار، وإما في كتلة الشعب المصري.»١٢ وبالرغم من هذه الصلوات لمصر — وتكاد بعض المقاطع أن تتحول إلى تعاويذَ وتمائمَ تصلح للطقوس الشعائرية أكثر مما تصلح للبحوث العلمية — بالرغم من هذا التهدج الرومانسي الخاشع في معبد «مصر»، فإن الحكيم يقود حملةً ضاريةً على السلبيات البشعة، التي يُرجِعها دائمًا إلى الاحتلال الأجنبي الطويل، فالسماحة التي عُرفت بها الشخصية المصرية نتيجة العراقة وحكمة العمر عبر السنين، تنزلق أحيانًا إلى «التساهل»، وهو الوجه الدميم للتسامح. وكلمة «ماعليهش» تعبِّر عن هذا المسخ للسماحة خير تعبيرٍ. وصيانة شخصياتنا الوطنية تنقلب في كثيرٍ من الأحيان إلى نوعٍ من الجمود على العادات والقيم البالية التي تمنع رياح التغيير من أن تفعل فعلها. ويتذكر الحكيم — وهو يقابل بين غربته في باريس الجديدة التي كان يعرف فيما مضى شوارعها وحواريها ومقاهيها، وبين الحال في مصر — أنه ذهب مع بعض الأصدقاء لزيارة شارع سلامة بحيِّ السيدة زينب، الذي جاء ذكره في «عودة الروح»، وإذا به يجد نفس المنزل والشارع واسمه ووصفه كما كان بالضبط: «ما من شيءٍ تغيَّر، أكثر من خمسين عامًا وكل شيءٍ كما كان، وكأن الزمن جالسٌ أمام باب المنزل يدخن النرجيلة.»١٣ لقد عقد الحكيم في كتابه «رحلة بين عصرين» مقارنةً مؤسسيةً بين التقدم الهائل الذي رآه في أوائل السبعينيات بأوروبا، والتخلف المذهل الذي ما نزال نرسف في أغلاله، غير أن الحكيم اكتفى بالتصوير دون التفسير، فالقول بأن الاحتلال الأجنبي الطويل هو السبب ليس تفسيرًا كافيًا، وإلا تحوَّل هذا الاحتلال إلى ما يشبه القدر الميتافيزيقي الذي لا نملك منه فكاكًا. إن الاحتلال الأجنبي كما أنه سببٌ فإنه أيضًا نتيجةٌ، وكما يمكن أن يكون نهايةً فإنه يصلح أن يكون بدايةً، وهو لا يمكن أن يكون سببًا وحيدًا للتخلف؛ إذ لا بد من أن نسيج الحياة الاجتماعية يتضمن عديدًا من الخيوط المضفورة مع هذا الاحتلال في جديلةٍ واحدةٍ ضد تقدم هذا الشعب ومستقبله. إن الحكيم يدرك إدراكًا مأساويًّا نافذًا أن «الماضي» يزحف على حاضرنا بما يشمل قواه الفاعلة من التطور، ولكن هذا الماضي ليس زمنًا تجريديًّا، وإنما هو قوًى وعلاقاتٌ اجتماعيةٌ تصوغ أيديولوجيتها عن التراث والعصر وفق مصالحها الآنية العابرة.
  • ظلت قضية «الحرية» من الهموم التي أرَّقت الحكيم دومًا، كان يرى في الماضي الواجهات الليبرالية اللامعة وقد تسترت خلفها جرائم الطبقات شبه الإقطاعية والفئات العليا من البرجوازية، ومِن ورائهم جميعًا العرش والاستعمار، وكان يرى في الانتخابات والبرلمان والأحزاب مجرد لعبةٍ لها قواعدها المرسومة سلفًا، والتي تعتمد أولًا وأخيرًا على أمية الملايين وفقرهم، فإذا أخفق هذا الاعتماد مرةً أو مرتين كشَّرت الدكتاتورية عن أنيابها بلا مبالاةٍ. ورغم صحَّة المظاهر التي أحصاها الحكيم في هذا الصدد، فإنه قد تورط أحيانًا في شراك التعميم، فلم تكن لديه خبرة العمل السياسي في الحياة اليومية، وإنما كان يجرد المسائل ويطلق عليها الحُكم إطلاقًا لا يفيد في معظم الأحوال القوى الديمقراطية الحقيقية التي تناضل في ظروفٍ صعبةٍ. ثم عرفت مصر بعد حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م نموذجًا آخر للنظام السياسي، وهنا يقول توفيق الحكيم: «كان لي ذات يومٍ موقفٌ بالنسبة إلى طريقة الحُكم في بلادنا، فقد رأيت الديمقراطية البرلمانية قد انقلبت إلى ثرثرةٍ ومهاتراتٍ بين الأحزاب، ثم إلى انتهازية المستوزرين الذين يريدون الحكم لنيل المغانم الشخصية. وتوقفَت بذلك حركة التقدم عن طريق الحكم، ولم تجد الحكومات المتغيرة المتنابذة وقتًا لإنتاج مشروعات تفيد الأمة، فكتبت ضد هذا الذي وصفته بالديمقراطية المزيفة والحياة البرلمانية الفاسدة، ولكن اتَّضح لي أن البديل لذاك ليس الدكتاتورية التي لا تؤمن بحرية الفكر، بل بالنظام الصالح الذي يحقق ديمقراطيةً صالحةً.»١٤ وكما كان هجومه القديم على «الديمقراطية الزائفة» ضبابيًّا غائمًا، فإن هجومه الحديث عن الدكتاتورية جاء باهتًا بلا ملامحَ؛ ذلك لأنه لا يربط قضية الديمقراطية بسياقها الاجتماعي التاريخي، أي بأرضيتها المادية، وإنما تكاد الديمقراطية في تصوره أن تكون حرية الصفوة المفكرة المثقفة من الكُتَّاب والأدباء والفنانين، نلاحظ ذلك مثلًا في قوله: «إننا نعيش اليوم أزمة المفكر العربي المعاصر، وأهم أسباب هذه الأزمة هي عدم الاجتراء على لمس المقدسات، والهرب أو عدم القدرة على تحليل المسلَّمات، وما دام الفكر العربي مقيدًا بأغلالٍ تمنعه من التحليل والمناقشة فلا يمكن أن يعرف العقلية العلمية، وبهذا يظلُّ دائمًا هائمًا في الغيبيات، وقد تصلح الغيبيات لبعض أنواع الشِّعر والفنِّ، ولكنها خطوةٌ في ميدان البحث والعلم والتفكير، ولن يكون هناك فكرٌ عربيٌّ يؤدي إلى العقلية العلمية التي تدفع إلى اكتشافات العلم ومسايرة الحضارة العصرية إلا بالبحث الحر وحرية الفكر.»١٥ ولا شك أن غياب حرية الفكر يقتل روح الخلق وحاسة الإبداع، ولا شك أيضًا أن غياب الديمقراطية هو أحد أشكال التخلف الحضاري، ولكن هذا لا ينفي أن الحريات الديمقراطية في غيابها وحضورها هي من أحد الوجوه انعكاسٌ لحركة القوى والعلاقات الاجتماعية، ومن ثم كان صراع الأجيال، فوق أنه صراع الطبيعة، فهو أيضًا صراع التاريخ، أي إنه بالضرورة صراعٌ اجتماعيٌّ. إن جمود أحد الأجيال يعني سيادة الأفكار الاجتماعية لهذا الجيل، حتى ولو كانت إحدى شرائحه أكثر تقدمًا من غيرها، فإن هذه الفئات التقديمة لا تجسد في منهج تفكيرها وأساليب تعبيرها إلا منجزات العصر الذي عاشت في ظلاله أروع سنوات عمرها، سنوات التكوين وسنوات العطاء. أما الجيل الجديد، فرغم انعدام التجانس الاجتماعي بين شبابه، إلا أن وحدة العصر وتقارب الأصول الاجتماعية والمناخ السياسي المشترك، يقترب بأهم عناصره من أكثر الأفكار تقدمًا على صعيد العصر والعالم والمجتمع، ومن هنا فإن توفيق الحكيم حين يطالب بالحرية لهذا الجيل، فإنه في واقع الأمر يتخذ موقفًا تقدميًّا من مستقبل المجتمع، مهما جاءت كلماته — كشأنه في معظم الأحوال — عامةً ومثاليةً ومطلقةً، يقول: «أنا من أشد المطالبين بالتفتح على كل نشاطٍ ذهنيٍّ في الحياة، وأرفض رفضًا قاطعًا أي توجيهٍ للشباب يؤدي إلى السجن داخل حدودٍ معينةٍ بحجة صيانته من الزلل، ولكن التفتح هو العاصم الحقيقي، ومن هنا فإن الشباب مطالَب بأن يقرأ كل أنواع الثقافات بما فيها القيِّم والغث، الضار والنافع، فليقرأ الشباب ما شاء له من قراءاتٍ بكل حريةٍ وبلا وصايةٍ، ولنترك له فرصة أن يحكم بنفسه على قيم الأشياء، وأن تتربى فيه ملكة التفكير الخاص والحكم الصائب، فالحجْر على عقول شبابنا بحُجة حمايته، يؤدي إلى عجز الشباب عن معرفة ما هو رديءٌ وما هو طيبٌ؛ ذلك أن الثمين تزداد قيمته بمعرفتنا للرديء.»١٦ أكرر القول بأنه رغم التجريد والتعميم والإطلاق في هذه الكلمات، فإننا لا نستطيع أن نعزلها عما يضطرم بها مجتمعنا من صراعاتٍ بين القديم والجديد، بين التخلف والتقدم، بين الماضي والمستقبل. توفيق الحكيم لا يلقي بكلماته جزافًا في الهواء، فهو يعرف — والشباب معه — أن هناك ثقافة سائدة سهلة وميسورة، وفي متناوَل اليد، ولا تتطلب من أحدٍ صراعًا من أجل الحصول عليها. وهو يعرف أيضًا — والشباب معه — أن هناك ثقافات أخرى صعبة المنال. وأخيرًا، فالجميع يعرف أن أشكال الحصانة التي تتمتع بها الثقافة السائدة ليست من صنع الشباب، ولكنها من صنع تلك الشرائح الرجعية المتخلفة من الأجيال التي تضع المتاريس في مواجهة الثقافات الأخرى، والديمقراطية الحقة — حتى بمعناها الليبرالي — لا تحمي ثقافة وتعرِّض أخرى للخطر، وإنما هي تسبغ حمايتها على كافة تيارات الفكر والحضارة.

تلك هي أهم «الأقوال» التقريرية المباشرة في أحدث مراحل تطور توفيق الحكيم، وهو فيها يكرر أفكارًا سبق أن قالها فيما مضى، ولتكرارها دلالةٌ واضحةٌ، هي أن المجتمع ما زال بحاجةٍ إليها، وهو فيها يستحث أفكارًا جديدةً من وحي التطورات التي تم إحرازها في العالم المتحضر، والنكسات التي مُنيت بها بلادنا. وهو في كل ذلك لا يكف عن محاولة الارتباط بالمجتمع والعصر، أحيانًا يجيء الارتباط هشًّا سريع الزوال، وأحيانًا أخرى يمتد إلى أعمق الأغوار والجذور، وهو أخيرًا، في قديمه وجديده، يدعم قولنا بأن الكاتب لا يتجاوز مقتضيات التاريخ، وأن أعظم إبداعاته قد تبلورت في ثورته الأولى، الثورة الأم، مهما شابها من سلبيات الريادة وعيوب الخطوة الأولى.

وقد شاء الحكيم — وهو يشاء دائمًا — أن يصوغ هذه الأفكار التقريرية المباشرة صياغة فنيَّة … فماذا تُراه فعل؟

٢

منذ نهاية الخمسينيات على وجه التقريب، تفرَّغ توفيق الحكيم نهائيًّا لمعالجة التناقضات التي تصطرع بين جنبات المجتمع المصري، وبالرغم من أن جذور المشكلات القائمة كانت غائرةً في التاريخ السابق على حركة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، كالفقر والقهر والتخلف، وبالرغم من أنه قد تابع عمق هذه الجذور في أعماله السابقة، إلا أن مرحلته الحالية كانت تفرغًا كاملًا، بالفكر والفنِّ، لمواجهة القضايا الحالية والمباشرة. لم يتخلَّ توفيق الحكيم عن التجريد منهجًا تعبيريًّا، ولا عن محاورة التراث والعصر إلى غير ذلك من عناصر الفن في أدبه، ولكنه اتجه صوب الأزمات الحادة المشتعلة في كيان المجتمع، واصطنع لها قالبًا تعليميًّا بسيطًا لا يخلو من جمالٍ، ولكنه يعمد إلى المشاركة في الصراع الفكري والاجتماعي الدائر مشاركةً حيَّة فاعلة في أعرض القطاعات القارئة. ولعل مسرحية «السلطان الحائر» هي أكثر التجسيدات الدرامية تمثيلًا لمواجهة الحكيم الشجاع لقضية «الحرية» في تلك المرحلة، كما أن مسرحية «شمس النهار» هي النموذج التعليمي المباشر الذي ركز فيه على قيمة «العمل» كمصدرٍ رئيسيٍّ لبقية القيم، وكانت المشكلتان تصوغان بدقةٍ بالغةٍ إطار المسيرة المعقدة للتجربة المصرية طيلة الستينيات، حتى إن هزيمة ١٩٦٧م كانت الوجه الصارخ للسلبيات الكامنة في التجربة، والتي دفعتها إلى السطح مؤامرة الاستعمار الأمريكي والصهيونية على وطننا.

وتجيء مسرواية الحكيم «بنك القلق»،١٧ التي نشرها عام ١٩٦٦م، تلخيصًا فنيًّا لأزمة الديمقراطية، كواحدةٍ من أهم الأزمات التي أدى تراكمها إلى الانفجار الدموي في الخامس من يونيو. و«بنك القلق»، كبقية أعماله التي شهدتها مرحلته الأخيرة، فانتازيا تشاكل الواقع، وتنهج في تشريحه نهجًا كاريكاتوريًّا يختلط فيه أسلوب الحلم بالكابوس هازلًا ومأساويًّا في آنٍ. والتجربة التعبيرية فيها ليست بالأهمية التي تفسح لها مكانًا في ظل التجديد الخلَّاق، إنها كتجربة الحكيم في «اللغة الثالثة» المنطوقة بالعامية والمكتوبة بالفصحى، ليست فكرةً قابلة لطول العمر. إنه في «بنك القلق» يكتب نصف الفصل بالسرد القصصي، ونصفه الآخر بالحوار، وكان من الممكن أن يكتبها كلها سردًا روائيًّا، كما كان من الممكن أن يكتبها كلها حوارًا مسرحيًّا. إنها ليست شبيهًا — على سبيل المثال — ببعض أعمال نجيب محفوظ الأخيرة، حيث يتخلق الحوار في قلب السرد، ويطول الديالوج كما لو كان العمل فنًّا مسرحيًّا. نجيب محفوظ حين يجرب هذا الشكل التعبيري إنما يستجيب لتمزقاتٍ داخل الشخصية وتوترات خارجها تتطلب منه أن يستوعبها في حوارٍ مطولٍ بعض الشيء، إنه هنا يلبِّي احتياجًا فنيًّا أصيلًا أملاه السياق اضطرارًا، وليس اختيارًا تجريبيًّا بحتًّا. ومسرواية «بنك القلق» من هذه الزاوية لا تقدم جديدًا في مجال التجربة الجمالية، بالرغم من جمال السرد القصصي على حدة، وطلاوة الحوار المسرحي على حدةٍ.

أما الجديد في «بنك القلق»، فهو ما تقوله بغير لفٍّ أو الْتواءٍ، وهو أن أزمةً ضاريةً تتهدد قلب مصر النابض في ضعفٍ ووهنٍ من جراء الصراع غير المتكافئ بين القوى الاجتماعية، وأن صمام الأمن الصناعي المركب على هيئة أجهزة التسجيل البوليسية لن يحمي القلب المتعب من غائلة القلق والهم والعذاب، والحكيم في هذا الصدد لا يتجاهل ما أفرزته حركة ٢٣ يوليو من إيجابياتٍ، كقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم ومجانية التعليم وغير ذلك، ولكنه يشير في نفس الوقت إلى أن حماية هذه المنجزات ودعمها وتطويرها لا يتم بالتصنت على دقات القلب وهمسات الضمير. ولعل نقطة الضعف الفكرية هنا أن الحكيم لم يتنبه إلى أن هذا التعارض بين الأسلوب والغاية مِن صنع قوًى اجتماعيةٍ جديدةٍ، وليست مزاجًا شخصيًّا لفردٍ أو مجموعةٍ من الأفراد.

ولقد نسج الحكيم مسروايته في إطارها الفانتازي نسجًا كلاسيكيًّا محكم البناء متنوع النغمات. إن فكرة «البنك» ذاتها تصلح بداية ملتقًى لعديدٍ من النماذج والأنماط، كما أنها تصلح بؤرة العديد من المواقف والأحداث، وهي كفكرة «المحكمة» في الأدب سلاح ذو حدين؛ فهي معرضٌ لمختلف وجهات النظر، ولكنها مهددةٌ بالمساجلات التقريرية المباشرة. وقد وُفق الحكيم توفيقًا واضحًا — مرتكزًا في ذلك على الفانتازيا وما تحفل به من خوارقَ للعادي المألوف — في أن يستبعد احتمالات الملل بالهزل والمفاجأة وحك الجراح، وبالرغم من أن عماد المسرواية هو ذلك السر الكامن وراء شخصية «منير عاطف» وأشرطة أجهزته التي تسجل خواطر نوعٍ من الناس يقلق لما هو أعم وأشمل من همومه اليومية الصغيرة، إلا أن الكاتب ضفر مع هذا الخيط الرئيسي خيطًا آخر لمأساة أسرة تنتمي إلى هذا الرجل بصلة النسب، مأساة نفسية وعاطفية واجتماعية في وقتٍ واحدٍ، ولم يفتعل الفنان هذه الضفيرة المسروائية، بل أتاح لها من المقدمات والمبررات والنتائج ما يكفل لها التفاعل بين خيطيها ضمن السياق العام.

وكذلك اختار شخصياته من قاع الجحيم الأرضي الذي يتلظَّون بحممه، بوعيٍ منهم أو دون وعيٍ، فجاء اختياره لمجموعةٍ من البشر غير متجانسةٍ، بل متعارضة في وسائلها وغاياتها تعارضًا يضفي جاذبية خاصة لكلٍّ منها، وإن لم يكن فردًا متفردًا، وإنما نموذج نمطي. وهو يطوي تحت أردية كل شخصية ملامح الشريحة الاجتماعية التي تمثلها، وسمات الموقف الذي تتخذه، فينطلق الحدث ويمضي في طريقه إلى الخاتمة التي تبلور رؤية الكاتب لهذا المجتمع وأوجاعه.

هكذا نرى في البداية شابين مفلسين كانا زميلين في دراسة الحقوق، ولكنهما لم يحصلا على الليسانس، وانتهيا إلى تلك الحال التعيسة لأسبابٍ تختلف من واحدٍ لآخر؛ أولهما بسبب العقل المتوهج الذي لا يكف عن التساؤل، والذي أدى بصاحبه يومًا إلى المعتقل، والآخر بسبب الجسد الظمآن الذي لا يتوقف عن الغليان، والذي أدى بصاحبه إلى المحاكم الشرعية بين كل زواجٍ وطلاقٍ، وبين كل نفقةٍ وصداقٍ ومؤخرٍ. ويتفتق ذهن «أدهم» وخياله المتقد عن مشروعٍ خرافيٍّ من حيث المظهر، هو تأسيس بنكٍ للقلق، العملة السائدة في عالم اليوم، يجمع بين فكرة المصرف وفكرة العيادة النفسية. غير أن الطبيب هنا لا يقلُّ مرضًا عن الزبون، فكلاهما يعالج الآخر، ويستفيد البنك من فرق السعر، وقد وافق شعبان على الاشتراك في هذه اللعبة الغريبة، لا لشيءٍ إلا لأنه ليست هناك لعبةٌ أخرى في الوقت الحاضر. ويرسم الحكيم ملامح الشابين رسمًا واقعيًّا، رغم الفكرة الفانتازية العامة، فهما ينتميان إلى إحدى شرائح الطبقة المتوسطة الصغيرة في الريف والمدينة. أدهم أبوه مزارعٌ بسيطٌ يستأجر بضعة أفدنةٍ من أرض عادل بك عاطف، وشعبان أبوه يملك ورشةً صغيرةً بعد أن كان برادًا في السكة الحديد، وميكانيكيًّا في ورشة سيارات إيطالي. ولنا أن نتصور العناء الذي تكبَّدته الأسرتان في تعليم الولدين، والحلم الكبير الذي كان يخفف شقوة العيش بمستقبلهما الباهر في المحاماة أو النيابة، ولكنهما لم يحققا الحلم لأسرتيهما بسبب القلق الذي يعتزمان تأسيس بنك له، قلق أدهم هو الفكر الحائر والخيال الجامح، الذي لم يُتَح له فرصة الاستقرار في الصحافة التي أحبها، ولم يتسع له الهناء بين جدران المعتقل؛ لأن «المثال» و«المطلق» اللذين يرفرفان بين جوانحه لم يعثر عليهما فيمن تصور أنهم رفاق الروح، ولا فيمن صادفهم من المنتمين إلى الحلم الرجعي المتطرف. كان يكره الملكية كراهية التحريم، ويعشق التقدم والعلم عشق المتصوفين، ولكنه لم يكن سياسيًّا بالمعنى المعروف، حتى إنه اقتيد إلى السجن عن طريق الشبهة والخطأ، وداخله اكتشف الهوة السحيقة بين الفكر المجرد والواقع الحي، بين الإيمان والإنسان، بين القيم والحياة. وهكذا خرج من المعتقل سريعًا، وهو أكثر تشبثًا بقلاع الوحدة، وأكثر تمسكًا بأبراج النظر دون الفعل. أما قلق شعبان فهو قلق الغريزة المعربدة الفياضة غير المستقرة على أنثى بعينها، إنه لا يذوق لوجوده طعمًا إلا بين أحضان امرأةٍ جديدةٍ، لا يفلسف أمور دنياه ولا يرهق وجدانه بقليلٍ من التأمل، حتى إنه لا يدرك معنًى للرفض والقبول والحوار حول أي شيءٍ من الأشياء، إنه يتحسس سبله في الحياة بقرون استشعارٍ جنسيةٍ بالغة الرهافة، وأنفٍ حادٍّ، وذوقٍ مدرَّبٍ، وعيون زرقاء اليمامة، ومهارة الصياد الذي لا يملك سوى الطعم والشباك، يبحث عن رزق اليوم غير عابئٍ بالغد.

نموذجان هما طرفا نقيضٍ، ولكنهما يجتمعان صدفةً — هل هي صدفةٌ حقًّا؟! — عند جذع شجرةٍ يفترشان مقعدًا حجريًّا في العراء. وكان الفنان قد مهَّد لمسروايته كلها بمشهدٍ عميق الدلالة لأحد الملاهي وقد ازدحم بأصنافٍ متباينةٍ من البشر، تأكل وتشرب بنهَمِ مَن يأكل لقمته الأخيرة. وقد توقف أدهم داخل باب الملهى وأعمل مخيلته في رؤية النفوس داخل الأجساد المترهلة والشابة، بنت العز القديم ومحدثة النعمة. كانت «اللذة» بمختلف أشكالها وموجاتها وتشنجاتها هي سيدة الملهى ومن فيه، إلا لذة العقل المفكر والخيال السابح في أجواء عليا من مباهج المعرفة والجمال الذهني، افتقدها بين النساء العرايا والمتعطشات إلى العري بلا هدفٍ سوى حلب الجيوب السمينة للرجال «كضروع البقر على المذود». وقف أدهم كتمثالٍ ومضى كتمثالٍ، فهذا عالمٌ آخر لا علاقة له به، في هذه اللوحة التمهيدية قصد الحكيم قصدًا مبيتًا، هو أن يقيم ديكور الأحداث القادمة على ضوء هذا المشهد الرامز إلى القوى الاجتماعية المهيمنة على مصير الوطن هيمنةً اقتصاديةً من ناحيةٍ، وهيمنةً ضميريةً من ناحيةٍ أخرى، وكأن الأحداث القادمة كلها تتحرك بين قوسين كبيرين، هما هذه اللوحة في المقدمة، وتسجيلات منير عاطف في الخاتمة.

بين المقدمة والخاتمة يلتقي أدهم وشعبان، بكل ما يُعانيانه من تناقضاتٍ وأحلام وإحباطات وكوابيس، ويفكران في تأسيس بنك القلق الذي يتهددهما مع الملايين بوعيٍ أو بغير وعيٍ، حتى أولئك الذين زرعوا جراثيم هذا المرض في أرضنا من رجال ونساء اللوحة التمهيدية، وعميلهم الذكي منير عاطف، فإنهم لا ينجون من القلق وإن تخفَّى في الإقبال النَّهِم على جزئيات الحياة دون كلياتها، وعلى اللحظات العابرة دون الزمن الراسخ. هنا تبدو الفكرة، رغم فانتازيتها، نباتًا طبيعيًّا في أرض الواقع الخصبة بالقلق ومبرراته، ولا يهم بعدئذٍ أن يلجأ الكاتب إلى أدوات المسرح الهزلي، فيذهب بنا إلى «جحر» أدهم المليء بالبق والصدأ والتراب، وأن يعلن شعبان عن البنك بطريقةٍ كوميديةٍ صارخةٍ، هي لصق إعلاناتٍ مكتوبةٍ بخط اليد على أكشاك السجاير، وأن يأتي متولي الصحفي الذي يستأجر قلم أدهم ليعيد كتابة موضوعاته البليدة، فيجعل منها مقالات مقروءة مقابل مبلغٍ زهيدٍ، وأن يجيء أخيرًا منير بك عاطف كبابا نويل أو كخاتم سليمان بناءً على توصية متولي … لا يهم ذلك كله، فهذه الأدوات مجرد زخرفةٍ تستمد أهميتها من موضعها في السياق الفانتازي للأحداث، وليست مقصودةً لذاتها، وإلا كانت تكرارًا مملًّا لما سبق أن أشار إليه الكاتب في ومضاتٍ خاطفةٍ أضاءت التناقض الفاجع بين البؤس الغالب والترف الضيق، وإنما المهم هو تلك البداية التي رافقت خطى منير عاطف إلى هذين الشابين المفلسين، فاحتوى حلمهما الإنساني ليجهضه، وإن جسَّده في مسخ كالكابوس، بأن حوَّل بنك القلق إلى جهازٍ سريٍّ للأمن. هذا هو العمود الفقري للمسرواية التي أتاحت لنا التعرف على «عينات» من مشكلات هذا المجتمع، القلة القليلة من بينه تعاني من الوفرة والتطلع إلى أعلى، والكثرة الساحقة تعاني من الندرة ومحاولة تفادي الموت جوعًا. المشكلات العاطفية وتفريعاتها تُحوَّل إلى شعبان، والمشكلات الاجتماعية تُحوَّل إلى أدهم في بنكهما الجديد الأنيق الذي استأجره لهما منير عاطف، دون انتظارٍ للربح، ودون غم للخسارة. غير أن نوعًا محددًا من المشكلات كان يتحول تلقائيًّا إلى مكتب منير عاطف بالحجرة رقم ٣، هو قلق أولئك الذين يؤرقهم اتجاه التطور في مجتمعهم، حيث يرى البعض أنه اتجاهٌ إلحاديٌّ يهدد القيم الدينية، بينما يرى البعض الآخر أنه اتجاهٌ يساوم التقدم الاجتماعي، ويعرقل نموه الطبيعي نحو الاشتراكية، والبعض الآخر لا ينتمي إلى اليمين ولا إلى اليسار، وكل ما يعنيه هو «الحرية» المغلوبة على أمرها في هذا الوطن. وتراكم هذه القضايا الصغيرة والكبيرة على السواء، يوحي بأن «البناء» الذي يظلِّل الجميع آيلٌ للسقوط.

ويلتقط الحكيم خيطًا عاطفيًّا من بين الخيوط التي تشكل في جملتها النسيج العام للمسرواية، وهو محاولة شعبان للوصول إلى «ميرفت» ابنة عادل بك عاطف، التي ازدهرت بها أحلام أدهم في صباه، الذي لا يقلُّ تعاسةً عن شبابه. لقد زارت البنك يومًا مع خالتها «فاطمة هانم»، هذه السيدة الغريبة الأطوار، والتي يذكر أنها كانت فتاةً جميلةً فيما مضى، تصغر شقيقتها التي بُهر عادل بجمالها، فتزوج منها رغم تواضع حال أسرتها، ورغم معارضة أُسرته لهذا الزواج «غير المتكافئ». فاطمة هانم التي ترافق ميرفت دائمًا — بعد أن تيتَّمت — هي الطريق الوحيد أمام الصياد الماهر شعبان، وتنجح شِباكه مع السيدة التي لم تتزوج وتعشق القراءة والوحدة وتربية ميرفت. الفتاة التي سبق لها الزواج مرتين، ولا تعبأ إلا بالمتعة العابرة، ولا تُلقي اهتمامًا لشيءٍ على الإطلاق، ما دامت تملك الكثير مما يقوم عمها منير عاطف بإنفاقه عليها، ولكنها تضطرب فحسب إذا تلفظ أحدٌ أمامها بذكرى والدتها، التي قال الجميع لشعبان وأدهم إنها سرعان ما ماتت بعد وفاة عادل بك. ولكن الأحداث تقودنا إلى ما يشبه ذلك المشهد الأسطوري في قصة برونتي الشهيرة «جين أير»، حيث يكتشف شعبان في إحدى خلواته مع فاطمة هانم بذلك المنزل المهجور في المعادي، والذي كانت تصطحبه إليه مساء كل خميسٍ لممارسة الحب، أن والدة ميرفت لم تمت، وإنما هي قد أُصيبت بالجنون على أثر معرفتها بعلاقةٍ آثمةٍ تربط زوجها — عادل بك — بأختها فاطمة، ورؤيتها لهما في حالة فعلٍ فاضحٍ، فما كان منها إلا أن أشعلت النار في المنزل، ومات زوجها محترقًا، ونجت هي بأعجوبةٍ. ولكن الجنون كان نصيبها المحزن، لا يدري أحدٌ بهذه المأساة التي قيل عنها يومئذٍ إنها بسبب عقب سيجارة، ولا منير عاطف نفسه. أما ميرفت، فكانت طفلةً صغيرةً لا تعي، وكان العلاج الذي رأته الأسرة هو إبعاد الأم المجنونة عن الطفلة وإشاعة موتها، وفي هذه الخلوة التي أدرك فيها شعبان بمحض المصادفة أبعاد المأساة التي تخيِّم على هذا المنزل، فتح مكتبًا لمنير عاطف، وإذا بأحد أدراجه بعض الأشرطة الفارغة، وقد كُتبت عليها عبارات اشتمَّ منها أن البنك الذي يديرونه، والذي ينفق عليه منير عاطف عن سعةٍ وبذخٍ ليس إلا جهازًا حديثًا لصيد البشر وعقولهم، ويتوجه شعبان من فوره إلى أدهم ليدلي إليه بكل شيءٍ، عساه يجد لهما مخرجًا من هذا المأزق، الذي انتهيا إليه من طريقٍ بدأ بفكرةٍ نبيلةٍ، هي التخفيف من آلام الناس، فإذا بهما يشاركان في عملٍ من شأنه أن يزيد من وطأة هذه الآلام ويعمق أهوالها. هكذا تؤدي «الفوضى المخيفة» في بناء المجتمع إلى مقدماتٍ ونتائجَ متعارضةٍ، فيتحول الحلم إلى كابوس، وصاحب الرسالة الاجتماعية إلى شرطي، والجلاد إلى ضحيةٍ، والقواد إلى راهبٍ، واللص إلى قاضٍ. هذا الواقع المنسوج بإحكامٍ من شبق الطبقة المتوسطة، وتعاظم شرائحها الطفيلية، وميلاد الطبقة الجديدة، ومد نفوذها الأخطبوطي إلى ما تهمس به القلوب في خلوات العشق للحرية والعدل، هو الذي أثمر النماذج الرئيسية الضائعة في دنيا توفيق الحكيم الجديدة، بل هو الذي دفعه إلى هذا الجو الفانتازي دفعًا، وكأنه يود أن يقول بأن الحواجز بين المعقول واللامعقول، بين المألوف وغير المألوف، بين الطبيعي والشاذ، بين القاعدة والاستثناء، كلها انهارت تحت وطأة التناقض الحاد بين المقدمة والنتيجة، وبين الشكل الاجتماعي والمضمون السياسي. الفوضى المخيفة هي التعبير الفني — الهزلي الفاجع — عن رجحان السقوط لهيكلٍ شُيِّد فوق الرمال، فما إن هبت الرياح حتى اقتلعته من جذوره الهشة، ورسمت أنقاضه لوحة تجريدية من أغلى الدماء. ولعل أكثر الكلمات إيحاءً هي تلك التي جاءت على لسان أدهم، فقد كان كل ما يعنيه «هو محاولة فهم هذا الطبقة؛ ما هو موضعها الحقيقي في هذا المجتمع المتغير؟ وهل المجتمع يتغير حقًّا؟ وفي نظر مَن يتغير؟ وإلى أي مدًى هذا التغير؟ وهل هو حقًّا تغيرٌ حقيقيٌّ من الداخل، أو مجرد مظاهر خارجية؟!»

ويجيب أحد زبائن بنك القلق بأن محور عذابه هو «هذه الرجعية التي حولي، هذا المجتمع الرجعي الذي أتنفس فيه»، وهو يريد «عملًا حاسمًا عنيفًا يفسح الطريق أمام كل فكرٍ تحرريٍّ تقدميٍّ. إن مستقبل العالم هو في هذا الاتجاه.» بينما هناك زبونٌ آخر يستغفر الله «لهذا المجتمع الملحد الذي نعيش فيه، هذا الجو المتحلل الذي نتنفسه»، وهو يريد عملًا قويًّا «يزيل من على وجه الأرض هذا الضلال، إن نار الله الموقدة يجب أن تُصبَّ صبًّا على مجتمعٍ بهذا الفجور والإثم والكفر المبين.» أما الزبون الثالث الذي يتمنى «لو كان الإنسان يستطيع أن يطلق صوته ويصيح بما في نفسه»، فإنه يرى أن «كل إنسانٍ في حاجةٍ إلى أن يتكلم وأن يصيح، وأن يوافق وأن يعارض.» ويستكمل توفيق الحكيم ملامح هذه الفوضى المخيفة حين يجسد ضرورة الالتزام بالثورة عليها، وضراوة النضال من أجل تغييرها في هذا الحوار الدالِّ بين أدهم وشعبان:

أدهم : أريد أن أعمل أي شيء نافع.
شعبان : نافع لمَن؟
أدهم : للناس جميعًا، وللأمة كلِّها.
شعبان : للأمة كلِّها؟! وهل أنت مسئولٌ عن الأمة كلِّها؟
أدهم : بالتأكيد … مسئولٌ.
شعبان : ومَن الذي سألك وكلَّفك؟
أدهم : لا أحد … أنا نفسي.

ولا يتركنا الكاتب حيارى حول مسئولية أدهم واختياره حين يصف هذا المجتمع بأنه «برجوازي داخل قماط اشتراكي! اشتراكية قوانين ولوائح، وليست بعدُ اشتراكية روح». ولا شك أن المشكلة أعمق بكثيرٍ من هذا الوصف، ولكننا إذا تذكرنا تكوين أدهم المثالي، ونظره المجرد للأشياء، أدركنا أن معنى الكلمات يتسق مع مبناها البشري، وأنها إشارةٌ ذكيةٌ إلى موضع الداء، وهو الداء الذي حاصرت أهواله جوانح الحكيم في أعماله التالية.

٣

فانتازيا «كل شيء في محله»،١٨ وقد كتبها بين عامَي ١٩٦٦م و١٩٦٧م، رغم أنها تمثيليةٌ قصيرةٌ من فصلٍ واحدٍ، تشير إلى تلك الفوضى المخيفة التي ظللت حياتنا بغيوم اللامعقول، وسُحب العبث الثقيلة الوطأة التي لا تمطر، واللامعقول فيها ليس هو الشكل أو المضمون، ولا علاقة له بمعنى العبث في الأدب الأوروبي أو الحضارة الغربية، وإنما اللامعقول هو انعدام الحد الأدنى من المنطق والانسجام بين مختلف ظواهر الحياة. بانعدام هذا المنطق يغيب المعيار، فلا تصبح لدينا القدرة على الاستقراء والاستدلال والقياس، أي إننا نحوَّل إلى قطيعٍ من العميان. وما أشبه هذه الفانتازيا بقصة «تحت المظلة» لنجيب محفوظ، وقد كتبها حوالي ذلك التاريخ، الفارق الوحيد بينهما أن فانتازيا الحكيم تميل إلى الكوميديا، بينما تميل فانتازيا نجيب محفوظ إلى المأساة. وليس من قبيل المصادفة أن يكتب الحكيم هذه التمثيلية بالعامية المصرية، رغم أنه لا يكتب بها إلا نادرًا، ولكن معجمها الخصيب ساعده حقًّا على بلورة التكوين الهزلي للموقف الدرامي، وما تتطلب الفانتازيا من خوارقَ مضادة للعادي والمألوف. ومن هنا، أيضًا، يختلف البناء الفانتازي عنه عند نجيب محفوظ، حيث تبدو الأحداث الخيالية كالحلم القريب من مادة الكابوس، أما هذا البناء عند توفيق الحكيم فهو مشيدٌ من جزئيات الحياة اليومية وتفاصيل الواقع الحي. المنطق في قصة نجيب محفوظ يختفي منذ البدء، منذ أن ينفصل الإطار العام للأقصوصة عن الجو الواقعي، وبالتالي فاللامنطق داخلها هو امتدادٌ عضويٌّ لهذا الإطار، أما المنطق في قصة الحكيم فلا ينعدم بدءًا من الإطار العام، وإنما هو يصوغ اللاانسجام — بعيدًا عن مأساة اللغة ووحدة الإنسان في الغرب — من قلب التعاطف الحار بين البشر، ومن خلال الفوضى المخيفة التي تراكمت أسبابها حتى أمست شيئًا نقيضًا لكوابيس الرعب، ولكنها ليست بعيدةً عن فنِّ الكاريكاتور بضحكه الباكي إن جاز التعبير.

تبدأ الفانتازيا القصيرة بحلاقٍ يرى في رأس الزبون الماثل أمامه بطيخةً قابلةً للشق، فما إن يفصح عن خواطره حتى يهرب الزبون ولما يكمل حلاقة ذقنه بعدُ، ويجيء ساعي البريد الذي يضع كل ما معه من خطاباتٍ في طاسة الحلاق، حيث يضع كل من يريد ما يريد من خطابات، له أو لغيره، المهم هو التخلص من هذا الحمل الثقيل وتسديد خانة الموارد. ويظهر شاب ينتظر خطابًا ويسأل عنه، فيجيبه الحلاق وموزع البريد بأن عليه أن يبحث في الطاسة، فإذا لم يجد شيئًا، فعليه أن يأخذ ما يعجبه من الخطابات المكدسة، ويدهش الشاب قليلًا، ولكنه يتناول إحدى الرسائل ويفتحها — للتسلية كما قال الموزع — غير أنه يُفاجأ بأن الرسالة من فتاةٍ إلى خطيبها تطلب إليه الانتظار في محطة السكة الحديد، حيث تصل في قطارٍ بعد الظهر. ويحيط الشاب كلًّا من الحلاق والموزع بمحتوى الخطاب، فينصحانه بالتوجه فورًا إلى المحطة واستقبال الفتاة. ويدهش مرةً أخرى، ولكنه يذهب ويعود بالفتاة وحقيبتها في يده، وتنطفئ دهشة الفتاة حين يقول لها «أهل البلد» — وهم الحلاق والموزع والشاب — إن تصرفها سليم، وإنهما ما داما مخطوبين فلا بد من إحضار المأذون. وينضم للقافلة ضابط إيقاع حَسِبه الجميع في البداية شرطيًّا سريًّا يستفسر عن سر هذا التجمهر، وتتسع دائرة الزفة بتجمع الأهالي «في زياط محموم وغناء ورقص مجنون، وهم ينشدون:

بالطبلة والمزمار والرقص
وندور الدنيا بالعكس
نلقاها تمشي بالمضبوط
إن كنت عاقل أو معبوط
المسألة كلها واحدة
ويلله نرقص على الواحدة.»

تلك هي رؤية الحكيم للفوضى المخيفة التي ألمَّت بحياتنا قبيل الهزيمة وبعدها، وهي الفوضى التي التقط لها صورة كاريكاتورية من أسفل درجات البناء الاجتماعي، لا ليقول إن «الشعب» الكادح المطحون فوضويٌّ بطبيعته، وإنما ليقول: هذه اللقطة هي انعكاسٌ حادٌّ للنظام الذي يرمز إليه بساعي البريد، لقد أصبح غير الممكن ممكنًا منذ لحظة «خرق النظام» التي أقدم عليها الموزع، لم يعد مستحيلًا أن تتزوج الفتاة من شابٍّ لا تعرفه، وأصبح محتملًا أن يشق الحلاق رأس الزبون كالبطيخة حتى يرى ما إذا كانت قرعاء أو حمراء، ولم يعد غريبًا أن يشترك الجميع في الزفة، أي إن «الكل» مشاركٌ في الفوضى المروعة، وأصحاب المسئولية عن المقدمة هم بأنفسهم ضحايا النتيجة، هذه هي الاستقامة المنطقية الوحيدة التي يمكن اكتشافها بين ركام عالمٍ بلا منطقٍ.

•••

من ركائز «الفوضى المخيفة» في رؤيا توفيق الحكيم لتلك المرحلة الحرجة من تاريخنا الحديث؛ غياب العدل. ويلجأ الفنان إلى التراث الشعبي في «مجلس العدل»،١٩ مُعتمدًا إحدى حكاياته المتداولة شفهيًّا فقط، مما يدل على أنها سارية المفعول في الضمير القومي بوحيٍ من تعبيرها المكثف عن أزمة الإنسان المصري مع العدل، بين شكله ومضمونه. ولم يفعل الحكيم أكثر من أنه أعاد صياغة الحكاية الشعبية المتوارثة في لغةٍ مكتوبةٍ، ربما لأول مرةٍ. وتقول الحكاية فيما يروي الحكيم إن معاهدةً خفيةً بين فرَّانٍ وأحد القضاة كانت السبب في هذه المجموعة من المشاهد الهزلية التي تؤدي إلى نوعٍ من السخرية الفاجعة. لقد ذهب أحد المواطنين بإوزَّة إلى الفران بغية تحميرها، فما كان من الفران إلا أن أكل نصفها وأرسل النصف الآخر — كعادته — إلى القاضي. فلما جاء صاحب الإوزة ادعى الفران أنها «طارت»، فثارت مشاجرةٌ عنيفةٌ بينهما، تدخَّل لفضِّها بعض المارة، ولكن الفران أصر على أن يذهب إلى المحكمة، وبالمنطق المجرد تمكَّن القاضي من «إقناع» صاحب الإوزة بأن الله قادرٌ على كل شيءٍ، على تطيير الإوزة مثلًا، كما أنه لا يستطيع أن يثبت ملكيته لجدة الإوزة التي طارت، والتي ربما كان الفران صاحبها كما يقول، ومن ثم فهو مخطئٌ في حق الفران باتهامه ظلمًا بالسرقة، وعليه، لا بد وأن يدفع جنيهًا غرامةً. ويتقدم بعدئذٍ رجلٌ من المارة حاول أن يفرق بين المتشاجرين، فنال لكمةً في وجهه فقأت له إحدى عينيه. وبالمنطق المجرد — مرةً أخرى — يقنع القاضي المواطن المصاب بأن العين بالعين، وأنه الآن لا يملك سوى عينٍ واحدةٍ، فعينه التي ضاعت في حكم العدم، وعليه إذا شاء أن يفقأ عينًا للفران مقابل عينه الوحيدة الباقية. من الطبيعي أن يرفض الرجل هذا الحكم، فيكون نصيبه التغريم جنيهًا، ثم يتقدم زوجٌ مع زوجته التي كانت حاملًا منذ دقائقَ، ولكن رفسة من الفران أجهضتها. وبالمنطق المجرد — مرةً ثالثة — يشكك القاضي الزوج في علاقته بالحمل، فيشتبك مع زوجته في «خناقة» تتصل بالرجولة والخيانة، ولكن القاضي يتطوع بفضِّ المشاجرة، ويقدم اقتراحًا «منصفًا»، هو أن من أفرغ بطنها عليه أن يملأها، وحينئذٍ يتنازل الزوج وزوجته عن الدعوى. غير أن القاضي لا يعتقهما، ويحكم عليهما بالغرامة المقررة جنيهًا. ويحاول فلاحٌ كان قد أتى بحماره الذي نزع الفران ذيله أثناء المعركة مع صاحب الإوزة أن يهرب بجلده بعد ما سمع وما رأى، فلا يتقدم بشكواه، ولكن القاضي يستدرجه إلى القول بأنه جاء إلى المحكمة ليتفرج، وهكذا فعليه أن يدفع الغرامة كالآخرين. وتنتهي الجلسة بحصيلةٍ لا بأس بها من الغرامات يقتسمها القاضي والفرَّان.

وليس من شكٍّ من أن الحكيم قد اعتمد على الحوار الذكي في استخراج اللامنطق من قلب المنطق، واللاعقلي من جوف العقل، بذلك كان يضرب عصفورين بحجرٍ واحدٍ، كان يضرب المضمون بالشكل من ناحيةٍ، وكان يضرب النتيجة بالمقدمة، الشكل هو القانون، والمضمون المفترض هو العدل، ولكن القانون ليس نصًّا جامدًا، وإنما هو خلاصة تجربةٍ إنسانيةٍ تتفاعل سلبًا وإيجابًا مع «الإنسان» الذي يتحرك بهذه الخلاصة في اتجاه التقدم أو في اتجاه التخلف، لا يكفي القول مثلًا بأن القاضي في الحكاية الشعبية مجرد نموذج للمسئول المنحرف، وإنما يجب أن نتأمل أسلوب الحوار الذي اختاره الفنان بين القاضي وجمهور المتقاضين. إنه يستغل منذ البداية ميراثًا عميقًا في النفس المصرية، كالإيمان المطلق بقدرة الله، والفهم الخاص لفكرة العين بالعين وقضية الشرف، هذا الميراث الأخلاقي كان المقدمة الجاهزة التي بدأ منها القاضي لعبته الشكلية في الحوار المجرد، وكانت النتيجة هي امتداد حتمي لهذه القضية، بعد أن أضاف إليها القاضي حذلقته ومهارته في تفريغ الشكل من محتواه، تفريغ القانون من العدل، تفريغ «خلاصة التجربة الإنسانية» من تعبيرها البشري عن التقدم. هكذا لا يهاجم الحكيم، هنا، نموذجًا فرديًّا شائهًا، كالقاضي أو الفران، ولا هو يهاجم القانون كقانون، وإنما هو يحلل طبيعة العلاقة بين الإنسان والعدل من خلال ذلك الميراث السلبي الذي يسمح بتحول الجلاد إلى ضحيةٍ، والبريء إلى متهمٍ. وتلك هي دلالة اختياره للتراث الشعبي مصدرًا لهذه التمثيلية القصيرة، وكأنه يود الإشارة إلى أن اتصال هذا التراث داخل النص وخارجه هو أحد أسباب هذه الفوضى الحتمية التي يشارك فيها الجميع. إن «مجلس العدل» لا تناقش مشكلة العدل الاجتماعي، بقدر ما تناقش مشكلة العلاقة بين القانون والقيم، والبشر في هذه التمثيلية ليسوا رموزًا لأنماطٍ محددةٍ خارجها، هذا التبسيط للأمور أبعد ما يكون عن البساطة التي ينشدها الحكيم، لتلمس أبعاد الفوضى المخيفة من صميم الواقع الحي لشعبنا.

٤

لم تكن المرة الأولى التي يصعد فيها توفيق الحكيم إلى القمر، ليرى الأرض من هناك، كانت «رحلة إلى الغد» رحلته الأولى إلى الأرض عن طريق القمر، وكانت رحلة الفزع من العلم والعقل إذا كانت المشاعر والعواصف الإنسانية مصيرها المحتوم في عالمٍ تحكمه أنابيب الاختبار. وقد تطورت رؤية الحكيم للعلم والمجتمع منذ ذلك الوقت، حتى إننا رغم التحفظات التي يمكن أن نحصيها على مسرحيته «الطعام لكل فم»، فإننا لم نغفل عن وجهها الإيجابي المؤمن بالعلم طريقًا للخلاص من الفقر. وكانت أهم التحفظات هي أن هذا الحلم المثالي القائل بأن العلم سيوفر لملايين البشر حاجاتهم المادية رغم ثبات رقعة الأرض الزراعية بتصنيع الماء والهواء، لن يتحقق دون صراعٍ اجتماعيٍّ هائلٍ، وقد تجاهل الكاتب آنذاك الخريطة الطبقية للعالم، ومن ثَم التقت لديه المثالية في التفكير مع التجريد في التعبير، وأثمر هذا اللقاء رؤيا طوباوية لا تستطيع أن تسهم جديًّا في حل القضية المطروحة للبحث.

في تمثيليتيه القصيرتين الجديدتين «تقرير قمري» و«شاعر على القمر»،٢٠ لا يتخلى توفيق الحكيم عن إيمانه العميق بالعلم، ولكنه يضيف إليه البُعد الغائب، البُعد الاجتماعي. في «تقرير قمري» لا يجرد الفنان الصراع المحتمل بين العلم والإنسان، وإنما هو يركز منذ البداية على الوظيفة الاجتماعية للعلم والموقع الاجتماعي للإنسان، فالعلم قد يكون وسيلة الإنسان للدمار، ولكن العلم حينئذٍ ليس هو المسئول؛ لأنه لدى إنسانٍ آخر قد يكون وسيلته لقهر التخلف والفقر والخوف. هكذا يختار الفنان كلًّا من الولايات المتحدة والصين الشعبية كنموذجين متعارضين اجتماعيًّا، ومن ثَم فهما متناقضان في توظيف العلم وتحديد غاياته. تستغل بعض الكائنات القمرية فيما يتخيل الحكيم، فرصة هبوط رائدَي فضاء على سطح مملكتهم، ويتسلل اثنان منهم إلى المركبة القمرية العائدة بالرائدين إلى الأرض. ولن نتجشم عناءً كبيرًا حين نتعرف من طبيعة البقعة التي عادا إليها وتكوين الشخصيات ودرامية الموقف أننا في الولايات المتحدة، بين أحد قادتها العسكريين وأحد قادتها السياسيين، وهما مشغولان بحركة السخط المتزايدة بين الشباب. ولكن حدثًا خطيرًا يقع، هو أن عالمًا صينيًّا في أمريكا يزمع العودة إلى وطنه، وعودته في حد ذاتها لا تهم، ولكنه يعود وقد اكتشف اختراعًا يشبع حاجة مواطنيه إلى الطعام. ويتابع الكائنان القمريان اللذان لا يراهما أحد الحوار الغريب عليهما بين السياسي والجنرال، وبينهما وبين الصيني برثاءٍ بالغٍ ودهشةٍ ممزوجةٍ بالأسف والأسى لحال البشرية. إن ما يهم الصيني هو أن يحمي بلاده التي يسكنها في القريب ألف مليون إنسانٍ من عائلة الفقر والجوع، وحين يحتج السياسي والقائد الأمريكيان بأن هذا الاكتشاف الذي يمكن تطبيقه في الصين وغيرها من أرجاء المعمورة، من شأنه أن يقضي على ألوف المصانع والمزارع في بلدهما، يجيب الصيني على هذا المنطق بأن هذه الحجة رددها أصحاب السفن الشراعية عند اكتشاف الكهرباء، مشيرًا بذلك إلى أن تقدم العلم — من أجل تطور الحياة ورفاهية البشر — لن يتوقف، ولكن السياسي والقائد الأمريكيين يكاشفان العالم الصيني بأن اختراعه يعني بالضبط تدمير نظام بلدهما، ويفجر تكوينه الاجتماعي، ويحطم هيكله الاقتصادي، ويلغي أسلوبه السياسي، فالنظام القائم على الصراع الطبقي داخل المجتمع وخارجه لن يحظى بمقومات البقاء إذا ساد الاكتشاف الصيني، ويشرعان في مساومة العالم الصيني، فيذهله تصورهما عنه، إنه لا «يبيع» اختراعًا، وإنما هو يسدد دينًا لوطنه وللإنسانية وللحياة بأَسرها، لكونه مواطنًا وإنسانًا، وحين يفهم السياسي والقائد الأمريكي أن الاكتشاف ليس مكتوبًا في أوراقٍ يمكن أخذها منه بالحيلة أو التهديد، وإنما الاكتشاف في المخ، يسلمانه لأحد الحراس بغمزة عينٍ هي إشارة القتل، ويهمس كائنٌ قمريٌّ بصوتٍ لا يسمعه أحدٌ: «إن رجلًا يريد أن يطعم الجميع هنا على الأرض، فأخذوه وأعدموه.»

ولا تقف محاولةُ الحكيم في «تقرير قمري» عند هذه الرؤية الجديدة لوظيفة المعلم التي تختلف من نظامٍ اجتماعيٍّ إلى آخر، وإنما هو يربط هذا النظام المعادي في جوهره للعلم، وظاهرة السخط العارم بين الشباب الأمريكي. وكانت مقدمة التمثيلية القصيرة حوارًا بين القائد والسياسي حول الفرق بين ابن القائد المنضم إلى إحدى جماعات الشباب المتمرد، وابنة السياسي التي يسود التفاهم بينها وبين أبيها، وتبدو قصة إعدام العالم الصيني كجملةٍ عرضيةٍ بين المقدمة والخاتمة، التي نرى فيها الفتى والفتاة وهما يستأنفان الحوار الذي دار منذ قليلٍ بين والديهما. ويتابع الكائنان القمريان بقية الحوار، ونلاحظ أنه بينما استطاع الحكيم أن يضع كلتا يديه على جراح الإنسانية المعاصرة فيما يتصل بقضية الصراع الطبقي على العالم، فإنه لم يستطع أن يرى بوضوحٍ كافٍ قضية صراع الأجيال في الغرب، وخاصةً في الولايات المتحدة. ولا شك أنه تمكَّن من تبيُّن الإطار العام للمشكلة، حين تساءل الفتى — ابن القائد — لماذا يدفعه أبوه وأمثاله من العسكريين والسياسيين إلى خوض حربٍ قذرةٍ، و«لماذا يذهبون بنا إلى شعبٍ آخر لنهدم مجتمعه ومذهبه الذي اختاره لنفسه، إنهم ينفقون الأموال خارج «مجتمعنا» في حروبٍ عقيمةٍ، ويتركونه للفساد والتحلل والفقر»، «إن هذا المجتمع المنحلَّ هو ملك لحفنة من الشركات العظمى وطبقة من رجال المال والأعمال يستأجرون عقل والدك وبراعته السياسية، وسيف والدي وخبرته الحربية، لحماية مصالحهم وأرباحهم»، وهم يراكمون ثرواتهم الخيالية «من عرق شعوبٍ أخرى تكدح في سبيل لقمةٍ.» ويرى الفتى على لسان توفيق الحكيم، أو أن الحكيم يرى على لسان الفتى أن السلاح الوحيد الذي يملكه الشباب هو أنفسهم، فهم الأدوات التي يحقق بها مصَّاصو دم الشعوب أحلامهم في المستقبل، ومن ثَم، فعلى الشباب أن يحطم هذا المستقبل بتحطيم نفسه، بانتحاره الجماعي: «نعم … انتحارنا جميعًا … نحن الشباب … انتحار مستقبل بأكمله يصنعه مجتمعٌ موبوءٌ … خيرٌ لنا أن نختار بأنفسنا نهايتنا من أن يختاروها لنا في حروبٍ نقتل فيها الأبرياء.» وتقتنع الفتاة بمنطق الفتى وتنضم إلى قافلة التمرد، ويصعد الكائنان القمريان بتقريرهما عن هذا المجتمع الموبوء الذي يرسل إليهم بين الحين والآخر رجلًا أو أكثر ينشغل بجمع الحصى والأحجار والتراب القمري، دون أن يفكر الذين أرسلوه في مهمةٍ أكثر فائدةً، وهذا هو موضوع «شاعر على القمر»، حيث يعود الحكيم إلى قضية العدل، حين يتصور هذا الشاعر أن هذه الأحجار التي يجمعها رائدا الفضاء من الكنوز التي ستجرُّ الويلات على البشرية، فيقول: «لو كانت هذه الثروات ستُوزَّع على أهل الأرض جميعًا لكنتُ معكم … ولما وقفتُ هذا الموقف … ولكن هذه الثروات سيُحرَم منها أكثر أهل الأرض، وسيظلون كما هم في جوعهم … بينما تَتخَم بها بطونٌ، وتزداد قوةً وسيطرةً.» هذا التصور الصحيح لمنطق الرأسمالية والاستعمار لم يؤدِّ إلى تصورٍ مماثلٍ لقضية الشباب في الغرب، حيث تجيء «رؤيا الانتحار» حلًّا سلبيًّا، لا يمكن أن يكون هو موقف الشباب الأوروبي والأمريكي من أخطر قضايا العصر.

لذلك يعود توفيق الحكيم إلى القضية ذاتها في مقاله القصصي الطويل «قضية القرن الحادي والعشرين»،٢١ يحاول أن ينظر إلى القضية من زاويةٍ جديدةٍ، فلربما يستخلص معنًى آخر لحركة الشباب كان غائبًا عن رؤياه الأولى، وتبدأ هذه القصة التقريرية أو هذا التقرير القصصي بأن صحفيًّا أمريكيًّا قد استطاع أن «يلف» دماغ الحكيم، فأغواه برحلةٍ سريعةٍ إلى الولايات المتحدة؛ ليرى على الطبيعة ما يسمع عنه مجرد السماع، فقد يغيِّر من رأيه القائل «إن العالم يكره أمريكا لأنه يراها المسئولة اليوم عن إشعال الحروب، حيثما ذهبت في آسيا وأفريقيا، في الشرق الأقصى والشرق الأوسط تجد علبة الثقاب في أصابع أمريكا تلعب بها أو تحل بها مشكلاتها، تاركةً الدخان يلبِّد سماء السلام». ويتصادف وصول الحكيم لنيويورك مع انشغال الأمريكيين بقضية الموسم على حد تعبير الصحافة الأمريكية، وهي تصف محاولة أربعة من الشباب نسفَ تمثال الحرية أو نقله من مكانه، أو التهديد بذلك فيما قال المدعي العام والمحامون والشباب أنفسهم. شابان وفتاتان تخرجا في أرقى الجامعات بأرفع الدرجات، وعمل الأربعة في أحسن الوظائف، ولكن الحرب الأمريكية في فيتنام جمعت بينهم بإحدى الوحدات العسكرية. وهناك في أتون هذه الحرب القذرة اكتشفوا الوجه الدميم للحضارة الأمريكية، وفساد النظام الأمريكي بأكمله ومن جذوره، وقرورا فيما بينهم أنهم عند عودتهم لا بد من أن يشاركوا في الثورة على هذا المجتمع، وكانت حيلتهم — كما تروي القصة — أن يمثلوا مسرحية نسف التمثال دون الإقدام على ذلك، لمجرد أن تصل كلمتهم عن طريق المحكمة إلى كل الآذان والعقول والعيون والقلوب؛ حتى تحس وتشعر وتفكر في المستقبل المظلم لأمريكا، إن هي مضت في طريقها الاستغلالي الدموي المتخلف.

بين مشاهد المحاكمة ومشاهد الحياة في الولايات المتحدة، كان الراوي يلتقط أنفاسه ليسجل ما يراه من مظاهر «مجتمع الاستهلاك الذي يقولون عنه، ساقيةٌ بشريةٌ تدور طول يومها لتصب عرقها في مجرى نبعها، هكذا إلى غير نهايةٍ. وهذا النبع الدائم الذي لا ينضب معينه، أين تذهب حصيلته؟ هنا المسألة!» والمحاكمة تجيب على لسان المتهم الأول من الشباب الأربعة، وكان يعمل في شركة احتكارات الصلب، فتبين له خلال عمله بالقسم المالي والتجاري أن هناك جسرًا قويًّا بين الشركة والبنتاجون، وبدأ يفهم لماذا تقوم الحروب، «وعندما أرى أكثر من مائة ألف دولارٍ قيمة عقود يمنحها العسكريون للشركة، وهي صاحبة نفوذ في الحكم، يصبح من السهل معرفة صاحب المصلحة في الحروب» التي يموت فيها مئات الألوف من الشباب الأمريكي، والملايين من الأطفال والشيوخ والنساء في آسيا. وعندما يهدده المدعي العام بسؤاله عما إذا كان يعلم أن نظام الحكم في البلاد هو النظام الديمقراطي، يستكمل الشاب تصوره وتصويره للبناء الاجتماعي والسياسي القائم على الاحتكارات الكبرى، بقوله إن الاحتكاريين والعسكريين هم «الأصابع داخل قفاز الديمقراطية المطاط»، وإنه حين سأل: لماذا لا تُترك آسيا للآسيويين، كان الجواب: لا نريد استقلالهم الاقتصادي؛ لأن ذلك «معناه انهيار اقتصاد الاحتكارات التي تتضخم بما تستنزفه من دم آسيا وأفريقيا وطعام الآسيويين والأفريقيين». والشاب الأمريكي يدرك إدراكًا عميقًا أن شعوب العالم الفقير المتخلف لن تلقي السلاح في وجه الاحتكارات الأمريكية، وستظل نيرانها تحصد أرواح الشباب الأمريكي ما لم يتغير نظام الولايات المتحدة من أساسه، هذا النظام المعادي للكرامة الإنسانية، ولمستقبل الشعب الأمريكي نفسه، ولروح القرن الحادي والعشرين، لا بد من تدمير أفكاره، وعند هذه النقطة يركِّز الحكيم تركيزًا واضحًا على رفض الشباب لأسلوب العنف، واختياره الحر لأسلوب الصراع الفكري، وهم في هذا الصدد يستنكرون جرائم القتل التي يُقدِم عليها بعضهم باسم السخط والتمرد، ويرون في مظاهر حركة الهيبز تشويهًا لحركة الشباب، ولكنه تشويه قصدوا به التضحية بأنفسهم من أجل المستقبل وأجياله الأكثر نقاءً، كذلك فإن مَن يكافحون حركات الشباب يملكون أجهزة الإعلام التي تضخم في «مباذل» الهيبز، سواء من ناحية تعاطيهم المخدرات أو ممارستهم العلنية للجنس، هذه كلها قشورٌ سطحيةٌ تغطي جوهرًا أعمق، هو «بذرة الثورة»، فكما مهدت بعض الأفكار للثورة الفرنسية التي هزَّت بناء المجتمع الإقطاعي، وكما مهدت الأفكار الثورية الاشتراكية التي هزَّت بناء المجتمع الرأسمالي، كذلك فإن بذور الثورة الاجتماعية التي يقودها الشباب الأمريكي ليست أكثر من أفكارٍ لم تتبلور بعدُ، ولكنها سوف تنبت وتزهر وتثمر في الوقت المناسب مجتمعًا جديدًا جديرًا بالقرن القادم، مجتمعًا خاليًا من الاستغلال والاستعمار، من الفقر المدقع والثراء الفاحش، مجتمعًا قيمة القيم فيه هي الحرية الحقيقية، وعمادها العلم والعمل. ومن الطبيعي أن يقود التركيز على «تغيير الأفكار» كأساسٍ لتغيير المجتمع إلى ضرب المَثل بغاندي وثورته السلمية على الإمبراطورية البريطانية، وإن فلسفة غاندي ليست فلسفةً هنديةً خالصةً، وإنما هو قد استمدَّها بدوره من تولستوي، وبالتالي فهي قابلةٌ للتطبيق — روحًا لا نصًّا — في أي مكانٍ من عالمنا، فلسفة المقاومة السلميَّة لا السلبيَّة.

ويفسر الشابُّ — في جوابه على أسئلة المدعي العام — ظاهرة الوحدة العالمية لثورة الشباب المعاصرة بأن الإحساس الشديد بالعصر هو الذي يربط الأمريكي بالأفريقي بالآسيوي، «وسيقضي هذا ولا شك على التفرقة العنصرية والاجتماعية في المستقبل». وترى زميلته أن «الخطأ الوحيد في نظرنا هو السكوت على أخطاء العصر»، وتطور فكرة زميلها عن العنف، وكان قد اكتفى بإدانة هذا الأسلوب كطريقٍ إلى الثورة الشاملة، أما هي فترى العنف «يأتي من وجود اعتراضٍ مضادٍّ للثورة، أي قوة تقف في وجه إرادة التغيير، وتعمل على صدها بالعنف، فلا تجد الثورة بدًّا هي الأخرى من شق طريقها بنفس العنف، إن العنف يولَد من العنف»، ولكنها مع هذا لا تبتعد كثيرًا عن دائرة التغيير الفكري للمجتمع المخدَّر بشتى ألوان المخدِّرات، وهو المجتمع الذي يصب جام غضبه على تعاطي فريق من الشباب للمخدر، وينسى أولًا أن الكبار والشيوخ أكثر تعاطيًا للمخدر، وهم صنَّاعه وتجَّاره وزرَّاعه، وينسى هذا المجتمع، ثانيًا، أن المخدرات الحديثة، كالأمجاد الإمبراطورية والأحلام العسكرية، هي أخطر على الغالبية الساحقة من المواطنين، ومن ثَم فهو يحتاج إلى هزةٍ فكريةٍ عنيفةٍ أشبه بالصدمة الكهربائية لمراكزه العصبية، ويصطنع الكاتب حيلةً فنيةً يجسم بها أشكال هذه الصدمة، وذلك حين يفاجئ المدعي العام هيئة المحكمة والمحامين بشاهدٍ مثيرٍ، هو قسيسٌ، ذهبت إليه المتهمة مع زميلتها وطلبتا منه أن يعقد قرانهما، فما كان منه إلا أن رفض وأبلغ الجهات المسئولة، ولا تنكر الفتاة الاتهام الجديد، رغم دفع محاميها بأنه اتهامٌ خارج القضية، لا تنكر، وإنما تناقش في هدوءٍ جذور المسألة: لقد كان المجتمع فيما مضى قائمًا على التناسل والمزيد من التناسل؛ لذلك كانت الشريعة والقوانين تنص على أن يتزوج الذكر بأنثى، أما الآن — في مجتمع تحديد النسل — فما هو وجه التحريم لقران لا يؤدي إلى نسلٍ؟ ومن الواضح أن الحكيم هنا لا يدافع عن الشذوذ الجنسي، وإنما هو يضرب المثل فحسب على ضرورة «إعادة النظر في أسباب التشريع»، كما يتصور الأمر الشباب الجديد، بغية بناء مجتمعٍ جديدٍ لا يخشى مناقشة المسلَّمات، ولا يعجز عن التحرر من العادات. إن هذه «التفريعة» ليست أكثر من امتدادٍ لحيلته الفنيَّة الرئيسيَّة في هذا التقرير القصصي، وأعني بها تمثيل أربعة شبابٍ لمحاولة نسف تمثال الحرية، لمجرد أن يصلوا إلى المحكمة، ومن فوق منبرها يبعثون بأفكارهم تجوب الآفاق، كذلك فإن فكرة زواج الفتاتين هي عنصرٌ من عناصر الخطة الفنيَّة المعتمدة أساسًا على أن التغيير الفكري هو الأسلوب الأمثل لتغيير المجتمع: «إذا لم تكن هناك مناقشةٌ حرةٌ للمسلَّمات والعادات، فكيف تنتقل البشرية من مجتمعٍ إلى مجتمعٍ؟ إن الديانات السماوية لم تقم إلا على أساس الدعوة إلى مناقشة المسلَّمات والعادات الراسخة في العهود الوثنية». وليس معنى ذلك أن الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى يعني تجاهل منجزات العصور الماضية، فلا شكَّ أن هذه المنجزات قد احتوت من الإيجابيات ما يقبل الانتقال من عصرٍ إلى عصرٍ: «هناك أشياء عظيمة وجميلة لا بد من صيانتها ونقلها إلى الأجيال الجديدة والعصر الجديد، والقرن الحادي والعشرين»، فالأجيال الجديدة لديها غريزة البقاء الحضاري، وتعرف واجبها في المحافظة على حضارة الإنسان والاستمرار بها في طريق التطور والتقدم «بأسلوب حياتها الجديد، لا بأسلوب حياتكم أنتم»، هذه الأجيال هي التي «ستجرد وتفحص كل منجزات البشرية العظيمة النافعة، لتزيد عليها وتنقلها إلى القرن الحادي والعشرين».

ويبلور توفيق الحكيم قضيةَ الشباب من خلال قضية المجتمع كلِّه، وفي إطار العصر بأكمله، حين يقول بلسان الشاب في مواجهة الادِّعاء: «نريد أن يعرف الناس بصورةٍ حاسمةٍ أنه توجد الآن قضيةٌ … قضيةٌ جديدةٌ … هي قضية القرن الحادي والعشرين … القرن الذي لن يدخله عدوانٌ ولا تفرقةٌ عنصريةٌ أو اجتماعيةٌ أو رأسماليةٌ، قرن الحب والسلام والإخاء الإنساني، وأن الثورة قد بدأت داخل هذا المجتمع العدواني البالي، ولن يقف في سبيلها شيءٌ إلى أن تظهر بشائر المجتمع الجديد، ونحن نطالب الناس جميعًا من هنا أن يثوروا معنا على الأفكار القديمة التي لا تصلح للحياة في عالم الغد، وأن يُعدِّوا أنفسهم لتقبُّل التغيير الذي لا بد من حدوثه، وإلا جرفتهم الأجيال الطالعة من نفايات القرن المغتصب».

وأيًّا كانت التحفظاتُ التي يمكن أن نسوقها على أفكار الحكيم حول مقومات حركة الشباب الأمريكي من حيث أساسها الاجتماعي وبناؤها الفكري، وكذلك التحفظات التي يمكن رصدها على تحليله الجذاب وتجسيداته الفنية التي تسودها المباشرة والتقريرية، فإن ما لا ريب فيه هو أن الحكيم يقف بصلابةٍ وثباتٍ في دائرة حركة التحرر الوطني، والتقدم الاجتماعي للشعوب في مواجهة المعسكر الاستعماري بقيادة الولايات المتحدة، كما أنه يقف بشكلٍ عامٍّ إلى جانب حركات الشباب المعادية لهذا المعسكر، وأنه — وهذا هو المهم — كان يحوم حول هذه القضايا لانعكاساتها الحادة والشديدة الوطأة على التطور الاجتماعي في بلادنا، إنه لم يختر «أمريكا» عبثًا، فهو يعي مدى ما تعنيه بالنسبة لشعبنا، ولم يختر حركة الشباب هناك عبثًا، فهو يعي مدى ما تعنيه بالنسبة لشبابنا. إن توفيق الحكيم لم يقصد أن يكتب مقالًا «عالميًّا» عن أمريكا وشبابها، وإنما كان يرسم ديكور العصر ورائحته النفَّاذة، تمهيدًا لإحضار الممثلين من عمق أعماق أرضنا وأحشاء مجتمعنا، مما نطالع وجهًا له في تمثيليتيه عن «الحمير».

•••

لم ينشر توفيق الحكيم من مجموعة «الحمير» سوى اثنتين يفصل بينهما عامٌ وثلاثةُ أشهرٍ، ولا تزال هناك قطعتان لم يتيسر لهما النشر إلى الآن. أما التمثيلية الأولى فعنوانها «سوق الحمير»،٢٢ وفيها يستعيد عاطلين كنا قد تعرفنا على بعض ملامحهما في «بنك القلق»، ولكنه هنا يجردهما من ملامحهما الاجتماعية الخاصة؛ ليبرز معنًى أساسيًّا لا علاقة له بالسمات الشخصية، ومع هذا، فإنه مما يدعو إلى التأمل حقًّا هو تركيز الكاتب على صفة البطالة من ناحيةٍ، وصفة الشباب من ناحيةٍ أخرى، وقضية الحرية من ناحيةٍ ثالثةٍ، وذلك في «بنك القلق» و«سوق الحمير» على السواء. والقالب الفانتازي مشتركٌ أيضًا بينهما، إلَّا أنه يميل إلى التجسيم والإيهام بالواقعية في المسرواية، بينما يميل إلى التجريد المطلق في التمثيلية. عاطلان يرتديان ملابس رثَّة يحسدان حمير السوق على أنها تجد ما تأكله، وأنها ترفع صوتها دون أن يقف في سبيلها أحدٌ. هذه هي المقدمة «الواقعية» للإطار الخيالي الذي دلف منه الحكيم، ليصوغ بعدئذٍ المفارقة الدرامية — الهزلية الفاجعة في آنٍ — حين يبدأ الحوار بين العاطلين هكذا:

– «… الحمير دي جنس متحضر.

– بتقول ايه؟! … متحضر؟!

– عمرك شفت حمير برية … فيه خيول برية وجاموس بري وحمام بري وقطط برية … لكن الحمير طول عمرها عايشة بيننا … تشتغل وهي ساكتة وتتكلم بحرية.

– بحرية؟!

– قصدت بصوت عالي.

– بمناسبة الصوت العالي، تقدر تقول لي احنا مش عارفين نعيش ليه حضرتي وحضرتك؟

– علشان حضرتك وحضرتي مفلسين.

– ومفلسين ليه؟

– علشان ما حدش سائل عنا … لو كان لنا سوق زي سوق الحمير ما كنا لقينا اللي يشترينا.

– وما حدش يشترينا ليه؟

– لأننا بضاعة محلية.

– وماله؟

– لا … الفلوس لازم تندفع في بضاعة بلاد بره.

– ما تيجي نعلن عن نفسنا.

– بإيه؟

– بصوتنا.

– ما يطلعش.

– وايش حال صوت الحمير طالع؟

– لأنها زي ما قلت لك جنس متحضر.»

تلك هي المفارقة الفنية التي صاغها الكاتب منذ البداية، وهي تنطوي على الإيحاء الفكري الواضح، دون أن تتنازل عن وظيفتها الدرامية في جدل الواقع والخيال ضمن ضفيرةٍ واحدةٍ، إننا نتابع الأحداث بعد هذا الحوار، وقد تمكن العاطلان من إقناع أحد الفلاحين بأن أحدهما «حمارٌ مسخوطٌ»، وكان الفلاح قد اشترى حمارًا من السوق، فشاغله العاطل الأول، بينما فك العاطل الثاني عقدة الحبل المربوط في عنق الحمار، ووضع رأسه بدلًا منه، وأخذ الآخر الحمار ومضى. ويضرب الحكيم هنا عصفورين بحجرٍ واحدٍ، فالخرافة الشعبية القائلة بالتناسخ أو المسخ أو السخط، هي التي أقنعت الفلاح الفقير بأن الحمار الذي اشتراه منذ دقائق، قد عاد إلى أصله الإنساني حسب حكاية «حصاوي»، وهذه الحكاية من ناحيةٍ أخرى تقول إن حصاوي كان ابنًا لأسرةٍ كريمةٍ، ثم دب خلافٌ بينه ويبن أبيه الذي رفض أن يزوجه ممن يحبها، وحين أصرَّ الابن على موقفه سخطه الأب حمارًا بدعوةٍ كانت لها أبوابُ السماء مفتوحةً، وهكذا يستغل الفنان إمكانيات الخرافة الشعبية في إدانة وجهها الغيبي، وفي استغلال طاقتها الفانتازية لصياغة العمل الفني، المهم أن الرجل اصطحب حماره الآدمي أو إنسانه الحمار إلى المنزل، وحاول بقدر ما يستطيع أن يقنع زوجته بأن الله أكرمه وأعاد آدميَّة الحمار المسخوط على يديه. وبعد نقاشٍ طويلٍ حول أيهما أنفع، الحمار أو البني آدم، يسلِّم الفلاح وزوجته بالأمر الواقع، وتُتاح للعاطل فرصة الأكل والشرب، فيستلذ اللعبة، ولكنه لا ينسى أن له عقلًا، فيتدخل في شئون الفلاح وزوجته تدخلًا يستفز المرأة ويحير الرجل، فكلامه معقولٌ ولكنه يهدد مصاغ الزوجة الذهبي مقابل زيادة المحصول وتأمين البذور، عندما يثور الشغب في أركان المنزل بسبب عقل الحمار البشري، الذي يصرُّ أن له رأيًا في هذا وذاك من الأمور، تطلب المرأة من زوجها أن يلزمه حدوده، وهي الحظيرة. وفي هذا الوقت يعود رفيقه بالحمار الحقيقي الأصلي، ويخبره بأنه عثر على عملٍ مشتركٍ في مزرعةٍ ظن أصحابها أنه رجلٌ مهمٌّ ما دام يملك حمارًا، ويربطان الحمار في الحظيرة ويمضيان إلى حال سبيلهما، ثم يكتشف الفلاح وزوجته أن الآدمي عاد حمارًا، فيتهللان ويشكران الله على كل شيءٍ.٢٣

وبالرغم من أنه ليس هناك أصلٌ شعبيٌّ لهذه التمثيلية، فإن قالب «الحدوتة» هو الإطار الفني الذي آثره الحكيم لبناء هذه الفكاهة الفانتازية اللاذعة؛ فالإنسان يحلم بأن يكون حمارًا ليأكل ويصيح «بحرية»، فإذا تحقق الحلم يصبح «العقل الإنساني» مشكلته من جديدٍ، وهي المشكلة التي لا تُحَل بالحصول على عملٍ في مزرعةٍ، يظن أصحابها أن العاطل يملك حمارًا، فالنهاية التي اختارها الحكيم هي خاتمةٌ حدوتية، ولكنها ليست خاتمة المهزلة التراجيدية التي بدأت بحلمٍ يقول إن الحمير جنسٌ متحضرٌ، تعمل بهدوءٍ وتتكلم بحريةٍ.

ولا ترتفع تمثيلية «حصحص الحبوب»٢٤ إلى مستوى التمثيلية الأولى، فرمزها صغيرٌ ودلالتها جزئيةٌ، وفيها يذهب أحد الوجهاء بحماره إلى إحدى المدارس الابتدائية الأهلية، فيقنع ناظرها وسكرتيرها بقبول حماره حصحص تلميذًا بالقسم الداخلي، ولأن الناظر يحتاج إلى النقود بأية وسيلةٍ، فإنه يَقبل التلميذ، ولكن حاجته إلى النقود تدفعه إلى بيعه، وحين يجيء الوجيه لتسلم «ابنه» في نهاية العام، يخبره الناظر بأنه قد تخرَّج وأصبح مديرًا لشركة العلف المجاورة، وهي الشركة الطامعة في شراء المدرسة الآيلة للسقوط، ويصدِّق الوجيه ويذهب إلى الشركة سعيدًا بأن حماره قد أصبح مديرها، ويُفاجأ المدير بالرجل والناظر وهما يؤكدان أنه كان حمار الوجيه وقد تربى في المدرسة. وتنتهي المفارقة الهزلية — طبعًا — بطرد الوجيه والناظر، غير أن أحدهما تلمح في زاوية فمه ابتسامة خبيثة، بينما تلحظ على الآخر نظرة مذهولة، فقد ربى العزيز الغالي منذ الطفولة وشقي من أجله، وها هو ذا لا يجد منه حين فتح الله عليه وأصبح آدميًّا إلا الجحود والنكران، والسخرية التي استهدفها الكاتب لا تتسع لأكثر من النماذج البشرية التي عرض لها، بينما ترتفع التمثيلية الأولى إلى مستوى الرمز الشامل.

وحول هذا الرمز الشامل تدور ثلاثية «حديث مع الكوكب»، التي وقف فيها الحكيم مواقف محددةً من مجموعة القضايا المثارة في بلادنا على صعيد الفكر والمجتمع والحضارة، وقد تكتشف أن بعضًا من الآراء التي يوردها الحكيم ليست جديدةً على الفكر العربي الحديث، ولكن أهميتها تتأتَّى من أنه هو الذي يتبناها ويدعو إليها. فبالثقل الذي يمثله الحكيم في ميزان ثقافتنا المعاصرة، تكتسب كلماته قوةً ماديةً وسط الجماهير، وخاصةً إذا كانت الأفكار الرئيسية التي تدور من حولها ثلاثية «حديث مع الكوكب» محورًا للصراع المحتدم في وطننا بين قوى التخلف وقوى التقدم، إن الحكيم لا يزال أمينًا للثورة الوطنية الديمقراطية التي تخلق فكره وفنَّه في أوارها، ولكن هذه الثورة قد اجتازت من المسارب والمنحنيات ما جعل خط سيرها يبلغ من التشابك والتعقيد ما يدفع المفكر والفنان إلى القلق العنيف، كذلك فإن الثورة وهي في مسارها تلتقي بالنكسات والهزائم والانتصارات والانكسارات، فإنها لا تتطور بمعزلٍ عن السياق التاريخي للوطن والعالم؛ لذلك تنعكس روح العصر والإيقاع الاجتماعي المحلي على شكل الثورة ومضمونها، فالاستقلال الاقتصادي مثلًا لا يرادف بناء الرأسمالية القومية، وإنما هو يرتبط في الوقت الراهن بالتحولات الاجتماعية العميقة، والاستقلال السياسي أيضًا لا يرادف عدم الدخول في أحلافٍ عسكريةٍ فحسب، بل هو يعني في المقدمة فرز العدو من الصديق، وتحديد التناقض الرئيسي الذي يحكم عالم اليوم، لم يعد أمام الدول الحديثة التحررِ والشعوب التي تناضل من أجل التحرر، إلا أن توائمَ بين مضمون التحرر وشكله وفق مقتضيات العصر الجديد وحركة التطور الاجتماعي للوطن؛ ذلك أن الاستعمار نفسه يكيِّف حضوره وفق هذه المقتضيات، فيتنازل أحيانًا كثيرة عن الاحتلال العسكري والمعاهدات، ويرضى — فقط! — بالارتباطات الاقتصادية التي تملي بدورها القرار السياسي. لم تعد الوطنية إذن مجرد الارتباط الجغرافي بالأرض، وإنما أصبحت القوى الاجتماعية القادرة على حماية البقعة الجغرافية هي مضمون الوعي الوطني، كذلك فإن الديمقراطية لم تعد مجرد المؤسسات الدستورية والانتخابات الشرعية، وإنما أصبحت علاقات القوى الاجتماعية هي التي تحدد الشكل الديمقراطي. وهكذا تنتقل الثورة الوطنيَّة الديمقراطيَّة في بلادنا — على سبيل المثال — من مرحلة ثورة ١٩١٩م، التي تكوَّن في ظلالها وجدان الحكيم، إلى مرحلةٍ جديدةٍ، احتاجت منه إلى إعادة النظر في كثيرٍ من المفاهيم والمواقف، وما استجدَّ على بلادنا من تطوراتٍ وطنيةٍ واجتماعيةٍ قد استحدث من المشكلات الفكرية الحادة، ما يتطلب من الكاتب الوطني الديمقراطي، ما دام مخلصًا لثورته الأولى، أن يتخذ موقفًا حاسمًا من القضايا المطروحة، خاصةً إذا كان الاستقطاب بشأنها هو المجرى الرئيسي للصراع الفكري على أرضنا.

وفي الحلقةِ الأولى من «حديث مع الكوكب»،٢٥ كما في بقية الحلقات الثلاث، يدير الحكيم حوارًا بينه وبين «الأرض»، وهو قد يبدأ الحوار بلمسةٍ قصصيةٍ، وقد يستغني عن هذه اللمسة كما فعل في الحلقة الأولى، إذ اكتفى بأسطرٍ قليلةٍ سرح خلالها بنا إلى جبل المقطم حيث كان يتمشى قليلًا، ثم لفت نظره كهفٌ يشبه المغارة، فدلف إليه، وإذا به يكتشف بئرًا عميقة الغور لا تردد جنباتها صدى الصوت، وإنما هو قد فوجئ بأن صوتًا ثانيًا يرد على كلماته بدلًا من أن يكرر أصداءها، ومن هذه المقدمة الخيالية يلج الكاتب إحدى القضايا التي ظننَّا زمنًا أنها وُورِيت مع الزمن، غير أنها عادت من جديدٍ تلحُّ على كافة مستويات المعرفة في وطننا، بدءًا من الشارع وانتهاءً بالأبحاث العلمية المجردة، مرورًا بقنوات التشريع وبرامج الإعلام والتربية والتعليم، وأعني بها قضية التراث والعصر.٢٦
ولا تفوتنا الملاحظة الأولى على الشكل الفني لثلاثية «حديث مع الكوكب»، فهي رغم حوارها الفكري التقريري، إلا أنها صِيغت صياغةً فنيةً ذات دلالةٍ بارزةٍ، وهي أن الكاتب يتوجه بالحديث إلى «الأرض» بمعناها المادي المباشر، كمصدرٍ وحيدٍ للإجابة على التساؤلات المطروحة على «إنساننا»، أي إن هذا الحوار منذ البداية هو حوار بين الإنسان والأرض، فهما إذن طرفا «المعرفة» المتاحة للبشر في عالمنا، وسوف نلاحظ بعدئذٍ اتساق هذا المعنى مع بقية الأفكار التي يتبناها الحكيم، وهي أبعد كثيرًا عن المنطلق المثالي الميتافيزيقي لأفكاره القديمة. ويكاد هيكل الحلقة الأولى أن يكون مبنيًّا من هذه العناصر؛ مادية الكون، أسبقية المادة على الوعي، جدلية العلاقة بين المادة والفكر، القانون الأساسي للمادة في شكلها الخام وأشكالها المتطورة، والأكثر رقيًّا هو الحركة، أي التاريخ بتفاعلاته الحيَّة الديناميَّة المعقدة، وليس السكون بمعناه الأزلي الأبدي أو السرمديَّة خارج الزمان والمكان. وتلك طفرة ثورية في تفكير الحكيم، رغم أنها ليست جديدةً مطلقًا على التفكير العربي الحديث. وقد كانت بساطة العرض وسذاجة الأمثلة وسلاسة الأسلوب، من العوامل التي مكنت لهذه الرؤية في عقول أوسع الجماهير، ودفعت القوى السلفيَّة المحافظة، قوى الثورة المضادة، إلى اعتبار الحكيم رمزًا رئيسيًّا من رموز الثورة.٢٧ وكان هذا الاعتبار صحيحًا، فلم تكن خطورة المنهج الذي صاغه في الحلقة الأولى من الثلاثية هو اشتماله على العناصر المذكورة فحسب، وإنما كانت صياغته نفسها صياغةً جماهيريَّة أو شعبيَّة، إن جاز التعبير، هي مصدر الخطر؛ ذلك القالب التعليمي السهل أصبح مضمونه في متناول عقل وقلب تلميذٍ صغيرٍ، بالإضافة إلى تطبيقات الحكيم لهذا المنهج في حياته العملية والفكرية على السواء، خصوصًا فيما يتعلق بالمسائل الحية المثارة في الشارع والفكر معًا.٢٨ قضية التراث والعصر مثلًا، كانت واحدةً من هذه القضايا التي نوقشت مرارًا وتكرارًا طيلة النصف القرن الماضي، ولكنها في الأغلب الأعم كانت مناقشاتٍ فكريةً مدارها الآداب والفنون والحضارة، أما الآن فهي تتصل بأدق تفاصيل الحياة اليومية في بلادنا، ومن هنا، فالموقف منها ليس ذهنيًّا بحتًا، وإنما هو موقفٌ سياسيٌّ في المقام الأول.

ولا يزيد الحكيم في الحلقة الأولى من «حديث مع الكوكب» رأيه بشأن التراث والعصر عما سبق أن ذكرناه في مقدمة هذا البحث، ولكني سأورد هنا مقتطفًا أختار له عنوانًا فرعيًّا هو «مسئولية الفكر»، دار فيه الحوار بين الإنسان وأمه الأرض على هذا النحو:

«– حقًّا … إن مسئوليةَ الفكر الإنساني جسيمةٌ!

– وحركة هذا الفكر المستمرِّ هي فرصة الإنسان الوحيدة في الحياة.

– ولهذا تُقاس قيمةُ الأفراد والشعوب وقوتها بمقدار حركة الفكرِ فيها.

– هذا صحيحٌ … ولهذا تختفي حضاراتٌ وتظهر حضاراتٌ، تبعًا لجمود الفكر أو تحركه.

– تقول تختفي؟ أين تختفي؟

– أقصد تُبتلَع … لا شيء يختفي نهائيًّا أو يزول … ولكن كل شيءٍ، ومنها الحضارات، إذا ضعفت وجمدت ابتلعتها حضارةٌ أسرعُ حركةً وأقوى معدةً، فتهضم ما عندها من كنوز، ولا تبقيها إلا نفاية، وتتَّقد هي متورِّدةً سمينة مزدهرة، لتحمل عنها مشعل القوة الإنسانية.

– أليست كلُّ حركةٍ مقترنةً بالاتجاه؟ … فما هو الاتجاه المطلوب لحركة التفكير؟

– الاتجاه إلى الأمام طبعًا … أي التقدم بالإنسان في طريق التطور، إلى الأقوى والأفضل؛ لأن الاتجاه إلى الخلف هو رجعةٌ إلى موضعٍ سابقٍ مرَّ به الإنسان وترَكه، سائرًا مع الزمن المتغير والعصور المتلاحقة، ولا يمكن للغد أن يصبح الأمس، إلا إذا انقلبت دورة القمر حولي ودورتي أنا أيضًا.

– ألا يمكن أن يكون في ماضي الإنسان شيءٌ ذو قيمةٍ يرى من الأفضل له استعادته؟

– هذا شيءٌ آخر … هناك فرقٌ بين الإنسان الراكب في قطار الزمن والعصر، ويريد أن يرجع بقطاره كلِّه إلى محطةٍ سابقةٍ يمكث فيها، وبين الإنسان الذي يستعيد من هذه المحطة الشيء ذا القيمة، وينفض عنه ترابه ويصلحه وينتفع به، وهو سائرٌ بقطار الزمن والعصر في اتجاه المحطات التالية.»

ذلك هو موقف توفيق الحكيم من قضية التراث والعصر، لا يزيد عما ذكرناه من قبل في أقواله التقريرية المباشرة، ولكنه هنا يكتسب بهذا القالب التعليمي المفصَّل بُعدًا جماهيريًّا محققًا، كان له أبعد الأثر في مرحلة الاستقطاب العنيف، التي يجتازها الفكر العربي الحديث في مصر.

وفي الحلقتين الأخريين يقدِّم الحكيم للقائه بالكوكب بقصة زميلٍ قديمٍ، صادفه ذات يوم في المقطم وهو في طريقه إلى المغارة، فراح يروي له سرًّا قديمًا، مؤدَّاه أنه قبل أن يقرر الزواج من خطيبته — وكان مشهورًا بين زملائه بالحياء والتعفف — ذهب مع أحد أصدقائه إلى أحد بيوت الدعارة ليعرف شيئًا عن الجنس الذي لم يكن قد مارسه، وإذا به يُفاجأ بأن المرأة التي اختيرت له هي خطيبته نفسها، وليس هذا هو السر فيما يقول الراوي، وإنما يبدأ السرُّ حين قررت والدته بعد وفاة الده أن تتزوج أحد مرءوسيه، فترك لهما المنزل ولم يعد إلا ذات يوم وصلته فيه برقيةٌ تنبئه بوفاة والدته، عاد هو وأخوه الطبيب ليكتشفا أن أمهما ماتت مخنوقةً، ومع هذا فهما يخفيان الأمر ويتستران على القاتل الذي لا يعرفانه. وتسير الأمور في مجراها الطبيعي، وبعد طول السنين لم تمت رغبة الزميل القديم في معرفة قاتل أمه، رغبة في مستوى الشهوة المحرقة، أن يعرف الحقيقة. ويذهب الراوي إلى بئر المغارة ليسأل الكوكب في الحلقة الثانية: «ما هي الحقيقة؟»٢٩ ووفقًا للمنهج الذي تبنَّاه الحكيم في الحلقة الأولى، نفهم أن الحقيقة المطلقة هي جماع الحقائق النسبيَّة والجزئيَّة التي تتراكم عبر السياق التاريخي، وأن الحقيقة النسبية لا تعني مطلقًا أن لا «حقيقة واحدة» هنالك بالمعنى المفهوم في الفلسفات المثاليَّة، القائلة بأن كل إنسانٍ يرى الحقيقة من وجهة نظره الخاصة التي تغاير وجهات نظر الآخرين، وبالتالي فما قد يراه أحدٌ حقيقةً لا يراه الآخرون كذلك. توفيق الحكيم يرى، أولًا، أن الحقيقةَ لها كيانها الموضوعي المستقل عن الرغبات الذاتية للبشر. ثانيًا، أن نسبيَّة الحقيقة لا تعني أن الحقيقة ناقصةٌ، وإنما تعني أن الحقيقة تاريخيةٌ، فهي مطلقةٌ بالنسبة لمرحلتها، ولكنها نسبية في السياق التاريخي. ثالثًا، أن للحقيقة عدةَ وجوهٍ، «أي مستويات نوعية»، متفاعلة مع بعضها البعض ولكنها متمايزةٌ، كالحقيقة العلمية والحقيقة الفلسفيَّة والحقيقة الفنيَّة والحقيقة الاجتماعيَّة والحقيقة الاقتصاديَّة والحقيقة السياسيَّة، ومن الظاهرة إلى النظرية إلى القانون، يمضي الإنسان في طريقٍ طويلٍ لا نهاية له بحثًا عن حقيقة وجوده. ولأن الواقع الإنساني قابلٌ للمعرفة، فستظل الإنسانيةُ في سعيها الحثيث نحو المعرفة الكاملة تنجز آيات التقدم والحضارة، حتى ولو لم تصل إلى تلك الغايةِ البعيدةِ، التي تكاد أن تكون «الحلم الجمعي للبشرية منذ طفولتها البدائيَّة»، وهو الحلم الذي يجذب الواقع الإنساني من دائرة الممكن إلى حافة المستحيل.
وفي الحلقة الثالثة والأخيرة من ثلاثية «حديث مع الكوكب»، تكتمل قصة الزميل القديم للراوي، حين تصله ذات يومٍ رسالةٌ مختومةٌ كُتب على غلافها: «يُسلَّم إليه بعد وفاتي»، فإذا به من مرءوسه زوج أمه، الذي نكتشف أنه هو الذي خنق زوجته، حين دهمته بوادر الضعف الجنسي، وكان جوعها لا يشبع، فراحت تعايره المرة تلو الأخرى حتى كان يومٌ اشتد بينهما الشجار والعنف، فأراد أن يقفل فمها، وتشنجت أعصابه على عنقها حتى اختنقت وماتت، وهو لا يبرر جريمته، وإن كان يدهش أنه أصبح في لحظةٍ قاتلًا، كان السيد المسيطر على البيت حين لم تكن فحولته موضع شبهةٍ، وانحدر إلى مهاوي الذل والعبودية حين سرى الضعف في جسده. وهنا يسأل الزميلُ القديمُ راوينا: «ما هي القوة؟»٣٠ وينتهي الحكيم من حواره مع الكوكب الذي نقل إليه السؤال، إلى أن القوةَ هي «حُسن استخدام الوسائل للغايات». فيفرق بين قوة العقل وقوة العضلات، وبين قوة العلم وقوة آلات الدمار، وبين قوة العامل الاقتصادي وقوة الاحتكارات، بين قوة الفرد والطاغية وقوة الشعوب. إن الوظيفة الاجتماعيَّة للقوة هي معيار الخير والشر وبقية نوازع الأخلاق، فالطاقة في ذاتها ليست خيرًا أو شرًّا، ولكنها مصدر إشعاعات القوة بجوانبها المختلفة وأساليب استخدامها وتعدد غاياتها، إن القوة المادية ليست منفصلةً عن القوة الروحية، ولكنها متمايزةٌ، قوة الآلة مثلًا ليست قوةً ماديةً فحسب، إنها في الأصل تجسيدٌ لقوةٍ عقليةٍ، وقبل ذلك لاحتياجٍ اجتماعيٍّ، وفي النهاية هي تسهم في تغيير الكثير من القيم والعادات الاجتماعية. إن الجرار الزراعي هو ثمرة تفاعل الفكر الخلَّاق مع الحاجة الاجتماعية الملحَّة، وحين يحل مكان الأدوات البدائية فهو يجلب معه مفاهيم جديدة للزمن والأخلاق والحضارة. والقوة الأساسية الفاعلة في حياة الإنسان وتطوره هي القوة الاقتصادية، كما يقول الحكيم، إنها بين القوى الأخرى تشكل العنصر الحاسم والموجِّه لمسيرة البشرية. ولتبسيط المسألة فيما يبدو، يرى الكاتب في «الطعام» هو الأصل والغاية، فيقول: «إن أولى الغايات كانت هي الغذاء، وأولى الوسائل هي كيفية الحصول عليه، وعندما فكر الإنسان الأول في وسيلةٍ لصيده بدأ العلم، وعندما اكتشف الوسيلة بصنع سكينٍ من الحجر بدأ العلم التطبيقي أو التكنولوجيا، وعندما رسم على جدران كهفه صورة الحيوان الذي يصيده بدأ الفن، وعندما رفع عينيه إلى السماء يستنزل المطر لزرعه بدأ الدين …» وهكذا فالتفسيرُ الماديُّ للوجود والحضارة والمجتمع والتاريخ، هو الإطار المنهجي الشامل الذي يضم أفكار الحكيم في غمرة الصراع الضاري بين الاتجاهات الثيوقراطية اللاعقلية المزدهرة، والاتجاهات العلمانية المضروبة. ويتألف العامل الاقتصادي بين عناصر هذا المنهج كعنصرٍ أساسيٍّ وحاسمٍ. وعلى ضوء هذا المنهج، يفسر النمو السرطاني لمجتمعات الاستغلال الطبقي والاستعمار الاقتصادي والعسكري، ويرى في الاشتراكيَّة — بوضوحٍ لا يقبل الشكَّ — حلًّا جذريًّا لمشكلات المجتمع الواحد، وحلًّا محتومًا، مشروطًا بالنضال، لمشكلات العالم كلِّه. وإذا كانت الاشتراكيَّة علاجًا يتيمًا لمرض الإنسانية العُضال — وهو الصراع الطبقي — فإنها العلاج الأمثل بشكلٍ خاصٍّ لأمراض البلدان المتخلفة المقهورة والحديثة الاستقلال على السواء. إنها أقصر الطرق لدرء التخلف الحضاري البشع، وأسلم السبل لقهر الطغيان الدكتاتوري المروِّع، وأفضل الوسائل لبناء إنساننا الجديد ماديًّا وروحيًّا، وهو الذي عاش مسحوقًا ومطحونًا أمدًا طويلًا. ولا ينسى الحكيم — دائمًا — أن يرجع لمصر، حتى لا ننسى نحن، فيدير قرب الخاتمة هذا الحوار:

«– لكن … بماذا تفسر حياة مصر هذه الآلاف من السنين على الرغم من هزائمها؟!

– لأنها كانت تتغذى بحضارات المغيرين وتهضمها، وتُحيلها دماءً جديدةً في شرايينها تقوى بها على طردهم، وهي يومَ يُغلَق فمها عن الابتلاع وتَضعُف معدتها عن الهضم، فإنها تتدهور، ولا أقول تموت.

– ألا يمكن أن تموت يومًا؟

– لا يمكن وآثار الحضارات كلها على أرضها، إنها تنام أحيانًا، ولكنها تنهض. تركيبها الطبيعي هو امتصاص عصارة الحضارات.

– ولكنها تجترُّ أحيانًا العلف الجاف.

– تقصد الماضي العتيق الذي لا عصارة فيه؟ إن في خزائن الماضي، مع ذلك، أوراقًا خضراء، ربما قِصَر النظر وضعفُ الوعي هو السبب في سوء الاختيار.

– حقًّا، إنها عندما يستيقظ فيها الوعي وتُحسِن الاختيار، وتلائم في غذائها بين الجيد الحي في تراثها، والجديد النابض في الحضارات المعاصرة، فإنها تعود إلى قوتها الخلَّاقة، لتضيف بشخصيتها المميزة ما يبهر البشرية.»

أبدًا، لم يتخلَّ الحكيم عن ذلك العنصر الرومانسي في تكوينه الباكر، ذلك الإيمان شبه الميتافيزيقي بمصر، إن مصر في خياله ووجدانه تكاد تكون «فكرة» أكثر منها واقعًا ماديًّا ملموسًا.

•••

غير أن هذا لا ينفي أن توفيق الحكيم في العقد الأخير من هذا القرن، كان كاتبًا أمينًا في الإنصات إلى نبض شعبنا، ربما كان طموحًا أكثر من اللازم في بعض اللحظات، مما لا يتفق وتكوينه التاريخي، ولكنه حاول بقدر ما أُتيحَ له من الضوء أن يغوص في أعماق المجتمع، وأن يطفو إلى سموات العصر. وكانت أغنى الكنوز هي تلك التي يجيئنا بها من أحشاء التربة المحليَّة، فكان يبدو من خلالها أكثر أصالةً ومعاصرةً من محاولته المتعجلة في اللحاق بركب الموجات الجديدة هنا وهناك.

ولنا أن نُطَمئن الرائدَ الكبير أن ما يخشاه من أن يكون بينه وبين العصر حجابًا وهو على قيد الحياة لا موضع له، وأن خوفه من أن يكون في شيخوخته حيًّا بجسمه فقط متخلفًا بفكره لا مكان له أو مبرر. وإنني حين أثرت «نقطة اعتراضٍ» في خطابي المفتوح إليه، كنتُ حريصًا على تراث توفيق الحكيم، موقنًا من أن هذا التراثَ لا يحتاجُ إلى شفيعٍ طارئٍ ليبقى في تاريخنا حلقةً ثمينةً من حلقات الثورة الوطنية الديمقراطيَّة في بلادنا.

غالي شكري
أبريل (نيسان) ١٩٧٣م
١  راجع حديث توفيق الحكيم إلى أمينة النقاش بمجلة «الشباب»، العدد الأول، ٥ / ١٢ / ١٩٧٢م.
٢  المرجع السابق.
٣  راجع حديث توفيق الحكيم إلى مجلة «المجاهد» الجزائرية، ١٨ مارس ١٩٧٣م.
٤  المرجع السابق.
٥  المرجع السابق.
٦  المصدر السابق.
٧  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
٨  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
٩  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
١٠  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
١١  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
١٢  راجع كتاب «رحلة بين عصرين»، دار الكتاب الجديد، ١٩٧٢م (ص٦٢–٨٩).
١٣  المصدر السابق.
١٤  راجع حديثه المذكور سابقًا في مجلة «المجاهد» الجزائرية.
١٥  المرجع السابق.
١٦  راجع الحديث المذكور سابقًا في مجلة «الشباب» المصرية.
١٧  يعتمد الباحث على الطبعة الأولى التي صدرت عن دار المعارف عام ١٩٦٦م.
١٨  يعتمد الباحث هنا على الطبعة الثانية من مجلد «المسرح المنوع»، وقد أُضيفت إليه هذه التمثيلية، التي شاء المؤلف أن يكتب تحت عنوانها تاريخ «١٩٦٦م».
١٩  راجع الطبعة الأولى، مكتبة الآداب بالجماميز، ١٩٧٢م.
٢٠  ضمهما كتاب «مجلس العدل».
٢١  راجع كتاب «ثورة الشباب»، دار الكتاب الجديد بالقاهرة، الطبعة الأولى، ١٩٧٢م.
٢٢  نُشرت في الأهرام، ١٢ / ٢ / ١٩٧١م (ص٦-٧).
٢٣  اتَّصل شعراوي جمعة — وزير الداخلية آنذاك — صبيحة نشر هذه التمثيلية بالأهرام «مستفسرًا» عما يقصده الحكيم منها، فاقترح عليه رئيس التحرير أن يتصل بالكاتب رأسًا في هذا الصدد. وظلَّ الحكيم ينتظر تليفون وزير الداخلية، بابتسامةٍ خبيثةٍ، ولكنه لم يتصل.
٢٤  نُشرت في الأهرام في ١٢ / ٥ / ١٩٧٢م.
٢٥  نُشرت بالأهرام في ١٧ / ١١ / ١٩٧٢م.
٢٦  يمكن مراجعة تفاصيل هذه القضية ودور توفيق الحكيم في كتابي «التراث والثورة»، دار الطليعة، بيروت، ١٩٧٣م.
٢٧  كان توفيق الحكيم هو الذي كتب بنفسه بيان الأدباء المصريين حول أحداث الطلبة ١٩٧٣م، متضمنًا مطالب الجماهير الديمقراطية؛ إعداد الدولة والشعب للحرب، إطلاق الحريات العامة، إلخ …
٢٨  توجَّه بعض مشايخ الأزهر إلى دار الأهرام بعد نشر هذه الحلقة، وطلبوا من رئيس التحرير، بعد الاحتجاج على نشر هذه المواد «الملحدة» في رأيهم، أن يكون الأزهر هو الجهة الرقابية الوحيدة ذات السلطة على أمثالها في المستقبل، ورفض رئيس التحرير الطلب المذكور، واقترح بديلًا له هو الحوار الديمقراطي، ولكن «العلماء» رفضوا الاقتراح بدورهم.
٢٩  نُشرت بالأهرام في ٥ / ١ / ١٩٧٣م (ص٣، ٤).
٣٠  نُشرت بالأهرام في ٩ / ٢ / ١٩٧٣م (ص٣، ٤، ٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤