العدل الاجتماعي بين السلام ومستقبل الإنسان
محورٌ أخيرٌ مزدوجٌ تدور حوله مجموعة مسرحيات الحكيم، هو ذلك المحور الممتد من مشكلة الإنسان مع النظام، وهو ما ندعوه بقضية العدلِ الاجتماعيِّ بين السلام ومستقبل الإنسان، وهي من القضايا «التطبيقية» عند الفنان الذي ناقش فكرة الموت والبعث في نظرية الخلود، كما ناقش الوجه الآخر لهذه الفكرة، وهو الوجه المتمثل في العقل والقلب خلال دورتهما بين الفكر والعمل. ثم بدأ الحكيم «يطبِّق» أفكاره النظرية على مشكلة السلطة والحرية، كما رأينا في الفصل السابق، وها هو ذا يعاود عملية التطبيق في هذه المشكلة التي نحن بصددها الآن، مشكلة العدل والسلام كوجهين لعملةٍ واحدةٍ، هي مستقبل الإنسان على هذه الأرض.
ويتميز الحكيم في مواجهته لهذه المشكلة فنيًّا أنه يبذل جهدًا مضاعفًا في الاقتراب من المستوى الواقعي للمشكلة، كما يتميز بأنه كان مفكرًا أمينًا مع مقدماته النظرية التي تعرَّفنا عليها فيما سبق بالقسم الأول، للدرجة التي كانت فيها أمانته تصل به إلى التطابق الحرفي بين ما قاله بالأسلوب التقريري المباشر في الفكر السياسي والاجتماعي، وما قاله بالأسلوب الفني في البناء المسرحي، وربما كانت هذه المطابقة الحرفية وتلك الأمانة الفكرية، من العوامل التي هبطت بمستوى البناء المسرحي دراميًّا، ولكن هذا لا ينفي عن الظاهرة صدقها وأصالتها، مهما عانى هذا الصدق من غياب حرارة التعبير والتدفق.
هذا المحور الجديد، كما قلنا، محورٌ مزدوجٌ، ولعلَّنا نستشف من هذه الازدواجية أن الفنان وضع يده على ذلك الارتباط الحي العميق بين العدالة الاجتماعية والسلام بين البشر، أي إنه استطاع بإدراكٍ ثاقبٍ أن يعي جوهر العلاقة شبه الحتمية بين أن يعيش الناس متساوين في الحقوق والواجبات، وأن يعيشوا في سلامٍ دائمٍ في وقتٍ واحدٍ.
وتتعدد أعمالُ الحكيم على كلا الجانبين تعددًا يجعل من الاختيار بينهما أمرًا صعبًا، ولكني سأعمد إلى المنهج التاريخي في التقاط العلامات الفارقة التي تسم مرحلةً ما بما يميزها عن مرحلةٍ أخرى، أو ما يؤكد الوشائج التي تربط بينها وبين الوجه الاجتماعي لقضية العدل، وبين ما يعنيه السلام لمستقبل الإنسان.
في جانب قضية العدل الاجتماعي، أعتقد أن مسرحية «اللص» التي كتبها الحكيم عام ١٩٤٨م، ومسرحية «الأيدي الناعمة»، التي كتبها عام ١٩٥٤م، ومسرحية «الصفقة»، التي ظهرت عام ١٩٥٦م؛ من أكثر مسرحياته دلالةً على موقفه من هذه المشكلة ذات الحساسية الشديدة عند مختلف طبقات المجتمع الكادحة منها، والمستغلة على السواء.
وتعلن بدايةُ «اللص» عن جوهر المشكلة التي يعرض لها المؤلف، فبينما كانت «خيرية» تهم بدخول غرفتها بعد سهرة المساء خارج المنزل، إذا بشابٍّ يتسلق نافذة الغرفة ويفاجئها بأنه ليس لصًّا، وإنما هو إنسانٌ تعيس الحظِّ، تعرفه جيدًا لو أنها تذكَّرت المصحف الصغير الذي اشترته منذ أيامٍ، ونعلم من الحوار بينهما أن الشابَّ يعمل بائعًا في مكتبة بحيِّ الأزهر، وأن صاحب المكتبة طرده من عمله حين أصرَّ على ألا يزيف أو يسرق، وحينئذٍ قرر أن يحصل على مبلغ مائة جنيه بأية وسيلة من الوسائل حتى يفتح مكتبة صغيرة كتلك التي كانت في الماضي عند صاحب المكتبة الذي طرده اليوم، وأهدته قريحته إلى هذا الحي الأرستقراطي «الزمالك»، وقادته غريزته إلى هذه الفيلا التي ما كان يعلم أنها منزل الفتاة الجميلة التي اشترت منه مصحفًا صغيرًا منذ أيامٍ، وتسأله الفتاة ما إذا كان البنك يستطيع إقراضه فيجيب: «أنا لا أحب التعامل مع البنك، أتدرين لماذا؟ لأنه لا يثق بي، إنه يقول لي: قبل أن تقترض مني، أخبرني أين رصيدك وأين ضامنك؟ يجب أن أكون غنيًّا ليدفعوا لي … ثراء يُقرض ثراء … تلك هي البنوك، خُلقت لتمدَّ الأغنياء … أما بنك الفقراء فلم يُخلق بعدُ.» على أن الفتى ليس وحده «المحاصر» بهذه المشكلة، فالمؤلف يضيء لنا زاويةً أخرى، هي الفتاة، فهي ليست ابنة الباشا الذي يدق بابها في هذا الوقت المتأخر من الليل، وإنما هي ابنة زوجته التي تركها في الدور العلوي ليراود ابنتها عن نفسها بشتى المغريات من جواهرَ ومالٍ: «هذا الباشا الذي يدخن سيجاره الكبير ويجلس في ناديه، وعلى النقود أن تُصَب في حساباته الجارية في البنوك دون أن يحفل كيف تنبعث ولا كيف صُنعت، فهو كما قد تعلم مساهمٌ في كل الشركات تقريبًا، إنه من أولئك المُدرَجة أسماؤهم في تلك القائمة الخاصة التي توزَّع فيما بينها أسهم كل شركةٍ مضمونة الربح، قبل أن تعرض النفاية القليلة على الجمهور ذرًّا للرماد في العيون»، كما تقول خيرية وهي تصف هؤلاء الذين يأخذون المال من الأعمال، ويتركون للآخرين الأعمال بغير المال، هي تفاضل بين صاحب العمل الذي يشتري عرق الشاب بدراهم، وصاحب المال الذي يشتري العرض مهما كان الثمن، فليس أخطر — عند خيرية — من إنسانٍ لا يدرك أن في الحياة قيمًا أنفس من المال وأسمى، ويستجيب الشاب لهذا الجانب الأخلاقي من قضية العدل، فيكمل الحديث قائلًا: «إن الذهب ليس فقط نوعًا من المعادن النفيسة، ولكنه أيضًا نوعٌ من المعادن السامة، قاتلٌ لكثيرٍ من الفضائل الإنسانية.» على أنه سرعان ما يتنبه إلى حقيقة الوضع البشع الذي يعيشه الآن، فيستدرك قائلًا: «أنتِ فتاةٌ غريرةٌ تتغذين بالكلمات، بينما الآخرون يتغذون على دمائنا.»
ومشكلة خيرية الحقيقية هي أنها لا تستطيع أن «تكشف» الباشا حتى لا يبادر بتطليق أمها فتجد نفسها معها في الشارع؛ لهذا تتفق مع الشاب في نفس الليلة على الزواج، ولكن بعد أن تستأذن أمها في اليوم التالي، لقد آنست فيه حلم أحلامها، وسوف تحل بزواجها منه مشكلتهما معًا، فسيعملان جنبًا إلى جنبٍ، وتتخلص هي من مطاردة زوج أمها، ويتخلص هو من شبح الفقر وصاحب المكتبة والمائة جنيه وتسلُّق النوافذ، ويخرج من غرفتها، وما إن يهمُّ بمغادرة الحديقة حتى يلحق به الباشا فجأة ويصيبه بعيارٍ ناريٍّ. ويتوتر الموقف ويزداد حدةً كلما غاب الطبيب في جراحته التي استُدعي لكي يقوم بها على عجلٍ، وفي تلك الأثناء تهمس خيرية في أذن الباشا أن يخفف من غلوائه قليلًا؛ لأنه ظلم «حامد» من حيث لا يدري، فهي قد أرادت أن ترتبط شرعيًّا بأي إنسانٍ لييسر لها الارتباط الآخر بالباشا. ويصدق الباشا ما همست به له خيرية، ويَعِدها بأن يعيِّنه مديرًا لإحدى شركاته، وأن يتكلف هو بنفقات الزواج ما دامت قد اقتنعت أخيرًا بمودة الباشا وغرامه بها، وينفذ الباشا وعوده كلَّها، وإن لم تخلُ هذه الوعود من تعرجاتٍ والتواءاتٍ يخفيها الباشا عن الجميع، وهي أنه نصب كمينًا لا يخطئ الحساب لو حاول حامد أو خيرية أن يتهربا منه، هذا الكمين هو التوقيع على عشرات الشيكات المزورة التي تؤدي به إلى السجن لو أنه لم يرضخ، هو أو زوجته، لإرادة السيد المطاع. ويكتشف حامد هذه الأحبولة عن طريق المدير السابق «شاكر» الذي ضحت شقيقته بشرفها من أجل أن يبقى في منصبه، وعندما تحوَّل عنها الباشا وجد نفسه في الشارع مغلول اليد بعدد توقيعاته المزورة، ويطلب الباشا ذات يوم من حامد أن يستقل القطار إلى الإسكندرية لقضاء بعض المهام المتعلقة بالشركة، ثم يطلب من خيرية أن تستعدَّ لاستقباله هذه الليلة ويؤكد لها أن زوجها يعرف كل شيءٍ ولا يهمه سوى المال الذي يحصل عليه كما يريد بما يزوره من توقيعات، وتكاد خيرية أن تصدق هذا الكلام، لولا أن تظهر أمها وزوجها في الوقت المناسب، حينذاك يُسقَط في يد الباشا، الذي يهدد ويتوعد، لولا أن رصاصة لم يحسب حسابها تخترق مكان القلب من صدره، رصاصة أفرغها شاكر بكل ما يعتمل في كيانه المذبوح من ضراوةٍ.
ولعلَّه من المفيد أن نقول من واقع الأصل المخطوط بقلم توفيق الحكيم إن الرقابة عام ١٩٤٨م حذفت كثيرًا من التعبيرات في هذه المسرحية قبل تمثيلها على خشبة المسرح، وقد نشط القلم الأحمر للرقيب في حذف كل حرفٍ يمس الرأسماليين والرأسمالية، بحيث إن المسرحية أصبحت عند التمثيل في تصوري، أشبه بفيلمٍ بوليسيٍّ يقوم على المغامرات (وليس غريبًا أن يقوم يوسف وهبي بدور البطولة حينذاك)، فلو أن «اللص» خلت من مضمونها الاجتماعي المتقدم، لتحولت إلى قصةٍ بوليسيةٍ، غير مسليةٍ في بعض الأحيان، هذا يعني أنها كانت على قدرٍ كبيرٍ من التفكك والإثارة المفتعلة، التي لم يخفف من وطأتها إلا ذلك الذي استطاع توفيق الحكيم أن يقوله في ظلِّ النظام الملكي، وهو أن الرأسمالية الكبيرة في مصر بلغت من الانهيار حدًّا يتجاوز أسوار الاقتصاد إلى عالم الأخلاق، وقد صاغ الفنان هذا الوجه للقضية في مشهدٍ يدور فيه هذا الحوار بين وفدٍ من جمعية أنصار الفضيلة، وبين الباشا:
هذا المشهد الذي اتخذ منه عبد الحميد جودة السحار بعد عشر سنواتٍ نواةً لروايته «الحصاد»، يبين كيف أن الحكيم كان «معاصرًا» بضميره الفتي لما يمور به المجتمع من أحداثٍ، مهما كانت الأعمال الفنية المعبرة عن هذه الأحداث أعمالًا ضعيفةً في بنائها الدرامي، أو أعمالًا غير قادرةٍ على البقاء بعد تحقيق رسالتها الملحَّة والعاجلة، ولكن ستبقى لها قيمتها التاريخية التي تعلو بها على الأعمال الفنية التي يكتبها بعضهم الآن حول ما كان عليه مجتمع ما قبل الثورة، وما أيسر أن يحصي الناقد المسرحي على «اللص» العديد من المآخذ الفنية، كالمفاجآت والمواقف المزيَّفة، غير أن ما هو أكثر أهميةً أن يسجل المؤرخ بضميرٍ مطمئن أن توفيق الحكيم في نطاق الفكر البرجوازي كان فنانًا متقدمًا على نحوٍ من الأنحاء. حقًّا هو لم يرَ مشكلة الكادحين في مستواها الاجتماعي الشامل، بل رآها من زاويةٍ فرديةٍ أقرب إلى الشذوذ والاستثناء، وحقًّا هو عالجها بمنطق النظام القائم حينذاك، فلم يحل مشكلة الفتى الكادح إلا بالأسلوب الرأسمالي، ومع ذلك، فإن هذه الرؤية البرجوازية الفردية في ذاتها كانت كسبًا إيجابيًّا إلى جانب التقدم، مهما شابَ هذا الكسبَ من ظلال الفهم الأخلاقي لقضية العدل الاجتماعي.
وبعد ست سنواتٍ من ظهور «اللص» كان المجتمع المصري قد أعلن بداية مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل تطوره. وبالرغم من أن النظام الجديد قد اتخذ أولى خطواته في طريق التخلص من الاستعمار والإقطاع، إلا أن الرؤيا الفكرية المعاصرة للثورة لم تسرف في المبالغة عندما توقفت حدود قدرتها على التنبؤ عن المنجزات الفعلية للثورة، وهي حتى ذلك الحين لم تكن منجزات العداء السافر للرأسمالية والرأسماليين؛ لذلك أقبلت مسرحية «الأيدي الناعمة» للحكيم عام ١٩٥٤م، وكأنها «استراحة» البرجوازية بين أحضان الاستقرار.
وتتشابه بداية «الأيدي الناعمة» مع بداية «اللص» مشابهةً قويةً، فهي تبدأ بشابٍّ عاطلٍ يتسكع على كورنيش النيل، يصادفه أثناء تسكعه شابٌّ آخر عليه سيماء العز والجاه، ويتبين لنا بعد قليلٍ أن الشاب الأول هو الدكتور علي حموده، الذي حصل مؤخرًا على درجة الدكتوراه من الجامعة في فقه اللغة، وأن الشاب الآخر هو البرنس فريد، الإقطاعي القديم الذي صُودرت أملاكه حديثًا، ولم يبقَ له شيءٌ بعد أن هجرته ابنتاه منذ وقتٍ طويلٍ، إحداهما للزواج من عاملٍ ميكانيكيٍّ، والأخرى لمجرد الابتعاد عن حياته الصاخبة. ونعلم أن الأمير السابق أعلن في الصحف عن رغبته في تأجير قصره لمَن يشاء بشرط، ألا يدفع المستأجر شيئًا، وعندما يتم التعارف بين الدكتور علي حموده والبرنس فريد وبقية أفراد الأسرة التي فاجأتهما على الكورنيش، في محاولةٍ يائسةٍ أن يعود معهم الأب، يصبح من العسير أن يترك أيهما الآخر؛ لذلك يقبل الدكتور حموده أن يقيم مع الأمير السابق في قصره الذي يبدو لنا من الداخل عددًا هائلًا من الغرف المغلقة يكسوها تراب الهجران من كل جانبٍ، فالأمير يعيش وحيدًا بعد وفاة زوجته، وسرعان ما يقبل أحد أولئك الذين يريدون استئجار القصر، ونفهم أن شرط الإيجار المجاني يلزم المستأجر أن يعتبر الأمير قريبًا له، حتى لا تشك السلطات في أنه ينفذ تعليماتها جيدًا، وهي تقضي بالسماح له أن يقيم في القصر، وأن يقيم معه مَن يشاء بشرط ألا يستفيد من ذلك فائدةً ماديةً، ويرفض القادم الأول شرط الأمير ولا يتم بينهما الاتفاق. ثم يصل بعد قليلٍ رجلٌ مسنٌّ وفتاةٌ في ريعان الصبا لا يظهر من ملبسهما وسلوكهما أنهما من أرباب العز والجاه، وإن اصطحبا معهما خادمًا صغيرًا، ويتم الاتفاق هذه المرة أن يقبل الحاج عبد السلام شرط البرنس فريد، وتقبل ابنته كريمة أن تنظف هذا القصر الكبير، وأن تستضيف الأمير وصديقه في غرفتين منفردتين.
ولا يمر وقتٌ طويلٌ حتى تتوثق عرى التفاهم بين كريمة والبرنس، ولكنا نُفاجأ ذات يوم بزيارةٍ طارئةٍ لابنتَي البرنس برفقة زوج الكبرى، وكانت صغراهما قد تعرفت على الدكتور حموده في المرة الأولى عند الكورنيش، ولكنها فهمت خطأ أنه دكتور في علم البحار والأسماك، فراحت تنسج في مخيلتها عدة مشاريع تقوم على الصيد، وما إن يواجه الجميع بعضهم البعض حتى نُفاجأ بأن الحاج عبد السلام هو والد «سالم» زوج ميرفت ابنة الأمير الكبرى، وأن كريمة هي شقيقته، وقد كان استئجار القصر مجرد «لعبة» حاكت خيوطها الأسرة لإقناع الأمير بأن يعيش معهم بعيدًا عن الوحدة القاتلة، خاصةً وأن العامل الميكانيكي الذي كرهه فيما سبق لم يعد كذلك، بل أصبح من أصحاب المصانع الناجحين، فقد اكتشف بئرًا جديدة للبترول، وساهم في بعض الشركات الأخرى، ولكن هذا لا يعني أن سالمًا انتقل إلى «طبقة الأغنياء» في نظر ميرفت التي تقول:
وما تكاد مشكلة الأب الأرستقراطي أن تحل على الوجه الذي أرادته ابنتاه، حتى تبدأ مشكلته العاطفية مع كريمة، ومشكلة الدكتور حموده مع جيهان، فقد كان من أثر التجربة المشتركة التي عاشوها معًا، أنْ تعلَّق قلب الأمير بشقيقة سالم، كما تعلق قلب الدكتور بابنة الأمير. ولما كان «المتصرف الوحيد» في هذا الجانب العاطفي هو سالم، فقد توجه الجميع إليه ليرى ماذا يمكن أن تكون عليه الأمور في المستقبل، فالبطالة التي يمارسها كلاهما تقف سدًّا ضخمًا يحول بينهما وبين الزواج؛ لهذا يشترط سالم عليهما أن يوافقا على العمل فيما يقترحه لهما من أعمالٍ، ويقول: «يجب أن يكون هناك عملٌ منتجٌ للثروة ليكون هناك عملٌ منتجٌ للذهن، يجب أن تكون هناك أيدٍ خشنةٌ حتى يمكن أن توجد إلى جانبها الأيدي الناعمة.» وتنتهي المسرحية بأن يعمل الدكتور علي حموده مديرًا لمكتبة شركة البترول، ويتزوج جيهان، وأن يعمل الأمير السابق مديرًا لمعرض السيارات، ويتزوج كريمة.
وهكذا نصادف نفس المنهج الفكري والتعبيري الذي صادفناه في المسرحية السابقة، غير أن مسرحية «اللص» تتميز بشجاعة المواجهة المعاصرة للمجتمع، بينما نلاحظ أن المبالغات في «الأيدي الناعمة» قد أوصلته إلى طريقٍ مسدودٍ تجاوزته الثورة نفسها فيما بعدُ بإجراءات التأميم. والمفروض أن الفنان، كالعراف، يسبق الأحداث بصدق بصيرته وقوة حدسه، فالحكيم يقدم كافة حلوله في إطار النظام البرجوازي البديل للإقطاع، فقد أصبح الرأسمالي هو «حكيم الزمان» الذي يجد عنده الجميع حلًّا نموذجيًّا لمشكلاتهم الاقتصادية والعاطفية، وهي من هذه الزاوية تُعَد خطوة متخلفة عن الخطوة التي أقدمَ عليها الفنان في «اللص». وإذا كانت «الأيدي الناعمة» و«اللص» بمثابة التعبير البرجوازي في مجال الصناعة، فإن «الصفقة» التي ظهرت عام ١٩٥٦م كانت بمثابة التعبير البرجوازي في مجال الزراعة.
و«الصفقة» هي بضعة فدادين تمتلكها الشركة البلجيكيَّة في إحدى مناطق الريف المصري، وقد أعلنت عزمها على بيع هذه القطعة من الأرض للفلاحين، بشرط أن يدفعوا ربع الثمن مقدمًا، على أن يقسَّط الباقي على أقساطٍ، وقد أجمع الفلاحون في المنطقة على ضرورة التعاون في دفع الثمن، كل حسب قدرته على الدفع والملكية. وتبدأ المسرحية في تلك اللحظة التي بدأ فيها المعلم شنودة، صراف الناحية، في مراجعة كشف الأسماء التي دفعت نصيبها. ويتفرع بنا السياق إلى تفريعاتٍ ثانويةٍ تؤدي بنا إلى التعاطف مع هذا القطاع الكادح من جماهير الشعب المصري، فقد أجَّل عوضين وسعداوي زواج ابنة الأول «مبروكة» من ابن الثاني «محروس» بسبب الصفقة، وحاول تهامي سرقة جدته لنفس السبب، إلا أنه ما يكاد حانوتي القرية ومرابيها أن يحل مشكلة نصيب تهامي في الدفع حتى يُفاجأ أهل القرية بحامد بك أبو راجية وقد حضر مع وكيله عليش أفندي، كما أنبأهم بذلك خميس أفندي ملاحظ مخازن الشركة. ويحاور أهل القرية بعضهم البعض، ويتجادلون فيما إذا كان مقصد حامد بك هو منافستهم في الحصول على الصفقة، وهو لا بد فائزٌ بها إذا أراد، فالشركة سترحب به بغير شكٍّ لأنه لن يدفع ربع الثمن ولن يقسط، بل سيدفع المبلغ كاملًا وعلى الفور. ويحتدُّ بهم النقاش طويلًا إلى أن يصلوا إلى اتفاقٍ مؤدَّاه أن «يخدعوا» حامد بك بزفة تقوده من المحطة إلى وسط البلد، حيث يقدمون له ما لذَّ وطاب، ثم ينفحونه مبلغًا من المال هو مائة جنيه حتى يتنحى عن منافستهم ويترك لهم الصفقة. ويتم الترحيب بحامد بك في حرارةٍ وانفعالٍ، وهو مع وكيله ذاهلان عما يجري حولهم، حتى إذا تجرأ سعداوي وغمز البك بالورقة ذات الجنيهات المائة، أعلن هذا دهشته البالغة مما يحدث، ويترجم الفلاحون دهشته بأنه يرفض المبلغ لقلَّته، فيزيدون عليه خمسين جنيهًا أخرى، غير العشرين التي تقاضاها الوكيل دون أن ينبس بحرفٍ، ويظن البك ووكيله أن هذه المبالغ إنما هي من قبيل التكريم والحفاوة الزائدة، ولكنهما يكتشفان الأمر بعد قليلٍ، فيرفضان المبلغ بادئ الأمر، ثم ينتهي الموضوع بزيادة خمسين جنيهًا، تفضل الحاج عبد الموجود بدفعها من جيبه تحت تهديدٍ غامضٍ من خميس أفندي، الذي لاحظ عليه أنه يسافر في أيامٍ معينةٍ إلى البندر بغير هدفٍ واضحٍ.
ويفاجئنا المؤلف مرةً أخرى حين يتعقد الموقف بعد القبول، فإذا بنا أمام حامد بك وهو يصرُّ على أن يأخذ معه «مبروكة» ابنة عوضين، لتعمل دادة للطفل الصغير في القاهرة، ويبلغ به الإصرار حدًّا يضع معه الصفقة في كفَّة ومبروكة في الكفة الأخرى، وينقسم أهل البلدة انقسامًا عنيفًا بين مستسلمٍ ورافضٍ، إلى أن تحسم مبروكة أمرها بنفسها، فتعلن موافقتها على السفر، بشرط ألا يعلم بذلك «محروس» خطيبها، ويغادر البك القرية مشيَّعًا باللعنات.
وبعد يومين يحدث أمران على جانبٍ من الأهمية، فقد ماتت جدة تهامي التي حرمته من مالها في حياته، بحجة أنها تدخر ما يكفي لتكفينها في آخرتها، ويعلم تهامي من جارتهم «أم السعد» أن جدته أودعت كل ما لديها طرف الحاج عبد الموجود، ولكن عبد الموجود اختفى فجأة وذاب كفص الملح، حينئذٍ يشير خميس أفندي تلميحًا إلى أن ثمة سرًّا في غيابه لن يقوله الآن، ويحضر الحاج عبد الموجود وينكر أنه أخذ شيئًا من جدة تهامي إلا ما يكفي تكفينها، فيهدده خميس أفندي بإفشاء السر، فيتطاول عليه مغرورًا أن يصنع ما يحلو له. هنا يبوح خميس أفندي بأن الحانوتي المرابي يسرق أكفان الموتى ويبيعها في البندر قبل أن تبيت ليلتها على جثمان المتوفَّى، ويتحداه تهامي أن يبرر سفره إلى البندر فور وفاة المرحومة جدته، كما يتحداه أن يذهبا معًا إلى القبر ليتأكد من أن كفنها لم يُسرق، ويتضح أن ثروة عبد الموجود ليست إلا من أكفان الموتى، وهكذا يعلن عبد الموجود أنه سيتكفل بمحزنة جدة تهامي وعشاء المعزين، وأنه سيدفع مهر محروس، ويجهز مبروكة، ويتنازل عن كل قرشٍ له في ذمة أي فلاحٍ بالقرية.
وتحضر مبروكة من القاهرة في نفس الوقت لتختتم المسرحية بانتصارها على حامد بك وشكوك محروس معًا، فقد علم محروس بالأمر وسافر إليها خفيةً، ولكنها كانت بالمستشفى تُعالَج مما ألمَّ بها من مرضٍ مزيفٍ أوهمت أهل البيت بأنه كوليرا، فحاصرت قوات الصحة والشرطة منزل البك يومين أمضتهما في مستشفى الحميات، إلى أن تثبت براءتها من المرض، وإلى أن تمكن أهل القرية من عقد الصفقة مع الخواجا صاحب الشركة البلجيكيَّة.
لعل هذه المسرحية من بين المسرحيات الثلاث هي أكثرها نضجًا من الناحية الفنيَّة، وأكثرها تقدمًا من الناحية الفكريَّة، لم يتخلص الحكيم حقًّا من البناء الدرامي المؤسس على المفاجآت، ولكنه استطاع أن يوظف مفاجآت الصفقة في صياغة الشخصيات والمواقف والأحداث، ولم يتخلص الحكيم حقًّا من التفكير البرجوازي في مشكلات الشعب، ولكن هذا المنهج في مناقشة قضية الأرض والفلاح يحقق بعض المكاسب التقدميَّة، فلا ريب أن تَخلِّي الشركة الأجنبية عن الأرض هو رمزٌ واضحٌ إلى زوال الاستغلال الاستعماري من مجتمع الثورة، ولا ريب أيضًا أن الصراع بين الفلاحين وحامد بك هو رمز إلى تلك المعركة الضارية بين الفلاح والإقطاعي في بلادنا، وهي القضية التي ما تزال محتدمةً إلى يومنا هذا، بالرغم من كافة قوانين الإصلاح الزراعي، وإذا كان يُضعِف من قوة الإقناع الوجداني في هذه المسرحية أن بناءها قد شُيِّد وفق مجموعة من المفاجآت؛ فإن هذا لا ينفي أنها كانت علامةً فارقةً في تفكير الحكيم وفنِّه القريب من مشكلات الشعب، وربما كانت «الصفقة» هي آخر المسرحيات التي اقترب فيها الحكيم من المجتمع اقترابًا حميمًا وتفصيليًّا، فما كتبه بعد ذلك، مثل «الطعام لكل فم»، يبتعد بهيكله التجريدي عن أن يكون صدًى مسموعًا لبعض ما تعانيه الطبقات الشعبية في بلادنا.
على أن خيطًا هامًّا يربط بين المسرحيات الثلاث، «اللص»، و«الأيدي الناعمة»، و«الصفقة»، هو ذلك التمهيد الحماسي لقيمة العمل في ذاته، والحكيم لا يمجد العمل كعلاقةٍ اجتماعيةٍ ذات دور في الإنتاج، وإنما هو يمجِّده أغلب الظن كقيمةٍ أخلاقيةٍ تستمد مثالها من الثورات الصناعية البرجوازية، ولكنه على أي الأحوال يجعل من العمل قيمةً إيجابيةً دافعةً لحياتنا إلى الأمام. والعمل عند الحكيم هو التجسيد الواقعي للعدل الاجتماعي، أو بتعبيرٍ شائعٍ هو «تكافؤ الفرص» بين جميع الأفراد. الرؤية الفردية الأخلاقية تقف بهذا الفنان عند حدود الأسوار البرجوازية للمجتمع، ولكنَّه على ضوء نظرته الإطلاقية التي تميل إلى التجريد والتعميم، يحاول جاهدًا أن يتجاوز هذه الأسوار.
•••
الوجه الآخر لقضية العدل الاجتماعي هو قضية السلام، حتى ينجلي أمامنا مستقبل الإنسان على هذه الأرض. وللحكيم أيضًا أعمالٌ عديدةٌ تناقش مشكلة السلام، ولكني أختار من بينها ثلاثة أعمالٍ، هي «صلاة الملائكة»، التي نشرها عام ١٩٤١م ضمن كتابه «سلطان الظلام»، و«لعبة الموت»، التي كتبها عام ١٩٥٧م، و«أشواك السلام»، التي ظهرت في نفس العام.
في «صلاة الملائكة» يهبط أحد الملائكة من السماء إلى الأرض، ويتمكن من حضور إحدى الاجتماعات الدائرة بين قطبَي النازية والفاشية — كما يوحي بذلك الفنان دون أن يصرِّح تمامًا — ويحاول الملاك إقناع الطاغيتين بالعدول عن سياسة العدوان العنصري، إلا أن مصيره يكون المحاكمة العسكرية فالحكم بالإعدام: «والمحكمة تأسف لعدم تشرفها بوضعك على الصليب، فالصليب ليس عقوبةً مقررةً في قانون المحاكم العسكرية.» وهي لقطةٌ مشابهةٌ لتلك التي قرأناها في «الإخوة كرامازوف» عن إعادة صلب المسيح فيما لو جرؤ على العودة إلى الأرض مرةً أخرى.
وفي «لعبة الموت» نلتقي بمؤرخٍ أصابه الإشعاع الذري بإصابةٍ قاتلةٍ، وهو يود إنفاق ما تبقى من عمره في الإعداد لجريمةٍ لا يدري بها أحدٌ، حتى ولا صديقته الراقصة كليوباترا التي الْتقى بها في أحد الفنادق: «دعوني أصنع بأيامي الباقية ما أريد، ولتكن إرادتي صورةً مصغرةً لإرادة هذا العصر الفظيع!» «إنكم لا تسمحون لفردٍ أن يلعب لعبة الموت، ولكنكم تسمحون لدولٍ بأَسرها أن تلعبها.» وهي قريبة الشبه من الفكرة التي طرحها الحكيم نفسه عام ١٩٥١م في مشهدٍ تمثيليٍّ قصيرٍ أسماه «بين الحرب والسلام»، وجعل من السياسة غادةً جميلةً متزوجةً من الحرب، وجعل من السلام عشيقًا يتغزل فيها، وينتهي الأمر بأن تغدر السياسة بعشيقها حين تغريه بالبقاء في غرفتها، ويفاجئها — كما خُيل للسلام — زوجها الحرب، فتدفع بحبيبها إلى دولاب ثيابها، ويكاد الزوج أن يفتح الدولاب لولا حيلتها ومداعبتها التي حالت بينه وبين السلام، ثم يخرج العاشق الولهان من دولاب الملابس أصفر الوجه مضطربًا في هلعٍ، وتنتهي العلاقة بينهما.
وهي فكرةٌ رومانتيكيةٌ خالصةٌ ترى الشر قدرًا ميتافيزيقيًّا معزولًا عن الأرض الاجتماعيَّة، كما ترى الخير ملاكًا سماويًّا ترفضه الأرض.
وهو في «أشواك السلام» يتساءل في وضوحٍ: «العالم كله يريد السلام! كل فردٍ في كل شعبٍ من شعوب الأرض لا يَنشُد غير الاستقرار والسلام! لماذا لا يتم السلام إذن؟ ما هي العوائق في طريق السلام؟» وعلى لسان نفس الشخصية يردد مرةً أخرى: «كل الشعوب تريد السير في الطريق إلى السلام، فلا بد إذن أن تصل، وهذا طبيعيٌّ، والعكس هو غير الطبيعي … أن تسير الشعوب في هذا الطريق ولا تصل … لماذا؟ لماذا؟» ومرةً ثالثةً يضيف مؤكدًا: «أليس من العجب أن يسير الإنسان في الفضاء نحو القمر، ولا يسير على الأرض نحو السلام؟ أيهما أصعب؟ وأيهما أدعى إلى تفكيره الأول؟» ويجيب بصورةٍ مباشرةٍ وأخرى غير مباشرةٍ أن أي طرفين يختلفان حول السلام إنما لأن كليهما «قد صنع للآخر صورةً مثيرةً بغيضةً»، خلقها التفكير والتدبير عند السياسيين، ولا بد من التخلي عن سياستهم لنولِّي وجوهنا نحو عصرٍ جديدٍ وإنسانٍ جديدٍ.
أما الصورة غير المباشرة في «أشواك السلام»، فهي المزاوجة التي تعرفنا على مثيلٍ لها في «الطعام لكل فم»، بين الإطار الخارجي للمشكلة ومضمونها الجوهري، فالإطار هو علاقة الحب التي نشأت بين ابنة محافظ الشرقية وابن محافظة الغربية، والمحافظان كلاهما على طرفَي نقيضٍ في كل شيءٍ كما يبدو للنظرة السريعة؛ ولذلك فهما على خلافٍ دائمٍ؛ أحدهما يتهم الآخر بأنه «زير نساءٍ»، بينما الآخر يتهم الأول بأنه «قاتل زوجته»، وبالتالي فلا بد من إيجاد حلٍّ — أو عقدةٍ بمعنًى أدق — لمنع هذا الزواج من أن يتم. وهكذا يحتال كلاهما على تزييف صورةٍ فوتوغرافيةٍ لكلٍّ من الفتى والفتاة في وضعٍ مخجلٍ يحُول دون إتمام الزواج. ولكن الشاب في اللحظة الأخيرة يسلك في قطع العلاقة أسلوبًا مهذبًا، فيدعو الفتاة عند رحيله إلى جنيف ليواجهها بالصورة التي تبيِّنها مع شابٍّ يحيط معصمها بسوار ساعةٍ ذهبيةٍ، غير أنه يُفاجأ بها تسبقه إلى الهجوم، وتعرض عليه صورةً أخرى تبيِّنه في وضعٍ غريبٍ مع امرأةٍ من طرازٍ مشبوهٍ، وقد وقفت إلى جانبه وتهدَّل شَعرها على كتفه، ويكتشفان معًا زيف الصورتين اللتين التقطتهما دسًّا وتزويرًا مباحث الشرقية والغربية باتفاقٍ مسبقٍ مع محافظ كلا المحافظتين، فلم يكن الرجل الذي انحنى على معصم الفتاة سوى مخبر والدها جاء إليها بساعتها، ولم تكن المرأة ذات الشَّعر المتهدل إلا إحدى بنات الهوى التي استأجرها مخبر والده لتمثِّل هذا الدور الذي افتعلته أثناء وجوده بالمطار عند رحيله السابق. وما إن يعود السلام إلى الفتى والفتاة حتى يلتقي والداهما لقاءً عدائيًّا أول الأمر، ثم يكتشف أحدهما الآخر، ويمحوان معًا الصورة البشعة التي رسمها الذهن بغير استنادٍ على الواقع الحقيقي. هذا هو الإطار، أما الصورة نفسها، فهي تبدأ مع الشاب العاشق؛ لأنه يعمل بالسلك السياسي، فهو يُصاب بخيبة الأمل كلما وقف المعسكران في وجه السلام يهتفان له حقًّا، ولكنهما يُعدان له الكمين بعد الآخر، فيسقط صارخًا من الألم.
لا شكَّ إذن أن الإطار في «أشواك السلام» يتفاعل مع مضمونها تفاعلًا تلقائيًّا تحتِّمه طبيعة الاختيار للشخصيات والأحداث والمواقف، وليس محافظ الشرقية إلا المعسكر الشرقي، وليس محافظ الغربية إلا المعسكر الغربي، وليست قصة الحب إلا ذلك الهيكل الخارجي الذي يكسوه الحكيم بالفكرة الرئيسية، التي اتضحت لنا في مواقف الشاب بمؤتمرات جنيف.
والفرض الرئيسي عند الحكيم بشأن الحرب والسلام، ينبع من نظرةٍ رومانتيكيةٍ كما قلتُ، فالتسوية بين المعسكرين في الموقف من قضية الحرب والسلام هي تسويةٌ ظالمةٌ لحقيقة الموقف، أملتها ضرورات الإطلاق والتعميم التي يلجأ إليها الحكيم وهو يجرد الظاهرة من الأرض الاجتماعية التي نبتت منها، فهو حين ينظر من أعلى، لا يرى سوى التسوية بين طرفَي النزاع، ويختار موقفًا رومانتيكيًّا، هو التسامي عليهما بتخطئتهما معًا.
وليس المهم هو الخطأ أو الصواب في هذا الموقف أو ذاك، بقدر ما نلاحظ الحيرة الشديدة التي تواجه قارئ الحكيم أو مُشاهده على خشبة المسرح، وهو يحاول أن يعرف ما الحل إذن؟ وهي نفس الحيرة التي تواجهه في موقف الحكيم من قضية العدل الاجتماعي. إن مصير الإنسان في هذه الأعمال جميعها مصيرٌ ضبابيٌّ غائمٌ لا يبين.
وعلى غير هذا النحو يعالج المسرح المعاصر المستمدُّ من أدب الحكيم هذه القضايا وتلك المشكلات، فنعمان عاشور في «الناس اللي تحت» كان بدايةً جادةً للتحوُّل عن الرؤية الفردية الأخلاقية عند الحكيم، إلى الرؤية الاجتماعية الموضوعية لظاهرة الصراع الطبقي في المجتمع. وكذلك مصطفى مشعل في «القنبلة الثالثة» كان بداية فهمٍ جديدٍ لقضية السلام على الأرض، فقد رمز بقنبلة هيروشيما وناجازاكي إلى ذلك العدو الحقيقي للسلام. وهناك محاولاتٌ أخرى على الطريق الطويل بين العدل الاجتماعي والسلام، تحاول أن تصوغ مستقبل الإنسان في بلادنا والعالم، صياغةً تختلف في الكثير مع صياغة توفيق الحكيم. على أنه يبقى لهذا الفنَّان العظيم دوره الرائد في تحديد موعد الحياة مع المسرح المصري، مهما شابت هذه الحياةَ آثارُ الولادة المتعسرة.