الفصل الحادي عشر

السلطة والحريَّة، أو الإنسان والنظام

من المحاور الرئيسية في مسرح توفيق الحكيم، ذلك المحور الذي دور من حوله مشكلات العلاقة بين الإنسان ونظام الحكم الذي يعيش في ظلاله، أو مشكلات العلاقة بين السلطة السياسية الحاكمة، وحرية الفرد أو المجتمع المحكوم، ولا شك أن هذا المحور قد دارت حوله منذ القديم معظم الفلسفات والمذاهب، بحيث يصعب على الأدب والفن أن يقدما شيئًا جديدًا في هذا المضمار، فربما كانت المعرفة الفنية هي أقل مستويات المعرفة طموحًا إلى تفصيل الفكر والرأي؛ لأن الفكر السياسي والقانوني والاقتصادي والاجتماعي والفلسفي أكثر منها قدرةً على هذا التفصيل، ولعلَّ علاقة الفن بالفكر تبدأ من هذه النقطة على وجه التحديد، يبدأ الفن من العام في الفكر إلى الخاص في الحياة، فيكتسب صورته النوعية المستقلة كيفيًّا عن بقية أشكال الفكر.

وعندما يسود الفكر على بعض الأعمال الكبرى لسارتر أو إليوت أو بيكيت، فإن سيادته لا تعني أن هذه الأعمال قد تحولت عن الفن إلى الفكر، وإنما تعني أن التجربة الشخصية التي يعانيها الفنان هي التجربة الفكرية، وهذه التجربة ليست إلا عنصرًا واحدًا من العناصر العديدة التي يتكوَّن منها العمل الفني، فإذا ما تكامل العمل الأدبي فنيًّا لم يعد عملًا فكريًّا محضًا قادرًا على تقديم هذا الاتجاه أو ذاك من اتجاهات الفلسفة تقديمًا علميًّا مفصلًا، وإنما نحن نلجأ في هذه الحالة إلى الكتب النظرية للفنان — إن وُجدت — لنستقيَ أهم السمات التفصيلية لمذهبه في الفكر؛ ذلك أن المعرفة الفنية لا يعنيها الفكر لذاته، وإنما لعلاقته بالتجربة الإنسانية الحية، وهي لذلك فقيرةٌ أشد الفقر في إعطاء صورة فكرية مفصلة لما يدور في ذهن إنسانٍ، بينما هي شديدة الغنى والثراء في إعطاء صورة مفصلة لما يدور في عقله ووجدانه وواقعه وتكوينه، في آنٍ واحدٍ، أي في شكلٍ معقدٍ ندعوه بالرؤيا التي تتجمع في بؤرتها هذه الأشعة كلها، ونحن حين نستخلص الشعاع الفكري من مسرح فنانٍ كتوفيق الحكيم، فإننا لا نعزله عن رؤياه الفنية ككل؛ لهذا كان لا بد لنا من التعرف على الأرض الفكرية التي يسير عليها هذا الفنان، من خلال ما كتب من أعمالٍ نظريةٍ كرَّس لها هذا الكتابُ قسمَه الأول، وفيه نتبين أن مشكلة الحكم في حياة الحكيم من أهم المحاور التي يدور حوله أدبه بشكلٍ عامٍّ، ومسرحه بشكلٍ خاصٍّ. إنه في تلك الكتابات مثال المفكر الليبرالي الذي يتصور ملكوت الحرية في النظام الديمقراطي الغربي، هذا هو الخط الفكري العام الذي ينطلق منه الفنان إلى ما تضيفه الحياة من دقائق وتفاصيل في إطارها النوعي الخاص، وهو الإطار الذي نستشرف آفاقه في ثلاثة أعمال هامة كتبها الحكيم.

وربما كانت «براكسا» هي أولى مسرحياته التي ناقشت هذه القضية، وإن كانت طبعتها الأولى التي صدرت عام ١٩٣٩م في ثلاثة فصولٍ، لم تكن بها التكملة التي صدرت في الطبعة الثانية عام ١٩٦٠م، حيث بلغت المسرحية ستة فصولٍ.

والمسرحية مأخوذةٌ، من حيث الإطار العام، عن كوميديا أريستوفانيس «اجتماع النساء». إلا أن الحكيم قد غيَّر في أحداث المسرحية ومغزاها الشامل ما يجعل منها عملًا قائمًا بذاته، يناقش إحدى المشكلات المصرية لحمًا ودمًا، وبالرغم من أن المسرحية في أصلها اليوناني كانت أشد إغراءً للحكيم؛ لأنه يلتقي مع كاتبها في المواقف من قضية المرأة، إلا أنه كان حريصًا على معالجة القضية الأكثر شمولًا بحيث تخرج مسرحيته من دائرة الاقتباس أو التقليد إلى دائرة التأثر المشروع، فقد عامل الحكيم الكوميديا اليونانية وكأنه يعامل أسطورةً قديمةً، وما يستدعيه ذلك من تحررٍ كاملٍ في معالجة الأسطورة كمادةٍ خامٍ، له مطلق الحق والحرية في إعادة صياغتها وتحويرها وتحميلها، ما يعنُّ له من هموم العصر الذي يعيش فيه. لقد توقف أريستوفانيس عند حدود السخرية من المرأة التي أرادت أن تحكم، أما الحكيم فقد أراد أن يسخر من طريقة الحكم التي استخدمتها المرأة كما استخدمها الرجل على السواء.

والحكيم في هذا المحور الجديد لا يهجر البناء الرمزي الذي تعرفنا عليه فيما سبق من أعمالٍ تتسم بالتجريد وتجربة الذهن، ولكنه يحاول أن يكون أكثر قربًا من القضايا الجزئية والمحسوسة والمباشرة، كتلك القضايا التي لامسناها في النصف الثاني من محور العقل والقلب، أي الجزء التطبيقي الخاص بالفكر والعمل، إن قضية الإنسان والنظام أشبه ما تكون بالقضايا التطبيقية، وإن احتوت على النظرية والتطبيق في مركبٍ واحدٍ.

وتبدأ المسرحية بأن تستولي براكسا زوجة القاضي بليروس على السلطة في أثينا، فتمنح جميع رعيتها حريتهم في القول والعمل، ولكنها في ذلك الوقت صريعة الغرام في حبها للقائد هيرونيموس، وقد استطاع أن يستوليَ على قلبها وسلطتها معًا؛ لذلك يأمر بسجن الفيلسوف أبقراط الذي لا يعجبه الحال، ولا يلبث هيرونيموس أن يدفع براكسا إلى السجن نفسه بتهمة الاتفاق مع الفيلسوف على قلب نظام الحكم، ولكن الأحوال سرعان ما تتغير، ويتدهور هيرونيموس لهزيمة جيشه أمام الأعداء، ويعلن القائد المهزوم عزمه على الانتحار، فتنكر براكسا عليه ذلك، وتقترح الموافقة على رأي أبقراط القديم، بأن يحكم ثلاثتهم بدلًا من الانفراد بالسلطة، ويتطور الاقتراح إلى تزييف «ملك» على البلاد يختارونه إنسانًا مغفلًا، يرضى بأن يكون لافتةً من الخارج، ويدعهم يتحكمون هم في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، ويقع اختبارهم على بلبروس زوج براكسا، ويتم تتويجه بالفعل، ولكنه يعلم من كاتمة سر الملكة السابقة أن زوجته كانت عشيقة لهيرونيموس، ومن ثم يأمر بسجن الزوجة والقائد والفيلسوف، فإذا أقبل يوم المحاكمة وحاول الوزير كريميس أن يستشير الشعب ضد المتهمين الثلاثة، نجحت براكسا وهيرونيموس وأبقراط في استثارة الشعب ضده هو، وضد الملك بلبروس، لما يقومان به، هما وأعوانهما، من أعمال السلب والنهب. وتنتهي المسرحية بأمواجٍ هادرةٍ من الجماهير في طريقها الصاخب إلى قصر الدولة تهتف: «فليحيَ الشعب … فليحيَ الشعب.»

ولعلَّه من المفيد أن نقول إن هذه المسرحية كُتبت في ظلِّ المناخ الذي هيأته بداية الحرب العالمية الثانية، هذا المناخ المعقد الذي خلقته ظروف انهيار الديمقراطية في العالم الغربي على يدَي النازيين والفاشست. إن القضية كانت على درجةٍ ما من الوضوح عند الإنسان الغربي؛ إذ هو يحارب الغول الدكتاتوري القادم من إيطاليا وألمانيا، متحصنًا بتراثٍ ضخمٍ من تقاليد الحرية العميقة الجذور في باطن الحضارة الغربية؛ لذلك كانت الهتلرية والموسولينية على السواء في مأزقٍ حرجٍ؛ لأن «الروح الأوروبية» التي يقوم بينها وبينهما الحوار تملك من الخصائص والسمات ما يجعل من النازية والفاشية أمرًا طارئًا غريبًا سرعان ما يزول، هذه الروح ليست تجريدًا ميتافيزيقيًّا، وإنما هي الحصيلة الفكرية التي كسبها الإنسان الأوروبي في معاركَ تاريخيةٍ طويلةٍ مع أعداء الحضارة؛ لذلك أقول إن المشكلة كانت واضحةً بحيث ضمت الجهة المعادية للنازي من أقصى اليمين الكاثوليكي إلى أقصى اليسار الشيوعي، لا على مستوى البلد الواحد فحسب، كما حدث في فرنسا، وإنما على النطاق العالمي حين أُقيمت الجبهة بين الاتحاد السوفياتي والحلفاء.

أما في بلادنا فالأمر يختلف كثيرًا؛ لأن ميراثنا الضخم من التخلف الحضاري، والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحُكم، حال دون الرؤية الواضحة عند قطاعاتٍ عريضةٍ من جماهير شعبنا، حتى إن الرجعية المحلية استطاعت أن تجرف التيار الشعبي في بعض جزئياته، وسمع روميل مَن يهتف مرحبًا بقدومه، لماذا؟ لأن التناقضات الداخلية بلغت درجةً عالية من التعقيد، فالكتيبة الغربية المناضلة ضد المحور، تحتل في نفس الوقت بلادنا، أي إن أولئك الذين يتخذون موقفًا تقدميًّا على الصعيد العالمي، هم بأنفسهم الذين يستعمروننا، وإذن فمطلوبٌ منا أن «نتحالف» مع قاهرينا. ومن ناحيةٍ أخرى، كانت الحكومة ذات الحزب الممثل لقطاعٍ عريضٍ من شعبنا، قد وصلت إلى مرحلة التهادن الشهيرة بمعاهدة ١٩٣٦م، وبمجرد أن حققت هذه الغاية أطاح بها العرش والاستعمار، لتحل مكانها الحكومات الموالية لأبشع قطاعات الرجعية، إلا أن هذه الحكومات تعلي السلطة في وقتٍ حرجٍ، أو ما يسمونه بلغة السياسيين «زمن الحرب»، وإذن فمطلوبٌ من الشعب الكادح أن «ينحني» لهذه الحكومات، حتى يحقق التحالف بينها وبين «العالم الحر» خطًّا دفاعيًّا في منطقةٍ من أكثر مناطق العالم حساسيةً.

وهكذا كان الشعب في موقعٍ لا يُحسَد عليه، بين حجرَي الرحى؛ القهر الاستعماري، والقهر الرجعي المحلي من ناحيةٍ، والدفاع عن «الديمقراطية» ضد الغول الهتلري من ناحيةٍ أخرى. وفي كثيرٍ من الأحيان لم تكن الصورة على هذه الدرجة من الوضوح، لما عاناه الشعب المصري من غياب «الديمقراطية» على يدَي الاستعمار والرجعية المحلية، وكثيرًا ما فُقد الاتجاه الثوري نتيجةً لانعدام وضوح الرؤية، فالتمس «الأمل» في ثعلب الصحراء حينًا، وفي القمصان الخضراء أحيانًا، ولم تكن هذه القمصان تعبيرًا عن فاشية أصحابها أو نازيتهم بقدر ما كانت تعبيرًا متطرفًا عن انعدام الوضوح الفكري للرؤية الوطنية.

عاش توفيق الحكيم في جحيم هذه الفوضى التي بلبلت الجميع، قادةً وشعبًا، وأحس أن معنى الديمقراطية سوف يضيع بين الاقتصار على رؤية «الخارج» والاقتصار على رؤية «الداخل». أحس أن الاحتجاج بما يحدث خارج ديارنا من اعتداءات النازية والفاشية على جوهر الديمقراطية في أن نجند كل قوانا لمحاربة العدو وحده، هو نوعٌ من الهروب قد ينحدر بنا إلى هاوية الخيانة الوطنية والعمالة للاستعمار. كما أحسَّ بأن الاحتجاج بما يحدث داخل بلادنا من اعتداءات الرجعية على جوهر الديمقراطية في أن نجند كل قوانا لمحاربة هذا العدو وحده، هو نوعٌ من الهروب قد ينحدر بنا إلى هاوية الخيانة الإنسانية، والعمالة للمحور.

لذلك تقوم مسرحية الحكيم على هذه الجبهة الثنائية في النضال الوطني ضد الغزاة، والنضال الاجتماعي ضد الطغاة، بحيث يحقق الشعب مفهومًا ديمقراطيًّا سليمًا إذا ما اعتلى هو بنفسه عرش السلطة. ومسرحية براكسا في تقديري هي «عملية» إسقاطٍ — لا أقول حرفية — لما كان يضطرم به الواقع المصري المعاصر للحكيم آنذاك، وقد اتخذ منها موقف المفكر الليبرالي المكافح من أجل «تأصيل» الديمقراطية في أرضنا، لا مجرد استيرادها من الخارج كأية سلعةٍ قابلةٍ لأن تكون مادةً للمساومة بيننا وبين الاستعمار من جانبٍ، وبيننا وبين عملائه الحاكمين من جانبٍ آخر، على ما يعنيه الحكيم بكلمة الديمقراطية والشعب والحكم وما إلى ذلك من مسميات، فربما كان لهذه الكلمات من المعاني ما يتعارض مع ما جاء عنها في المعاجم أو على ألسنة الناس، وربما كان الفنان يعمد إلى ذلك عمدًا حتى يضع أيدينا على ما يزخر به الواقع من تناقضاتٍ وتشابكٍ وتعقيدٍ، وهو في تحليله لهذه التناقضات وحلِّه لهذا التشابك يتجاوز بنا مرحلة «الرصد» التاريخي، إلى مرحلة النبوءة؛ ولذلك قلتُ إنه يقوم بعملية إسقاطٍ للواقع، ولكن دون أن يتم ذلك بصورةٍ حرفيةٍ، وإنما هو يلجأ إلى الفانتازيا والكاريكاتور والأسطورة، ليقوم بما هو أكثر من الرصد الفوتوغرافي، ليقوم بما يرتفع إلى مستوى التنبؤ؛ لهذا فإن الحكيم لا يستخدم الرمز بمعنى الكناية، وإنما هو يستخدمه بمعنى الرؤية المشعة الكثيفة التي تعادل الواقع الخارجي معادلةً فنيةً، معادلة تستلهم الواقع حقًّا، ولكنها تبعد به كثيرًا عن أسوار العادي والمرئي والمألوف، وتقترب به من أسرار «الكون الفني» وما يتمتع به من خصائصَ مستقلةٍ نوعًا.

والمسرحية تكاد أن تكون ثلاثة أجزاءٍ، بالرغم من اشتمالها على ستة فصولٍ. الجزء الأول يخص معنى الحرية عند براكسا، والجزء الثاني يوضح هذا المعنى عند كل من هيرونيموس وأبقراط وبلبروس، والجزء الثالث يصور هذه القضية بالنسبة للشعب.

يفتتح أبقراط الجزء الأول عند منتصف الفصل الثاني حين يوجه الحديث لبراكسا قائلًا: «لقد طلبت أن تُمنَحي السلطان، كي تُرضي الناس أجمعين»، وهي توافقه على أنها أذنت للناس كافةً أن يقولوا ما يشاءون، ويفعلوا ما يريدون، ولكنها تدهش لظاهرةٍ مفاجئةٍ، هي أن الأحزاب بدأت تظهر «بهذه الكثرة من كل جانبٍ»، وبالتالي فإنها تتناقض، بمفهومها هذا للحرية المطلقة، مع مفهوم القائد هيرونيموس الذي أحس أن الحاكم لن يستطيع إشباع الرغبات المتعارضة، وتلبية الاحتياجات المتباينة، إنه يدعو «حرية» براكسا بالفوضى، ويدعو نفسه بالنظام الذي يقضي على الأحزاب جميعها من أجل «الوحدة الوطنية»، ويعتلي هيرونيموس عرش السلطة فيقول مطَمئنًا: «الكل الآن كأنه واحدٌ! … والشعب كأنه فردٌ.» وهكذا يبدأ الجزء الثاني من المسرحية، فإذا تساءل أبقراط الفيلسوف عمن يكون هذا الفرد الذي تتمثل فيه إرادة الأمة، أجابه هيرونيموس: «نعم! … هو أنا، ولا شيء غيري أنا، ولا إرادة إلا إرادتي، ولا يد إلا يدي، وسأعطي الشعب بهذه اليد أخلد المجد! …» ونفهم أن هذا المجد الذي يقصده القائد الحاكم هو المجد العسكري في انتصاره على أعداء الوطن، إنه مجد «البطولة»، ويعلن أبقراط رأيه في شجاعةٍ وهو مغلول القدمين في الزنزانة بأحد السجون، إن الحرية كما فهمتها براكسا هي «الفوضى»، وإنها كما فهمها هيرونيموس هي «الهمجية»، فما الحل إذن؟ الحل هو ذلك الحكم «الجماعي» الذي يضم براكسا وأبقراط وهيرونيموس على مقعدٍ واحدٍ، تمامًا كما كانت «المعيشة المشتركة» في عودة الروح تضم الأسرة الواحدة في مكانٍ واحدٍ، يقول أبقراط: «نعم، نحن الثلاثة، وثلاثتنا معًا اسمنا المدنية … هذا ما ينبغي أن يكون، يجب أن يسير أحدنا إلى جانب الآخر، دون أن يطغى أحدنا على الآخر.» وينتهي الفصل الثالث دون أن يوافق هيرونيموس على هذا الحل، إلى أن يطرق سمعه هدير الجيش المهزوم على أبواب المدينة.

ولست أشكُّ لحظةً في أن هذه الفصول الثلاثة كان من الممكن أن يضمها فصلٌ واحدٌ، لو أن الحكيم كان أكثر تركيزًا وكثافةً. ولقد تعرضت المسرحية في هذه الفصول لهزالٍ شديدٍ، فتفككت أوصالها، وتثاقلت حركتها، وتجمدت الشخصيات والأحداث والمواقف؛ ذلك أن التجربة الفنية تناثرت على أفواه الشخصيات في مناظراتٍ لا في حوارٍ، كما تنقلت بين الأحداث لا في صراعٍ، كذلك تدرجت مع المواقف لا في تطورٍ، فليس شك أن الفنان أراد في تلك الحقبة الهامة من تاريخنا أن يفرق لجماهيره بين الدعوات الفوضوية الغارقة في أحلامٍ مثاليةٍ عن الحرية، وبين الدعوات الدكتاتورية الغارقة في أحلام النازية والفاشية، ثم أراد أن يقدم بديلًا موضوعيًّا لهذه الأزمة الطاحنة بين طرفَي النقيض في أن تحكم الشعبَ «جبهةٌ وطنية» — لا حكومة ائتلافية — تمثل مختلف الاتجاهات المتصارعة، إلا أن الحكيم لم يمضِ بهذه الفكرة اللامعة في خطِّ سيرها إلى الأمام، فقد كان من الممكن أن تتطور هذه الجبهة إلى أن تصبح مضمونًا اجتماعيًّا للحرية، ولكن الفنان — في المستوى الدرامي للمسرحية — لم يربط بين الاتجاهات الثلاثة والأرض الاجتماعية التي يمثلونها؛ لهذا لم تتبلور الشخصيات بالرغم من نمطيتها في تجسيداتٍ دراميةٍ حيةٍ، وخلت الأحداث من حرارة الصراع والنبض، وتخلت المواقف عما كان ينبغي لها أن تزخر به من دلالاتٍ، أي إن «الحلم الليبرالي» الذي يسيطر على مخيلة الحكيم فكريًّا، هو الذي ساد على بنائه الفني، فلم تكن التيارات السياسية تأصيلًا لتياراتٍ اجتماعيةٍ واضحةٍ، وإنما بدت كأهواء تتصل بالمزاج الشخصي لامرأةٍ — كغيرها من النساء — وليس هيرونيموس إلا دكتاتورًا كغيره من القادة العسكريين الطغاة، وليس الفيلسوف أبقراط إلا مفكرًا يجيد التأمل كغيره من رجال الفلسفة، أي إن نمطية هذه الشخصيات لا علاقة لها بالقضية المطروحة للبحث. أبقراط «فيلسوف» حقًّا يجيد البحث عن الحل النموذجي بعقله الراجح، وهيرونيموس «قائد» حقًّا، يجيد تنظيم الحكم تنظيمًا دكتاتوريًّا صارمًا، وبراكسا «امرأة» حقًّا، تمنح الجميع حريتهم عن طيب خاطرٍ، جميعهم «نماذج» نمطية، ولكنها لا تلخص أبعاد القضية التي يناقشها الفنان، أو هي تلخص الأبعاد التي تمكَّن فقط من رؤيتها. وذلك هو التناقض الفني الأكبر الذي تورط فيه الحكيم، التناقض بين النمط والرمز، فلعل هذه الأنماط التي تعرفنا عليها كانت تستطيع أن تعبر عن نفسها تعبيرًا حرًّا لو أن الفنان لم يلصق بها «مشكلة الحكم»، لو أنه أتاح لها فرصة التعبير عن قضيةٍ ملائمةٍ لبنيانها النفسي والذهني والاجتماعي، تمامًا كما كان الأمر عند أريستوفانيس في «اجتماع النساء»، غير أن الحكيم شاء أن يطرح قضيةً مغايرةً، أراد أن يوسع من دائرة التعبير الفني للشخصيات، ولكن دون أن يوسع من التكوين الإنساني لها، حتى تستطيع أن تكون كفئًا لما عبَّأه في كيانها من مضامين.

لذلك قاربت المسرحية في هذا الجزء من أن تكون «مناقشات» سياسيةً لا صراعًا دراميًّا حول قضية الإنسان والنظام أو السلطة والحرية، مناقشات ربما تتفق مع المزاج النفسي لكلٍّ من براكسا وهيرونيموس وأبقراط، ولكنها لا تربط بينهم وبين «المصادر» الأولى للصراع، المصادر التي بدونها لا يتم هذا الصراع. على أن ما لا ريب فيه هو أن الفنان تمكن من أن يضع أيدينا، بالرغم من الأخطاء الفنية الفادحة، على هذه «الصورة» التي كانت تبدو لنا الأمور من خلالها، وحقًّا نحن لن نجد في تاريخنا الحديث جماعاتٍ فوضويةً، كتلك التي عرفتها أوروبا في القرن الماضي، وحقًّا نحن لن نجد في تاريخنا الحديث دكتاتورياتٍ عسكريةً كتلك التي عرفتها أوروبا في هذا القرن، ولكن الحكيم في واقع الأمر كان يقف بنا على أعتاب «الرؤيا» أو «النبوءة»، كنذيرٍ لما يمكن أن يقع في المستقبل، فهو يدفعنا إلى رفض الحرية المطلقة، ثم يدفعنا إلى رفض الدكتاتورية المستبدة، وذلك لكي يخرج بنا إلى آفاق ذلك الحل «المثالي» في ذلك الحين، وهو إقامة تحالفٍ مكينٍ بين مختلف الاتجاهات، تحالف يدرأ العدوان الخارجي، ويقينا من الطغيان الداخلي في آنٍ، وهو حلٌّ مثاليٌّ؛ لأنه لا ينبع من أرض الواقع الحي الذي كان يفور بتناقضاتٍ مختلفةٍ عما تصوره الحكيم آنذاك، ولكن يبقى له مع ذلك وقفته إلى جانب الحرية، وإلى جانب الجماعة، مهما صدرت هذه الوقفة عن أضغاث الحلم الليبرالي العظيم.

ويبدأ الجزء الثاني من المسرحية، بما يمكن تسميته بالحبكة الدرامية في البناء الكلاسيكي؛ ذلك أن هزيمة الجيش خارج البلاد وضعت هيرونيموس في مأزقٍ شديد الحرج، وقد أنكرت عليه براكسا أن يقضي على نفسه بالانتحار، وتتفتَّق أذهانهم عن فكرةٍ جديدةٍ، هي أن يفرضوا على الوطن ملِكًا «مغفلًا» يحكمون من وراء ظهره، ويقع اختيارهم على «بلبروس» زوج براكسا، الذي ضرب أرقامًا قياسيةً في الغفلة عن زوجته العاشقة: «ذلك الذي يلزمنا، يجب أن يكون في قبضتنا، وتحت تأثيرنا، ولا يُبرِم شيئًا إلا بوحينا، ولا يُقدِم على قرارٍ إلا برأينا وإرادتنا دون أن نظهر مع ذلك أمام الناس، أو تكون لنا صفةٌ رسميةٌ باديةٌ للشعب.» ويعتلي بلبروس عرش السلطة، وتزول غشاوة الغفلة عن عينيه، فيعلم ما كان من أمر زوجته مع القائد هيرونيموس عن طريق كاتمة سرِّها، وإذن فلا بأس من السلب والنهب من جديدٍ، ولا بأس من القبض على الثالوث الحاكم من الخلف، ويقول السجَّان ليهرونيموس: «نعم، هذا عمل الملك بلبروس الآن، هو وحاشيته وأعوانهم والمقربون إليهم، الكل يسرق من مال الدولة، والشعب يسرق بعضه بعضًا، والثراء من أي طريقٍ هو هدف الجميع.» لقد فسد القادة، أفسدتهم الرشوة، وما من أحدٍ يسمع الآن إلا رنين الذهب، الدولة تسير بمفردها، كل ما فيها نهبٌ لمَن يستطيع أن يسبق غيره إلى نهبها، ويتساءل هرونيموس:

هيرونيموس : يا للعجب! أما من أحدٍ مسئولٍ الآن عن سلامة الدولة؟
السجان : مَن يكون؟ أهو بلبروس؟ وكلنا يعرفه غارقًا في عبثه ولهوه وحماقاته، أم أفراد الحاشية اللصوص؟ أم قادة الشعب المرتشون؟ أم الشعب الذي ركن إلى الاهتمام بسفاسف الأمور، وسخافات الملاهي العامة التي يشغلونه بها من حينٍ إلى حينٍ؟

ما أصدق هذه الكلمات على ما كانت عليه مصر بعد إبرام معاهدة التهادن وبداية الحرب العالمية الثانية! ما أصدقها من حيث إنها كانت بناءً آيلًا للسقوط والانهيار، ولكن ما أقساها على شعبٍ آمن الحكيم يومًا بأنه لا ينام، بل إن خاتمة هذه المسرحية نفسها تثبت هذه الحقيقة في تكوين الشعب المصري، ولعلَّ الخاتمة هي أروع مشاهد هذه المسرحية، فهي من حيث الشكل «محاكمة» يجريها الوزير كريميس لبراكسا وهيرونيموس وأبقراط، ومن حيث المضمون هي «همزة الوصل» بين الأنماط والرمز، هي الربط الحي العميق بين الشخصيات والأحداث والمواقف، وما تدل عليه في الواقع الاجتماعي المحيط بها، ولقد تجلَّت مهارة الحكيم الفنية حين جعل كريميس وهيرونيموس يتفقان على أن الشعب وحده هو المخدوع، بالرغم من اختلافهما على مَن الذي خدعه، وبالرغم من أن الخديعة — موضوع المحاكمة — هي خديعة بلبروس في زوجته براكسا. كما تجلت أعمال الحكيم الفكرية حين تنبهت إلى لسان كريميس وهو يدين براكسا لأنها منحت الشعب «حرياته في تقديم مطالب يُناقض بعضها بعضًا، ومنحِ وعود يصادم بعضها البعض». وتنتهي المسرحية بكلماتٍ واضحةٍ مباشرةٍ للفيلسوف أبقراط، الذي لم يكن سوى اللسان الناطق باسم توفيق الحكيم:

  • «إني ما لمحت الشعب يومًا يسير في طريقٍ من هذه الطرق، ولكني رأيت أشخاصًا يتكلمون عنه، ألا تستطيع أيها الشعب أن تمشي في طريقٍ من الطرق بنفسك؟»

  • «أريد أن أقول: احكم أنت! لا طائفة منك لمصلحة طائفةٍ، ولا طبقة لمصلحة طبقةٍ، ولا فرد لمصلحة جماعةٍ، ولا جماعة لمصلحة فردٍ.»

  • «وقد يأتي حكمكم بالأعاجيب، وقد لا يأتي بشيءٍ جديدٍ، إن الحكم ليس سهلًا، إنه أعقد مشكلةٍ، جربوا على كل حالٍ، فلنجرب هذا أيضًا، قد لا تحلون مشكلة الحكم نهائيًّا، لكن يكفي هنا أن الحكم في أيدي أصحابه، يكفي أنكم تفعلون بأنفسكم ما تريدون، لا أن تتركوا غيركم يصنع بكم ما يريد.»

  • «لم أعد فيلسوفًا، إني في صميم المعمعة!»

  • «إني لم أعد أفكر، إني أعمل، ما أعجبَ العملَ! حتى ولو بغير تفكيرٍ! (صائحًا): إلى القصر! فليحيَ الشعب.»

ويُسدَل الستار، والشعب يصيح هادرًا وهو يتحرك: «إلى القصر! فليحيَ الشعب!» وهكذا جرَّب توفيق الحكيم حل التناقضات بين الفكر والعمل في مرحلةٍ باكرةٍ، جربها في «مشكلة الحكم»، فبرهن على أن علاقة الإنسان بالنظام هي المرادف الحرفي لعلاقة السلطة بالحرية، وأن علاقة الإنسان بالنظام هي علاقةٌ عضويةٌ لا مفر من قبولها كما يقبل الإنسان تكوينه العضوي، ولكنها أيضًا علاقةٌ حرةٌ لا بد للإنسان أن يتحرك ويتجاوزها كما تتحرك أعضاؤه وتحقق له ما هو أبعد منها، وهو مفهومٌ ليبراليٌّ مستمدٌّ من المدرسة الإنجليزية في التفكير الديمقراطي، بل ربما كان «سبنسر» على وجه التحديد هو الأب الشرعي لهذه النظرة «العضوية» للحكم، فالحكيم على وجه التحديد هو الأب الشرعي لهذه النظرة «العضوية» للحكم، فالحكيم لم يتأثر قط بمفاهيم المدرسة الفرنسية في هذا الصدد، كما لم يتأثر بفيلسوفٍ إنجليزيٍّ آخر كجون ستيوارت ميل، ولا بمفهومٍ طوباويٍّ آخر نجده عند تولستوي في كتابه الصغير «السلطة والحرية».

ولكن الحكيم لا يتأثر بسبنسر تأثرًا آليًّا؛ لأن تجربته الأصيلة في أرض مصر، كانت تمده دائمًا برؤيا أكثر رحابةً وعمقًا، وبالتالي أكثر تقدمًا، فبعد عشرين عامًا من صدور الطبعة الأولى من «براكسا»، كتب الحكيم مسرحيته الهامة الثانية التي ناقشت نفس القضية، ولكن في ظروفٍ جديدةٍ، تلك هي «السلطان الحائر»، التي تُعَد في رأيي من أعظم أعمال الحكيم الدرامية.

•••

ولقد كانت العشرون عامًا التي تفصل بين «براكسا» و«السلطان الحائر» بمثابة المرحلة الحاسمة في تاريخ مصر الحديث، حيث تطور مجتمعنا تطورًا جذريًّا من الحكم الاستعماري المتحالف مع الإقطاع ورأس المال، إلى حكمٍ وطنيٍّ ثوريٍّ يتجه عبر طريقه الخاص نحو الاشتراكية؛ لهذا يستأنف الفنان حواره مع «نظام الحكم» في مستوًى جديدٍ يختلف كيفيًّا عن المستوى الذي ظهرت فيه «براكسا». ولشد ما يدهش الباحث حين يقارن بين مفهوم «مشكلة الحكم» عند الحكيم، ومفهومها عند جيلٍ لاحقٍ، ويُعَد يوسف إدريس أحد أبنائه. ففي مسرحية «الفرافير» يتناول الكاتب هذه المشكلة من زاويتين؛ الأولى هي الزاوية الإنسانية العامة التي تجرد القضية في معادلةٍ تقول بأن مشكلة نظام الحكم في أي زمانٍ ومكانٍ تنبع من طبيعته الخاصة، سواء كان هذا الحكم عبوديًّا أو إقطاعيًّا أو رأسماليًّا أو اشتراكيًّا أو شيوعيًّا، أي إن مجرد أن يكون هناك «نظام» فإنما يعني ذلك «شيئًا ما» ضد الإنسان وحريته. وحقًّا هو يطالب في نهاية المسرحية بألا نتوقف عن محاولة البحث عن حلٍّ، ولكن هذه العبارة «البحث عن حلٍّ»، تأتي في إطار الدائرة الجبرية التي يتحتم على الفرفور أن يظلَّ مرتبطًا داخلها بسيده. وقد استلهم قوانين العلم في التدليل على هذه الحتمية التي تشبه كثيرًا القدر اليوناني القديم.

والزاوية الثانية هي أن يوسف إدريس ارتاد الطريق إلى نقد الجزئيات السلبية التي تشكل حياتنا اليومية في المجتمع الحديث، أقول ارتاده؛ لأننا سنتتبع خطوات سعد الدين وهبة في «سكة السلامة» و«بير السلم»، ونلاحظ أنه انطلق من البدائية الرائدة في «الفرافير»، وهي أن يتخلل البناءَ المسرحي العام نقدٌ كوميدي لكافة ما يعتاق تطورنا الراهن من أزمات مرحلة التحول. إلا أن فرقًا جوهريًّا يظل واضحًا بين مسرح سعد الدين وهبة، ومسرح يوسف إدريس (حيث تكررت ظاهرة الفرافير في المهزلة الأرضية)، هو أن مسرحيتَي يوسف إدريس تربطان بين «النقد الكوميدي للجوانب السلبية في النظام»، وبين «حتمية الفساد في أي نظامٍ»، وبالتالي فإن هذه الجوانب السلبية في واقع الأمر ليست إلا العمود الفقري للنظام كما يراه الفنان، أي إنها ليست مجرد جزئياتٍ خاصةٍ، وإنما هي إفرازٌ طبيعيٌّ للشكل الاجتماعي والظاهرة الإنسانية التي يضبط حركتها «النظام» ككلٍّ.

ومعنى ذلك أن يوسف إدريس — ابن الجيل الثالث في أدبنا الحديث — يتخلف عن توفيق الحكيم، ذلك الجسر العظيم بين الثورتين، تخلفًا منهجيًّا في الفكر والفن، فإن مناقشة النظام كنظامٍ، ليست «نقطة ابتداءٍ» فيما تجتازه مرحلتنا التاريخية من تحولاتٍ، وإذا كان الحكيم قد عثر في المجتمع المصري إبان الثلاثينيات على «خامة» تصلح لإقامة «الدعوى» في هذه القضية، فإنه بعد عشرين عامًا يجد أن هذه الخامة «غير ذات موضوعٍ»؛ لأننا أخذنا تقريبًا بما هو شبيه بالدعوة التي ارتآها عام ١٩٣٩م. ولا ريب أن ثمة فرقًا أصيلًا بين الفن والواقع، فما اقترحه الحكيم يومذاك من حُكمٍ «جماعيٍّ» أو حكمٍ «ديمقراطيٍّ» أو حكم «الشعب»، هو بعينه اللبُّ الحقيقي لتجربتنا الاجتماعية والسياسية المعاصرة؛ لذلك بدأ الحكيم يناقش قضيةً أخرى على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية، منطلقًا من الإيمان بالخطوط العامة للنظام الراهن، ومنتهيًا بتدعيم هذا النظام والدعوة إلى تطويره. وكم تتسع المسافة إذن بين «السلطان الحائر»، التي صدرت عام ١٩٦٠م، و«الفرافير» التي صدرت عام ١٩٦٤م. لم تكن قوانين يوليو الثورية ١٩٦١م قد صدرت حين كتب الحكيم مسرحيته، ولكنها كانت قد صدرت قبل أن يكتب يوسف إدريس مسرحيته، فما أبعدَ الشُّقة — مرةً أخرى — بين المسرحيتين!

وتعتمد مسرحية الحكيم على ما يشبه الأسطورة التي يتخذ لها ديكورًا تاريخيًّا من عصر المماليك (وسنتتبع هذا الديكور فيما بعد عند الشرقاوي ورشاد رشدي وألفريد فرج، فنلاحظ كيف تتباين المناهج الفكرية الفنية بالرغم من إسقاطها رمزًا محددًا على واقعٍ معاصرٍ)، والأسطورة تقول بأن نخاسًا تلفَّظ بكلماتٍ بين الناس عدَّها رجال السلطان تعريضًا به، فأمر الوزير بإعدامه عند الفجر، ولكن المحكوم عليه يتقدم بمظلمةٍ إلى السلطان يشكو إليه هذه الوشاية، وتحُول بعض الظروف دون شنقه عند الفجر، فيظفر بمجيء السلطان والوزير وقاضي القضاة، وبوصولهم تثور مشكلةٌ جديدةٌ لم تخطر مطلقًا على البال؛ إذ يكتشف السلطان أن ما تهامس به الناس حول عدم تمتعه بحق «العتق» من السلطان السابق ليس أمرًا مكذوبًا، فقد حدث أن «اشترى» السلطان السابق ولدًا ذكيًّا أخذ في تربيته وإعداده للقيام بشئون السلطة بعد وفاته، أي إنه أخذ في تأهيله لأن يكون خَلَفه على عرش السلطان، ولكن حدث أن مات السلطان القديم دون أن يحرر للسلطان الجديد حقَّ العتق، ويقتضي القانون بأن يستولي بيت المال على إرث السلطان السابق، ولا بد إذن من بيع السلطان الحالي — ووفقًا لأحكام القانون يجب أن يتم البيع في مزادٍ علنيٍّ — ليسترد بيت المال حقه، ويجوز بعدئذٍ للمواطن الذي يرسو عليه المزاد أن يعتق السلطان فيعود إلى عرش الحكم مرةً أخرى، إلا أن الوزير كان يرى أسلوبًا مختلفًا لحسم هذه القصة، هو «السيف»، فماذا لو قُتل النخاس الذي باح بهذا السر، وأعلن في المدينة أنها شائعةٌ مكذوبةٌ جزاؤها القتل؟ ولم يستجب للوزير أحدٌ، ويدور بين الجميع هذا الحوار:

القاضي : هناك شخصٌ سوف يُكذِّب ذلك.
الوزير : مَن هو؟
القاضي : أنا.
السلطان : أنت؟
القاضي : نعم … أنا يا مولاي … إني لا أستطيع أن أشترك في هذه المؤامرة!
الوزير : إنها ليست مؤامرةً … إنها خطةٌ لإنقاذ الموقف.
القاضي : إنها مؤامرةٌ ضد القانون الذي أمثِّله.
السلطان : القانون؟!
القاضي : نعم أيها السلطان … القانون … أنت في نظر الشرع لست سوى عبدٍ رقيقٍ … والعبد الرقيق يُعتبر — قانونًا وشرعًا — شيئًا من الأشياء، ومتاعًا من الأمتعة.

ثم يوجه قاضي القضاة حديثه إلى السلطان قائلًا: «… والآن، فما عليك يا مولاي سوى الاختيار؛ بين السيف الذي يفرضك ولكن يعرضك، وبين القانون الذي يتحداك ولكنه يحميك.»

ويُفاجأ الجميع بقبول السلطان للقانون! نعم، مهما حدث فسوف يقال إن السلطان ارتضى القانون بدلًا من السيف، والعدالة بدلًا من الدماء، وهكذا يُباع السلطان في مزادٍ علنيٍّ أمام جميع المواطنين، فيرسو المزاد على غانيةٍ يؤم مخدعَها — فيما يُقال — أعيانُ المدينة وسَراتها، ويشترط قاضي القضاة قبل المبيع أن «يفدي» المشتري سلطانه بالتنازل عن ثمنه مقابل عتقه وتحريره، فيعود سلطانًا كما كان. وترتضي المرأة هذا الشرط، على أن يتم توقيع الحُجة عند الفجر، أي بعد أن يقضي السلطان في بيتها ليلةً كاملةً، ولا تبيت المدينة هذه الليلة، فتظل ساهرةً حتى تطمئن على سلطانها الذي أرغمته الظروف أن يقبل هذا الهوان، ويحاول الوزير بالاتفاق مع قاضي القضاة تزييف موعد الفجر، ويطلبون من المؤذن أن يعتلي مئذنة المسجد في منتصف الليل مؤذنًا للفجر، ويكتشف السلطان في هذه الأثناء وجهًا خافيًا عن الجميع لهذه «الغانية»، فهي ليست تاجرةً للرقيق الأبيض كما يتصور الجميع، وإنما هي قد أحبت الشِّعر والطرب منذ نعومة أظفارها، وهي بعدُ جاريةٌ صغيرةٌ في بيت أحد الموسرين، وحين تزوجها الرجل بعد ذلك حجبها عن مجالسه الخاصة التي كانت تحضرها لتسمع الشعراء والمغنين، وكانت تقف وراء ستار لتستمتعَ عن البُعد بهذا الفن الجميل. ثم حدث أن مات زوجها، فلم تبطل عادتها، وظلَّت تدعو أصدقاءه للولائم التي يتخللها الشِّعر والطرب، ولما كانت مواردها لا تستطيع الوفاء بتكاليف هذه السهرات، لم تمانع في قبول ما يدفع به إليها أصدقاء زوجها الراحل من هدايا، وظلت في بادئ الأمر ترقب الحفل من وراء ستارٍ، ولكن ألسنة الناس لم تصدق حُسن مسلكها، فنهشت عرضها البريء نهشًا، ومن ثم أرادت أن تحقق ذاتها وحريتها، فأسفرت عن وجهها، وخرجت إلى الرجال طاهرة الذيل شريفة المقصد، ولم تعبأ بما يتقوَّل به عليها مَن يرونها من الخارج، وهي لم تجرؤ على التقدم إلى شراء السلطان إلا لتتعرف عن قربٍ على هذا الإنسان الغريب الذي ارتضى القانون بدلًا من السيف، وهكذا دفعت بكل ما تملك لتربح المزاد، ومعه هذه الليلة، إلا أنها فوجئت مع السلطان بأذان المؤذن يخترق عنان السماء، وما يزال الليل جاثمًا بصدره العريض؛ لذلك خرج السلطان من منزلها في دهشةٍ بالغةٍ من الأمر، ويدخل القاضي في حوارٍ لفظيٍّ مع المرأة ليقنعها بأنها التزمت بتوقيع حجة العتق حين يدوي صوت المؤذن، ولم ينص الشرط أن يكون الفجر قد بزغ بالفعل أم لا، ويقف السلطان إلى جانب المرأة، ويقف الوزير إلى جانب قاضي القضاة، ويدرك السلطان أن ما يعني القاضي هو «حرفية» القانون لا روحه؛ ولذلك فهو على استعدادٍ لأن يزيف الحقيقة ما دامت تحت قدميه أرضٌ صلبةٌ من نصوص القانون، ويدرك أن الوزير على استعدادٍ مماثلٍ لإنهاء الموضوع بأية صورة من الصور، فالسيف يخرج من الغمد في أقل من غمض البصر، والزيف مرهونٌ ببلاغة القاضي وأذان المؤذن، ويدرك أيضًا أن المرأة على حقٍّ إذا تمسكت بموقفها ولم تفرط فيما استحوذت عليه، وأنه ما دام قد اختار القانون موقفًا إيجابيًّا في حياته، فلا بد من أن يختار موقفه إلى جانب هذه المرأة، غير أن المرأة تفاجئ الجميع وتقبل التوقيع على حجة العتق، وتحرر السلطان من كونه عبدًا رقيقًا، ويمضي السلطان في الموكب الشعبي الحافل، ولكنه لا ينسى أن ينظر إلى المرأة الدامعة العينين قائلًا: «وداعًا … أيتها السيدة الفاضلة.»

قلتُ إن «السلطان الحائر» من أعظم أعمال الحكيم الدرامية، وأفسر هذه القول الآن بأن الفنان تمكن من أن يصيب هدفه مباشرة دون اللجوء إلى الثوب الفضفاض الذي عرفناه في «براكسا»، هنا نجد عملًا شديدَ التركيز يعتمد على شخصياتٍ لا تتعارض نمطيتها مع مدلولاتها، كما يعتمد على أحداثٍ لا تتناقض حركتها مع جوهر الصراع الكامن في الدراما، وكذلك يعتمد على مواقفَ واضحةٍ محددةٍ تتطور ديناميًّا من خلال التشابك المعقد لمختلف جزئيات الظاهرة.

فالحق أن الفصول الثلاثة التي تتكون منها المسرحية تكاد تكون مفصلةً تفصيلًا على الحجم الطبيعي للشخصيات والأحداث والمواقف، وكلها تصب في مجرًى واحد، هو علاقة السلطة بحرية الفرد والمجموع، أو علاقة الإنسان بالنظام. والحدث البسيط الذي بدأت به — أن يكون النخَّاس قد تلفظ بشيءٍ معادٍ للسلطان — هو في ذاته حدثٌ دراميٌّ، أرقى بكثيرٍ من ذلك الحدث الذي تبدأ به مسرحية مثل «شمس النهار»، هو حدث ذو دلالة يبني عليها الفنان مسرحيته كلها، وإذا كان الجلاد والنخاس والمؤذن والحمار والإسكافي من الشخصيات المجردة التي يمكن اعتبارها بمثابة الديكور الإنساني والأضواء والظلال — وكلها تشارك في خلق الجو العام للمسرحية — إلا أن هناك الوزير وقاضي القضاة والسلطان والغانية، وهي شخصياتٌ دراميةٌ كاملةٌ لا تتخلى عن تكوينها الإنساني الحي أمام المشكلة «الذهنية» الماثلة؛ لأن المشكلة في صميمها ليست بمعزلٍ عن إنسانية التجربة التي جسَّدها الفنان. والتجربة بدأت منذ أن التقط الخيط من النخاس المحكوم عليه، ليقيم الفصل الثاني على هذا الأساس المتين؛ أن السلطان ليس إلا عبدًا رقيقًا، ولا بد من بيعه في مزادٍ علنيٍّ ليحصل بيت المال على حقه من إرث السلطان الراحل، هذا هو القانون. وهناك طريقٌ آخر ميسورٌ، هو طريق الدم، فالسيف لغة سريعة المفعول في أن تصيب بقية الألسنة بالخرس، ولقد كان «اختيار» السلطان لجانب القانون دون جانب السيف ذروة درامية ناضجة التكوين، وليس الجزء الآخر إلا تأكيدًا ملحًّا على هذا الاختيار، فهو يرفض أن ينال بالسيف من المرأة ما لم يرتضِ أن يناله من النخاس، وهو يرفض ألاعيب قاضي القضاة، كما يرفض الموافقة على صورة الغانية الشائعة بين الناس؛ لذلك كان الحكيم موفَّقًا غاية التوفيق في «بناء» هذه المسرحية على نحوٍ كلاسيكيٍّ رحيبٍ، ينفلت قليلًا أو كثيرًا من قيود كلٍّ من الكوميديا والتراجيديا، لا ليصنع مزيجًا مركبًا مهمًّا، وإنما ليصنع شيئًا جديدًا على مسرحنا المعاصر.

وتوفيق الحكيم كان فنانًا معاصرًا غاية المعاصرة في هذه المسرحية، إنه يَنفُذ بحساسيةٍ عميقةٍ إلى جوهر ما تعانيه العلاقة بين الإنسان والنظام في مجتمعنا، ويعي أن ثمة مشكلاتٍ متراكمةً من الماضي (السلطان القديم) قد ورثها النظام الجديد مع صعاب الحاضر المتجدد بتجدد الحياة، غير أن الحلَّ الثوريَّ النموذجيَّ لهذه المشكلات، هو المزيد من الديمقراطية بجناحيها؛ الدستور والقانون. سوف تجلب الديمقراطية العديد من العقبات، وسوف تجد مَن يستسهل السيف على القانون، ولكن يبقى شيءٌ واحدٌ، هامٌّ وخطيرٌ، يبقى أن شعبية الحاكم لن تتأكد إلا بتعميق التجربة الديمقراطية، وأن شرعيته لن تتدعم إلا بمقدار تمسكه بهذا المبدأ، ويبقى أخيرًا أن الطريق الديمقراطي السليم هو الذي يكشف لنا عن إنسانية الإنسان، كما اكتشف السلطان حقيقة الغانية الفاضلة.

وهكذا يرافق الفنان خطانا يومًا بعد يومٍ لا يتخلف بنا إلى الوراء لحظةً واحدةً، بل يقفز بنا إلى الأمام لنرى بعينيه ما قد تحجبه الظروف عن الأبصار. وهو قد يبالغ في هذه الجزئيةِ أو تلك، لمجرد أن نضع أيدينا على الداء قبل أن يستشريَ، ولكن الرؤيا ككل تبقى مع ذلك صادقةً أبلغ الصدق وأروعه، مهما تبدت لنا النتائج القريبة أحيانًا على درجةٍ من السواد، علينا فقط ألا نبالغ نحن فنظن أن القتامة هي المبالغة، وإنما هي جزئيةٌ أو أخرى يركز عليها الحكيم بشكلٍ واضحٍ، يركز لدرجة القسوة، ولكنه تركيزٌ بعيدٌ عن أن يصيب الرؤيا كلها بالخلل.

•••

ولننظر في ثالث أعماله التي ناقشت هذا المحور في أحدث مراحله. وهو فصلٌ تمثيليٌّ نشره الحكيم في «الأهرام» تحت عنوان «الصرصار ملكًا»، كمسرحيةٍ من فصلٍ واحدٍ، ثم عاد فنشره بين دفتَي كتاب كفصلٍ أول من ثلاثة فصولٍ هي «الصرصار ملكًا» و«كفاح الصرصار» و«مصير الصرصار». وبينما يكاد الفصل الثاني والثالث أن يصوغا عملًا واحدًا متكاملًا، ينفرد الفصل الأول «الصرصار ملكًا» باستقلالٍ ذاتيٍّ يجعل من مناقشته على حدةٍ أمرًا ممكنًا.

و«الصرصار ملكًا» ليست شيئًا شبيهًا بكليلة ودمنة، بالرغم من أن شخصياتها كانت غير آدميةٍ؛ ذلك أن «لا آدمية» الشخصيات هنا، ليست مجرد قناعٍ يُخفي النزعة التعليمية التي نعرفها في «كليلة ودمنة»، وإنما هي أحد العناصر الفنية في الدراما التي تجعل منها رمزًا موحدًا. والصراصير في هذا الفصل التمثيلي خمسةٌ، لكلٍّ منهم «وظيفةٌ معينةٌ»، أحدهم هو الملك، فالملكة، ثم الوزير والكاهن والعالم. والمشكلة التي وضعها الحكيم في المقدمة لتحريك الدراما، هي مشكلة «النمل» التي تهدد مملكة الصراصير، كلما انقلب أو سقط صرصار على ظهره تحول إلى فريسةٍ طيعة للنمل. وتثور القضية أولًا في الحيز الملكي؛ إذ تثور الملكة على زوجها الملك لأنه لم يستطع خلال فترة حكمه أن يقضي على هذه المشكلة القضاء التام:

الملك : تريدين حلًّا في يومٍ وليلةٍ لمشكلةٍ قديمةٍ قِدم الأزل؟!
الملكة : اسكت إذن ولا تفاخر بطول شواربك!
الملك : أرجوك! … لا تكلمي الملك بهذه اللهجة!
الملكة : الملك! … أتساءل مَن الذي جعلك ملكًا؟!
الملك : أنا الذي جعلت نفسي.

وكأنَّ مشكلة النمل هي المحرك الأول للدراما حقًّا، ولكنها تكاد تختفي بعد ذلك، أو تظهر كلما دعا الأمر لكي نكتشف خلال السياق الدرامي ما هو أبعد من مشكلة النمل، نكتشف طبيعة الشخصيات والنوازع الحقيقية التي تحركهم، ونحن نعلم منذ البداية أن الملك هو الذي عيَّن نفسه، وما أشبه هذا المأزق بمقدمة «السلطان الحائر»، حيث نجد سلطانًا بغير حجة عتق، لقد امتطى ملك الصراصير صهوة جواد الحُكم؛ لأنه رأى أن شواربه أطول من شوارب الآخرين، أما الكاهن فإن موهبته أنه يقول كلامًا بلا معنًى، وأما الوزير فإن موهبته هي الاهتمام بعرض المشكلات المربكة، والمجيء بالأخبار المزعجة، بقيت موهبة العالم، وهي أن لديه معلوماتٍ غريبةً عن أشياء لا وجود لها إلَّا في رأسه.

وتظهر مشكلة النمل مرةً أخرى في منتصف السياق الدرامي، فتتحرك «المعضلة» من جديدٍ؛ إذ افترس النمل ابن الوزير على أثر سقوطه من فوق الحائط، حينئذٍ تتسع دائرة الحوار فلا تقتصر على الملك والملكة وحدهما، بل يدخل إليها طرفٌ ثالثٌ، هو الوزير. ومرةً ثانيةً ينفجر الملك قائلًا: «لماذا يشاء حظي الأسود أن أُطالَب أنا دون كل مَن كان قبلي من الآباء والأجداد بمهمة البحث وحدي عن الحل؟!» فإذا اتسعت الدائرة، ودخل العالم طرفًا رابعًا فيها، سمعناه يُعفي نفسه من مسئولية المشاركة، بحجة أن «هذه مشكلةٌ سياسيةٌ». بينما ترى الملكة «أن الأمل معقودٌ الآن على العلم»، ويرى الوزير أن «المشكلة هي كيف نجمع هذه الصراصير»؛ لأنه يريد «تعليم الصراصير السير في طوابير»، والصراصير — كما قالت الملكة — لا تجتمع بغير طعامٍ، بل لا الصراصير ولا غير الصراصير كما قال العالم. ويأخذه الاندماج أكثر فأكثر ليستطرد: «إنه من الوجهة العملية كل هذا تحصيل حاصل؛ لأن اجتماع الصراصير حول الطعام لن يقدِّم ولن يؤخر؛ لأنها ستأكل وتملأ بطونها، ثم ينصرف كلٌّ منها في طريقٍ.» وإذا اجتمع عددٌ من الصراصير في مكانٍ، وكان وهج الضوء ساطعًا، فسرعان ما تتحرك جبالٌ ليس لها قممٌ ولا رءوسٌ، فتسحق الصراصير سحقًا، وتتساءل الملكة: إذن لماذا لا تقع هذه الكوارث إلا كلما تجمعنا؟

العالم : لا أدري يا مولاتي، كل ما يستطيعه العلم هو فقط تسجيل هذه الظواهر، وربط العلاقة بينها، واستخلاص قانونٍ علميٍّ.
الملك : تريد إذن أن تقول إن خوفنا من هذه الكوارث جعل جنسنا من قديم الأزل يخشى التجمع؟
العالم : بالضبط، ومن هنا نشأ فينا هذا الطبع، وهو سير كل واحد منَّا بمفرده في اتجاهٍ مختلفٍ، مجرد دفاعٍ غريزيٍّ عن الحياة.

وتمر وليمة «ابن الوزير الميت» يحمل النمل في موكبٍ ينشد:

«لأن كلنا سواعد،
أعضاء جسم،
وليس فينا حزينٌ،
وليس فينا وحيدٌ،
وليس فينا مَن يقول:
لا شأن لي بالآخرين.»

وتقترح الملكة أن يهجم الصراصير المجتمعون الآن، وهم الملك والوزير والكاهن والعالم، على موكب النمل لإنقاذ ابن الوزير، إلا أن كلًّا منهم يعتذر بشيءٍ يعفيه من هذه المهمة، فالملك يحكم ولا يقاتل، والكاهن يصلي ولا يحارب، والعالم يبحث ولا يشاغب.

ومن جديدٍ تشارك «مشكلة النمل» في صنع الخاتمة، فالعالم يحرك الموجة الدرامية الأخيرة بأن يلفت النظر إلى أن هناك فرقًا خطيرًا بين حياة الصراصير وحياة النمل: «إن النمل مثلًا كل ما يهمه هو الطعام، أما نحن فيهمنا فوق ذلك المعرفة.» وتبدأ رحلة المعرفة التي يصطحب فيها العالم مليكه إلى قمة جدار البانيو ليشاهد تلك البحيرة العجيبة «أرضية الحمَّام»، التي يصيبها الجفاف أحيانًا كثيرةً، ولا يلبث العالم أن يهرول عائدًا إلى زملائه، مستنجدًا بهم أن ينقذوا المَلك، فقد سقط في قاع البحيرة، ولكنها جافةٌ ولم يمت بعدُ، ويصيب الجميعَ الذهولُ لأن الملك أمامهم يموت ولا يدرون كيف يتصرفون، فإن أحدًا منهم لا يستطيع النزول إلى البحيرة وإنقاذه، وتنتهي «الصرصار ملكًا» بحوارٍ عنيفٍ بين العالم والكاهن، فهذا الأخير يدعو إلى الصلاة، والأول يؤمن بجدواها، ويُسدَل الستار والجميع يرفع الأكف هاتفين: «أيتها الآلهة … أيتها الآلهة!»

وهكذا يغرس الحكيم رأسه في معمعة «السياسة»، كما أشار الصرصار العالم إلى ذلك صراحةً، ولكن دون أن ينال هذا العنصر من البناء الفني، فقد أجرى الفنان عملية «تسوية» أو «تكافؤ» بين مختلف العناصر التي يتكوَّن منها عالم الصراصير، بحيث لا نجد بادرةً واحدةً يشذ بها أحد أجزاء المسرحية عن السياق العام، أي إن الفنان لم يفرض رموزه من الخارج حسب فكرةٍ تجريديةٍ مسبقةٍ، بل إنه من خلال التكوين التجريدي لعالم الصراصير أطلَّت رموزه جميعها في سهولةٍ ويُسرٍ، ومعنى ذلك أن الرمز كان يتولد تلقائيًّا من طبيعة الجو الذي أبدعه الكاتب، من صلب العمل الفني، لا مقحمًا عليه في تعسفٍ من أزرار المعادلات الخارجية.

وليست مشكلة النمل في واقع الأمر سوى المثير الأول للحركة الدرامية، أمَّا تلك البداية التي نتعرف فيها على ماهية الصراصير، ثم كارثة ابن الوزير، وأخيرًا مأساة الملك، فجميعها موجاتٌ دراميةٌ متتابعةٌ تخلق فيما بينها إيقاعًا فنيًّا وفكريًّا موحدًا، هو «البحث عن حلٍّ»، وهو ليس بحثًا يائسًا عديم الجدوى كما هو الحال في «الفرافير»، وليس بحثًا يعتمد على الاختيار كما هو الحال في «رحلة قطارٍ»، ولكنه بحثٌ — من جديدٍ — عن طبيعة العلاقة بين السلطة والحرية، أو الإنسان والنظام، مهما كان الملك هو قمة هذا النظام، فلا ريب أن المعرفة أو التجربة التي دفعت به إلى قاع البحيرة، هي الثمن، هل معنى ذلك أن الوعي والتجربة يحققان حرية الإنسان في الارتباط بالسلطة والنظام، بل في ارتباطه بالوجود الإنساني نفسه؟

إنني ألمحُ في «الصرصار ملكًا» وبقية «مصير صرصار» بوادر نقلةٍ جديدةٍ في معالجة الحكيم لقضية الإنسان والحرية، ألمحُ بوادر التجريد وهو ينتقل من المستوى الجزئي المحسوس إلى المستوى الكلي الشامل، ألمح بوادر المعنى الجديد للسلطة والنظام، المعنى الذي لا يقتصر على الإطار السياسي والاجتماعي، وإنما يدخل في رحاب قضية القضايا؛ قضية الوجود الإنساني نفسه. إنها مرحلةٌ جديدةٌ تمامًا لا علاقة لها بالمطلقات القديمة، كالقدر والزمن والمكان والخلود، بل هي مرحلةٌ يمتزج فيها النسبي بالمطلق، والزمان بالمكان، والحرية بالضرورة، بحيث تمسي مشكلة «السلطة والنظام» عبارةً تاريخيةً في معجمٍ قديمٍ.

لن يتخلَّى الحكيم عن نبض المجتمعِ الذي يعيشُ فيه، ولكنه سوف يستمعُ في نبض هذا المجتمعِ إلى دقات قلب عصرنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤