رحلة العمر
أدبُ الاعترافِ من الأشكال الفنيَّة الحديثة في اللغة العربيَّة. وبالرغم من ذلك، فقد أضاف إلى تراثنا عددٌ لا بأس به من كبار كُتَّابنا مجموعةً هامةً من الاعترافات، التي تضيء الكثير من الجوانب الخفيَّة في أدبهم أو حياتهم أو تاريخ بلادهم، وقد تجتمع هذه كلها في اعترافٍ واحدٍ. وتتفاوت اعترافات أدبائنا من حيث درجة الإحاطة والصدق والموضوعية، كما تتفاوت من حيث فنيتها، ونوعية القالب الأدبي الذي أُودعت فيه؛ فأيام طه حسين تختلف عن تربية سلامة موسى، وكلاهما يختلف عن حياة أحمد أمين، التي تختلف بدورها عن سبعينية ميخائيل نعيمة، وزهرة عمر توفيق الحكيم.
وإذا كان كتاب كتربية سلامة موسى يستوعب أهم مشكلات العصر التاريخيَّة، بينما يكاد توفيق الحكيم في «سجن العمر» و«زهرة العمر» أن ينحصر بين جدران الفن الذي رصد له حياته، للدرجة التي تحُول بيننا وبين أن نتعرف على ملامح التكوين الاجتماعي للعصر الذي عاش فيه، إلا أننا نستطيع أن نبرر الفارق بين الكاتبين، بأن سلامة كمفكرٍ كانت تعنيه القضايا الأكثر شمولًا، وإن انعكست على وجدانه الشخصي بتفاصيلَ موغلةٍ في الذاتية. بينما الحكيم كفنانٍ كانت تستهويه التفاصيلُ الصغيرةُ أولًا حتى يكتشف بذور الفن في نفسه، وهي سمات فردية غاية التفرُّد؛ لأنها تثمر ما ندعوه بعملية الخَلق المستقلِّ نسبيًّا عن الهموم المباشرة للمجتمع والعصر. الفرق إذن كامنٌ بين المفكر والفنان، أو بين نقطة الانطلاق الموضوعيَّة عند الأول، ونقطة الانطلاق الذاتيَّة عند الآخر.
إلا أننا في النهاية سوف نعثر في اعترافات توفيق الحكيم التي ضمَّنها كتابَيه الرئيسيين «سجن العمر» و«زهرة العمر»، أنه كان أكثر كُتَّابنا حرصًا على إلقاء الضوء الكاشف لكلِّ ما خفي عن قارئه من مجاهل أعماله الأدبيَّة؛ فهو قد سبق له أن أنار لنا الطريقَ لحياته الشخصيَّة في بعض أعماله الروائيَّة، مثل «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف» و«عودة الروح»، غير أنه في هذين الكتابين — سجن العمر وزهرة العمر — يكشفُ لنا عن أدقِّ شعيراتِ تكوينه الأول منذ كان طفلًا إلى أن أصبح شابًّا في مقتبل حياته العمليَّة.
وإذا كان للكتابين إحدى المزايا الهامَّة عند ناقد الأدب، وهي أنه يستنير بالترجمة الذاتية للفنان في رؤية أعماله الأدبية، إلا أنها تعنيني هنا، في المقام الأول، للتعرف على بذور الاتجاه أو الاتجاهات الفكرية التي سادت على عقل توفيق الحكيم، قبل أن تتحول إلى المستوى الوجداني لطاقته الإبداعيَّة، التي عبَّرت عن نفسها في الخلق الفني. فلا شكَّ أن مرحلة التكوين الأولى، في حياة الكاتب، هي مرحلة تربية الجنين التي تطبعه فيما بعد بخصائصَ شبه ثابتة قلَّما يستطيع منها فكاكًا، وربما كانت هذه الفكرة هي التي أوحت للحكيم بتسمية كتابه «سجن العمر»، فبالرغم من أن هذا الكتاب قد صدر عام ١٩٦٤م، فإنه يصور أولى مراحل حياة كاتبه في قالب «الاعتراف المباشر»، بينما نجد أن «زهرة العمر» قد صدر قبل ذلك التاريخ بعشرين عامًا أو يزيد، ولكنَّه يصوِّر تلك المرحلة التالية لسجن العمر في قالبٍ آخر، هو مجموعة الرسائل الحقيقية التي سبق له أن أرسل بها إلى صديقه الفرنسي «أندريه».
لذلك سوف أعرض لكتابه «سجن العمر»، ثم لكتابه «زهرة العمر»، على الترتيب التاريخي لمراحل حياته، أو لمرحلتَي حياته الأولى على وجهٍ أدقَّ، فلا ضرورة لأن نَخضع لمواعيد صدور كلٍّ من الكتابين، إذا كانت تواريخها لا تفيد موضوعَ بحثنا.
•••
يبدأ الحكيم «سجن العمر» بقوله: «هذه الصفحات ليست مجرد سردٍ وتأريخٍ، إنها تعليلٌ وتفسيرٌ لحياةٍ، إني أرفع فيها الغطاء عن جهازي الآدمي لأفحص تركيب ذلك المحرك الذي نسميه الطبيعة أو الطبع، هذا المحرك المتحكم في قدرتي، الموجِّه لمصيري.» لا بدَّ لنا من أن نسجِّل عليه هذه الكلمات التي أرادها منهجًا لترجمته الشخصية، فسنجد أنه كثيرًا ما ألقى بها جانبًا، فراح يهتم بتنظيف الذاكرة من حشو الأوهام العالقة بها، ليبذل جهدًا مضاعفًا في سردِ ما تحتفظ به من حقائقَ، دون أن يتدخل إلا بالتساؤل والاستفسار. هذا بالنسبة للجزء الأول من الكلمات التي قدَّم بها كتابه. أما الجزء الثاني الذي يطالبنا بأن نتصور قدَرًا لا يرحم، رافق خُطاه منذ المهد، فإننا نجده في ثنايا الكتاب يتصور القدر على نحوٍ بعيدٍ عن الجبر الأعمى الصارم.
لتكن إذن بداية طريقنا إلى حياة توفيق الحكيم هي التفرقة بين حياتين؛ حياة الواقع العملي، وحياة الفكر والشعور. ولن نجعل من «سجن العمر»، الذي كتبه الحكيم، سجنًا لنا أيضًا فلا نتحرك إلا في الحدود التي رسمها لنفسه بين دفتَي الكتابِ. فنحن الآن سوف نحتاج إلى ذلك العنصر الذي افتقدناه في اعترافات الحكيم بحجة أنَّه كتبَ ما كتبَ، كفنانٍ أولًا. أما حين نضع هذه الاعترافات موضع التحليل الفكري الدقيق، فلا سبيل أمامنا إلا أن نمزِّق خيوطَ الشرنقة التي أجاد الحكيم نسجها وحبكها بإحكامٍ، وننطلق مع الفراشة الوليدة إلى الآفاق الرحيبة لكلٍّ من المجتمع والعصر اللذين أنجبا الحكيم، وعاش في ظلالهما، فهذا هو الإطار الوحيد الذي نستطيع أن نستوعب خلاله أحداث أخطر المراحل في حياة أحد روَّاد الأدب العربي الحديث.
ونحن نستطيع أن نستخلص من صفحات الكتاب الأولى، أن الحكيم ينتمي إلى مزيجٍ معقدٍ من الدم المصري والتركي والألباني. وبالرغم من ذلك، فقد كان فنانًا مصريًّا حتى النخاع. ولنعتذر إلى الأكاديميين عن هذا التعبير الإنشائي بقولنا إن إيمانه بمصر كاد يصبح إيمانًا عنصريًّا يشايع «مصر الفتاة» في شعارها «مصر فوق الجميع». وربما كان ذلك «ردَّ فعلٍ» لتركيبه الوراثي، ولكن الحكيم لم يصل إلى حافة العنصرية قطُّ، فهو قد نما وترعرع في إحدى الأُسر من أبناء الطبقة الوسطى الصاعدة مع بدايات هذا القرن، وإن كانت بُنوَّته لهذه الطبقة لم تخلُ من ذلك المزيج المعقد، فأُسرته قد عرفت الاشتغال بالزارعة والتجارة والوظائف الحكومية وبناء العقارات وبيعها، جنبًا إلى جنبٍ. وكانت هذه الفئات أو الشرائح من الطبقة الوسطى في مصر إبان الربع الأول من القرن العشرين من أكثر الطبقات الاجتماعيَّة حماسًا للثورة، بل إنَّها كانت أكثر القطاعات اغتنامًا لمكاسبها، وتفاديًا لخسائرها.
ويبدو أن هذين العاملين الأساسيين، الوراثي والاجتماعي، كان لهما أكبر الأثر في تشكيل المراحل الباكرة من حياة توفيق الحكيم وفكره؛ إذ انعكس كلاهما على وجدانه المرهف في صورة صراعٍ حادٍّ بين الواقع والمثال، وقلقٍ أحدَّ بين الثبات والحركة. وربما كان هو نفسه أبعد الناس جميعًا عن فهم هذه الحيرة الديناميكية التي سطَت عليه مع تباشير وعيه بالعالم المحيط من حوله؛ فتارةً يفسرها على ضوء حادثةٍ جرت له في الصغر حين كانت تقع عيناه على إحدى الجنازات، فيُصاب لتوِّه بالحُمى التي لا تفارقه لأيامٍ طويلةٍ. وظنَّ بعدئذٍ أن قلقه ليس إلا تجسيدًا لقوتين تتجاذبانه، هما الحياة والموت. ومرةً أخرى يفسر هذه الظاهرة على ضوء التناقض بين والده ووالدته، فلعلَّه ورث شيئًا من كلٍّ منهما، وبالتالي فهما يتصارعان معًا في داخله.
وبالرغم من كل ما يمكن أن نبديه من احترامٍ لهذه التفاصيل الشخصية الدقيقة في إسهامها ومشاركتها لتكوين روح الإنسان وعقله وباطنه وهيكله البشري العام، إلا أن هذه التفاصيل الشخصية ينبغي أن تندرج في الإطار الموضوعي العام الذي يفسر لنا الكائن الإنساني على ضوء القوانين العلميَّة المستقلة نسبيًّا عن إرادة الإنسان. أما أن تتحول هذه التفاصيل نفسها إلى تفسيراتٍ معدة من قبلُ، فإننا بذلك نغرق في وهاد الذاتية التي تعمينا عن تعدد مستويات المعرفة، فالتفاصيل الشخصية لا سبيل إلى فهمها والوعي بأهميتها، إلا إذا تحولت من المستوى الذاتي للفرد، إلى المستوى الاجتماعي للبيئة، إلى المستوى الأكثر شمولًا وإحاطةً بالمجتمع والعصر. هنا تكتسب هذه التفاصيلُ بريقَها الخاص، ولمعانها الأصيل، حين تتجاوز أسوارها الضيقة إلى رحاب الشخصية في آفاقها العامة، خاصةً إذا كانت هذه الشخصية، كتوفيق الحكيم، لفنانٍ ومفكرٍ يتبادل مع المجتمع والعصر بالأخذ والعطاء، ما يتجاوز ذاته الفردية في اللحظة الراهنة إلى هموم الأجيال وقضايا العصور.
لذلك أقول إن المركب الاجتماعي المعقد الذي أثمر توفيق الحكيم، انعكس على وجدانه وعقله في صورة الصراع والقلق الذي أخذ يستشعره منذ ذلك الوقت المبكر.
ويسلك الحكيم في سرد سيرته الذاتيَّة مع الفن، نفس المنهج المتسق مع تفكيره في أهمية التفاصيل الدقيقة، بالرغم من أنه ينكر على نفسه الاهتمام بهذه التفاصيل، مدللًا بذلك على أنه قد فضَّل الفن المسرحي على الفن القصصي؛ لأنه فنُّ التركيز والدقة والتفكير الرياضي، لا فن الإفاضة من أجل الإيهام بالواقع. يناقض الحكيم نفسَه إذن حين يذكر بدايات إحساسه الفني بتلك الطفلة الشقراء التي استهوته أمدًا من الزمن، وذلك الصوت الجميل لمؤذن القرية، فلا شك أن السمات الفرديَّة للإنسان — عندما يكون فنانًا على وجه الخصوص — تجعل لشخصيته مذاقًا خاصًّا. أما عندما تكون هذه السمات، بالرغم من فرديتها، مشتركة بين البشر جميعًا، فهنا لا نستطيع أن نكتشف منها ما يضيء لنا الجوانب الخاصة في الشخصية.
حينئذٍ يمكن القول بأن البداية الحقيقية للفنِّ عند الحكيم، تلتمس لنفسها تاريخًا تقريبًا عندما هبطت إلى مدينة دسوق، التي كان يعمل بها والده في السلك القضائي، إحدى الفرق «التشخيصية» التي زعمت أنها جوقة الشيخ سلامة حجازي، والمرجَّح أنها إحدى فرق الأقاليم، وإن قلدته واتخذت اسمه لمجرد الدعاية والرواج. كانت رواية «شهداء الغرام» هي التمصير المطعَّم بالقصائد والألحان — التي لا تخطر على بالٍ كما يقول الحكيم — لمسرحية شكسبير المعروفة «روميو وجولييت». وقد مثَّلتها الفرقة يومئذٍ، فلم يفهم منها شيئًا، ولكنه عاد في ذلك اليوم إلى البيت ليقلد بعض المشاهد التمثيلية بالاشتراك مع الخادم ومكنسته التي تحولت إلى سيفٍ للمبارزة. وكان هذا الخادم بما يرويه من حكايات الرباب التي يسمعها في الخارج عن أبي زيد الهلالي والزناتي خليفة، كما كانت الأم بما ترويه من سيرة عنترة وأقاصيص ألف ليلة وليلة، هما أول مَن نبَّه البذرة الفنية الكامنة في أعماق الحكيم، فهو لم يستطع المثابرة على «المعلقات» التي أمره أبوه بقراءتها وحفظها، ولكنه استطاع أن يستخرج من صناديق الأمتعة القديمة بعض الروايات والقصص العربية والمترجمة، فأقبل عليها بنهمٍ لم يناظره إلا شغفه بسماع الغناء، ورؤية التمثيل، ومحاولات «الرسم» التي لم تستمر معه طويلًا.
ولقد عرف الحكيم عالم الغناء والرقص والتمثيل عن طريق «العوالم» اللاتي عرفهن في «الأفراح»، سواءٌ تلك التي تمَّت في أسرته، أو عند الأقارب والجيران. وكما حاول تقليد أبي زيد الهلالي والمؤذن، فقد حاول تقليد العوادة في الضرب على العود. وجاء نقله إلى القاهرة بمثابة المُنقذ من الرقابة الصارمة التي فرضها عليه الأهل حتى ينجح في علومه الدراسية، هذه الرقابة التي جعلته يقرأ القصص وكأنه يرتكب وزرًا من الأوزار، فكان يتسلل حاملًا الكتب ليقرأها تحت السرير: «كان ذلك السرير مفروشًا بملاءةٍ تتدلى أطرافها إلى الأرض حاجبةً مَن يختفي تحته بأنها ستارةٌ مسدلةٌ، فما كان أحدٌ يراني أو يكتشف مكاني. لكن تلك الملاءة أو الستارة كانت تحجب عني النور، فما كنتُ أبالي أحيانًا، وكنت أمضي أقرأ في الظلام حتى أعجز عن تمييز الأسطر.»
لم يكن إسماعيل الحكيم — والد توفيق — رجلًا جاهلًا، وكانت أمه هي الوحيدة من بين أخواتها التي تعلمت، ومع ذلك ظلَّت تربيتهما لابنهما حتى مقتبل العمر، هي التربية شبه الإقطاعية التي تتأثر وتتشبث بأكثر القيم سيادةً وثباتًا في المجتمع؛ فالشهادة الدراسية هي شهادة الميلاد الحقيقي لابن الطبقة الوسطى الصغيرة، في مجتمعٍ تحكم علاقاته وتضبط حركته مجموعة القيم العارية من تكافؤ الفرص. وإبعادًا لشبح العوز المادي، يتجرد الأب من خصائصه الأصلية في محبة الفكر والفن، ويجند مؤهلاته كلها لتحصيل ما يقي أسرته شرَّ الحاجة. ولا تصبح الأم زوجةً وربة أطفال، بقدر ما تتحول إلى مزارعةٍ وتاجرةٍ وصاحبة بيوتٍ وأطيانٍ. والغريب حقًّا أن التربية شبه الإقطاعية التي تحُول بين الفتى وتطلعاته الفنية والفكرية، في تناقضها المحتوم مع التكوين البرجوازي، تتحول بتوفيق الحكيم من الخضوع المفترض للتقاليد الراسخة في الذهن والأرض والسلوك، إلى الثورة الهادئة المتزنة على كافة القيم المعادية للتطور، المعوقة للتقدم. ويبدو أن هذا «الاتزان» الذي رافق ثورة الحكيم على التناقض الصارخ بين التكوين الاجتماعي لطبقته الاجتماعية (التي تعيش آنذاك في ثورةٍ جارفةٍ)، وبين السلطة الفكرية الطاغية لحكم الإقطاع المتحالف مع الاستعمار؛ ظلَّ السمة البارزة في تفكير الحكيم الاجتماعي فيما بعدُ، حيث أصبح «ثوريًّا محافظًا» إن جاز التعبير عن مسار مفكرٍ داخل الدائرة الثورية، ولكن «اعتداله» كما يدعوه، يقوده على يمين المركز الثوري للدائرة: «كانت حياة الريف في تلك المرحلة من حياتي جميلةً، على الرغم مما كان يداخلني من شعورٍ غامضٍ أحيانًا، واضحٍ أحيانًا أخرى، بضياع الفلاح وهوانه. فلقد كان من الأمور العادية أن أرى الفلاحين من حولي يبركون ويمدون أعناقهم إلى الترعة بجوار مواشيهم ليشربوا جميعًا بنفس الطريقة، وقد فعلتُ أنا نفسي ذلك مراتٍ معهم، فقد اندمجتُ فيهم ولم أعد أفطن إلا أني منهم، وكنتُ أودُّ لو تمتد بي بينهم هذه الحياة.» وكم أود من القارئ أن يراجع معي كتاب «تربية سلامة موسى»، ليجد نفس الكلمات محفورةً بعمقٍ على وجدان مفكرٍ ثوريٍّ آخر كسلامة موسى. كلمات الحكيم إذن هي إشارةٌ واعيةٌ بذلك المناخ الجحيمي الذي عاشت فيه مصر، ولا سيما ريفها الحزين، منذ إرهاصات ثورة ١٩١٩م إلى ما تلاها من سنواتٍ عجافٍ. والحكيم وسلامة وموسى، كلاهما يفترض ثمة مسافة موضوعية تقوم حاجزًا ضخمًا بينه وبين الفلاحين التعساء، فهو يشارك بؤسهم حقًّا، ولكنه في النهاية ليس واحدًا منهم. وإشارة الحكيم هنا إذن لا تعني سوى أنه يعاني تمزقًا ملتاعًا بين تكوينه الاجتماعي المحدد، والقيم التي تشكل هذا التكوين. ولا شكَّ أن وعيه النافذ بالتناقضات الكامنة بين تكوينه وقيمه، هو الذي أثمر وجدانَه الفنيَّ وعقلَه المفكر. فنه الذي كان شكلًا لوعيه، وفكره الذي كان مضمونًا لهذا الوعي. ومن هنا أختلف مع تفسير الحكيم لانضوائه تحت لواء الفكر والفنِّ، على ضوء الفكرة السيكلوجية القائلة بأن مكبوتات الأب والأم يمكن أن تظهر وراثيًّا في الابن. فالحق أنه يمكن للابن أن يرث محبة الأدب والفن، ولكن ما يرثه من المجتمع هو أكثر من «المحبة» بلا أدنى ريبٍ. فإذا كانت شخصية إسماعيل الحكيم الأصيلة هي شخصية الفنان المفكر، ولكنه كبت نوازع هذه الشخصية تحت ضغط الحاجة المادية للقمة العيش، وبالتالي جاء توفيق ابنه انفراجًا لهذه الأزمة العارضة، سوف نتغاضى حينئذٍ عن إمكانية أن يصبح ابن الأديب عالمًا، وابن العالم أديبًا، وهكذا. فالطبيعة والمجتمع ليسا رسولين طيعين لنزعات أو نزوات الأب والأم المكبوتة، وإنما تتكون خصائص الفنان أو العالم أو المفكر من خلال الأفعال وردود الأفعال، التي تدور تفاعلاتها العجيبة المعقدة بين الإنسان وداخله وخارجه، في دورةٍ جدليةٍ لا تنتهي من ملحمة السؤال والجواب.
وإذن، فقد اختار الحكيم الفنَّ شكلًا لوعيه الفطري بما يحيط حوله من «مألوفاتٍ» للعين العادية، ولكنها غير عاديةٍ لعينه المجردة من ضباب القيم السائدة، فثمة لحظات ينبلج فيها نور الوعي بما يتنافى مع هذه القيم، يخلق فيها الإنسان لنفسه قيمًا ذاتيةً جديدةً يستمدها من أحلامه وأهوائه، وسرعان ما تتبلور قيمًا موضوعية باحتكاكها مع التجربة الاجتماعية المباشرة. وقد كان الفن بما أحاط الحكيم في طفولته من مظاهرَ بدائيةٍ له، استجابت لها نفسه التوَّاقة بوعيها إلى التجسيد؛ هو الشكل الأكثر تناسبًا مع قدراته الذهنية، وميوله المكتسبة والطبيعية على السواء. وقد اختار الفكر المتعاطف مع آلام البشر وعذاب الحرمان في صورته المطلقة بشكلٍ عامٍّ، وفي صورته المحددة بأجساد الفلاحين المتهالكة بشكلٍ خاصٍّ.
لهذه الأسباب مجتمعةً كانت القاهرة رمزًا كبيرًا ﻟ «الحرية» التي حلم بها في طفولته وأوائل مراهقته، كما كانت باريس في شبابه الباكر. والحرية هي الشعار الأساسي الذي أطلقته ثورتنا الشعبية عام ١٩١٩م. حينذاك ألَّف الحكيم الأناشيد والألحان، وشارك بها في مظاهرات الطلبة التي التحمت بجماهير الشعب من عمالٍ وفلاحين وتجارٍ ومثقفين. والحرية عند الفنان المفكر أن يعتصر من كيان الثورة ووقودها رمادًا هادئًا قابلًا للكشف والاختبار؛ لذلك كانت «عودة الروح» هي قصة الحرية التي عاش لها الحكيم بكل ما يمتلك من خلجات الفنان وأعصاب المفكر؛ ولهذا كانت من حيث الشكل الرائدة الحقيقية لفنِّ القصة في بلادنا، ومن حيث المضمون كانت الرائدة الحقيقية للأدب الواقعي الثوري. ولا بد لنا من أن نتمعن كثيرًا في تلك المرحلة التي عاش فيها الحكيم أحداث عودة الروح قبل أن تتحول في ذهنه إلى كتابٍ مسطورٍ.
يقول: «لم يخطر على بال أهلي ولا شك أنهم قذفوا بي إلى الحرية الواسعة، وإلى الجو الفني الرحب، يوم قذفوا بي إلى القاهرة.» وهذا صحيحٌ من ناحية أنه اتجه إلى المسرح بكل ما يحتمله وقته وجيبه، خاصةً إلى جورج أبيض الذي كان قد انفصل عن جوقة الشيخ سلامة حجازي، وكوَّن فرقةً تخصصت في تمثيل التراجيديات المستقلة عن التلحين والغناء. وعرف في ذلك الوقت أيضًا «عبد الرحمن رشدي»، الذي كان يُعَد حادثة عصره حين ترك روب المحاماة وارتدى ثياب التمثيل: «كان هو في التمثيل من جانبٍ، والمنفلوطي من جانبٍ آخر. أحدهما بصوته المتهدج الباكي، والآخر بأسلوبه النثري المبلَّل بالعبرات، يستنزفان مدامع الناس، ويُعتبران عند الكثيرين مثالًا للفن الصادق.» هكذا كتب الحكيم عن عبد الرحمن رشدي في مقارنةٍ بينه وبين جورج أبيض، الذي كان يُعَد بالنسبة إليه «كلاسيكيًّا». كانت أهمية جورج أبيض عند هذا الجيل هي أنه نقل إليهم روائعَ المسرح العالمي دون أية رتوشٍ خارجيةٍ تجلب الجمهور العادي؛ فقدم لهم «هاملت» و«عطيل» و«أوديب»، وكأنهم يقرءونها في لغاتها الأصلية. وعاد توفيق إلى حركات المراهقة، فراح يؤلِّف مع بعض زملائه فرقةً تمثيليةً صغيرةً، ثم أسس مسرحًا صغيرًا بإحدى الغرف بمنزل أحدهم، وأخذ يرتجل معهم تأليف المسرحيات وتمثيلها وإخراجها في وقتٍ واحدٍ.
لا شكَّ أن «شيئًا ما» في شخصية الحكيم وتكوينه الطبقي والنفسي والعقلي قد أخصب فيه هذا الاتجاه. إن عبارة «التكوين الطبقي» تبدو كما لو كانت تلخيصًا وتجريدًا وتعميمًا أكثر منها تفصيلًا وتجسيدًا وتحديدًا. ولكنها تعني لنا، ونحن بصدد دراسة الاتجاه الفكري لأحد الكُتَّاب، مجموعة المركبات الاجتماعية الخالقة لوعي الكاتب ونوعيته وأسلوبه.
غير أننا يجب أن نعترف بأن مدار بحثنا ظلَّ إلى الآن هو الشكل في حياة الحكيم وفنه، فاختياره للفن المسرحي، والمسرح الذهني بالتحديد، ثم اختياره للعزلة العاجية عن ضجيج الأحزاب والهيئات السياسية في مصر؛ يدخل جميعه في نطاق الشكل، سواء في الفن أو الحياة. فلندع قضيةَ الشكل مؤقتًا. لننظر ماذا احتواه من مضمونٍ، وهذا ما سنجيب عنه فيما بعدُ، بأنه كان مضمونًا تقدميًّا في معظم الأحيان، أو بصورةٍ عامةٍ، وإن كانت تقدميته لم تخترق تلك الحدود التي رسمتها للحكيم ظروفه الذاتية والموضوعية، فجعلت منه واحدًا من كُتَّاب الثورة الوطنية الديمقراطية، وإن وقف في الأغلب الأعم، على يمين هذه الثورة لا في مركزها، ولا على يسارها. ولكننا لا نستطيع أن نعزل الشكل عن المضمون عزلًا ميكانيكيًّا جامدًا، بل لا بد لنا من أن نقول على الرغم من «ذهنية» الشكل في مسرح الحكيم وتجريده وتعميمه، فإنه في ذاته كان نقلةً ثوريَّةً في تاريخ الأدب العربي، فهو لم يكن مجرد إضافةٍ إلى أحد فروعه المستقرة، ولكنه كان فرعًا جديدًا يُضاف إلى شجرة هذا الأدب، فارتياد الحكيم للشكل المسرحي في اللغة العربية، يُعَد ثورة فنية كاملة. على أن استجابته للشكل التجريدي في فن المسرح يبررها آنذاك فيما أرى ثلاثة عوامل؛ أولًا: كان توفيق الحكيم — الفنان المثقف — بمثابة رد الفعل العفوي لما كانت عليه سوق المسرح في بلادنا من فوضى المزج بين التمثيل والغناء، أي: بين الأوبريت والفن المسرحي، وهو رد فعلٍ مزدوج، يتقصَّى ملامح المسرح المكتفي بذاته عن مصاحبته أي فنٍّ آخر له، ويبتعد عن تهريج غير المثقفين الذين خلطوا بين الفارس والفودفيل، وبين الميلودرام والتراجيديا على نحوٍ لا يبعث على الاحترام للمسرح من جانب المثقفين. وإذا كان الحكيم قد وُلد بين أحضان العوالم والكواليس المسرحية، إلا أن ميلاده الأول هو ميلاد «المثقف» الذي يستشرف للفن آفاقًا رفيعةً لا يبتذلها التهريج والافتعال. وهذا ما يجرنا إلى العامل الثاني في اختيار الحكيم مبكرًا لهذا الشكل الذهني للمسرح، وهو التقائه في أوروبا بمسرح بيرانديللو وبرنارد شو وابسن وغيرهم من روَّاد المسرح الحديث، فقد كان انعطافه نحو هذه الأسماء تعبيرًا أصيلًا عن التقائه الأيديولوجي بهم من ناحيةٍ، وعن كونهم يحلون له التناقض بين تكوينه المثقف وتكوين المسرح المصري حينذاك. ثم أضيف عاملًا ثالثًا هامًّا، هو أنَّ توفيق الحكيم بطريقه الخاص إلى فهم «التقدم» و«الجماهير» و«السياسة»، هذه المعاني التي سنتبين محتواها عنده بعد قليلٍ، كان يتجنب الإفصاح المباشر والرأي الحاسم والفكرة العاجلة التي من شأنها أن تفسر تفاصيل التطور الاجتماعي وتُسهم في توجيهه وفقًا لوجهة النظر الدقيقة التفصيلية الشاملة التي يحملها الكاتب. ولكن الحكيم، البرجوازي النشأة، والمتردد العريق، كان يقف إلى جانب الثورة «بشكلٍ عامٍّ»، وعندما يأتي دور التفاصيل يقف إلى يمين هذه الثورة، ذلك الموقف الذي يسميه البعض بالاعتدال نقلًا عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا. فالقلق الذي عاناه في صباه المبكر لم يكن في البداية قلقًا فنيًّا بمعنى الحافز الإبداعي الخصب، في نفس كل فنانٍ، ولكنه كان قلقًا اجتماعيًّا محضًا وفي المقام الأول. ثم انعكس فيما بعدُ على الفن انعكاساتٍ مختلفةً متنوعةً، كان أولها اختيار الشكل التجريدي المائل إلى التعميم في الفن المسرحي، وهو الشكل الذي يبتعد بصاحبه عن مناقشة القضايا المطروحة في اللحظة الراهنة بصورةٍ تفصيليةٍ توضح موقفه الأيديولوجي. لقد اختار حقًّا أن يكون مع الثورة، ولكن بشكلٍ عامٍّ، كما اختار الفن المسرحي، بشكلٍ عامٍّ أيضًا. وقد قلتُ منذ البداية إن الحكيم لم يبدأ حياته الفنية على هذا النمط من الكتابة المسرحية، بل لقد ساير الكتابات السائدة، بأن كتب الغنائيات والتمثيليات الاجتماعيَّة المباشرة. ولكنه ما إن تبلور اتجاهه الأكثر أصالة حتى كان المسرح الذهني هو اختياره الحاسم.
وبنفس المنهج نقول إنه بدأ حياته الفنية بكتابة الرواية، واستمر يكتبها أمدًا من الزمن، وظلَّ يكتبها بالتبادل مع القصة القصيرة، ولكنَّه في النهاية لم يستتب له الأمر إلا مع المسرح؛ لأن القصة في جوهرها الفني لا تدعم اتجاهه إلى التجريد والذهنية والتعميم، وقد أشار إلى ذلك بقوله: «كان الأمر إذن — ولم يزل — فيما يتعلق بكتابتي للرواية والقصة تطوعًا قوميًّا وفنيًّا أقوم به كلما شعرت أن هناك حاجةً إلى الإسهام بجهدٍ»، ومن ثَم كانت كتابته لعودة الروح «بدافع العقل الواعي والحاجة الماسة، حاجة المواطن إلى التعبير عن حماسه لبلاده وعن رؤيته لتطور مجتمعه»، «فإني لم أرد أن أجعلها سجلًّا لتاريخٍ بقدر ما أردت أن تكون وثيقةً لشعور.»
كذلك نحن نستطيع أن نرصد له بعد ثورة ١٩٥٢م بعض الأعمال الاجتماعية المباشرة، مثل «الأيدي الناعمة» و«الصفقة»، ولكنها في النهاية لا تشكِّل اتجاهه الرئيسي، ولا جوهره الأصيل، إنها تفصح فحسب عن طبيعة هذا الاتجاه أكثر من غيرها مما يناقش الزمان والمكان والقدر والمطلق. فإذا كانت مسرحيةٌ ﮐ «المرأة الجديدة» تؤكد الانعطاف اليميني في نظرته الاجتماعيَّة، بينما «شمس النهار» على سبيل المثال تؤكد انعطافه اليساري في هذه النظرة؛ فإن المسافة التاريخيَّة بينهما ليست هي السبب فيما نتصوره من «تطور» طرأ على تفكيره، فنحن ما نزال نجد موقفه من المرأة عام ١٩٦٥م هو بعينه ما كان عليه قبل ذلك بحوالي نصف قرنٍ، كما أننا ما نزال نجد موقفه من العمل والتقدم الاجتماعي هو نفسه الموقف الذي بدأ به حياته الفنيَّة والفكريَّة؛ لهذا أعتقدُ بأنه كان يكتب القصة — التي من شأنها كقالبٍ فنيٍّ التعرضُ لتفاصيل التطور الاجتماعي — كما كان يكتب المسرحية الاجتماعيَّة المباشرة، حين كان يلتقي بمنعطفٍ حاسمٍ في تاريخ الواقع الاجتماعي، كثورة ١٩١٩م، أو ثورة ١٩٥٢م. فهناك إذن خيطٌ جوهريٌّ يربط حياته كلَّها، لم يصبها الزمن بالتطوير بقدر ما أصابها بالتبلور والوضوح، هذا الخيط هو التأرجح أو الذبذبة داخل دائرة الثورة بحيث يتوقف المؤشر في لحظات الخلق الفني على يمين المركز الثوري، فهو لا يخرج مطلقًا عن حدود الدائرة الثوريَّة، ولكنه لا يلتصق بمركزها ولا يميل إلى يسارها.
ولعلنا الآن نستطيع أن نتحول إلى الشطر الآخر في تكوينه، فبعد أن بدأنا بالفنِّ، علينا أن ننتهي بالحياة. وربما كانت حياته في مطابقتها لفنِّه تفسر لنا أمرين؛ الأول هو صحة الظاهرة التي وضعنا أيدينا عليها، والأمر الثاني هو صدق الحكيم وأصالته في التعبير عنها واقعًا وفنًّا.
يقول: «انتهت الحرب الأولى، ولم يمضِ قليلٌ حتى قامت ثورة ١٩١٩م، واشتعلت مصر، ويدهشني أني لم أتجه يومئذٍ إلى الخطابة أو كتابة المنشورات مثل بعض زملائي ومعارفي، فقد كان اتجاهي هو إلى تأليف الأناشيد الوطنيَّة الحماسيَّة، وأحيانًا كنتُ ألحنها بنفسي.» وفي موضعٍ آخر يسجل هذه الملاحظة الهامة: «… فإن تكوين الأحزاب بعد ثورة ١٩١٩م على ذلك النحو الذي حدث، وتنافسها على اقتسام واقتناء أصحاب المال والجاه وكبار الملاك لضمهم إلى عضويتها، جعل قيادات هذه الأحزاب في أيدي تلك الطبقة، ولم تسمح للمفكرين والمثقفين الحقيقيين إلا بالمراكز الثانوية التي ليس لها حقُّ التوجيه. ومن هنا ضعف الدور الفكري والاجتماعي لهذه الأحزاب، واقتصر نشاطها على الجانب السياسي، وحتى هذا الجانب أيضًا قد تمخَّض أحيانًا كثيرةً عن مجرد تطاحن على كراسي الوزارة، وتنازع على ثمار شجرة الحكم، وهو ما كان يهم أكثر تلك القيادات. أما الكاتب المفكر المثقف في نظرها فكان في الأغلب مجرد قلمٍ يُستأجَر للدفاع عن وجهة نظرها والهجوم على خصومها، وكان هذا ما نفَّرني وأبعدني عن هذه الأحزاب، وما جعلني أقف ضدها جميعًا، وأرى كلَّ شيءٍ يتحرك من حولي داخل إطار سياسي كاذب مزيف، وما جعل الصورة التي يمكن أن تُكتب عن بلادنا وقتئذٍ أبعد ما تكون عما كانت تتمناه عواطفي المتحمسة التي دفعتني إلى كتابة مثل عودة الروح.»
لقد عمدتُ إلى اختيار هذه النصوص المطولة، لأشرك توفيق الحكيم معنا في التفكير. إنه لم يشترك في ثورة ١٩١٩م اشتراكًا فعليًّا، واكتفى بتأليف الأناشيد الوطنية، وحينذاك كتب أولَ تمثيلية له، وهي «الضيف الثقيل»، من وحي الاحتلال البريطاني، بحيث رمزت إلى إقامة ذلك الضيف الثقيل في بلادنا بغير دعوةٍ منَّا، وبدون رغبةٍ منه في الانصراف عنَّا. يتساءل الحكيم: لماذا بدأت أول ما بدأت بالمسرحية؟ ونحن نتساءل معه: لماذا اكتفيت بين نيران الثورة بالمجهود الذهني وحده؟ إنه يبرر عدم اشتراكه في الأحزاب السياسية لفسادها، ويبرر اختياره للمسرح لما يمكن أن يكون قد ورثه عن والده من روح المنطق والتركيز التي يتسم بها القضاة، ثم يرجح أنها وراثةٌ عربيةٌ؛ لأن السليقة عند العرب هي سليقةٌ مسرحيةٌ كما يعتقد، خلافًا لما يظنه بعض الأوروبيين من أن العقل العربي بطبيعته عقلٌ حسيٌّ، وليس عقلًا خياليًّا تركيبيًّا. وبالرغم من أن الحكيم مقتنعٌ أيما اقتناعٍ بصحة هذه المبررات، إلا أنني أراها على جانبٍ كبيرٍ من التهافت؛ فروح المنطق والتركيز لا تخلق بالضرورة كاتبًا مسرحيًّا، كان من الممكن أن تخلق فيلسوفًا أو عالمًا في الرياضيات. والوراثة العربية إذا صحَّت فهي وراثةٌ عامةٌ مشاعةٌ لا سبيل إلى اكتشاف هبوطها على شخص الحكيم دون غيره من عباد الله. وبالمثل نقول إن الأحزاب السياسية في مصر رغم فسادها كانت هي الأشكال الوحيدة للتعبير عن الحركة الاجتماعية، وحقًّا عندما رفضها الحكيم لم يرفض السياسة، ولكنه بالقطع رفض العمل السياسيَّ، وأقام تناقضًا بين الفكر والسلوك، أو بين الفكر والتنظيم.
هنا يبدو لنا قصور التفسير الاجتماعي بمفرده لتكوين توفيق الحكيم؛ فليست وقفته الأيديولوجية على يمين الثورة من داخل دائرتها هي السبب في رفضه التنظيم السياسي، فلا شكَّ أن الأحزاب السياسية في مصر — السرية والعلنية — قد عبَّرت طبقيًّا عن كافة القطاعات الاجتماعيَّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وما بينهما بنسبٍ متفاوتةٍ. إذن فثمة عنصران لا علاقة لهما بالتفسير الاجتماعي، قد شاركا في صياغة الحكيم على هذا النحو.
هذان العنصران هما التناقض المعروف بين الفكر والإطار التنظيميِّ للعمل السياسيِّ، ثم ذاتية الحكيم الموغلة في التفرد. فلا ريبَ أن المفكر أو الفنان المنتمي إلى تنظيماتٍ سياسيةٍ، خاصةً البرجوازية منها، يستشعر تناقضًا مركبًا بين طبيعة عمله الفكري، وطبيعة العمل السياسي، ثم التناقض بين الانضباط المفترض برأي الحزب أو التنظيم، وبين صدق الكاتب مع نفسه ومع جماهيره التي ترتبط به هو مباشرةً لا بحزبه، ومن ثَم كان الحل الجاهز عند توفيق الحكيم هو الرفض الحاسم للعمل السياسيِّ المنظم، تمامًا كاختياره الحاسم للشكل الذهني في المسرح. فالابتعاد عن «ضجة» العمل السياسي، هو ابتعادٌ عن تفاصيل الحياة اليومية للناس وواقعهم الاجتماعي المباشر، وهي نفس الوظيفة التي يؤديها المسرح الذهني في تجريده لهذا الواقع، والارتفاع بالجزئيات إلى الكليات؛ لهذا كان الشكل المسرحي لأعماله هو المرادف الموضوعي لعزلته العاجية. وقد تسبب هذان العاملان كما قلتُ في تصور البعض لتوفيق الحكيم على أنه فنانُ البرج العاجي، أي: المنفصل عن قضايا العصر ومشكلات المجتمع، وليس هذا صحيحًا؛ لأن هذا النوع من التفكير مصدره الخلط بين الشكل والمضمون في حياة توفيق الحكيم وفنِّه. فقضايا العصر ومشكلات المجتمع هي «المضمون» وليست الشكل، فإذا كانت حياته وفنُّه قد «تضمنت» هذه القضايا والمشكلات، فلا سبيل أمامنا إلا أن نردد معه ما قاله في ختام «سجن العمر»: «إن الفن هو أداة الإنسانية لتأمل ملامحها ومعرفة نفسها، وهذا ما دفعها إلى التفكير والتطور، ولو أن الحيوان تأمَّل ذاته وعرفها وحللها لانقلب إنسانًا في التوِّ واللحظة»، «على أني ما انعزلت قط ولا انزويت إلا بالجسم وحده، وإنه لمن الغريب أن أعيش دائمًا بكل روحي وجوارحي وتفكيري في ظل مشكلات عصري، ولا أجد من جسمي مثل هذه الحركة وهذا النشاط.»
وهذا صحيحٌ، ولكن ليس كل الصحة، فثورة المعتزل في البرج العاجي لها خصائصها المستقلة عن ثورة المناضل وسط الجماهير؛ لهذا كانت «ذهنيةُ» مسرح الحكيم، و«عزلةُ» تفكيره السياسي عن الواقع العملي، سببًا ونتيجة في نفس الوقت. ولعلَّ «زهرة العمر» تلك الرسائل الحقيقية إلى صديقه الفرنسي أندريه، والتي نشرها عام ١٩٤٣م، تضيء لنا هذا المدخل الرئيسي إلى رحلة توفيق الحكيم مع الفن والحياة، الرحلة التي تعتمد على ثنائيات الفكر والواقع بحيث لا تحتدم التناقضات المزدوجة بينهما إلى مستوى الصراع الثوري، ولا تنخفض إلى مستوى ذبذبة التمرد، ولكنها تظلُّ غالبًا في تلك الحالة الغريبة التي دعاها الحكيم خطأ فيما بعدُ بالتعادلية، وهي تسمية تمعن في التضليل إذا كانت مرادفًا للاعتدال الذي يقول به اليمينيون في أوروبا الغربية، وهي تسميةٌ تحتاج إلى تعديلٍ إذا كانت تعني شيئًا غير ذلك، ولنسأل الآن «زهرة العمر»، فلعلَّ الصبا الباكر كان يمتلك ناصية الجواب.
•••
يبدأ الحكيم رسائله إلى صديقه الفرنسي قائلًا إن الشقاء ليس هو البكاء، وإن السعادة ليست هي الضحك. ويعلل هذه «الحكمة» بأنه يضحك طول النهار لأنَّه لا يريد أن يموت غارقًا في دموعه. هو، كما يقول، شخصٌ ضائعٌ مهزومٌ في كل شيءٍ، وقد كان الحب آخر ميدانٍ دُحر فيه. وإذا كان يردد أحيانًا أناشيد القوة والبطولة، فإنه يصنع ذلك تشجيعًا لنفسه، كمن يغني في الظلام طردًا للفزع. ويبدو أن هذه المشاعر هي التي تجعله يتعاطف مع ما دعاه بالضعف الإنساني، فيقول إنه لولا هذا الضعف الإنساني ما وُجدت العواطف الإنسانية الجميلة التي تنتج أحيانًا الأعمال الإنسانية العظيمة. ويتساءل لماذا نعدُّ دائمًا الضعف البشري نقيصةً، ما دمنا قد وُصمنا به إلى الأبد فلنحترمه أحيانًا، ولنستثمره، ولنحوله إلى فضيلةٍ من فضائل البشر، بغير هذا فإن الحياة لن تُحتمل. وهو ليس تعيسًا لأن الحب في حياته قد تحطَّم، فالحق أنه ليس بالحب وحده يحيا الإنسان، وإنما أيامه كلها أصبحت بلا مذاقٍ، كالماء القراح يجرعه على غير ظمأ، والمستقبل أمامه محوطٌ بالضباب، يُخيَّل إليه أنه هوى قبل الأوان، كالثمرة التي تسقط من الفرع قبل النضوج، ثم يخط هذه العبارة المؤسية وكأنها مخطوطةٌ من دمٍ: «كلُّ شيءٍ حولي يهدمني هدمًا.»
تلك كانت الحالة النفسية التي عرفت طريقها إلى قلب توفيق الحكيم وعقله منذ وطئت قدماه الأرض الأوروبية، وهي تلخيصٌ دقيقٌ للتناقض الأول، والرئيسي في حياة كل عربيٍّ يحل أزمته مع مجتمعه؛ السفر إلى أوروبا. فقد ترك الحكيم أرض مصر على أثر توصية لطفي السيد لوالده بأن يعمل لترحيله إلى باريس حتى يحصل على الدكتوراه في القانون. وبموافقة الوالدين، أقلع الحكيم إلى بلاد الغرب، وهو لا يحتضن بين ضلوعه سوى الفنِّ والفكر، أما دراسة القانون فلم تكن سوى جواز السفر إلى الخارج. وفي أحيانٍ كثيرةٍ، كانت تنتابه في فرنسا أزمة ضميرٍ تجاه والديه، فينكبُّ على كُتُب القانون ويقضي الليالي ساهرًا، حتى إذا أقبل الامتحان كان من الراسبين، وهو يُرضي ضميره بتلك النوبات من يقظة الضمير التي تفاجئه في فتراتٍ متباعدةٍ. أما حياته الحقيقية فكانت المسرح، وقراءة عيون الأدب العالمي التي حُرم منها كثيرًا. كان يقول في سجن العمر إنه إلى جانب الكتب الماجنة التي كانت الأيدي تتنازعها خفيةً في الفصل، مثل كتاب «رجوع الشيخ»، كان يُقبل على قراءة الكتب الجادة العميقة، ولكنه يعترف بأنه لم يكن يفهم شيئًا: «لذلك كله ضاعت علينا فرصة التكوين الفكري الفلسفي الحقيقي في تلك المرحلة، التي يريد فيها العقل أن يتفتح للتفكير، بل إن أمهات الكتب الأدبية نفسها التي كان يجب أن نطالعها في تلك المرحلة، لم تكن في متناول أيدينا.»
كان التناقض الأول، والرئيسي، بين الحكيم وباريس، هو التناقض البديهي بين الشرق والغرب، بين حضارةٍ متخلفةٍ مقهورةٍ، وحضارةٍ متقدمةٍ قاهرةٍ، نفس التناقض الذي عاناه من قبلُ طه حسين وسلامة موسى، ومن قبلهما رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك، ومن بعدهما لويس عوض ومحمد مندور، أي: إنها تكاد تكون الظاهرة الأساسية الغالبة على تكويننا الثقافي والضميري، أن يجتاز روادنا هذه الأزمة الحادة بين التكوين المتخلف المنعكس في السلوك اليومي، والتطلع إلى المثال المتقدم في السلوك والفكر، وهي أزمة تتعدد مستوياتها من لحظات الجنس مع امرأةٍ، إلى لحظات الفكر مع كتابٍ أو متحفٍ أو معرضٍ أو قاعة موسيقى.
ولا شكَّ أن جميع الذين تعرَّضوا لهذه الأزمة من مفكرينا وأدبائنا قد أحسوا بالارتباك لأول وهلةٍ؛ لأن الانفعال الأول لن يكون أقل ولا أكثر من الانفعال بصدمةٍ مفاجئةٍ، ولكنهم بعد دوار الصدمة، تفاوتت الانعكاسات العميقة التي استقرت في وجدانهم وعقولهم طويلًا، أو التي أضافت إلى ملامح تكوينهم شيئًا جديدًا؛ فمنهم مَن كان رد الفعل الأول والأخير هو السخط على هذه الحضارة «المنحرفة» أو «المتبرجة» على حد تعبير البعض، ومنهم مَن أصبح لاجئًا حضاريًّا، إن جاز التعبير عن درجة الذوبان التي دفعت بالبعض الآخر إلى الالتحام بكافة مقومات الحضارة الأوروبية، والقليل النادر مَن استطاع أن يرتفع على مستوى ردود الأفعال، ويتخذ موقفًا أو فعلًا أصيلًا مستمدًّا من واقعه الشخصي والموضوعي، لا بحكم «الأمر الواقع»، كما يتبادر إلى الذهن، وإنما بحكم «احتياج الواقع» إلى سماتٍ جديدةٍ تتلاءم مع مقوماته الإيجابية العريقة، وتنزع عنه مقومات السلب الطارئة، ويجتلب من الواقع الحضاري الجديد ما يحلُّ مكانها ويدفعها إلى أمامٍ، إلى مستوى المشاركة الحية الفعالة، بدلًا من بقائها في مستوى «الأخذ على الجاهز» الذي استنامت بواسطته للقهر الأجنبي، واستكانت للحضارة الغالبة.
ولم يتخذ الحكيم في البداية موقف ردِّ الفعل المذعور من الحضارة الغربية، وإن اتخذ موقف «الدهشة». ولكنه لم يستمر على موقفٍ واحدٍ، بل تطور إلى العديد من المواقف التي انتهت به إلى موقف تلك القلَّة من مفكرينا وأدبائنا الذين يأخذون من الحضارة الجديدة أشياء، ويرفضون — جبرًا واختيارًا — أشياء أخرى. كان في القاهرة يعرف المرأة «كما يُتاح لأمثالنا مقابلتها وقتئذٍ في تلك الأماكن المظلمة»، هكذا كَتب في سجن العمر. أما في باريس فقد عرف المرأة في صورٍ عديدةٍ متنوعةٍ، تبقى من بينها صورتان رئيسيتان؛ صورة ساشا التي أذهلته بجسدها ومأساة حبِّها، فأمضى معها بضع ليالٍ زاخرةٍ بالمتعة الحسية الطاغية، وصورة إيما التي شاءت أن تسترد منه حبها، حتى الأوهام والأحلام، فكتبت إليه تصف الأيام التي قضتها معه بعباراتٍ صريحةٍ للغاية: «أتمنى أني ما عشت قط هذين الأسبوعين». وفي الجانب الآخر من شاطئ العلاقات الإنسانية، عرف الحكيم معنى «الصداقة»، لدرجة أنه كان يفصل بين صداقته لأندريه، و«صداقته» لزوجته جرمين التي كان يَعدُّها صداقةً أخرى مستقلةً تقوم على احترامه لشخصها وتقديره لذكائها: «لن تتصور مقدار ما يحدثه جلوسي إليها من نتائجَ فكريةٍ»، كما يقول لزوجها في رسائل زهرة العمر. وغدًا — يستطرد الحكيم — تزول الحسابات المادية، ولن يبقى لنا غير الربح المعنوي، الذي اكتسبه أحدنا بمعرفة الآخر.
أما علاقته بالفن فقد مضت هي الأخرى في خطٍّ موازٍ لعلاقاته العاطفية والإنسانية، فهو يصف هذه البيئة الحديثة، وما يسود فيها من جو «المودرنزم» على حدِّ تعبيره، بأنها تفسد حُسن فهمه للأشياء، وتحُول دون تعرضه لحقيقة شخصيته في الفن والأدب. وهو يحب المودرنزم، ويخشى أن يقول لصديقه إنه يقلد أساليبه على الرغم منه. ويبلغ توفيق الحكيم درجةً عاليةً من النضج النفسي حين يكتب صادقًا: «لستُ أدري أمِنْ سوء حظِّي أو من حسنه، أني أعيش الآن في أوروبا وسط هذا الاضطراب الفكري، الذي لم يسبق له مثيل، فهذه الحرب الكبرى قد جاءت في الفنون والآداب بهذه الثورة التي يسمونها المودرنزم، فكان لزامًا عليَّ أن أتأثَّر بها، ولكني — في الوقت ذاته — شرقيٌّ جاء ليرى ثقافة الغرب من أصولها، فأنا موزعٌ الآن كما ترى بين الكلاسيك والمودرن، لا أستطيع أن أقول مع الثائرين فليسقط القديم؛ لأن هذا القديم أيضًا جديدٌ عليَّ، فأنا مع أولئك وهؤلاء …»
إنه بهذه الكلمات يضع كلتا يديه على معنى الفرق الجوهري بين الشرق والغرب، فهو ليس فرقًا نظريًّا غير قابلٍ للمحو، وإنما هو فرقٌ طارئٌ لا يلبث أن يزول. هذا من ناحية، الوعي بها ينفي مركبات النقص التي تتولد عند أصحاب المواقف السلبية من حضارة أوروبا، سواءٌ كانت ردَّ فعلٍ مذعورًا يتقهقر بنا إلى الوراء، أو رد فعلٍ يصل إلى درجة الذوبان. هذا الفَرق في مستواه الثقافي والفني، ينعكس على ما أدعوه بمسارنا الخاص في مجال الأدب، فنحن من جهةٍ لم نعانِ ميلاد الاتجاهات الفكرية في النقد والفن من الكلاسيكية إلى الواقعية إلى المذاهب الحديثة. ونحن لم نخلق آدابًا تثمر هذه التيارات بصورةٍ حرفيةٍ لما هو في أوروبا. ونحن أخيرًا قد استوردنا مع بوادر نهضتنا الحديثة بعض ما في حضارة الغرب من ألوانٍ وخطوطٍ وأشكالٍ وقوالبَ ونظرياتٍ، وبالتالي فنحن لا نملك في معظم فنونِنا السائدة، كالمسرح والقصة، سوى التجربة الأصيلة. أما صياغتها فقد وفدت علينا ضمن واردات الغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر. وليت الأمر كان ميسورًا مبسطًا على هذا النحو الذي يفرِّق بين التجربة والصياغة الفنيَّة، ولكننا نعلم أن ثمة تفاعلًا عضويًّا بين الشكل والمضمون في تجربة الخلق الفني والإبداع الجمالي. وهكذا نعتقد أن مسارنا الأدبي الخاص يتسم بمجموعةٍ من الخصائص المستقلة التي تميزه عن خطِّ التطور الأوروبي. ومن هنا كانت المنعطفات الأوروبية في تصنيف آدابنا ونقدنا لا تطابق هذه الآداب ولا نقدها.
ومن هنا قلتُ أيضًا إن توفيق الحكيم بلغ درجةً عاليةً من النضج النفسي والعمق والأصالة والصدق، حين قرر في اعترافٍ بالغ الأمانة والدقة أنه أحسَّ بارتباكٍ عظيمٍ بين خِضَم تيارات الفكر الأوروبي، وموجاته الفنيَّة التي لم يكن لها ثمة شبيه في بلده يمكن المقارنة بينهما، أو الاهتداء بأحدهما في التعرف على الآخر.
ولقد كان رد الفعل الأول عند الحكيم موحدًا بين سلوكه وفكره، فقد أخذت طبيعته تميل إلى عدم الأخذ بما يأخذ به الناس جميعًا من أوضاع، هربًا من الوقوع في الابتذال، وشغفًا جنونيًّا بالتميز والإغراب، فهو لا يرتدي كما يرتدي الآخرون، ولا يدخن كما يدخنون، ولا يُهدي إلى حبيبته الأزهار الجميلة. وقد وجد في أهل «المودرنزم» عقله ومأواه، بل وجد كل طبيعته بكل ما تنطوي عليه من «حمقٍ وجنونٍ». إنه وجد على الأقل سندًا وأساسًا لرغبته المحرقة في الخروج على ما سماه بالمنطق العام، ويقصد به المنطق المبني على فروضٍ عامةٍ مصطلح عليها؛ ذلك أنه أراد في ذلك الوقت أن يكون هنالك منطقٌ خاصٌّ يحوي فروضًا خاصةً لا تخضع للمألوف من الآراء والمشاعر؛ لهذا كانت حركة «المودرنزم» عنده تعني اتجاهًا إلى عدم التقيد بالمنطق العام، والنزوع إلى المنطق الخاص.
من الممكن بعدئذٍ أن نحصي العديد من ألوان السلوك وأشكال الفكر التي ابتهج لها الحكيم، وكانت فيما بينها تصنع مع ما سبقها مجموعةً من النقائض، فقد تجاوز رد الفعل الأول، وهو «الدهشة»، إلى موقفٍ جديدٍ دفعه لأن يتصور نفسه «رياضيًّا»؛ لأن أفكاره وتصرفاته كما يقول تكاد تسير على طريقةٍ هندسيةٍ أو حسابيةٍ أو جبريةٍ. يقابل الرجل «الرياضي» في توفيق الحكيم، الرجل «العاطفي» بمعنًى جديدٍ، هو أن الذي لا يعرف ولا يستطيع أن يحب إنسانًا، لن يعرف ولن يستطيع أن يحب الإنسانية. وكانت تلك هي اللحظة التي أحس فيها بأن تفكيره الشخصي قد تكون إلى حدٍّ ما، وأن نظرته الخاصة بدأت تطالبه بأن يستقل في التأمل والتقدير والاستنتاج. جاءت اللحظة التي شعر فيها بوجوب السير بمفرده، وكانت بوادرها ذات يومٍ أدرك فيه أن محادثاته مع الشاعر البرناسي العجوز، الذي أحبه وعطف عليه، وزار معه معظم ملامح باريس الفنية، لم يعد فيها جديد يثير اهتمامه أو التفاته. وبدأت حياته الحقيقية، حياة الهضم والتمثل، مع محاضرات دولاكروا عن الأحوال النفسية للفن، وبرنشفيج عن صلات العلم بالدين، ودروس روبيه عن المذاهب الأخلاقية والسياسية لأفلاطون وأرسطو، ودروس فوجير عن مصادر فن العمارة الإغريقية وآثار أكريول أثينا، ومحاضرات شنيدر عن ميكل أنجلو وعصره، وبرونو عن الثورة واللغة، ومحاضرات لجويس عن تاريخ الشِّعر الإنجليزي. وقد كانت المتاحف والمسارح وقاعات الموسيقى، والصداقات النسائية والصداقات العائلية والصداقات الفنية، بمثابة مادة اللحام بين النظرية والتطبيق؛ لهذا كله كانت «الكارثة العظمى» عند توفيق الحكيم هي قُرب العودة إلى بلاده، إذ لا حياة في مصر لمَن يعيش للفكر، أما «أوروبا العظيمة» فهي معبد الفكر الحقيقي لمَن شاء التبتل في محرابه، لمَن أراد أن يصبح فيما بعد «راهب الفكر». ويبدو أن أوروبا العظيمة في ذلك الوقت، تراءت لعين الحكيم من خلال عصورها الذهبية الغابرة، ولكنه حينذاك، وبالرغم من ربطه الوثيق بين الفن والحياة التي كان يلاحظ انعكاساتها الوجدانية على المعمار والموسيقى واللوحات والتماثيل والروايات والمسرح، أقولُ إنه بالرغم من ذلك، لم يرَ الوجهَ الآخر من أوروبا العظيمة بحقٍّ، فيما قدَّمته للإنسانية من حضارةٍ بلغت الذُّرى، ولكنها تخلَّفت عن الركب الإنساني المتقدم على الشاطئ الآخر حين اتخذت من القهر الاستعماري أداةً للسيادة. لم يكن يعلم أن أوروبا العظيمة هي السبب الرئيسي في أنه «لا حياة في مصر لمَن يعيش للفكر»، لم يكن قد اكتشف بعد الموقف الثالث الذي تتخذه القلَّة النادرة من عِظام مفكرينا الذين نهلوا من العالم الأوروبي والحضارة الأوروبية الشيء الكثير، الموقف غير المذعور من هذه الحضارة، غير الذائب فيها، وإنَّما هو الموقف الموضوعي الذي يتحسس نبض حضارة بلاده، فيتلمس احتياجاتها الحقيقية ويسارع بتلبيتها، فيمتص من أوروبا كل ما من شأنه أن يضيف إليه عنصرًا إيجابيًّا، ويستلب في نفس الوقت عناصر السلب. لم يكن هذا الموقف آنذاك هو موقف الحكيم، وإنما تطورت لديه «الدهشة» الأولى إلى موقف «التمزق» الملتاع، لا بين الشرق والغرب، فقد بات الغرب لديه هو «أوروبا العظيمة» بصورةٍ حاسمةٍ، وإنما التمزق بين الرغبة والضرورة، أو بين الواقع والمثال. وهكذا، من الأعماق، صرخ: «إن حياتي مفككةٌ، كالقصة المفككة، أو الهيكل المزعزع الأركان … حياتي كلُّها ليست سوى قارب ثمل.» لم يكن الصراع بين الشرق والغرب في نفسه هو السبب في هذا التمزق؛ لأنه في موقفه الجديد يعي، كما قال لأندريه، أن هزة التصادم بين الشرق والغرب هي وحدها التي تفتح الأعين المغلقة في الشرق والغرب: «إن في تلاقينا لمعنًى أوسع من كل معنًى شخصي أو فردي، إن فيه قوة الرمز، ما من مرةٍ احتكَّ فيها الشرق والغرب إلا وخرج من احتكاكهما ضوءٌ أنار العالم، وما من مرةٍ تلاقى فيها وجه الشرق بوجه الغرب، ونظر أحدهما في عين الآخر، إلا وأبصر جمال نفسه كأنه ينظر في مرآةٍ.» هذا وعيٌ ناضجٌ بما يمكن أن يكون عليه الأخذ والعطاء في حركة التفاعل الحضاري؛ لهذا لا نستطيع أن نقول بأن التناقض القائم بين الشرق والغرب هو عماد المرحلة الثانية في حياة الحكيم بأوروبا. حقًّا، هو يشير أحيانًا إلى ما سمَّاه ﺑ «أفيون الشرق» الذي كاد عقله يخبو تحت سطوته، لولا أن الأمر انتهى به إلى «النور» الذي أتاه من الشاطئ الآخر. ولكن مثل هذه الإشارات لم تكن تعبِّر إلا عن آلام اليأس المرير من البقاء في أوروبا أطول فترةٍ ممكنةٍ. ولا يتخلص توفيق الحكيم من مرارة هذه الآلام اليائسة إلا بين أحضان أرض مصر، حين بدأت المرحلة الثالثة في موقفه من أوروبا، وهي المرحلة التي عاشت معه، وعاش لها طوال رحلة العمر. عاد ليكتب إلى أندريه عن رؤياه الجديدة التي تدفعه لأن يقول إن الأدب لا ينافي حياة المصنع، فالأدب هو الحياة، أو التعبير عن الحياة: «إنه الحياة كلُّها التي تحوي في جوفها المصنع وغير المصنع.» والفن ليس هو الطبيعة ولا هو الحقيقة، ولكنه «تقطيرٌ» لكلٍّ منهما من خلال «أمبيق» الفنان. من هنا كان الأدب الروسي في نظره، كما كتب لأندريه من الإسكندرية، هو أدب الإنسانية العظيم، بينما لا يرى في الأدب الإنجليزي إلا مجموعة مغامرات في التاريخ والمجتمع والنفس الإنسانية، أما الأدب الفرنسي فهو أدب الشكل في جماله الساحر، والفن الإغريقي هو تجميل الطبيعة إلى حد إشعارها بنقصها، بينما الفن الفرعوني هو الأب الشرعي لمختلف الفنون الحديثة (وهي نفس الفكرة التي أوحت له ﺑ «يا طالع الشجرة» بعد عشرات السنين من كتابته لهذه الرسائل). وهو يسأل صديقه قرب نهاية التراسل بينهما في صراحةٍ قاسيةٍ: «هل حقيقة — بينك وبين ضميرك — تعتقد أني سأنتج شيئًا في شئون الفكر والأدب؟» إنه يحس بعد أن غرق في آداب الأمم كلِّها وفلسفاتها وفنونها، بعد أن تعرَّف معرفةً حميمةً على تاريخ النشاط الذهني كلِّه، يحس بأهمية السؤال وصدقه: ماذا يمكن أن يفعل؟ لقد بدأ يبصر وقتئذٍ، فتبين له بعد طول الجري والجهد أن الأسلوب أحيانًا هو حجة الكاتب الذي لا يجد ما يقول. إن الذي عنده ما يقوله للناس يُخرج بكلِّ بساطةٍ ما لديه من كنوزٍ، لا يحفل بأسلوب التقديم. فما أروع الحقيقة — يقول الحكيم — لو تفجَّرت وحدها، من أعماق القلب الصادق، في كلماتٍ بسيطةٍ: «لهذا كان الأسلوب أحيانًا كل أدب أولئك الذين لا يحملون في جعبتهم ما ينفع الناس.»
وكانت هذه الفكرة هي بداية الممشى الذي بحث عنه طويلًا، إن بلاده تغطُّ في نومٍ عميقٍ حقًّا، ولكن ما دوره هو إزاء هذا الغطيط؟ إذن، فهو يستطيع أن يؤدي «دورًا»، وقد كانت هذه مشكلته الأولى، فلا بد من جهادٍ شاقٍّ لتتخلى بلاده عن العرف السائد بين أدبائها عن معنى الأسلوب كمرادفٍ للغة المتصنعة المنمقة. وقليلٌ، بل أقل من القليل، مَن فطن إلى أن الأسلوب هو روحٌ وشخصيةٌ، بل إن هذه القلة القليلة الرائدة لمعنى الأسلوب الحديث كانت تلاقي من العنت والاضطهاد في الوسط الأدبي ما كان جديرًا بإشاعة روح السأم والملل من إمكانية الإصلاح. وليس ببعيدٍ ما نقرؤه عمَّا لقيه سلامة موسى في كتابه «البلاغة العصرية واللغة العربية» من هجوم الرجعية الأدبية عليه هجومًا بشعًا. هكذا وصل توفيق الحكيم إلى أنه لا يخلق الأسلوب الحق إلا الكاتب الصادق في شعوره وتفكيره إلى حدٍّ ينسيه أنه ينشئ أسلوبًا: «البلاغة الحقيقية هي الفكرة النبيلة في الثوب البسيط، هي التواضع في الزي، والتسامي في الفكر.» وهي نفس الرسالة التي حمل لواءها سلامة موسى منذ بداية القرن العشرين، والفرق الوحيد بينهما أن الحكيم كان يحقق دعوته هذه عن طريق الفن، أما سلامة فكان يدافع عنها بصورةٍ تقريريةٍ مباشرةٍ. وأكاد أقول إن أحدث منجزات التطور اللغوي في بلادنا يرجع الفضل فيه أساسًا إلى هذين الرائدين؛ توفيق الحكيم في الفن الأدبي، وسلامة موسى في الفكر الاجتماعي. وعندما أقرأ في رسائل الحكيم الأخيرة إلى صديقه الفرنسي، أنه لو نزل أدباء اللغة الفصحى عن بعض جهودهم، وعبَّروا عن مطالب عصرهم وشعبهم لكان الأدب العربي اليوم في مقدمة الآداب العالمية، عندما أقرأ هذه الكلمات أكاد أفتح «البلاغة العصرية» لسلامة موسى وأعيد قراءتها حرفيًّا من جديدٍ، فنحن كما يقول الحكيم في رسالته تلك «عبيد ذلك الميراث والعبارات والتراكيب التي وجدناها داخل صناديق المعاجم العتيقة، وكُتُب اللغة القديمة»، وهي الفكرة المحورية في كتابات سلامة حول اللغة العربية. ويختتم الحكيم زهرة العمر بقوله: «إني أضع دائمًا نُصب عيني هذه المصادر الثلاثة أستلهمها فنيًّا؛ القرآن، وألف ليلة وليلة، والشعب أو المجتمع.» وتأتي آخر كلماته من طنطا حيث كان يعمل وكيلًا للنائب العام: «إني غارقٌ في الحياة والواقع إلى أكثر من أذني.» ولو علمنا أن «يوميات نائب في الأرياف» هي نتيجة هذا الغرق في الواقع، لاستطعنا أن ندرك أبعاد ذلك الثائر المعتزل في البرج العاجي.
إن الحكيم في «سجن العمر» و«زهرة العمر» قد أضاء لنا الطريق إلى تفاصيل مرحلة التكوين في حياته الباكرة. وهو لم يكتب بعد «رحلة العمر» التي تلت تلك المرحلة إلى الوقت الحاضر. ولكننا لا ننسى أن ما كتبه الحكيم من مؤلفاتٍ تربو على الأربعين كتابًا من مسرحٍ وقصةٍ ومقالاتٍ، هو تفاصيل أو نتائج رحلة العمر التي لم تُكتب بعدُ. كذلك فإن الخطوط الرئيسية التي جادت بها مذكرات سجن العمر ورسائل زهرة العمر، كانت البذور التي التحمت فيما بعد بأرض الواقع المصري، فأنبتت وأثمرت كافة الحقائق الصغيرة في حياة الحكيم وفنِّه، أي: إني أكاد أجزم بأنه لم يحدث ثمة تغيير في هذه الحياة وذلك الفن من حيث الجوهر، وإنما حدثت أشكالٌ عديدةٌ من التنمية والبلورة والتطور، وهو ما أحاول اكتشافه في خطوات الحكيم القادمة من أوروبا، الخطوات التي قادته من أسرةٍ متوسطةٍ بالريف المصري، تعاني ويلات تمزقها الاقتصادي والاجتماعي، إلى الصراع النفسي المركَّب، إلى الشكوك الفكرية والقلق الفني، إلى موقف الدهشة من لقائه الأول بالحضارة الأوروبية، إلى موقف التمزق بين الواقع والمثال، إلى معانقة الواقع بين أحضان المثال. هذه الخطوات جميعها التي دارت بين الفن والحياة في محورٍ ثوريٍّ، ولكن على المدار الأيمن من الثورة التي عبَّرت عن نفسها في الشكل المسرحي، والمسرح الذهني بالتحديد — هذا في المستوى الفني — كما عبَّرت عن نفسها من عودة الروح إلى يوميات نائب إلى أهل الكهف في دائرة المعتزل عن العمل السياسي المنظم والمباشر، أي: في دائرة الفكر المجرد الذي دعاه خطأً فيما بعدُ بالتعادلية. وسوف نرافق هذه المعاني كلَّها، فرادى ومجتمعةً، فيما بدأه الحكيم من سلسلة كتاباته الفكرية التقريرية المباشرة.