العقل والقلب بين الفكر والعمل
إذا كان الموتُ والبعثُ، أو الميلادُ والموتُ، هما محور نظرية الخلود في مسرح توفيق الحكيم، فإن هذا المحور لا يدور في فراغٍ، بل هو يعمل وفق موازاةٍ صارمةٍ تتم بينه وبين محورٍ آخر، هو «العقل والقلب». فليس الموت والبعث إلا الشكل الخارجي لذلك الصراع الذي لا يهدأ بين العقل والقلب في أعمال توفيق الحكيم.
وكما أن الموت والبعث يدوران في فلك نظريةٍ مثاليةٍ، هي النظام التعادلي، فإن العقلَ والقلبَ كلاهما يدور في نفس الفلك على مستوًى آخر، هو مستوى المطلقات؛ العقل عقلٌ مطلقٌ، والقلب قلبٌ مطلقٌ، ليس في هذا أو ذاك مكانٌ خاصٌّ لقلبٍ محددٍ أو عقلٍ معينٍ؛ لأنه لم يوجد في ضمير الفنان ما يمكن تسميته بالإنسان النسبي؛ لهذا لم توجد في معظم أعماله «الشخصية» الحية.
على أنه إذا كان الموتُ والبعثُ، بالرغم من مثاليته، محورًا فكريًّا في اتجاه التقدم، كذلك نرى العقل والقلب محورًا فكريًّا في نفس الاتجاه؛ ذلك أن التحقيق الفني للفكرة الذهنية كان يفلت من يد الكاتب كثيرًا من الخيوط التجريدية التي يصادر بها تجربته قبيل عملية الخلق، فما أكثر ما أفلت منه التكوين التعادلي! وما أكثر ما أفلتت منه المطلقات!
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن هذا المحور الجديد يرتبط ديناميًّا بالمحور السابق، ثم يرتبط تلقائيًّا بالعلاقةِ بين الفكرِ والعملِ.
ولعلَّ مسرحيةَ «شهرزاد»، التي أصدرها الحكيم عام ١٩٣٤م، أي بعد صدور «أهل الكهف» بعامٍ واحدٍ، تضع أيدينا على أولى حلقات العقل والقلب بين الفكر والعمل، فهي مسرحيةٌ تتخذ من أسطورة ألف ليلة وليلة «خلفية» لها، فالأسطورة نفسها ليست هي البناء الدرامي في المسرحية، وإنما هي المقدمة أو البرولوج الذي يفترض الحكيم وجوده في مخيلة القارئ، حتى ينطلق منه إلى الآفاق البعيدة تمامًا عن الأسطورة وتفسيراتها المختلفة. الحكيم إذن لا يعتمد على أسطورة شهرزاد، ولا يحاول أن يفسرها، وإنما هو يبدأ من النهاية التي تقول بأن شهرزاد — البطلة الأسطورية — هي التي استطاعت أن تنتصر على جنون شهريار بحكايات لياليها الواحدة بعد الألف.
يبدأ الحكيم من هذه الخاتمة ليصور لنا مرحلة «ردِّ الفعل» في حياة شهريار، الرجل الذي صنع نهرًا من دماء العذارى لمجرد أنه شاهد عبدًا أسود مع زوجته الأولى فقتلهما، وأقسم أن يتزوج كل ليلةٍ عذراء لا تعيش حتى صباح اليوم التالي. ورد الفعل في حياة شهريار بعد حدوث معجزة شهرزاد، أن تحول عن حياة اللحم والدم تحولًا صوفيًّا يخترق ببصيرته الداخلية حُجبَ عالم الغيب، وتلك هي مأساة شهريار الحكيم التي بنى عليها مسرحية «شهرزاد»، أنه غادر الأرض في طريقه إلى السماء، إلَّا أنَّه ظلَّ معلقًا بين الأرض والسماء.
وتبدأ «شهرزاد» بلقطةٍ دراميةٍ شديدة الذكاء، وهي أن عبدًا دخل المدينة والتقى بجلَّاد الملك، فإذا به يسمع أنينًا من نافذة «الساحر» المعروفة بالمنطقة، إذا به يكتشف أن هذا الأنين يصدر عن جاريةٍ عذراء اسمها «زاهدة»، تستعد للقاء سيف الملك شهريار، السيف الذي طال بقاؤه في الغمد منذ أن نجحت شهرزاد في تغيير الملك الدموي، إذن فثمة شيءٌ جديدٌ قد حدث يدعوه لأن يستلَّ سيفه من غمده، ويذهب فجأةً ليقتل هذه العذراء «زاهدة».
ويعلق الحكيم هذا المشهد الأول في خيالنا، لينعطف بنا نحو ذلك الشك الذي يساورنا في طبيعة العلاقة بين وزيره «قمر» وزوجته «شهرزاد»، ونحن ندرك من خلال المشهد الثاني بضعة أشياء، ندرك أن الوزير يرى في تحول الملك لغزًا مغلقًا، وكأنما كشف لبصيرته عن أفقٍ آخر لا نهاية له، فهو دائمًا يسير مفكرًا باحثًا عن شيءٍ، منقِّبًا عن مجهولٍ، ويعتقد «قمر» أن شهرزاد هي التي نقلت «الطفل» شهريار من طور اللعب بالأشياء إلى طور التفكير في الأشياء، غير أن هذا المشهد لا ينتهي إلا ويرسب في تفكيرنا تصور شهريار لما حدث، فإذا كان في الماضي يسفك الدماء، وها هو ذا يفعل أيضًا كما تقول شهرزاد، فإن ذلك مردُّه أنه في القديم كان يقتل ليلهو، واليوم يقتل ليعلم، «لقد أبصرت أكثر مما ينبغي»، هكذا يردد شهريار متمنيًا من أعماقه أن يموت؛ إذ ليس في الحياة جديدٌ، والطبيعة كلها تحولت في عينيه إلى سجَّانٍ صامتٍ يُضيِّق عليه الخناق: «ما قيمة عمري الباقي؟ … لقد استمتعت بكلِّ شيءٍ … وزهدت في كل شيءٍ.» إن صفاء عينَي شهرزاد يراه «خدعةً» من الطبيعة التي تضفي صفاءها الظاهري على جوهر الأشياء، فلا يكاد يعرف شيئًا عن هذا الجوهر؛ لذلك يتبرأ شهريار من «آدميته»، أي من ذلك الشكل الخارجي الذي يكسو «روح» الإنسان باللحم والدم والعظم: «لا أريد أن أشعر … أريد أن أعرف.»
ولعلَّنا نستطيع أن نتعرف على حقيقة شهريار إذا تعرفنا أولًا على حقيقة «شهرزاد» التي أبان عنها من طرفٍ خفيٍّ حين قال: «قد لا تكون امرأةً، مَن تكون؟ … إني أسألك مَن تكون؟ هي السجينة في خِدرها طول حياتها … تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض … هي التي ما غادرت خميلتها قط … تعرف مصر والهند والصين … هي البكر … تعرف الرجال كامرأةٍ عاشت ألف عامٍ بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من ساميةٍ وسافلةٍ … هي الصغيرة لم يكفها عالم الأرض فصعدت إلى السماء، تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها وممالكهم السفلى العجيبة، كأنها بنت الجن، مَن تكون تلك التي لم تبلغ العشرين قضتها كأترابها في حجرةٍ مسدلة السجف؟ ما سرها؟ أعمرها عشرون عامًا؟ أم ليس لها عمرٌ؟ أكانت محبوسةً في مكانٍ؟ أم وُجدت في كل مكانٍ؟ إن عقلي ليغلي في وعائه، يريد أن يعرف … أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة؟!»
ليست شهرزاد، على ضوء هذا النص، مجرد امرأةٍ بارعةٍ في حكاية القصص، على الأقل، لم تكن حكاياها هي مصدر الانقلاب العنيف في حياة شهريار، إنه لا يراها امرأة بين النساء، وإنما هي رمز يرتئيه في كل جزئيات واقعه اليومي، دون أن تتبلور في مخيلته نظرةٌ كليةٌ شاملةٌ للسر الأعظم الذي يربض في أعماق الكون. وشهرزاد هي ذلك «المجهول» الذي يراه ولا يعرفه، وليست الغشاوة التي انجابت عن بصيرته ليقف عند تخوم هذه «الرؤيا» إلا ذلك الحاجز بين الشعور الحسي المباشر والوعي الذهني المتقد بنور المعرفة، ولقد كانت عذارى الماضي هي خامة الشعور الحسي المباشر، أما شهرزاد فهي خامة الوعي الذهني والمعرفة الكاملة؛ لهذا يناديها شهريار: أنتِ تعرفين، تعرفين كل شيءٍ، أنتِ كائنٌ عجيبٌ، لا يفعل شيئًا ولا يلفظ حرفًا إلا بتدبيرٍ، لا عن هوًى ومصادفةٍ … أنت تسيرين في كل شيءٍ بمقتضى حسابٍ لا ينحرف قيد شَعرة، كحساب الشمس والقمر والنجوم «ما أنتِ إلا عقلٌ عظيمٌ»، فإذا قالت له شهرزاد إنه يراها في مرآة نفسه، أجاب بأنه يرى «الحقيقة»، فتسخر منه شهرزاد في غموضٍ معلقةً: «دائمًا الحقيقة». وهكذا يصوغ الحكيم من الاسم الواحد عدة شخصياتٍ، فشهرزاد عند شهريار «عقلٌ عظيمٌ»، وعند القارئ امرأة غزلة تداعب الوزير، وفي مشهدٍ قادم نراها شهوة دافقة بالحياة مع عبدٍ أسودَ، وفي معظم المشاهد هي «سرٌّ» يلوح لنا بين السطور ماردًا عملاقًا يتخذ من العالم مادةً للسخرية. من هنا كانت شهرزاد عدة شخصيات في وقتٍ واحدٍ، بمعنى أنها تراءت لنا نحن القراء، كما تراءت لشخصيات المسرحية، ذات أكثر من وجهٍ، تلك هي الصياغة الذاتية لشهرزاد، أن تبدو لكلٍّ منا بجانبٍ مختلفٍ عما يراه الآخر، أما الصياغة الموضوعية فهي أن تتراءى للجميع في وقتٍ واحدٍ «سرًّا» ضخمًا يداعب عقولنا، ويقسو في المداعبة في أغلب الأحيان، ويعنينا في الكثير أن نركز على ترجمة هذا السر عند شهريار بالعقل الأعظم، وهو قد يتلمس حدود هذا العقل في الطبيعة التي تبدي لنا من حُسنها وتحجب عناصرها، ومن ثم يبدأ رحلته الكبرى التي يطوف بها أنحاء هذه الطبيعة، لعله يلامس حدود هذا العقل، ويكتشف أخيرًا ذلك السر، ويفك طلاسم اللغز المجهول.
وتبدأ رحلة شهريار بعبارةٍ يلقيها في وجه الساحر: «أيتها الديدان الكبيرة التي ما خُلقت إلا لتأكل صغارها»، إن العقل العظيم الذي يستهدف الملكُ الوصولَ إليه لا يخرج عن دائرة الحواس، فما جنى أحدٌ شيئًا من الخيال والتفكير — يقول شهريار — مضى ذلك العهد الساذج … اليوم نريد الحقائق … نريد الوقائع، «نريد أن نرى بأعيننا وأن نسمع بآذاننا.» ومعنى ذلك أن تحول شهريار عن الشعور الحسي المباشر إلى آفاق المعرفة الواعية وقواها الذهنية، لا يتم في فراغٍ ميتافيزيقيٍّ أشبه ما يكون بالحدس، وإنما يتم عبر «التجربة الواقعية»، إلا أنه مهما تعددت الوسائل، فإن الغاية العظمى هي «المعرفة» بعد أن كانت اللذة الحسية الغفل هي الهدف الأول والأخير، ويدور هذا الحوار بين الملك ووزيره:
– إن لم نعش لنعلم، فلماذا نعيش إذن يا قمر؟
– لنعبد ما في الوجود من جمالٍ.
– وما أجملُ شيءٍ في الوجود؟
– عينا امرأة … ويعلق شهريار: «أيها المسكين! … عينا امرأة! هذا كل ما في الوجود عندك أيها الفتى الجميل … ينبغي أن تكون لك في كل ليلةٍ عذراء حتى تبصر بعدُ عيناك.» وينطلق الملك في رحيله الطويل، وهو يود أن ينسى هذا اللحم «ذا الدود» وينطلق … إلى أين؟ إلى «لا حدود»، فمَن استطاع تحرير جسده مرة من عقال «المكان» أصابه مرض الرحيل، فلن يقعد بعدئذٍ عن جوب الأرض حتى يموت، وإذا حاولت أن تغريه شهرزاد بذراعيها الفضيتين أجابها: إن ذلك على وجه التحديد هو الذي يحبس ذاته في حدود «المكانية» … وهذه هي همزة الوصل بين «أهل الكهف» و«شهرزاد»، فالأولى قد ناقشت «الزمان»، والثانية تناقش «المكان».
•••
في مقابل «العقل العظيم» الذي يتصوره شهريار في شخصية شهرزاد، نواجه مع المشهد الخامس تصورًا آخر للعبد الذي رأى فيها قلبًا عظيمًا، والقلب العظيم الذي يتوسد ضلوع شهرزاد هو «الجسد الجميل» في عينَي العبد، فإذا احتجَّت شهرزاد على كونها مجرد جسدٍ جميلٍ، أجابها بأنه يرى «الحقيقة»، فتسخر منه هو الآخر قائلةً: دعوا الحقيقة في مكانها هادئة! لقد سخرت فيما مضى من شهريار لأنه رآها عقلًا عظيمًا وروحًا علويًّا، وها هي ذي تَسخر من العبد لأنه رآها على العكس؛ قلبًا عظيمًا، وجسدًا جميلًا، وتدرك «شهرزاد» مبلغ حيرتنا من شخصيتها، فيدور بينها وبين العبد هذا الحوار:
– نعم … إن أردت الحياة يا حبيبي فاسعَ في الظلام كالثعبان … احذر أن يدركك الصباح فتُقتل!
– إذا رآني الملك؟
– بل أنا … حبي لك لا يحيا إلا في الظلام.
هي عقلٌ عظيمٌ في النهار، وقلبٌ كبيرٌ في الليل، هي قِبلة شهريار في وهج النور، وهي قِبلة العبد في عتمة الظلام، هي تقول للعبد أن «القتل» الجديد عند شهريار أن يعتقه، أن يمنحه «الحرية»، فليس شهريار الآن هو الرجل الذي قضى حياة طويلة في قصرٍ من اللحم والدم، وإنما هو آدميٌّ استنفد كل ما في كلمة «جسد» وكل ما في كلمة «مادة» من معنًى، قد استحال الآن إلى إنسانٍ يريد الهرب من كل ما هو مادةٌ وجسدٌ: «هجر الأرض ولم يبلغ السماء، فهو معلقٌ بين الأرض والسماء.» حقًّا، فقد صال في الأرض وجال، حضر ولادة الشمس في الأفق الشرقي، وحضر موتها في الأفق الغربي، نطح برأسه أبواب الشمال، ومزق بقدميه أسوار الجنوب … ولكنه عاد خالي الوفاض: «ها أنا ذا في القصر من جديد! إلامَ انتهيت؟ … إلى مكان البداية … كثور الطاحون على عينيه غطاء … يدور ثم يدور ثم يدور … وهو يحسب أنه يقطع الأرض سيرًا إلى الأمام في طريقٍ مستقيمٍ.» وشهرزاد تتساءل ما إذا كان قد ذَكَرها أثناء السفر، فيجيبها صادقًا أنه ما تذكَّرها إلا ساعة الرحيل وساعة الوصول … أما فيما بينهما فما كان يعيش إلا في «الزمان والمكان» المحيطين به: «أوَلست كالماء يا شهرزاد؟ سجينًا دائمًا كالماء، نعم، ما أنا إلا ماء … هل لي وجود حقيقي خارج ما يحتوي جسدي من زمانٍ ومكانٍ! … حتى السفر أو الانتقال إن هو إلا تغير إناء بعد إناء … ومتى كان في تغيير الإناء تحريرٌ للماء؟!» وهكذا ينتهي شهريار إلى حافة اليأس، لقد كانت رحلته الطويلة بين أرجاء الكون هي رحلة العذاب بين العقل والقلب، بين العقل الخالص والقلب الخالص، هي رحلة الإنسان في عالم المطلقات، فليست شهرزاد إلا هذا الكون الغامض، وليس شهريار إلا ذلك الإنسان المعذب … والصراع بينهما صراعٌ أبديٌّ لا فكاك منه بالزمان — كما قلنا في الفصل السابق عن الموت والبعث في نظرية الخلود — ولا فكاك منه بالمكان كما تقول لنا مسرحية «شهرزاد» وبقية الأعمال التي تدور حول محور العقل والقلب، يخاطب شهريار شهرزاد: «أنت أنا … أنت نحن … لا يوجد غيرنا نحن … أينما ذهبنا فليس غيرنا وغير ظلنا وخيالنا … والوجود كله هو نحن … ما من شيءٍ خلا صورتنا في هذه المرآة العظيمة التي تحيط بنا من كل جانبٍ … لقد سئمت هذا السجن من البلور.»
وإذا كانت هذه المسرحية تتصل بمحور الموت والبعث من زاوية الزمان، فإنها تتصل بالنظام التعادلي عند الحكيم من زاوية المكان، الفنان هنا والمفكر هناك يؤمن بالحركة، ولكنها حركةٌ دائريةٌ أقرب إلى السكون، هي بالقطع ليست حركة أمامية تنتهي إلى طريقٍ مسدودٍ، ولكنها أيضًا ليست حركةً متطورةً ديناميكيةً متفاعلةً يثمر صراع متناقضاتها «تركيبًا» جديدًا، أي مستوًى كيفيًّا جديدًا من مستويات المعرفة التي لا نهاية لها في الزمان أو المكان: «كلا … لست أريد الجلوس … لست أحب الجلوس إلى هذه الأرض … دائمًا هذه الأرض، لا شيء غير الأرض، هذا السجن الذي يدور، إنَّا لا نسيرُ، لا نتقدمُ ولا نتأخرُ، لا نرتفعُ ولا ننخفضُ، إنما نحن ندور، كل شيءٍ يدور … تلك هي الأبدية … يا لها من خدعةٍ! نسأل الطبيعة عن سرها فتجيبنا باللف والدوران …» بهذه الكلمات المحددة تحديدًا صارمًا يصوغ شهريار موافقة شهرزاد: «نعم أنت تدور … وأنت الآن في نهاية دورة.» وإذا تساءلت في اندهاشٍ: إلى هذا الحد أنت ناقمٌ على الطبيعة؟ أجابها فيما يشبه اليأس: إنها تقارعني بسلاح العجز: «السجن داخل حلقةٍ تدور.» ماذا يكون المصير الفردي إذن لشهريار الملك؟ إنه ليس إلا شعرة بيضاء تنزعها الطبيعة لأنها تكره الهرم … نعم، تنزعها كي تعود من جديدٍ فتيَّةً قويةً، أو كما ردد شهريار في أسًى: «كلٌّ منا يكبر مرجعه إلى الصغر … كل غاية تتبعها بداية … إلى متى هذه الدائرة التي لا مخرج منها؟!» ويجيب: «بهذا المكان … بهذا الجثمان … الجثمان خلق المكان كما خلق الماء الإناء.» ذلك هو موقف الإنسان عند الحكيم في تلك المرحلة الباكرة من تاريخه الفني، وهو موقف العقل المعذَّب والقلب المسهَّد بين الفكر والعمل، إذا قالت له شهرزاد: اترك ما وراء حياتك يا شهريار … تأمل وجه الرداء، ودعك من البطانة، فما فيها غير خيوطٍ …
أجابها شهريار: كل الرداء في تلك الخيوط …
وتستأنف شهرزاد: لا شيء يعنيك وراء الرداء.
فما الحل؟ إن شهريار أصبح إنسانًا معلقًا بين الأرض والسماء ينخر فيه القلق، ولقد حاولت شهرزاد أن تعيده إلى الأرض فلم تفلح التجربة، مضى عهد الدماء، «لكن هذا ما صار إليه الرجل»، دار وصار إلى نهاية دورة. ويختتم الحكيم شهرياره قائلًا على لسان شهرزاد: «خيال شهريار آخر الذي يعود … يولَد غصنًا نديًّا من جديدٍ … أما هذا، فشعرة بيضاء قد نُزعت!»
لا شك أن الحكيم في هذا العمل كان أكثر «تبسيطًا» — ولا أقول بساطةً — للقضية التي يطرحها للبحث. فهو لا يجنح إلى ذلك اللون من ألوان «التركيب» الذي تعرفنا عليه في «أهل الكهف» أو «يا طالع الشجرة»، والخيوط التي يضع أيدينا عليها منذ بداية المشهد الأول صريحة التحديد، فهو يضيف بُعدًا جديدًا إلى قضية «الإنسان»، هو البعد المكاني، بعد أن ناقش البعد الزماني في مرحلةٍ سابقةٍ، وهو يتطرف في تجريد «المشكلة» من أية ملابساتٍ نسبيةٍ، ويضعها مباشرة في قلب «المطلق»، وهو أخيرًا يجعل الشفافية الشِّعرية في مقابل الكثافة الفكرية، فتذوب التقريرية والمباشرة في دفقة الحرارة التي تتولد عن درامية التكوين الذاتي والموضوعي للشخصيات والمواقف والأحداث.
هذه المظاهر الثلاثة الأساسية نتلمس أهدابها في إطار محور «العقل والقلب»، الذي يدور حوله الفنان بين الفكر والعمل. والمسرحية حقًّا تنتهي بانتحار الوزير «قمر»؛ لأنه لم يتحمل ما يُقال من أن «شهرزاد» عشقت عبدًا في غياب الملك، ولكن شهريار يفسر انتحار قمر على ضوءٍ جديدٍ يهدينا إلى بداية المسرحية من جديد، قال شهريار إن «قمر» لم يعد يستمد الحياة من الشمس، وقالت شهرزاد: لأنه لم يعد يؤمن بها، ويعقب شهريار متنهدًا في أنينٍ لا نسمعه ولكننا نحسه: «الإيمان!» كلمة واحدة، ولكنها تضع حدًّا لهذا الدوران في حياة شهريار، الإنسان المعذب، كنقيضٍ لذلك «الفعل» الذي أقدم عليه «قمر»، وهو الانتحار.
ويبدو أن «خطة» الحكيم الفنية هي بناء أسطورةٍ جديدةٍ على أسس الأسطورة القديمة؛ إذ إنه بدأ برحيل شهريار غداة الليلة التي قطع فيها رأس «زاهدة»، وانتهى بعودة شهريار في الليلة التي انتحر فيها «قمر». موقفان تراجيديان يحيطان المسرحية من أولها لآخرها بضباب من القلق والغموض. الموقف الأول عاد فيه شهريار إلى لغة الدم، ولكن لا ليلهو، وإنما ليعلم، أي إن الدماء التي كانت طريقه إلى اللذة الغفل، أصبحت هي الخطوة الأولى في طريقه إلى المعرفة. وتصبح «الحركة» التي عبر عنها الفنان بالرحيل هي الخطوة الثانية، إلى الصحراء والجبال والسهول والبحار، وغياهب الطبيعة العذراء (البديل الجديد زاهدة الجارية العذراء)، والعودة إلى نقطة البداية هي الخاتمة الكلاسيكية الحادة، التي اختارها الحكيم ليعبر عن الجبر الأعمى الصارم في هذا الوجود، وحتمية القول بأن التاريخ يعيد نفسه.
لقد أغرت أسطورة شهرزاد بعض كُتَّابنا بإعادة صياغتها أو تفسيرها، ولعل «أحلام شهرزاد» للدكتور طه حسين، و«سر شهرزاد» لعلي أحمد باكثير في مقدمة هذه المحاولات، وما دامت تجربة باكثير تجسدت في الشكل الدرامي، فإنه يجدر بنا أن نقارن بينها وبين تجربة الحكيم. باكثير لم يغير منهجه الذي عرفناه في «أوزوريس»، فهو لا يفعل أكثر من «صياغة» الأسطورة من جديدٍ، بل هو يتطرف إلى بعيدٍ فيجعل من مسرحيته تبريرًا واقعيًّا منطقيًّا للأسطورة، بمعنًى آخر، يدفعنا إلى «تصديق» الأسطورة في حرفيتها. تبدأ «سر شهرزاد» بفصلٍ كاملٍ حول زواج الملك شهريار من «بدور»، التي أرادت أن تثير غيرته بإخفاء عبد أسود في مخدعها، فما كان منه إلا أن قتلهما معًا. ثم يُفرِد فصلًا آخر لما طرأ على شهريار من شهوة الدم، التي تدفعه للزواج بعذراءَ كل ليلةٍ يطيح برأسها قبل نور الصباح، إلى أن انتهى به المطاف إلى خطبة ابنة وزيره السابق «نور الدين»، وهي الفتاة شهرزاد، ولقد حاول طبيبه ومشيره «رضوان الحكيم» أن يَثنيه عن عزمه دون جدوى. وتحتدم أحداث المسرحية حين تقرر شهرزاد الذهاب فورًا إلى قصر الملك، وبالرغم من علمها بما سيحدث لها ولأبيها على السواء، حيث قرر الملك قتله بعد ذبح ابنته بأسبوعٍ، عندما نما إلى علمه أنه يدبر له مؤامرةً في الخفاء لمصلحة الشعب الجائع، ولكن شهرزاد تستطيع بسرها العجيب أن تحُول بين رقبتها وسيف الملك، ويعود والدها إلى منصبه في الوزارة بدلًا من «ركن الدولة»، الذي كان يتملق الملك ضد الشعب. ويكمن هذا السر في زاويتين يقيمان البناء الدرامي للمسرحية على قاعدةٍ كلاسيكيةٍ ضخمةٍ، فقد بنى باكثير مسرحيته على أساسٍ من الشك في الكفاءة الجنسية لشهريار، أما الأساس الآخر فهو الفكرة السيكولوجية القائلة بأن حل العقدة يتأتَّى بمواجهة جذورها، فشهرزاد من ناحيةٍ تمكنت من حل عقدته الجنسية بأن استطاعت في الليلة الحادية والسبعين أن تعيد إليه ثقته بنفسه، فينجح في معاشرتها معاشرة الأزواج، ومن ناحيةٍ أخرى تمكنت بتدبيرٍ من رضوان الحكيم أن تواجه شهريار بجذور عقدته من العبد الأسود، العقدة التي توقظه عند منتصف كل ليلة ليستلَّ سيفه من غمده ويقتل شبحين في الهواء، لا يراهما أحدٌ غيره، أحدهما لبدور والآخر للعبد. أخرجت شهرزاد تمثيليةً قصيرةً ارتدت فيها إحدى الجاريات ملابس العبد الاسود وأخفتها في مخدعها، واحتجت على شهريار بأنها لا تزمع الخروج في ذلك اليوم؛ لأنها تحس بوعكةٍ خفيفةٍ أصابتها فجأة، ثم يأتي شهريار و«يكتشف» الخيانة الجديدة فينهار، وما إن يكتشف «الحقيقة» حتى يزداد انهياره بين ذراعَي زوجته، وتُحَل عقدته، ويصبح إنسانًا سويًّا يعيش بقية حياته كبقية الرجال.
إن البناء المسرحي في «سر شهرزاد» بناءٌ يمعن في الكلاسيكية، ولكنه في حدود الإطار الكلاسيكي استطاع أن يضفي على المسرحية شيئًا من الحياة، لقد أراد حقًّا أن «يبرر» الأسطورة تبريرًا منطقيًّا يقترب من الإيهام بواقعيتها، ولكنه استطاع أن يستلهم من «روح العصر» قضيتين؛ الأولى هي علاقة الملك بالشعب (مع ملاحظة أن باكثير كتب المسرحية قبل الثورة، وإن مُثلت عام ١٩٥٣م)، والقضية الثانية هي الاستعانة بكشوف علم النفس الحديث في تفسير أزمات الإنسان المعاصر. وكما أن «سر شهرزاد» بدأت من السفح، ومرت بالذروة، انتهت إلى السفح مرة أخرى، فسلم شهريار مفتاح الجناح المغلق منذ قتل بدور والعبد، وقرر الرحيل مع شهرزاد إلى عالم سندباد الجميل، الذي روت له مغامراته في ألف ليلة وليلة.
توفيق الحكيم يبدأ من حيث انتهى باكثير، ويكاد لا يتفق مع باكثير إلا في إحدى الجزئيات الشكلية، وهي أن شهرزاد راحت تقص على شهريار حكاياها في الليالي الواحدة بعد الألف، فأنقذت رأسها ورءوس بقية العذارى. ويتفق الحكيم مع باكثير في نقطة أخرى، أن كيلهما يبدأ من السفح وينتهي إليه. شهرزاد عند باكثير هو ذلك الانتصار الجنسي والتدبير المحكم لزوال عقدة الملك، وهو محور يفيد البناء الكلاسيكي إفادةً ضخمةً. ولكن «سر» شهرزاد عند الحكيم، هو سر الكون المغلق، هو لغز ذلك العالم المجهول؛ لذلك وبالرغم من الخاتمة الكلاسيكية، فإن شهرزاد الحكيم أقرب إلى المسرح الأوروبي الحديث في اعتماده على المجردات والمطلقات والأبنية الأسطورية، فالسفح الذي يبدأ منه باكثير وينتهي إليه هو السفح «المادي» الصرف، هو الظاهر والباطن معًا، أما السفح الذي يبدأ منه الحكيم وينتهي إليه فهو السفح «الفكري» الذي يدفع الإنسان لأن ينطلق إلى أعلى القمم بحثًا عن «المطلق»، ثم يعود مهرولًا إلى الأرض صفر اليدين، ومثل هذا البناء أقرب ما يكون إلى البناء السيمفوني في الموسيقى، أما بناء باكثير فهو البناء الهرمي الكلاسيكي في المسرح القديم.
في مسرحية باكثير لا نصادف «أفكارًا» تسبح، وإنما شخصيات من لحمٍ ودمٍ تتجسد أمامنا بكل نزواتها الفردية ودلالاتها الاجتماعية، أما في مسرحية الحكيم، فإن الأمر يختلف كثيرًا، فالأشخاص ليسوا إلا أشباحًا فكريةً مجردةً؛ «شهريار» و«قمر» و«العبد» هم ثلاثة وجوه للإنسان في سعيه الحثيث نحو المجهول، وشهرزاد هي الكون الذي يتراءى لكل منهم في «مرآة نفسه»، ولكنه كيانٌ موضوعيٌّ مستقلٌّ عن إرادة الإنسان.
ولا سبيل للصراع بين الأفكار والمطلقات في الإطار الكلاسيكي القديم، وإنما لا بد من الروح الانسيابية التي تحمل الكثافة الفكرية في جانب، والشفافية الشِّعرية في الجانب الآخر، وعندما تحتل الأفكار عجلة القيادة تتحول الشخصيات والأحداث والمواقف إلى رموز، وإذا تحولت المسرحية إلى عالمٍ من الرموز، فإنه يتهددها عاملان غاية في الخطورة؛ الجمود والغموض. إن أمثال هذه المسرحيات مهددٌ دائمًا بالتحول إلى معادلةٍ رياضيةٍ جامدةٍ، تضع حسابًا لكل شيءٍ في «خانة»، وتصبح العملية الفنية مجرد حاصل الجمع أو الطرح أو القسمة، وأمثال هذه المسرحيات مهددٌ أيضًا بأن يتحول إلى «طلسم» غير قابل للفهم، وتصبح العملية الفنية مجرد طقوس كهنوتية يشاهدها المتلقي في خشوع العابدين.
إلا أن توفيق الحكيم لم يتورط في الجمود من ناحيةٍ، ولا في الغموض من الناحية الأخرى، لم يتورط في الجمود بالرغم من التصميم الذهني السابق على البناء المسرحي؛ لأنه استخدم أدوات «الحركة» المسرحية منذ توجه شهريار إلى الجارية العذراء «زاهدة» ليطيح برأسها، ومنذ أن خالجنا الشك في مشاعر قمر نحو شهرزاد، ومنذ أن انتهت الدراما بنجاة العبد الجديد وانتحار الوزير. هذه الموجات الرئيسية من زاوية الفن الدرامي، كانت استلهامًا واعيًا للموجات الفكرية من الإيمان بالعقل إلى الإيمان بالقلب، من الإيمان بالفكر إلى الإيمان بالعمل، ولم يتورط الحكيم في الغموض؛ لأنه بنى مسرحيته على أساسٍ من التبسيط الذي قد يُعَد عيبًا في ذاته إذا جنح به الفنان إلى الإسراف والمبالغة، فلقد تعرفنا على ثلاثة صراعاتٍ أساسيةٍ في الدراما؛ صراع شهريار، وصراع قمر، وصراع العبد، واستطعنا أن نضع أيدينا على الخيط الذي يربط هذه الصراعات ببعضها البعض، وكأنها أوجهٌ ثلاثةٌ لعملةٍ واحدةٍ هي الإنسان، ولقد كان انتحار الوزير ونجاة العبد إيذانًا بلونٍ جديدٍ من الصراع المزدوج، حين أعلن «قمر» التخلي عن دوره المضطرب في الحياة، بين الإيمان بشهرزاد، واندحار هذا الإيمان، كاد هذا الانتحار أن يؤذن بميلاد صراعٍ جديدٍ يبن شهريار والعبد، ولكن الفنان أفرج عن «العبد» ليجمد الصراع المفترض في حدود الكلمة التي نطقت بها شهرزاد تعقيبًا على انتحار قمر: لم يعد يؤمن! واستجابت أعماق شهرزاد لهذا الأمل الوليد في ترددٍ ظاهرٍ، حين تلكأ لسانه وهو يتمتم بارتياب: «الإيمان!» أجل، طريقان واضحان أشار إليهما الفنان، ولكنه لم يمضِ في أحدهما؛ طريق العقل الذي يستطيع أن يمسك بأطراف هذا الكون دون أن يستكشف ما وراءه، وطريق القلب الذي يطمح لأن يجوب تلك الآفاق الخافية عن الأبصار. ولقد رمز للطريق الأول بمشكلة المكان في حياة الإنسان، التي ترادف مشكلة الجسد بالنسبة للروح، فالعقل الذي لم يستطع أن يتجاوز الزمان، لا يستطيع أيضًا أن يتجاوز المكان … تمامًا كالروح التي لا تستطيع أن تفارق الجسد إذا أرادت أن تكون ذات فعاليةٍ وإرادةٍ.
الزمان والمكان هما «الإطار التاريخي» للعقل، فهو يتطور ويتطور، ولكن في حدود هذا الإطار، والجسد هو الإطار المادي للروح، فهي تريد وتفعل، ولكن في حدود هذا الإطار، وبين العقل التاريخي النسبي والعقل المطلق من قيود الزمان والمكان، صراعٌ مريرٌ لا يهدأ، وباختيار الإيمان كلمةً أخيرة في حياة شهريار يعلن الحكيم اختياره في نفس الوقت للعقل المطلق، وعندما تجيء كلمة الإيمان من شفتين مرتعشتين، فإنما ليعلق الفنان هذا الحكم تعليقًا دراميًّا وفكريًّا معًا. كلمة الإيمان تغري بانتهاء الصراع بين العقل والقلب، إذا اجتزنا بهما عتبات التاريخ، ولكن سرعان ما يضعهما الفنان بين قوسين كبيرين، إذا ارتد العقل والقلب إلى إطار التاريخ، هذان القوسان الكبيران هما الفكر والعمل، حينئذٍ أستشف من الحكيم هذا التساؤل: إذا تيسَّر لنا حل معادلة العقل والقلب في عالم المطلقات، فماذا يكون الأمر حين يطالبنا الواقع البشري الملموس بأن نقول كلمتنا في هذه القضية من جديدٍ؟ بمعنًى آخر: عندما تتحول المشكلة من الإطار الميتافيزيقي الصرف إلى الإطار الإنساني الواقعي، كيف نحل المعادلة الجديدة؛ الفكر والعمل؟
وظلت هذه المشكلة تؤرق الضمير الفني لتوفيق الحكيم حوالي ربع قرنٍ، قبل أن يجيب عام ١٩٥٧م في مسرحيته «رحلة إلى الغد»، ولقد كانت المسافة الزمنية بين «شهرزاد» و«رحلة إلى الغد» تعبيرًا موضوعيًّا عن أهمية الإطار التاريخي لكلٍّ من المسرحيتين، فبالرغم من أن «شهرزاد» دراما أسطورية تعتمد على الإطلاق والتعميم، إلا أنها شديدة الارتباط بتلك المرحلة التاريخية التي صدرت خلالها، مرحلة الأزمة الشاملة للنظام الرأسمالي، والابتعاد النسبي عن التجربة الاشتراكية في مهادها التطبيقية وأصولها النظرية على السواء، وهي المرحلة السابقة على الحرب العالمية الثانية مباشرةً، حيث تتسم بالغموض والتوتر، هي «منعطف» في تاريخ الإنسان يجذب الحكيم إلى عالم المطلقات، وإن اتصل هذا العالم بأعمق هموم البشر وأدق خلجاتهم.
ليس الصراع بين العقل والقلب، أو يبن الفكر والعمل، صراعًا ميتافيزيقيًّا، كما يحاول الفنان أن يوهمنا بذلك، وإنما هو صراعٌ واقعيٌّ ينبض بأخطر المشكلات التي عاناها العقل والفكر الإنساني في ساحة العمل والقلب الإنساني؛ ذلك أن منجزات البشرية في المائتَي عام الأخيرة كانت قد وصلت بحضارتنا المعاصرة إلى ذرًى محلقةٍ، واقتصرت هذه الذرى على ميدان العقل والفكر والعلم دون أن توازيها الذرى الأخلاقية في ميدان القيم والقلب والعمل، وجاءت الحربان العالميتان تعبيرًا حاسمًا عن هذه الهوة العميقة، وجاءت «شهرزاد» من توفيق الحكيم إعلانًا حاسمًا عن هذا الاختلال، ولكنه لم يتخذ موقفًا محددًا؛ لأنه كان أمينًا مع قارئه في القول بأنه لا يرى أبعاد القضية كلها، وبعد ربع قرن رأى نفسه مطالبًا بأن يدلي برأيه مرةً أخرى؛ لأن الأبعاد الحقيقية بدأت تتضح، وفي «رحلة إلى الغد» تفاصيل هذا الرأي الجديد.
وربما كان «الشكل» في هذه المسرحية هو الطريق الأمثل للتعرف على مضمونها، فهي «قصة علمية» إن جاز التعبير عن ذلك القالب الفني، الذي يجمع بين «اليوتوبيا» ومنجزات العلم، وهي ليست أول ولا آخر قصة علمية في أدبنا الحديث، ولعله من المهم أن نتلمس جذور هذا الشكل الفني في حياتنا الأدبية، حتى نستنير بهذا الضوء في رؤية موقف الحكيم. ففي عام ١٩٢٧م نشر سلامة موسى في كتابه «أحلام الفلاسفة» قصةً دعاها «خيمي» — أي مصر — تصور فيها بلادنا بعد ألفَي سنة، تصورها مجتمعًا علميًّا اشتراكيًّا، يُخضِع كافة الظواهر الطبيعية والاجتماعية لقواعد العلم والنظرية الاشتراكية، وقد تغيرت في رؤيا سلامة موسى معالم الإنسان الفيزيقية، فأصبح ذا رأسٍ كبيرٍ وأطرافٍ دقيقةٍ، وأصبح طعامه أقراصًا كيميائية، وطال عمره إلى مئات السنين، كذلك تغيرت معالمه الاجتماعية، فأصبح محكومًا بهيئةٍ عليا من كبار العلماء، هم الذين يقررون ويحكمون، كما تغيرت معالمه الروحية فأصبح يصلي في معبدٍ ضخمٍ عبارة عن صالةٍ كبيرةٍ تؤرخ لمراحل تطور الإنسان وفقًا لنظرية التطور، يذهب إليها طفلًا وصبيًّا وشابًّا ورجلًا وشيخًا، ليتعلم مبادئ التطور من أبسط الكائنات الحية إلى أعظم مراحل الإنسان، حتى يتأكد أنه هو نفسه ليس إلا جسرًا عظيمًا إلى السوبر مان.
لم يقترب الحكيم من رؤيا سلامة موسى وﻫ. ج. ولز، وإنما كان الدوس هكسلي هو «المثال» الذي شد إليه البصر من واقعه الخاص، فقد كان العالم سنة ١٩٥٧م على أهبة استقبال عصرٍ جديدٍ، هو عصر الفضاء، بنجاح الاتحاد السوفياتي في إطلاق القمر الصناعي الأول، وكانت الاشتراكية قد استطاعت أن تصوغ نظامًا عالميًّا بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مصر في دوامة إرهاصات التحول الاجتماعي العميق نحو الاشتراكية، فلا بد من استقبال «رحلة إلى الغد» في ضوء هذه الاعتبارات مجتمعةً، فالواقع الذي عاشه هكسلي، هو الواقع الرأسمالي المُعتم، الذي يستغل العلم استغلالًا ينفي إنسانية الإنسان، أما الحكيم فقد عاش واقعًا مغايرًا، واقعًا متخلفًا عن الحضارة الإنسانية المعاصرة، وبالتالي فإن موقف هذا الواقع المتخلف من «العلم»، يجب أن يختلف بالضرورة عن الواقع الأوروبي المتقدم علميًّا، والآيل للسقوط سياسيًّا واقتصاديًّا في نفس الوقت.
وتبدأ «رحلة إلى الغد» بأن الجهات العلمية قد طلبت من مصلحة السجون أن تبحث لها عن سجينين محكوم عليهما بالإعدام، للقيام بمخاطرةٍ علميةٍ هي السفر في صاروخ عابر للقارات، مقابل إلغاء حكم الإعدام، ويتم اختيار مهندس وطبيب لهذه العملية؛ لأنهما أكثر قدرةً من غيرهما على التكيف مع الجو العلمي لهذه الرحلة الفضائية، ويتوقف بهما الصاروخ على سطح كوكبٍ بعيدٍ، فتبدأ «الحياة» في التغير عما كانت عليه فوق سطح الأرض، لم يعد لهما ما يعملان لأن طبيعتهما الجديدة تمنحهما الخلود دون طعامٍ، لم يعد لهما ما يحلمان به لأن ذاكرتهما الجديدة لا علاقة لها بالماضي، ولا بالمستقبل، ولم يعد لهما ما يلهوان به أو يستمتعان؛ لأنهما تحولا إلى شحنةٍ كهربائيةٍ لا تختلف عن الصاروخ الرابض معهما، ويدور بين السجينين هذا الحوار:
هذه أطراف القضية كما حددها الحكيم، أو هذا هو مدخل القضية على وجهٍ أدق. لقد سبق أن قلت إن «الشكل» في هذه المسرحية هو الطريق الوحيد الصحيح إلى فهم مضمونها؛ ولذلك أقول إن اختيار الفنان لقالب اليوتوبيا العلمية هو إحساسٌ عميقٌ بالارتباط الوثيق بين قضية العلم والمجتمع الإنساني، في المرحلة الراهنة. كذلك جاءت صياغته للشخصيات الرئيسية في إطار الوظيفة العلمية لكل من السجينين — المهندس والطبيب — صياغةً موفقةً إلى أبعد مدًى، حيث نستطيع بالتعرف على شقائهما العاطفي أن نضع أيدينا على «الجرح» الإنساني في أعماق كلٍّ منهما، كما أن استحضار أحدهما لصورة زوجته في خياله عند وصولهما إلى الكوكب البعيد كان استحداثًا لأداة تعبيرية جديدة، سنلاحظ تطوراتها في أعمال الحكيم القادمة.
أما الجانب الفكري، فقد صاغه الفنان على فرضٍ نظريٍّ يقول بأن المدينة العلمية القادمة سوف تقتل عنصرين هامين من عناصر الحياة الإنسانية، هما الماضي والعمل، والماضي في «رحلة إلى الغد» ليس مجرد قطاع زمني، وإنما هو «الروح» و«العاطفة» و«الفن»، فبانعدام الماضي يتحول التاريخ إلى كلمةٍ غير ذات معنًى، والتاريخ هو المضمون الواقعي لتجريدات القلب البشري، والعمل في «رحلة إلى الغد» هو الآخر ليس مجرد الإنتاج الآلي، وإنما هو «تحقيق الذات» وتجسيد عالمها المطلق في جزئياتٍ نسبيةٍ محسوسةٍ. ولعل توفيق الحكيم في مدخل رحلته إلى الغد أراد أن يقول لنا كل هذا: إن انتصار العقل والعلم والفكر يساويه اندحار القلب والفن والعمل، أي إن «الغد» هو نهاية «الإنسان». وقد أراد الفنان أن يطيح نهائيًّا بأية «أحلام» في غد أقل بشاعةً، فأدار هذا الحوار بين السجين الأول والسجين الثاني.
– لن نموت!
– إنك تلفظها الآن بنبرة الفزع!
– لن نموت … إنه حقًّا لمفزعٌ أن نظل هكذا … دائمًا … بغير غدٍ!
– وبغير حوادثَ.
– وبغير عملٍ.
– وبغير ملذاتٍ.
– وبغير رغبات.
– وبغير حريةٍ.
– بل الحرية هي كل ما ظفرنا به، ألم نتحرر من كل الحاجات ومن كل المطالب؟ لسنا في حاجةٍ إلى شيء، أليست هذه هي الحرية؟
– لا … هذه ليست الحرية! هذا الجبل المعدني القائم أمامنا، انظر إليه! هو أيضًا ليس في حاجةٍ إلى شيءٍ؟ لا … الحرية هي أن نحتاج ونعمل، ونحدث شيئًا، وننتج جديدًا، هي أن نصنع حاضرًا ومستقبلًا، هي أن نؤثِّر في غيرنا وفي الحياة التي حولنا، الحرية هي الإنسانية.
لقد آثرتُ أن أحذف من الحوار عبارة «السجين الأول» أو «السجين الثاني»، حتى يتضح لنا أنه لم يكن حوارًا قط، وإنما هو «مونولوج» في داخل الفنان يبلور أقصى ما وصلت إليه الفلسفات المثالية من «سلاحٍ ضاربٍ» للفلسفات العلمية. هذا السلاح القائل بأنه إذا احتل العقل والعلم مكان القلب والعمل، فقد انتحرت حرية الإنسان على صليب الحضارة الحديثة، وتصبح القرية والطبيعة والغابة هي البديل الجديد للمدنيَّة. وعندما يقول السجين الثاني إنه لا بد من إيجاد طريقة، «طريقة لموتنا، لن نقبل أبدًا أن نصير شيئًا جامدًا خالدًا كهذا الجبل»، يصبح الموت هو العنصر الإنساني الوحيد الباقي «في مثل هذه الحياة». فإذا ما تذكَّر السجين الثاني أن الصاروخ الملقى على مبعدةٍ قريبةٍ منهما قد يستطيع أن يصنع شيئًا: «فلنحاول»، يهلل زميله قائلًا: دعني أقبِّلك! لقد عدنا بشرًا … عاد الإنسان فينا وأنت تلفظ كلمة «نحاول».
على أن توفيق الحكيم لا «يقلد» هكسلي تقليدًا حرفيًّا فيجعل من صورة المستقبل هي الشاشة الوحيدة أمام العين الإنسانية المعاصرة، إنه في مستوى التكنيك المسرحي يحاول أن يضيف شيئًا جديدًا «يؤكد» به وجهة نظره، وذلك بأن ينجح السجينان في العودة إلى الأرض مرةً ثانيةً، وإذا بالدنيا قد تغيَّرت، وأصبحنا في عالمٍ جديدٍ، وهكذا يربط الفنان بين فكرة الزمان في «أهل الكهف» وفكرة المكان في «شهرزاد»، ويصوغ منهما فكرةً ثنائيةً واحدةً من الزمان والمكان في «رحلة إلى الغد»، فالرحلة في جوهرها قطاعٌ جديدٌ في الزمان، وقطاعٌ جديدٌ في المكان، وإذا كانت الرحلة إلى المكان (الكوكب البعيد الملعون) قد أصابت الإنسان بالذعر واليأس والرغبة الصادقة في الموت، فإن الرحلة في الزمان «بالعودة إلى الأرض» تؤكد نفس الدلالة.
لقد عاد السجينان، أو بالأحرى المهندس والطبيب؛ لأنهما لم يعودا سجينين بعد نجاح الرحلة، فقد فازا بحياتهما مرتين؛ الأولى حين قبلا القيام بهذه التجربة العلمية، والثانية حين تمكنا من العودة إلى الأرض، وعندما يعودان يكون الزمن قد غيَّر من طبيعة الحياة على الأرض، فليس ثمة حروبٌ، ولا دولٌ تسيطر على دولٍ، كلُّ الأمم سواءٌ في الاكتفاء والعلم والتقدم الحديث، ولكن الخلاف قائمٌ دائمًا في كل الأمم والشعوب، بين طائفتين؛ طائفة تريد المضي بشجاعةٍ إلى الأمام، وطائفة تريد الوقوف والنظر بعين الخوف إلى الخلف، وحدد الحكيم مهمته الفنية في المرحلة الجديدة من حياة المهندس والطبيب، بأن خلَق لكلٍّ منهما طريقًا خاصًّا به؛ أحدهما أحبَّ الفتاة السمراء التي استقبلته عند هبوطه إلى الأرض، وهي تنتمي إلى حزب «الماضي» والعواطف والفنون والعمل. والآخر أحبَّ الفتاة الشقراء، وهي تنتمي إلى حزب «المستقبل» والعقل والعلم والفكر. ويُجري الحكيم هذا الحوار الدال بين السمراء والشقراء:
لا شك إذن أن «الكوكب الملعون» الذي زاره السجينان، لم يكن سوى الصورة لهذا الأصل الأرضي، وكأنَّ توفيق الحكيم قد بنى مدينتين مترادفتين؛ أولاهما تجربة تمهيدية للأخرى، أما المدينة الأرضية، فلا سبيل إلى إنكار أنها تمثل مستقبل الاشتراكية العلمية عند التطبيق. على أنه من اليسير ملاحظة «المزالق» التي تورَّط فيها الفنان في رحلته إلى الغد. أول هذه المزالق أنه عُني بالمعنى الفيزيقي المعملي للعلم دون سواه من المعاني. والمزلق الثاني أنه عُني بالمعنى المطلق لكلٍّ من العقل والقلب، فأحس بهوةٍ عميقةٍ تفصل بينهما، وبالتالي فثمة انفصامٌ أبدي بين الفكر والعمل. والمزلق الثالث هو التعميم الذي سقط في شباكه، حين تصور الحضارة الإنسانية في مستوًى كيفيٍّ واحدٍ، عندنا في الشرق كما هي عندهم في الغرب. والمزلق الرابع أنه لم يفرق بين العقل والعلم في ظلِّ الرأسمالية، وبينهما في ظلِّ الاشتراكية.
ولقد تسببت هذه المزالق الفكرية في إصابة البناء الدرامي بكثيرٍ من الخلل، وأحيانًا الجمود، أصيبت بالخلل عندما خلا من الأساس والأعمدة التي تحمل البناء، وأصبحت المسرحية عملًا هائمًا على وجهه لا يجد له مستقرًّا، وربما كان السبب في ذلك هو اختيار الشكل التعادلي الصارم في مظهره، والخالي في جوهره من عناصر التماسك، فالحق أن اختيار قصة الحب والزواج والجريمة التي جاءت «خلفية» لتكوين شخصية السجين، كان اختيارًا لأولى الثغرات التي أصابت البناء بالخلل، وذلك أن التكوين «الإنساني» للشخصية يتطلب أن يكسوها الفنان بلحم ودم التجربة الحية. أما في «رحلة إلى الغد»، فقد كساها بثوب التجربة الفكرية، تجربة الذهن والتعميم التي تتناقض تمامًا مع المقومات «الإنسانية» العادية، فأن نبدأ بالنسبي والجزئي والمحسوس، يتعيَّن علينا الاستمرار على هذا النسق حتى نوفر للعمل الفني شروط الاتساق والتكامل. أما أن نبدأ بالنسبي ثم نعامله في منتصف الطريق معاملة المطلَقات، فإن ذلك المنهج في التعبير يؤدي إلى نوعٍ من الازدواجية يصيب البناء المسرحي بالخلل. كما أن «اختيار الأسباب» التي من أجلها تم انطلاق الصاروخ بهذين السجينين دون البشر أجمعين، كان اختيارًا عشوائيًّا لا يتفق مع مسار الأحداث الدرامية التي تجسدت في أعلى ذُراها، عندما هبط الصاروخ على ظهر الكوكب البعيد.
وقد كان «الخلل» عنصرًا مشاركًا للجمود في انخفاض المستوى الفني للمسرحية، ولعلَّ مصدر الجمود هو ذلك الأسلوب التقريري المباشر والرموز السطحية الواضحة التي صاغت النسيج الأساسي للمسرحية، وإذا قيل إن الفنان «مضطرٌّ» إلى التقرير بحكم التجربة الذهنية التي عاشها في صياغة مسرحيته، أجبنا بأن ولز وهكسلي على السواء لم يهبطا إلى هذا المستوى الساذج من مستويات المباشرة والخطابة، بالرغم من انشغالهما بنفس القضية التي عالجها الحكيم. ولعل الحوار التقريري المباشر في «رحلة إلى الغد» هو الذي تسبب فيما أصاب شخصياتها من جمودٍ وافتعالٍ. تتكلم الفتاة السمراء عن الفريق «المستقبلي» قائلةً: «لم يعد عندهم للحب قدسية كما ترى.» ولا نرى حادثةً واحدةً تدلل على صدق هذا «الحكم». وتقول مرة أخرى: «إن كثيرين منهم أشبه حقًّا بالآلات المتحركة»، وهو حكمٌ بالإعدام على إنسانية الإنسان، فلا نرى موقفًا إنسانيًّا يقدِّم الحيثيات اللازمة. وتقول مرةً ثالثةً: «انزل يا سيدي إلى الشوارع والحقول والمصانع، تجد الإنسان الإلكتروني هو الذي يقوم بالزراعة والصناعة والخدمة العامة، في حين أنك ستجد الإنسان الحقيقي واقفًا أو قاعدًا يتثاءب.» وبالرغم من هذا الحكم الخطير على مستقبل البشرية بأَسرها، فإن الشخصية الأخرى — المخاطبة — لا تقاوم الحكم ولا تصارعه ولا تنزل إلى الشارع في حالة «فعلٍ»، بل نعاسٍ أقرب إلى الموت، وسكونٍ أشبه بالعدم.
لذلك يصبح القوام الفكري المنهار للمسرحية، هو الوجه الآخر للقوام الدرامي المتهالك، فالحكيم يفهم «العلم» بين جدران المعمل فحسب، وينكره كمنهجٍ اجتماعيٍّ، أي إنه يتصور المستوى الفيزيقي للعلم، ولا يتصور مطلقًا مستواه الفلسفي والمنهجي وتطبيقاته الاجتماعية، ولو أنه تصور العلم «منهجًا» لا مجرد أنابيب وتجارب معملية لاستطاع أن يتصور «غدًا» آخر غير الذي طالعناه في رحلته، الغد الذي يوجه شئونه «روح» العلم لا أشكاله المادية وحدها. هذا التصور للعلم لا يُقيم تناقضًا غير قابل للحل بين العقل والقلب، أو بين الفكر والعمل، وإنما هو يؤمن بجدلية التناقض بينهما على أساسٍ واضحٍ متينٍ من «نسبيتهما» القابلة للصراع، وهو بذلك يهدم مطلق العقل ومطلق القلب، ويردم في نفس الوقت «الهوَّة» الميتافيزيقية بينهما، لكي ينشأ ذلك التفاعل الجدلي الخلَّاق، فيصبح العقل ذا إطارٍ تاريخيٍّ، وكذلك القلب، ومن ثَم يصبح في الإمكان أن «يتطور» كل منهما، فيلتقيان ويتصارعان ويفجران طاقة الإنسان المبدعة. ولقد تجاهل الحكيم مستوانا الحضاري المختلف كيفيًّا عن المستوى الأوروبي، فإذا كانت الحضارة الأوروبية قد نهلت من الاكتشافات العلمية خلال القرون الأربعة الأخيرة ما يسمح لبعض أبنائها — كهكسلي — أن يتطاول على العلم والروح العلمية بحُجة «التشبع»، ويمسي خياله الروائي نوعًا من الاحتجاج المرضي على هذا التشبع، فإن حضارتنا العربية المعاصرة ما تزال رابضةً في طورٍ متخلفٍ عن روح العصر، بحيث إن خيالنا إذا احتج لا ينبغي — مع الصدق — أن يشطح بعيدًا فيستعير من الخيال الغربي صورة «التشبع» العلمي ويحطمها، ظنًّا منه أنها صورتنا نحن، بل لعلَّ توفيق الحكيم لم يتوقف لحظةً واحدةً أمام دلالة العلم في عصرنا، واختلافها من مجتمعٍ إلى آخر، فالقمر الصناعي الأول الذي أطلقه الاتحاد السوفياتي عام ١٩٥٧م — عندما صدرت المسرحية — لم يكن نذيرًا بإعدام «الإنسانية» في البشر؛ لأن الأيدي التي أطلقته تستظل بالاشتراكية التي تعمل أولًا وأخيرًا على أن يستعيد الإنسان إنسانيته، أي إن وظيفة العلم الاجتماعية هي التي تحدد «الصورة» التي يمكن أن يكون عليها عالمنا في المستقبل، فإذا كانت وظيفته هي العمل بمقتضى أوامر النظام الرأسمالي، فإننا لا ينبغي أن «نعمم» الحكم على النظام الآخر، فلا شكَّ أن العقل والعلم في ظلِّ الاشتراكية يصنعان شيئًا مختلفًا عما حدث في ناجازاكي وهيروشيما، وتلك هي القضية التي توقف الحكيم عندها طويلًا فيما بعدُ، توقف عندها عام ١٩٦٣م حين صدرت مسرحية «الطعام لكل فمٍ»، ويبدو أن السنوات الست بين صدور «رحلة إلى الغد» و«الطعام لكل فمٍ»، كانت بمثابة السنوات «المليئة»، التي شكلت نقطة التحول الجديد في رؤيا توفيق الحكيم.
•••
بعد ست سنوات من صدور «رحلة إلى الغد» كانت رؤيا الحكيم تستقبل انتصارات العلم والعقل البشري بمزيدٍ من التفاؤل، لقد استطاع الإنسان في أقرب مناطق العالم إلى قلبه ووجدانه — في مصر — أن يحرز الكثير من المكاسب الثورية التي تبشر بغدٍ مختلفٍ كل الاختلاف عن الغد الذي سافر إليه منذ أعوامٍ قليلةٍ، كادت مصر أن تنجز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية، ودخلت منذ عام ١٩٦١م غمار مرحلةٍ صعبةٍ.
كانت مصر في بداية الطريق الطويل نحو الاشتراكية عندما أصدر الحكيم «الطعام لكل فم». وفي مُذيَّلة هذه المسرحية، التي تُعَد في تقديري نقلةً كيفيةً جديدةً في تفكير هذا الفنان المتطور، سبع ملاحظات تقريرية أبداها الحكيم في الإطار النظري الصِّرف، قال:
-
إن أمام المسرح الجديد، غير مهمة التجديد في الشكل، مهمة التجديد في المضمون، إن عالمنا الجديد ليس مجرد عالمٍ يائسٍ عابثٍ، يعيش أزمة سوداء، ويتحدث عن «لا جدوى» الحياة … أظن هذه النظرة خاصة بجيلٍ معينٍ وظرفٍ معينٍ … إنه شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية من الكُتَّاب والفنانين في أوروبا، لكن هنالك أيضًا عالمًا جديدًا يبني نفسه، وهذا البناء الجديد يؤدي حتمًا إلى نظرةٍ جديدةٍ إلى كل القيم، ليست نظرة سوداء، بل هي نظرةٌ جادةٌ فاحصةٌ منشئة لا ترى الدنيا عبثًا متكررًا، بل تراها خلقًا مستمرًّا.
-
ومعجزات العلم في الإنتاج الزراعي سوف تُحدِث انقلابًا أيضًا في نظرتنا إلى الزراعة، لن تكون علاقتنا بالأرض تلك العلاقة العاطفية القديمة، التي تجعل الفرد يحق له امتلاك الأرض ليزرعها على هواه.
-
لو فرضنا أن العلم استطاع — باكتشافاته العجيبة — القضاء على الجوع بالإنتاج الكامل، فإن مشكلةً كبرى لن تلبث أن تواجهنا، هي التوزيع: كيف يتم التوزيع في أنحاء العالم بهذا الإنتاج الهائل الزهيد القيمة دون الارتطام بحواجز النُّظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية؟
-
من أعجب الظواهر وأفظعها أن نرى أكثر من نصف سكان العالم يتضورون جوعًا، في حين أن الطعام يتراكم، والمحصولات تفيض في بعض البلاد الأخرى، فتُحرق أو يُلقى بها في البحر، محافظةً على مستوى أسعارها!
-
لو أن إلغاء الجوع كان هو المؤدي إلى تغير النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لكان الأمر سهلًا، لكن الصعوبة هي في أن يكون من الضروري البدء بتغيير النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ليسهل إلغاء الجوع.
-
إذا رأيت الوحوش في الغاب تنطلق حرةً هادئةً يرفرف عليها السلام، فاعلم أن بطونها مملوءةٌ بالطعام … لهذا كان الطعام مرتبطًا بالحرية والسلام.
-
إن الذي سوف يغير وجه العالم غدًا هو تغير وجه الاقتصاد، والذي سوف يغير وجه الاقتصاد هو تقدُّم العلم.
في هذه الكلمات الواضحة، نضع أيدينا على البوصلة النظرية التي قادت أعماله التي تبدأ ﺑ «الطعام لكل فم»، وتنتهي ﺑ «رحلة قطار»، مرورًا ﺑ «شمس النهار»، فالحق أن ثمة خيطًا واحدًا يربط هذه الأعمال فيما بينها أولًا، ثم بينها وبين «شهرزاد» و«رحلة إلى الغد» ثانيًا، هذا الخيط العام الشامل هو قضية «العقل والقلب بين الفكر والعمل».
وليكن سبيلنا إلى جوهر «الطعام لكل فم» هو نفس السبيل الذي سلكناه في «رحلة إلى الغد»؛ الشكل، والشكل في «الطعام لكل فم» أقرب ما يكون إلى ذلك العمل الواقعي الرائد «يوميات نائب في الأرياف»، كلاهما نقلةٌ كيفيةٌ جديدةٌ في رؤيا الحكيم، وكلاهما نقلةٌ كيفيةٌ جديدةٌ في النسيج الذي صيغت منه هذه الرؤيا، وبالرغم من أن «يوميات نائب» في صميمها عملٌ روائيٌّ، إلا أنها كانت تحمل صفتين في وقتٍ واحدٍ، الصفة الدرامية التي تعتمد أساسًا من حيث الشكل على الحوار، والصفة الروائية التي تجعل من العمل قصةً مفتوحة الذراعين، تتداخل مع قصةٍ أخرى تسكن مكان القلب من القصة الأصلية، كانت قصة ريم وقمر الدولة هي القصة الأصلية من ناحية الإطار، وكانت القرية المصرية هي القصة الثانية التي سكنت مكان القلب من القصة الأولى، هذه الثنائية بعينها نتعرف عليها في «الطعام لكل فم» منذ البداية. غير أن الفنان في استجابته لمقتضيات الفن المسرحي، يستحدث من جديدٍ تجربة «خيال الظن» التي بدأها في لحظاتٍ خاطفةٍ بمسرحيته السابقة «رحلة إلى الغد»، خيال الظل إذن، هو الإضافة التي يبرر فيها الحكيم فنيًّا هذه الازدواجية بين قصة «حمدي وسميرة» — الإطار العام للدراما — وبين قصة «طارق ونادية وأمهما»، التي تشكل المضمون الفني للدراما. وعلى غير ما لاحظناه في «رحلة إلى الغد»، تخلو «الطعام لكل فم» من الخلخلة الفنية التي يحدثها الانفصام بين طبيعة القصتين، سواء في تكوين الشخصيات، أو حركة الأحداث، أو دلالات المواقف.
إن قصة حمدي مع شلة المقهى وتفاهات العمل اليومي، وقصة زوجته سميرة مع الشلة التي أحالتها إلى دُميةٍ أو قطعةٍ من الأثاث، هاتان الشخصيتان ترتبطان بقصة طارق، الشاب الذي يعيش عمره بحثًا عن سعادة البشرية، وقصة نادية التي تعيش حياتها بحثًا عن معنى العدالة، أي إن «الطعام لكل فم» هي قصة ذلك التقابل بين الحياة التافهة والحياة المليئة، من هنا تتميز أول ما تتميز بوحدة النسيج الدرامي، ليست هناك تناقضات تمزق هذا النسيج، وإنما هناك تناقضات تحيي الصراع والتفاعل بين مختلف الأطراف.
و«الطعام لكل فم» فانتازيا علمية أيضًا، تكاد تقترب من «طعام الآلهة» لولز من ناحية المضمون، وتقترب من المسرح الملحمي عند بريخت من ناحية الشكل. ولكي نحمي هذه المقارنات من الإطلاق والتعميم نقول إن الحكيم في هذه المسرحية يغادر عالم الدوس هكسلي مغادرةً نهائيةً، ويرتكز على الأساس المثالي للاشتراكيات الخيالية الذي ارتكز عليه ولز في بناء يوتوبياه العلمية. ونقول أيضًا إن الحكيم في هذه المسرحية يغادر عالم المطلقات الساكنة بأشكالها الذهنية المجردة، ويرتكز على الأساس الفولكلوري الذي ارتكز عليه بريخت في بناء مسرحه الملحمي، ومع ذلك تبقى ثمة مسافةٌ موضوعيةٌ بين مسرح الحكيم وروايات ولز، وبين مسرح الحكيم وأعمال برتولد بريخت، إلا أن المسافة الأكثر اتساعًا هي المسافة التي تباعد بين الحكيم وبين مسرح «اللامعقول» الذي ينسبه إليه البعض، أو ينسبه هو إلى نفسه.
هو بعيدٌ كل البعد عن «اللامعقول» في الشكل لا في المضمون فحسب؛ لأن استخدام «خيال الظل» إمعانٌ في المعقول الشعبي البسيط الذي يكاد أن يصبح فنًّا تعليميًّا تقريريًّا مباشرًا، وليس كذلك فن اللامعقول الذي يستخدم اللغة ويكوِّن الشخصيات ويلون الموقف بطريقةٍ تنأى كثيرًا عن أي «موروثٍ تقليديٍّ»، والأجدى أن يُقال إنه قريبٌ من «روح» بريخت في استيحاء الفنون الشعبية، والأجدى أن يُقال إنه قريبٌ من روح ولز في استيحاء العلم منجزات الإنسان في المستقبل.
والمسرحية تبدأ حين يلاحظ حمدي وسميرة أن «نشعًا» مفاجئًا قد ظهر على الحائط، فيطلبان من الست عطيات القاطنة في الشقة العليا أن تنزل لتشاهد بنفسها ماذا صنع «غسيلها» في الغرفة، ثم يطلبان منها أن تقوم «بتبييض» الحائط الذي أصابه الماء بهذا النشع. وبينما يكون حمدي في طريقه المعتاد إلى المقهى للقاء الشلة اليومية للعب النرد، وبينما تكون سميرة في طريقها المعتاد إلى شلتها، يُفاجآن كلاهما بأن النشع يزول، لتحتل مكانه صورة بانورامية باهتة لشابٍّ وفتاةٍ وسيدةٍ، ثم يُفاجآن مرةً ثانيةً بالصورة تتضح، والشخصيات الثلاث تتحرك، وأخيرًا تتكلم. ونفهم من كلام الشاب أنه حضر لتوِّه من الخارج، وأنه يعمل على إنجاز مشروعٍ «عند تحقيقه سوف يحدث انقلابٌ في تاريخ البشرية … أعظم من القنبلة الذرية»، هذا المشروع هو الطعام لكل فمٍ: «فكرتنا هي أن تحطيم الذرة عملٌ لا قيمة له عند الناس إذا لم يؤدِّ إلى تحطيم الجوع»، والشاب يعلم جيدًا أن إلغاء الجوع ليس هوايةً علميةً، وإنما هو يعرف «عندما نلغي الجوع سنلغي في نفس الوقت عبودية الإنسان للإنسان». ولكن الطريق إلى المشروع الجميل الباهر ليس مفروشًا بالورود لأن «مَن لهم مصلحة في السيطرة على الناس والشعوب لا يناسبهم إلغاء الجوع … إن الجوع هو سلاحهم في السيطرة الاقتصادية، وهم يفضلون بذل الجهد والمال في تدعيم أسلحة الدمار التي تزيد في انتشار الجوع، ولا يعملون خالصين من أجل الطعام والسلام». من هنا كان شعار طارق — هذا العالم الشاب — هو نقيض المستقبل في رحلة توفيق الحكيم السابقة إلى الغد، كان شعاره هو «كلُّنا أملٌ في الغد». تلك هي القفزة الواسعة التي خطاها الحكيم من غدٍ إلى غدٍ.
ولو أن المسرحيةَ استمرت على هذا النحو من المناقشات التقريرية الجافة بين طارق ونادية وأمهما، لأصيبت الدراما في مقتلٍ؛ لهذا تتحرك الأحداث بين هذه الشخصيات الثلاث، فنعلم أن هناك «سرًّا» تخفيه الأم عن ابنها، وتحاول الفتاة أن تفضي به إليه، ولكن محاولات أمها تحُول قليلًا دون ذلك. «قليلًا» ويحدث الانفجار الذي لم يتوقعه أحدٌ؛ إذ إن الأم قد تزوجت بعد وفاة زوجها والد طارق ونادية من ابن عمها الذي كانت تحبه منذ الطفولة، وحالت الظروف دون زواجهما فيما مضى، غير أن نادية تؤكد أن وفاة أبيها لم تكن طبيعيةً، وإنما هناك «جريمة قتلٍ» اشتركت فيها الأم مع حبيبها الطبيب، وتصبح المشكلة التي أمامنا هي: ماذا يصنع طارق، العالِم الذي يريد أن يغير وجه التاريخ بإنجازٍ مشروع الطعام لكل فم؟ نادية حريصةٌ أشد الحرص على «عقاب» الأم، ولو أدى الأمر أن تبلغ جهات الاختصاص، أما طارق فله رأيٌ مختلفٌ، يقول: «ثقي يا نادية أن مشروعي هذا هو العدالة … العدالة كما يفهمها عصر الذرة … وعصور الغد»، أما عدالة هاملت وإلكترا — وقد استشهدت بهما نادية في التدليل على أهمية الانتقام من الأم — فلم تعد في رأي طارق إلا كلمات جميلة ليس لأحدٍ في عصرنا أن يضيع حياته من أجلها. وبينما تتصور نادية أن موقفها هو موقف «العقل»، يرى طارق أنه موقف «القلب» المنفعل بالعاطفة؛ لأن موقف العقل هو موقف العلم، وموقف العلم هو الحركة: «أزمتي هي أزمة عصري … إذا وقفنا نموت … عصرنا صاروخ انطلق، إذا أبطأت حركته احترق.» على النقيض من الموقف في «رحلة إلى الغد»، حيث يصبح السكون البارد كالموت هو «الحياة»، ويصبح الموت هو الأمل، على النقيض من ذلك؛ يهتف طارق: «نحن مرضى بالحركة … وفي علاجنا من هذا المرض موتنا.»
وتنتهي القصة الداخلية — جوهر المسرحية — برحيل طارق ونادية عن بيت الأم لتعيش حياتها، ونخرج مع المؤلف إلى الإطار الخارجي، أو القصة الأصلية المفتوحة الذراعين، لنستمع إلى «حمدي» وقد هجر المقهى نهائيًّا وانتهى عهد الشلة من حياته، واشترى ميكروسكوبًا وكُتبًا كثيرة يزدحم بها بيته وعقله، نستمع إليه وهو يصوغ معنًى جديدًا للحرية يختلف عن المعنى الذي صاغته «رحلة إلى الغد» اختلافًا جذريًّا، يقول: «إن إلغاء الجوع هو إلغاء العبودية على الأرض، عبودية الأفراد … وعبودية الشعب، الطعام هو الحرية.» لقد تغيَّرت حياةُ حمدي، كما تغيرت من قبل نظرة توفيق الحكيم، إلى العلم والغد والإنسان، وليس من المهم أن تبقى نادية وطارق على جدار الغرفة بمنزل حمدي وسميرة، وإنما المهم أن يتحول حمدي إلى امتدادٍ لطارق، وتتحول سميرة إلى امتدادٍ لنادية، وليكن ما حدث ذات يومٍ على الحائط مجرد «حلمٍ» في حياة حمدي وسميرة، في حياة الإنسان العادي البسيط في عالمنا، لتكن المسرحية هي تجربة التفاعل بين «الواقع» و«المثال»، تجربة الصراع بين «الفن» و«الحياة»، وهي التجربة التي لخَّصها الحكيم في هذا الحوار المركز بين حمدي وسميرة، عند مناقشتها لموضوع الكتاب الذي بدأ في تأليفه، منذ انتهت قصة طارق ونادية فوق الحائط:
وهكذا تنتهي «الطعام لكل فم» بحل التناقضات المفتعلة بين العلم والفن، بين العقل والقلب، بين الفكر والعمل، وذلك بأن تصور الحكيم هذه الظواهر جميعها في قالبها النسبي وإطارها التاريخي، كذلك لم ينطلق في رؤية المرحلة المعاصرة التي يجتازها الإنسان الحديث من زاوية الحضارة الغربية، وإنما من زاوية المرحلة الحضارية المتخلفة التي نعيشها في الشرق العربي، وبالتالي فإن دلالة «العلم» في بناء حضارتنا تختلف عن دلالته في انهيار حضارتهم.
بين «رحلة إلى الغد» و«الطعام لكل فم» مسافةٌ فكريةٌ طويلةٌ، فالأولى تنظر إلى العلم نظرةً يشوبها الفزع من الغد، بينما الأخرى ترى، على العكس، أن العلم هو مخلص البشرية ومنقذها الوحيد من مشكلة البشر الأزلية؛ الجوع. على أن المسرحيتين كليهما تتكاملان في دلالةٍ فكريةٍ واحدةٍ، هي التصور المثالي لمشكلات الإنسان؛ إذ تقول «رحلة إلى الغد» بفظاظة ما يمكن أن يؤدي إليه العلم من برودٍ وجمودٍ في حياتنا اليومية، في حدود أن العلم مجموعة من أنابيب الاختبار بين جدرانٍ صماء، هي المعمل. وتأتي «الطعام لكل فم» لتقول إن هذا العلم المعملي يمكن أن يزيد خيرات الحياة، ويقضي على مشكلة الجوع، هذا منهجٌ مثاليٌّ في الفلسفة، يتجاهل المعنى الاجتماعي للعلم، أي إنه يُغفِل العلم كمنهجٍ في التفكير الاجتماعي، والمنهج العلمي في الفكر الاجتماعي يستضيء بالخريطة الطبقية للمجتمع والعالم بأَسره، ويبدأ في حل مشكلة الجوع انطلاقًا من الأرض الاجتماعية وطبيعتها، لا من بين جدران المعمل، فلربما ينجح العلم المعملي في الاستفادة من خيرات الطبيعة وزيادتها، ولكن البناء الطبقي للمجتمع الإنساني سيتيح للقلة أن تستأثر بهذه الخيرات، ومن ثَم تتحكم في الكثرة، حتى إذا اقتضى الأمر أن تلقي هذه القلة بخيرات الطبيعة في البحر، كما يحدث بالفعل في بعض أقطار العالم. أما المنهج العلمي فيدرس المجتمع الإنساني ويحلله طبقيًّا، ويستفيد من العلم المعملي ومن بقية العلوم الإنسانية، حتى يصل إلى الحلول الجذرية الواقعية الثورية، بدلًا من الحلول الخيالية التي تتراءى لدى بعض الحالمين، كما هو الحال عند بطل «الطعام لكل فم».
•••
وإذا كانت هذه المسرحية قد حلَّت نسبيًّا مشكلة التناقض بين العقل والقلب، أو بين العلم والفن، فإن مسرحية «شمس النهار» التي صدرت عام ١٩٦٤م قد حلَّت هي الأخرى — نسبيًّا أيضًا — الطرف الآخر من المعادلة؛ مشكلة التناقض بين الفكر والعمل، وهي مسرحيةٌ تعتمد على البناء الأسطوري، ولكنها أيضًا تعتمد على ما يمكن تسميته بالقالب التعليمي الذي يسهل ملاحظته — كما يقول الحكيم نفسه — في كليلة ودمنة، وحكايات لافونتين، وبعض مسرحيات بريخت، كمسرحية بادن التعليمية.
وتبدأ المسرحية بموقفٍ واضحٍ ومحددٍ للأميرة شمس النهار التي رفضت الزواج من جميع الذين تقدموا لها من الأمراء والكبراء والعظماء، وارتضت أن تُخطب لإنسانٍ بسيطٍ، هو «قمر الزمان»، الذي اشترط أن يعيشا معًا فترةً من الزمن قبل الزواج، يرتادان خلالها فيافي الحياة ومفازاتها، وقبلت الأميرة هذا الشرط الغريب لأنها توسمت في «قمر» أنه سيحقق لها مبتغاها من الأحلام، وفي مكانٍ ما يطل على المدينة من بعيدٍ. عاشا معًا حياةً بدائيةً قوامها العمل الشاق المضني، وفي هذا المكان يلتقيان مصادفةً باثنين من رعايا أميرٍ آخر، هما ملاحظ الخزانة ومساعده، وقد سرقا كيسًا ضخمًا من المال. وتحدثهما شمس عن «جواهر» لا يتحلى بها الناس من الخارج، فيتساءل الملاحظ دهشًا:
فإذا استطردت شمس بأن الصدأ أو القذر والغبار متراكمٌ على «الجوهرة»، فهي كابيةٌ خابيةٌ لا تضيء، أكمل قمر: «… وما إن تردُّوا هذا المال إلى مكانه، حتى تشعروا بالضوء قد شعَّ في داخلكم.»
بهذه النقطة تبدأ المرحلة الجديدة من تطور المسرحية؛ إذ تعود شمس النهار وقمر الزمان بالرجلين إلى أميرهما، وهناك تدور الأحداث المثيرة التي نعرف منها أن الأمير يرغب في الزواج من شمس النهار التي رفضت الجميع، وهو لا يعلم أن شمس النهار أمامه بلحمها ودمها، وإن كانت في ثيابٍ خشنةٍ لرجلٍ بسيطٍ، فإذا علم حقيقة الأمر، ارتضى أن يهجر الإمارة، ويخرج معها إلى رحاب الحياة، فيصلان مع قمر إلى ذلك المكان البعيد المطل على أسوار المدينة، حينذاك يرى أشباحًا كالبشر، عجفاء من الجوع، تمد أيديها في ضراعةٍ وابتهالٍ، ويجري هذا الحوار بين شمس والأمير:
وتتبلور — من ثَم — تجربة الأمير في أن السائر على قدميه يرى أشياء، والراكب لا يرى شيئًا، إلا أن ما يتبلور أكثر فأكثر هو «جوهر» المسرحية أو عقدتها؛ ذلك أن شمس تجد نفسها فجأةً في موقعٍ لا تُحسَد عليه، بين رجلين؛ أحدهما صنعها، هو قمر، والآخر صنعته، وهو الأمير. من هذه الزاوية تتحول أحداث المسرحية إلى صراعٍ مريرٍ بين الرجلين من ناحيةٍ، وبين شمس ونفسها من ناحيةٍ أخرى. إن قمر يؤكد في يأسٍ: «نحن فعلًا نحب مخلوقاتنا، ولا نحمل لخالقينا إلا التقدير»، مشيرًا بذلك إلى شكِّه في أن تكون شمس قد أحبت الأمير وهجرته هو، ويحتدم الصراع لدرجة يختلط فيها الأمر على المؤلف، فيلجأ إلى حلِّه بخاتمتين مغايرتين لبعضهما البعض؛ الخاتمة الأولى يعود فيها الأمير حمدان إلى وطنه ممثلًا تعاليم شمس النهار وتجربتها معه، يعود ليصلح هذا الوطن إصلاحًا جذريًّا، يعود لا ليصبح أميرًا، ولكن ليصبح عاملًا، عندئذٍ تتحدث الخاتمة بأن ينصح قمر شمس أن تسلك نفس طريق حمدان، أن تعود إلى بلدها وتعمل على إصلاحه، فإذا تساءلت شمس عما إذا كان هذا ممكنًا بمفردها، أجاب قمر: «نعم … بمفردك … شعبك محتاجٌ إليك … ولن يقبل تغييرًا وإصلاحًا إلا منك وحدك، النابتة منه، الناشئة فيه …»
وعند إخراج المسرحية على المسرح القومي، استجاب المؤلف للظاهرة المسرحية في تكاملها، فغيَّر من «شكل» الخاتمة، بأن تنبَّهَت شمس إلى أن حبَّها الحقيقي ينبض باسم الرجل الذي صنعها، حينذاك تُذكِّر الأمير بقوله إنه يحمل جزءًا من روحها، وهذا يقتضي أن يكون على الدوام ثائرًا مصلحًا، فيقول حمدان:
ولا يطول الحوار حتى يقتنع الأمير بصدق قولها، فيتمتم في صوتٍ خافتٍ: «الشعب في بلدك يا شمس النهار يقدسك تقديسًا؛ لأنك تركت قصرك واخترت شخصًا بسيطًا من الناس، وسترين بعينك كيف يلتفُّ حولكما الشعب عندما تدخلان معًا المدينة»، ويخرج حزينًا، ويترك شمس وقمر وقد تلاصقا، وأخذا يشيعانه بأنظارهما … إلى أن يختفي، ويهبط الستار وهما يتلاصقان.
ولا شكَّ أن الخاتمتين تختلفان من حيث الشكل اختلافًا كبيرًا، فالخاتمة الأولى حيث يذهب كلٌّ إلى حاله، دون أن يلتقي الحبيبان عند إسدال الستار، أقرب إلى روح الفن الذي يشحن نفسية المتلقي بنار القلق. أما الخاتمة الثانية، فهي تستجيب لروح الحدوتة التي تجمع الأحياء في تبات ونبات، الأولى استجابة للأعماق الغائرة في الوجدان، والأخيرة استجابة عابرة للحظة الراهنة، ولكن هذه الخاتمة لم تغير قط من جوهر المسرحية، هذا الجوهر الذي يحل الطرف الآخر من المعادلة؛ التناقض بين الفكر والعمل. إن شمس النهار ليست شهرزاد الجديدة التي قامت في حياتها بدورٍ مزدوجٍ؛ طوعت الفكرة المحلقة في أجواء الحلم لمستلزمات العمل الواقعي المجسد في شخصية «قمر»، فكان هذا الرجل البسيط هو «صانعها»، وتمكنت بمزج الفكر بالعمل من «تغيير» الأمير حمدان، الرجل الذي كان هو الآخر يبحث عن فكرةٍ مطلقةٍ تُدعى «شمس النهار»، فراح يحققها عمليًّا في إصلاح وطنه إصلاحًا ثوريًّا، لقد أمست شمس النهار فكرًا وعملًا في آنٍ، كذلك أمسى قمر، لم يعد طاقةً قادرةً على العلم فحسب، بل طاقةً قادرةً على الحبِّ أيضًا، أخيرًا، أخيرًا جدًّا، التحم العقل بالقلب، والفكر بالعمل … وكانت النتيجة هي «الثورة» في وطن شمس ووطن حمدان على السواء.
تلك هي النتيجة التي توصَّل إليها الحكيم بعد كفاحٍ مريرٍ ومعاناةٍ هائلةٍ: ليس العقل عقلًا مطلقًا، ولا القلب قلبًا مطلقًا، كلاهما ظاهرةٌ نسبيةٌ لها إطارها التاريخي ودلالتها الاجتماعية، وهما لا يتفاعلان مع بعضهما البعض في حركةٍ دائريةٍ أقرب إلى سكون النظام التعادلي، وإنما هما في صراعٍ دائبٍ مستمرٍّ لا يكف عن التجاوز الجدلي إلى أمام، وهكذا لا يصبح الفكر في وادٍ والعمل في وادٍ آخر، بل إن العلاقة بينهما تصبح علاقةً ديناميةً متطورةً، تنتقل بالظاهرة المشتركة من البساطة إلى التركيب، إلى الأكثر تركيبًا في مستوًى كيفيٍّ جديدٍ.
•••
وما إن اطمأن الفنان صاحب هذه الرؤية الثورية إلى سلامة النتائج التي توصَّل إليها، حتى راح يحاول تطبيقها على الواقع اليومي للشعب والمجتمع. من هنا كان الفصلان التمثيليان «رحلة صيدٍ» و«رحلة قطارٍ»، من بواكير هذه التطبيقات التي تخلو من روعة الكشف حقًّا، ولكنها تمتلئ بكثافة الواقع الحي المتطور. على أننا نلاحظ أن الحكيم لا يطبق رؤياه على الواقع، كتطبيق المعادلات النظرية على تجارب المعمل، وإنما هو يصنع شيئًا قريبًا من «الاحتكاك» بين الواقع والرؤيا، فلعل الشرارة الوليدة تخلق ذلك التوهج الجديد بكل ما تعنيه من إضافات العمل إلى الفكر.
يعتمد توفيق الحكيم في «رحلة صيد» على نفس الحيلة الفنية التي استخدمها في «رحلة إلى الغد»، حين كان أحد السجينين يستحضر صورة زوجته في خياله، فيتراءى له كائنًا حيًّا مجسمًا وكأنا على شاشة سينما، وقد طوَّر هذه الحيلة في «الطعام لكل فم»، فجعل منها ما يشبه خيال الظل، وإذا كانت هذه الحيلة تشكل منظرًا سريعًا في المسرحية الأولى، وجزءًا كبيرًا من المسرحية الثانية، فإنها هنا في «رحلة صيد» هي قوام الفصل التمثيلي كلِّه. ويضعنا الحكيم في قلب المشكلة، أو في بؤرة الحدث مباشرةً، نحن أمام رجلٍ مجهولٍ يقوم بالصيد في إحدى الغابات، ومن بعيدٍ يصلنا زئير أسد خافت، وتتوالى تلك الصور السينمائية القريبة من خيال الظل، وكأنها شريطٌ من اللاوعي ينساب في مخيلة الرجل بلا ضابطٍ، أو هكذا يبدو من الخارج؛ إذ يبدو أن ثمة خيطًا يربط بين هذه الصور غير المتآلفة. إن الوجه الأول الذي يحاورنا مع الرجل وجهٌ فلسفيٌّ يقول إن الإيمان شيءٌ ضروريٌّ، فيعلق الرجل بأن الإيمان شيءٌ بشريٌّ، هكذا لم يعد هناك شيءٌ مطلقٌ اسمه «الإيمان»، كما كان الأمر في «شهرزاد»، ولم يعد الإنسان خارج الزمان والمكان كائنًا ميتافيزيقيًّا معلقًا في الفضاء الأسطوري، وإنما أصبح الإنسان «تجربةً بشريةً»، أصبح كائنًا حيًّا «في موقفٍ»، والإنسان في موقفٍ هو بطل «رحلة صيد»، فما إن يقول له الوجه الميت إنه يشعر بالراحة في الموت، حتى يتحفز إلى معارضته بأنه يشعر بتعبٍ، بالتعب المقبل، بمعاودة الكفاح: «كفاحي مستمرٌّ … لأن العلم مستمرٌّ»، وهو فهمٌ جديدٌ للإنسان، والعلم، والحياة، يتجاوز به الفنان أسوار رحلته السابقة إلى الغد؛ ذلك أن «الشك والحيرة، والإثبات والإنكار … صيحاتٌ للعقل لا بد منها … لكن القلب ينبض في الداخل … من تلقاء نفسه»، فقد ذابت الفواصل بين العقل والقلب، كما انهارت الحواجز بين الفكر والعمل. يحتج وجه الزوجة المتوفاة بأنه لم يعد يتذكَّرها، فيجيب بأن العمل أصبح شاغله الأكبر، فإذا استأنفت الاحتجاج بأنها كانت يومًا «منتهى» أمله، أجابها مرةً ثانيةً: «منتهى؟! أيمكن أن يكون هناك منتهًى … ونحن على قيد الحياة؟!» لم تعد الحياة هي ذلك الكون الصامت، والطبيعة الخرساء التي أصابت شهريار بجنون الرحيل محاكيًا سندباد شهرزاد، لقد أصبحت الحياة هي «العمل» الذي بشَّرت به شهرزاد الجديدة: شمس النهار.
ونصادف وجهًا ثالثًا يذكِّره بالسعادة فيقول: إني سعيدٌ طبعًا … لا أستطيع القول إني تعسٌ، ولكن هناك مع ذلك شيءٌ، «شيءٌ يجعلني لا أهدأ … يجعلنا لا نهدأ … نحن في رحلة صيدٍ مستمرةٍ». ولعل هذه العبارة هي «ضربة المعلم» الحقيقية في كشف أسرار الموقف؛ إذ لا يُسدَل الستار حتى نسمع أصواتًا تملأ الغابة بصراخ مَن يستغيث، أصواتًا تؤكد أن «الدكتور في فم الأسد»، أيُّ مفارقة تنضح بالمرارة جسَّدها الحكيم في هذا الموقف المثير؟! إن مَن يتخذ شعاره «نحن في رحلة صيدٍ مستمرةٍ»، هو بالتحديد «في فم الأسد»! ولا تلبث الوجوه المتناثرة أن تتوحد في وجهٍ واحدٍ كبيرٍ، ولا تلبث التساؤلات المبعثرة أن تتجمع في علامة استفهامٍ كبيرةٍ واحدةٍ، وتنجاب الغشاوة عن عيوننا لنفهم أن الفنان هجر الشكل الذهني المجرد، واقترب من البناء التجسيدي المبسط؛ لأنه في نفس الوقت نزل من القمة الفكرية للجبل، وامتزج بالتجربة الإنسانية عند السفح، عند تخوم الواقع البشري وغناه اللامتناهي، فلا ريب أن ذوبان التناقض الفعلي بين العقل والقلب، وبين الفكر والعمل، يؤدي بنا إلى أن نكتشف بعمقٍ ووعي نافذين التناقضات الحقيقية في واقعنا الثوري المعاصر، ليس هذا الطبيب الذي يتغنى بأننا في رحلة صيدٍ مستمرةٍ وهو في فم الأسد، إلا إنساننا الجديد المغلل بآلاف القيود التي تُثقل كاهله بالرغبة في الاستسلام أو في إضافة قيودٍ جديدةٍ. وتوفيق الحكيم عندما يناقش وضعية هذا الإنسان الجديد، يستشعر حقًّا بضراوة المعركة في غابةٍ تحاول بناء الاشتراكية، إنه يستمع معنا إلى أصوات الاستغاثة، ولكنه يركز الأضواء كلَّها على «فم الأسد»، على «الغابة»، وهو يشاهد معنا محاولات الإنقاذ، ولكنه يفتح العدسة جيدًا على تلك «الوجوه» التي تزاحم الحياة ﺑ «الأنا»، دون أن تفكر لحظةً واحدةً في «نحن».
توفيق الحكيم يدرك عظمة التحوُّل التاريخي في مجتمعنا إلى الاشتراكية، ولكنه «يجسِّم» لنا الصعاب الهائلة التي تواجه هذا التحول من خلال الغابة التي ورثناها عبر آلاف السنين، هو لا يناقش التفاصيل، ولكنه يشير فقط إلى فداحة الثمن الذي ندفعه، إذا كنا ما نزال في رحلة صيدٍ مستمرةٍ ونحن في فم الأسد، وقد استمعنا معًا إلى أصوات الاستغاثة من هول الأخطار التي تتهددنا، واستمعنا إليه وهو يناقش وجوهنا السلبية، وبطولتنا الإيجابية على السواء. بقي أمامنا أن نستمع معه وإليه وهو «يجسم» الجانب الآخر من المعركة، الجانب القائد لها، أي إنه، وحتى تصبح الصورة كاملةً، لا سبيل إلى الاكتفاء بالتقييم الفني لدور «المشاركين» في المعركة من القاعدة، بل لا بد من تقييم الأدوار القيادية لها، وهي القضية التي عرضت لها المسرحية ذات الفصل الواحد (رحلة قطارٍ).
ولا ريب أن ثورتنا — ككل ثورةٍ — قد تعرضت منذ بدايتها لأخطارٍ عديدةٍ من الداخل والخارج، ولا ريب أيضًا أن التكوين الأيديولوجي للقيادة الثورية لم يكن على درجةٍ واحدةٍ من التجانس، وإن كان هناك الحد الأدنى من الاتفاق حول الأرض المشتركة التي انبثقت عنها الثورة، غير أن هذه الثورة بأرضها المشتركة لم تتعرض لأخطارٍ كما تعرضت لها بعد انعطافها التاريخي نحو الطريق الطويل إلى الاشتراكية، هذا الانعطاف الذي نؤرخ له بقرارات يويلو ١٩٦١م. لقد تضاعفت منذ ذلك اليوم أخطار الداخل والخارج، وأُضيفَ عنصرٌ جديدٌ، هو أن ذلك «الحد الأدنى» من الاتفاق القيادي لم يعد قادرًا على أن يكون «أرضًا مشتركةً» تحمي الثورة من غائلة التناقضات الجديدة، التي تجاوزت مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية إلى مرحلة الثورة الاشتراكية، وقد اختار توفيق الحكيم إحدى هذه اللحظات التاريخية الحرجة، اللحظة التي يتقرر فيها مصير ثورة ومسارها، لكي تكون نقطة البدء في النسيج الدرامي لمسرحيته القصيرة «رحلة قطارٍ». كان الفنان يقترب رويدًا رويدًا من واقعه المرئي المباشر، وكلما اقترب من هذا الواقع مبتعدًا عن عالم المطلقات الفكرية المجردة، اقترب في نفس الوقت من التجسيدات الدرامية العميقة الأثر، مبتعدًا عن التقريرية والمباشرة.
وتبدأ «رحلة قطارٍ» عندما يتوقف سائق القطار عن السير؛ لأن الإشارة الضوئية التي تسمح له بالاستمرار في السير لا تأذن له بوضوح الرؤية، فهو يراها «خضراء»، والوقاد يراها «حمراء»، أي إنه هو يراها تأذن له بالمسير، بينما الوقاد يرى الأمر يستوجب التوقف. وإذا كان السائق ارتضى التوقف مؤقتًا، فلكي يسأل الجماهير التي ارتضت أن تركب معه القطار منذ البداية، وتنشطر آراء «الركاب» إلى قسمين واضحين؛ أحدهما يوافق السائق على أن الإشارة خضراء وينبغي له الاستمرار في قيادة القطار، والفريق الآخر يوافق الوقاد على أن الإشارة حمراء، وينبغي التوقف تمامًا، وبين الفريقين مَن يراها لا هي خضراء ولا هي حمراء، وإنما هي صفراء «كالكركم»، ولكن مَن يراها هكذا قلةٌ نادرةٌ لا يقيم لها الوقاد والسائق والجماهير أي وزنٍ؛ لذلك تنحصر المناقشة بين الأخضر والأحمر، وينزل الركاب جميعًا للاشتراك في المناقشة المثيرة، ويستغل الفنان الذكي هذه الفرصة ليختبر تأملاته الفكرية في هذه الأمواج البشرية غير المتجانسة. إن أحد كبار رجال الأعمال يدخل في حوارٍ مع فنانٍ يشتغل بالموسيقى محتجًّا بأنه لا يستطيع أن ينتظر، لأن أعماله لا تنتظر، بينما الموسيقى في إمكانها الانتظار، فإذا أجاب الموسيقي بأن ظروفه دقيقةٌ لأنه سيتزوج غدًا، استأنف رجل الأعمال حديثه قائلًا إنه هو أيضًا سيطلق زوجته في نفس الوقت، لا لأنها لم تنجب أولادًا، بل لأنها تريد إنجاب الأولاد وهو لا يريد، ويعجب الموسيقيُّ من أن الرجل الذي يصنع «شخاشيخ الأطفال» لا يمقت شيئًا كالأطفال، بينما لا يريد الزواج إلا لإنجاب الأطفال. إن الحكيم بذكاءٍ شديدٍ وحساسيةٍ غاية في الرهافة والشفافية يعكس الانقسام الأكبر حول الأخضر والأحمر، على أدق جزئيات الحياة اليومية في الواقع البشري، فليس الاختلاف حول لون الإشارة الضوئية اختلافًا في مشكلةٍ عابرةٍ ومؤقتةٍ، وليس انعكاسًا لاختلاف قوة الإبصار العيني عند هذا أو ذاك، وإنما هو اختلافٌ جذريٌّ في الأساس، اختلافٌ في «وجهة النظر» إلى الأشياء، واختلافٌ أيضًا في «المصلحة» التي يعبر عنها كلُّ فردٍ، وكلُّ طبقةٍ.
ولم يعد الأمر عند الحكيم، كما كان في الماضي، نظامًا «تعادليًّا»، يستوجب الاتزان الشكلي والاتساق الآلي، وإنما الأمر في لحظات التاريخ الحاسمة يعبر عنه هذا الحوار:
ذلك أنه إذا استمر القطار في الوقوف، فسوف يصل بعد دقائق قطار الإكسبريس ويسحقه أمامه.
وإذا كان موقف رجل الأعمال من مشكلة «الانتظار» قد عبَّر عن وجهة نظرٍ تختلف مع وجهة نظر الموسيقي، فإن «المصلحة» تبلور موقفه أكثر فأكثر، فيرى أنه من الأفضل أن يشتري هذا القطار «الخردة» لاحتياج مصنعه إلى «كذا طن حديد» في العام الواحد يحولها إلى «شخاشيخ». وبنفس المقدار من الاختلاف بين الرجال، نلاحظ الاختلاف بين النساء، فتفضِّل إحداهن التعاطف مع الموسيقي، وتقع الأخرى في غرام رجل الأعمال. وهكذا ينحت الفنان نماذجه من حركة الأحداث المحيطة بالموقف كلِّه. إلا أن الحكيم لا يخلق «أنماطًا» مركبةً على نماذجَ مسبقةٍ، وإنما هو يحرص على فردية شخصياته تفردًا أصيلًا، يستمد منه أعمق خلجات الوعي البشري ولاوعيه معًا. إنه لا يجرؤ على التعميم من نتائجَ نمطيةٍ، بل يحاول أن يحصل على الخط العام من أدق التفاصيل، فإذا كانت السيدة قد تعاطفت مع رجل الأعمال لثرائه، فإنها في نهاية الأمر ليست «قالبًا» مطابقًا للآخر مطابقةً حرفيةً، هي تختلف معه حول «المصير» من وجهة نظرٍ مغايرةٍ:
إلا أن السائق لا يعبأ بما يقوله الوقاد، أو ما يقوله النصف الآخر من القطار من أمثال رجل الأعمال الكبير، لا يعبأ بشيءٍ من هذا لأنه هو «المسئول» الأول عما سيحدث، ولأنه ما يزال «القائد»، ولأنه — وهذا هو المهم — يرى السكة مفتوحةً والإشارة خضراء، ولا يبقى أمامه إلا أن يمسك بعجلة القيادة من جديدٍ قائلًا: «الطريقة الوحيدة هي أن نسير»، ويستأنف القطار مسيره من جديدٍ.
مرةً أخرى يضع الحكيم الإنسان في موقفٍ، وتبدأ المسرحية من قلب الموقف، بل ليست هناك بدايةٌ أو نهايةٌ، وإنما هناك موقفٌ يختبر فيه الفنان طبيعة التجربة الإنسانية، وإنسانُ الحكيم في رحلته بالقطار، ليس إنسانًا مريخيًّا مجهولًا، وإنما هو إنسانٌ محددٌ شديد التحديد، هو الإنسان المصري المعاصر في قطار ثورته المجيدة، والتجربة لا تصدر عن خيالٍ ميتافيزيقيٍّ موغلٍ في التجرد، وإنما هي تجربة شعبٍ مع قيادته الثورية في أشد حالاتها تأزمًا. لم تعد الصراعات قاصرةً على جماهير الركاب، بل امتدت التناقضات إلى الجهاز القيادي للقطار، أي إن الفنان وضع يده على الظاهرة الثورية في لحظة احتدام التناقضات بين الجميع؛ إذا كانت السكة مقفلةً وسار القطار، فسوف ينقلب بمَن فيه، وإذا وقف في مكانه فسوف يجرفه الإكسبريس القادم وراءه بعد قليلٍ، واختار الحكيم اللون الأخضر، اختار الحل الثوري، وقرر السائق أن يسير القطار، ربما تصادفه المتاعب فيما بعدُ، ولكن يبقى له شرف استمرار الثورة، فإذا أقبل الإكسبريس حاملًا الأجيال القادمة، لم يُسحَق ولم يُحطَّم، وإنَّما يبقى له شرف الامتداد الأكثر تطورًا وازدهارًا.