فنان الحياة
عندما كان توفيق الحكيم في باريس بدأ يخطط لتأليف كتابين كبيرين، أولهما «عودة الروح»، والآخر كتابٌ عن الفن من ثلاثة أجزاءٍ حول تاريخه ومذاهبه وقضاياه. وقطع الحكيم شوطًا في كلٍّ من الكتابين يبلغ حوالي خمسين صفحةً، ولكنه في النهاية توقَّف أمام أحد أمرين؛ إما «عودة الروح» وإما كتاب الفن، ولم يتردد كثيرًا، فأعدم كتاب الفن، فهل كسبنا أم خسرنا؟ بمعنًى آخر، على أي الوجوه تأثَّر الأدب المصري الحديث بهذا الحُكم الذي نفَّذه الحكيم بتمزيق الصفحات الخمسين التي كتبها؟ أما توفيق الحكيم فيقول إنه ندم فيما بعدُ على ضياع هذه الصفحات هدرًا، فربما كانت تلقي بعض الضوء الآن على اهتماماته المبكرة. وفي رأيي، إننا لم نخسر كثيرًا؛ لأننا كسبنا أولًا «عودة الروح»، ثم إنني أعتقد أن توفيق الحكيم لم يهمل كتابه في الفن، فقد أعاد كتابته مرارًا في عشرات المقالات التي كتبها حول هذا الموضوع. فهناك مجموعتان رئيسيتان من مقالاته التي كتب بعضها قبل ثورة ١٩٥٢م، وضمَّنها كتابه «فن الأدب»، الذي صدر في عام الثورة، والبعض الآخر كتبه بعد ذلك التاريخ، وضمَّنه كتابه «أدب الحياة»، الذي أصدره عام ١٩٥٩م.
ولا شكَّ أنها فرصةٌ رائعةٌ أن يكون الحكيم — فنانًا — قد أهدانا هذه المجموعة الهائلة من الكتابات المباشرة في الأدب والنقد، لقد أثبت أن في تكوين كلِّ فنانٍ ناقدًا. ومن ناحيةٍ أخرى تكاد كتابات الحكيم النظرية أن ترسم لنا ملامح بناءٍ كاملٍ لوجهة نظر الفنان في الفن الأدبي، ومن هنا نكاد نوقن بأن الكاتب لا يُقبل على عمله الفني بصورةٍ عشوائيةٍ، بل على درجةٍ ما من التخطيط.
إن هذه المجموعة الكبيرة من الكتابات المباشرة تؤكد أن الحكيم لم ينزوِ قطُّ في برجٍ من العاج؛ لأنه شارك في كل الأحداث، حتى البسيطة منها التي لا تحتاج من الفنان أن يقربها بحكم طبيعة العمل الفني، الذي يحتاج بدوره إلى مسافةٍ بينه وبين الأحداث، فقد أسهم الحكيم بصورةٍ إيجابيةٍ في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ بالحقل الأدبي، المحلي والعالمي، وليس الحقل الأدبي بمعزلٍ عن ضجيج الأحداث المحيطة بالإنسان.
ومنذ البداية يجب أن نسجِّل إحدى الملاحظات التي تقودنا إلى قلب توفيق الحكيم وعقله، فبينما نحن نستطيع أن نحصل على موقفٍ وطنيٍّ تقدميٍّ واضحٍ من كتاباته الفنية الأولى، كعودة الروح ويوميات نائب، ويختلف موقف بعض النقاد من كتاباته الفنية الحديثة نسبيًّا؛ إلا أننا نضع أيدينا على عكس هذا الموقف من كتاباته النظرية، التي تبلورت في صورةٍ غير واضحةٍ بكتاب «فن الأدب»، وهو يضمُّ بعض مقالاته التي كتبها عام ١٩٣٤م، وبعضها الآخر كتبه عام ١٩٤٨م، أو ما بين هذين التاريخين، بينما نجد في كتابه «أدب الحياة» صورةً واضحةً محددةً التزم بها بشكلٍ صارمٍ في تلك الفترة الحديثة نسبيًّا، والواقعة ما بين ١٩٥٢م و١٩٥٩م.
والكتاب الأول — فن الأدب — يناقش ثلاث زوايا لكلٍّ من العمل الأدبي والنقدي؛ الزاوية الأولى تناقش الأدب والنقد من حيث علاقتهما بالفنان والناقد كعملية خلقٍ ذاتيةٍ، وقد تعرض المؤلف في هذا الجزء للمبحث الأساسي في علم الجمال (لحظتَي الخلق والتذوق)، كما ناقش معنى التقييم أو نظرية النقد. أما الزاوية الثانية فقد تخصصت في علاقة الفن والنقد بالقارئ المتلقي من حيث المناخ الحضاري الذي يؤثر في عملية التفاعل بين طرفَي العمل الفني؛ المبدع والمتلقي. والزاوية الثالثة التي يقوم عليها هذا الكتاب هي علاقة الفن والنقد بالتاريخ الأدبي من حيث صلتهما بالحرية والحياة المعاصرة والخلود، وغيرها من القيم.
يقول توفيق الحكيم في الجزء الأول من «فن الأدب» إن الموضوع في الفن ليس بذي خطرٍ، وليست الحوادث والوقائع في القصص والشِّعر والتمثيل بذات قيمةٍ، ولكن القيمة والخطر في تلك الأشعة الجديدة التي يستطيع الفنان أن يستخرجها من هيكل تلك الموضوعات والحوادث والوقائع (ص١١، ط أولى). ثم يبحث عن الذات الفنيَّة، فيؤكد أن الفنان أو الأديب يظلُّ يبحث عن ذاته وشخصيته إلى أن يجدها، فإذا هي تملكه بعد ذلك إلى الأبد، وتطبع كل ما يلمسه بذلك الطابع، الذي لا يزول ولا يتحول، وإذا هو يُعرَف بطابعه، لا فيما ينشئ فقط، بل فيما يحاكي أيضًا. ويتم اكتشاف الذات الفنية المبدعة من خلال ما يتركه لنا الفنان من جملة آثاره التي نتعرف فيها على شخصيته الكاملة من أسلوبه في التفكير والتعبير وطريقته في تناول الأشياء. ولكنَّك — يقول الحكيم — وقد أحطتَ به ونفذتَ إلى لبِّه لا بد أنك صائحٌ بلهجةِ المحبة والأُلفة: «دائمًا هذه الطريقة! دائمًا هذا الأسلوب! لو يخرج عن ذلك قليلًا؟!» يخرج من ذلك إلى أين؟ وكيف يخرج عن طريقته وأسلوبه؟ إنها ذاته: «تلك مأساة الطابع والشخصية، ما دام قد صار له طابعٌ فلن يُخلع عنه أبدًا … ولا بالموت» (ص١٢، ١٥).
ولا شك أن الحكيم بهذا الفهم الحي العميق للعلاقة الجدلية القائمة بين الفنان وآثاره، قد أنار السبيل إلى ذلك المفهوم القائل بأنَّ شخصية الأديب هي مؤلفه الأول، وهو المفهوم الذي قال به سلامة موسى منذ بداية القرن الحالي. على أننا يجب أن نفرِّق بين تشابه الآراء في بعض جزئياتها وبين مطابقتها الحرفية. ولما كان ثمة فرقٌ جوهريٌّ بين الحكيم كفنانٍ وسلامة كمفكرٍ، فقد نشأت عن ذلك بعض الفروق الهامَّة؛ فشخصية الأديب هي مؤلفه الأول بالمعنى الأخلاقي عند سلامة موسى، بينما توفيق الحكيم لا يقصد إلا المعنى الفني. ومن التعسف والميكانيكية المبتذلة أن نفصل بين الطابع الأخلاقي والطابع الفني لشخصية الأديب المؤلفة بوجدانه وعقله وتكوينه الذاتي والموضوعي، ولكن يجبُ بالفعل أن نميِّز بينهما، بل ربما كان التداخل والتشابك بينهما أدعى إلى التمييز المتفحص لهما. فسلامة موسى كان يعني ذلك المفهوم الذي أشاعته الأفكار الاشتراكية الليبرالية المنقولة عن جماعة العقليين والجمعية الفابية بإنجلترا، المفهوم القائل بأن هناك اتصالًا وثيقًا بين سلوك الإنسان وفِكره، وأن هذه الظاهرة تبدو في قمتها عند الأديب والفنان ورجل الفكر. أما توفيق الحكيم فيعني ما قالت به بعض تيارات الفكر الفرنسي في أوائل القرن العشرين من أن ذاتية الفنان هي المنبع وهي المصدر في عملية الخلق الفني، ربما كان الخالق — الفنان — وريثًا لبعض التقاليد الأدبية والرواسب الاجتماعية، وهذه كلها تشترك في صياغة عمله الفني، ولكن من خلال صفاته الذاتية الأمينة لصدقه الكامل مع النفس لا مع التقاليد أو الرواسب أو المجتمع المحيط. كان هذا التيار قريبًا من الرومانتيكيين، ولكنه لم يكن رومانتيكيًّا خالصًا؛ ذلك أنه لم ينادِ قط بأن يكون الفن «ترجمة ذاتية» لأحلام الفنان وأوهامه ورؤاه الشخصية، بل نادى بأن يكون الفن تجسيدًا أمينًا للذات، مهما كانت انشغالات هذه الذات وهمومها، فردية أو اجتماعية.
هذه النظرية التي ولدت فيما بعدُ فكرةَ الصدق في الفن، ولا أقول الصدق الفني؛ لأن الصدق في الفن قريبٌ من الرؤية الأخلاقية التي تجعل من سلوك الأديب نموذجًا تطبيقيًّا رائدًا لفكره. ومرةً أخرى تفترق النظريتان عند منعطف الطريق؛ إحداهما — التي انطلقت أساسًا من الذات — تكشف الزيف والافتعال في مدى المطابقة «الفنية» بين أغوار الذات المبدعة والعمل الفني، وهذا هو معيار الصدق في الفن عند توفيق الحكيم. أما الأخرى — التي تنطلق من صميم الظاهرة الموضوعية للفنِّ — فترى أنَّ الصدق الحقيقي ينبع من النظرة الاستيعابية الشاملة للواقع، بما فيه الذات الفنيَّة.
اختار الحكيم الفكرة الأولى، ليصدر عنها في الكثير من أفكاره المحورية التالية، فهو ينطلق بعدئذٍ مع ثلاثة أشعة نظرية تنير له معنى «الفنان»، ومعنى «الحرية والمسئولية»، ومعنى «النقد». ولندع الفنان مؤقتًا مع حريته ومسئوليته لنرافقه وهو يرفض النقد التأثري، فليس للذوق الشخصي ضابطٌ، وإذا تُرك الحكم في الآثار الفنية والأدبية للذوق وحده، فقد تُرك إذن للفوضى أو للمصادفة (ص١٨). أما العمود الفقري للشخصية الفنية فهو سلسلة آثارها، بحيث يستطيع الباحث أن يتتبع في حلقاتها صفاته وعيوبه ولوازمه وعاداته ومزاجه واتجاهاته. والنقد في عملية الربط بين الحلقات إنما يقوم في حقيقة الأمر بعملٍ إنشائيٍّ ضخمٍ: «إن الآثار الأدبية بغير نقدٍ بنائيٍّ يربط بين أجزائها واتجاهاتها، لا يمكن أن تصنع أدبًا بالمعنى المعروف في الآداب الكبرى» (ص٢٠). ولعلَّ ما يبدو على الأدب العربي الحديث من فقرٍ — يقول الحكيم — راجعٌ إلى ظهوره وحيدًا غير مستنِدٍ إلى نقدٍ إنشائيٍّ في مستواه يقوم بمهمَّة التنظيم والتفسير والربط والتبويب، فكان من أثر ذلك الإهمال أن بدأ الأدب العربي الحديث في صورة جهودٍ فرديةٍ غير جديةٍ: «وستظل كذلك إلى أن يظهر النُّقاد العِظام الذين يتوفرون على درسه، ويُخرجونه للناس والأجيال بناءً مُتسقًا، مرتبطًا حاضرُه بماضيه» (ص٢١).
هذا ملخص وجهة نظر توفيق الحكيم إلى النقد الأدبي، وهي مستمدة بكاملها من وجهة نظره السابقة إلى الفن باعتباره اكتشافًا مستمرًّا للذات، فالنقد هنا — كما قال ذلك الفريق من النقاد الفرنسيين — هو النقيض المقابل لعملية الخلق الفني، فهو ليكون عملًا إنشائيًّا إبداعيًّا خالقًا لا ينبغي أن ينطلق من الذات حتى لا يتورط في أحكامٍ سريعةٍ تتصل بلحظة التذوق العابر. أما النقد الموضوعي فينطلق من العمل الفني بتقييم العناصر المكوِّنة له من الداخل والخارج، ومن هنا لا بد من مقارنته ببقية الأعمال الأخرى لنفس الكاتب، والأعمال الشبيهة له عند الكُتَّاب الآخرين، أي: إن المقارنة هي العنصر الرئيسي في الحصول على «الطابع الشخصي» للفنان.
غير أنِّي أعتقدُ أنَّ «المقارنة» وحدها لا تصلح كأداةٍ للنقد الحديث؛ لأنها لا تُبرز سوى القيمة النسبية للعمل الفني من خلال الموازنة الدقيقة بين مختلف عناصره التركيبية، وما يمكن أن يكون قد طرأ على هذه العناصر من تطورٍ من حيث الحجم والمساحات والأوضاع والأفكار فيما يتلو العمل الأدبي من أعمالٍ أخرى لنفس الكاتب، بالإضافة إلى مقارنة هذه العناصر بشبيهاتها في أعمال الكتاب الآخرين، كل ذلك لا يمنحنا سوى التعرف على القيمة النسبية كما قلتُ. أما القيمة المطلقة للعمل الفني فنحصل عليها بوسيلةٍ أخرى، هي «التحليل»؛ لأننا بواسطة التحليل نتلمَّس أوجه الاختلال أو الانسجام في البناء الفني، ونضع أيدينا على مصادر التوازن أو الاختلال، وذلك بالكشف الدقيق عن العناصر المكونة للعمل الفني وحركة تفاعلها مع بعضها البعض، ومن ثَم نستطيع، بالتحليل والمقارنة معًا، أن نحصل على القيمة النسبية والقيمة المطلقة للعمل الفني.
إلا أن تركيز الحكيم على عنصر «المقارنة» كأداةٍ وحيدةٍ للعمل النقدي، مرجعه البناء الفكري العام لهذا الفنان. فالتناظر والتقابل والتقاطع، وغيرها من أشكال الخطوط الهندسية التي من شأنها أن تخلق «توازنًا» بين قوتين، هي المصدر الرئيسي لفكرة التعادل عند توفيق الحكيم، بحيث تبقى هاتان القوتان ثابتتين ساكنتين، وهذا هو الفرق بينه وبين القانون الجدلي القائم على صراع المتناقضات، وهذا أيضًا ما يحدد لنا ويفسر طبيعة التكوين والتفكير الاجتماعي في أعماله الفنية والفكرية، فهو الابن المخلص للطبقة المتوسطة، التي تفهم ثورتها على هذا النحو الأبدي من السكونية والثبات، بمعنًى آخر، هي الشكل النهائي المطلق لثورة الإنسان. هذا المفهوم «التعادلي»، كما دعاه صاحبه خطأً، هو مصدر التركيز المُلح من جانب الحكيم على عنصر المقارنة في النقد الأدبي، كأداةٍ وحيدةٍ للتقييم؛ لأنها تكشف عنده ما إذا كان العمل الأدبي يحمل، مضمونًا وشكلًا، الفكرة التعادلية أم لا. والنقد التعادلي إذن طموحٌ إلى تجاوز النظرة التقليدية لكيان العمل الأدبي من حيث الشكل والمضمون، ولكنَّه في واقع الأمر يتورط في وهاد الشكلية البحتة حين يجعل المعيار الهندسي، إن جاز التعبير، هو مقياس جودة العمل الفني أو رداءته. فهو يهتم أشد الاهتمام بالصورة النهائية التي يئول إليها العمل الفني من حيث القالب والمحتوى؛ هل كلٌّ منهما على حدة عملٌ متعادلٌ؟ ثم هل هما معًا متعادلان؟ وربما كانت هذه الفكرة توضِّح لنا من جديدٍ معنى «الصدق في الفن» عند توفيق الحكيم، فهو أقرب إلى فكرة الصواب والخطأ بالمعنى الرياضي، منه إلى فكرة الخير والشر بالمعنى الأخلاقي.
وعلى الرغم من أنَّ موضوعيَّة النقد الأدبي عند الحكيم تكاد تلامس فكرة «البديل الموضوعي» عند إليوت، من حيث إنهما ينتهيان إلى موضوعيةٍ شكليةٍ؛ إلا أن هذا التلامس يختفي تمامًا حين نفرِّق بين «نظرية الأدب» بشكلٍ عامٍّ عند إليوت، وما يقول به الحكيم حول النقد الأدبيِّ. فالحكيم يريد أن يخلق بناءً تعادليًّا من ذاتية الخلق الفني وموضوعية التقييم النقدي، أحدهما يبدأ من نفسه، والآخر يبدأ من حيث انتهى الأول، وقد وقع الحكيم بذلك في «تناقضٍ» من حيث أراد أن يكون في «تعادلٍ». بل إن فرض الفكرة التعادلية مسبقًا على وحدة العملية الأدبية، فنًّا ونقدًا، هي التي أدَّت به إلى هذا التناقض، فلا شكَّ أن الناقد مهما كان موضوعيًّا في نظرته إلى العمل الأدبي، يعبِّر أولًا وأخيرًا عن «رأيٍ شخصيٍّ» أسهم في بلورته وتكوينه ما تلقَّاه من ثقافةٍ واهتماماتٍ فكريةٍ مكتسبةٍ، وما تلقَّاه مع النطفة الأولى من ميولٍ فطريةٍ وتركيبٍ نفسيٍّ وذهنيٍّ معينٍ. فذاتية الناقد لا تتعارض مطلقًا مع موضوعية العمل النقدي، سواء بسواءٍ في العمل الفني وخالقه. أمَّا إليوت فلم يتورط قطُّ في هذا التناقض؛ لأن نظرته الأدبية تقوم على «التكامل» الوظيفي بين النقد والفن، لا على التعادل الشكلي بينهما. ومهما اعترضنا على نظرية إليوت في الأدب والنقد، فإننا نعترف له بإدراك المنطق في جزئيات بنائه النظري.
وهذا يجرُّنا إلى نقطةٍ أخرى حول عملية التفاعل بين النقد والفن. فالحكيم يرى في «الأدب الذي يبتكر والنقد الذي يفسر» جوهرًا لهذا التفاعل. والحق أنه أصاب الرأي بشأن العلاقة بين كلٍّ من النقد والفن في جانبٍ، والقارئ في الجانب الآخر. فالأدب يخلق في وجدان القارئ وعقله أحاسيسَ وأفكارًا جديدةً، والنقد يبلور هذه الأحاسيس والأفكار في إطارٍ جديدٍ، وهكذا يتحقق التكامل بين النقد والفنِّ في الأداء الوظيفي عند القارئ، أمَّا العلاقة بين النقد والفن خارج وجدان القارئ وعقله، فتلك مشكلةٌ أخرى.
ولا ريب أن الحكيم يُعَد من الأدباء القلائل الذين يؤمنون بأهمية النقد وجدواه، ولستُ مغاليًا إذا قلتُ إن الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس كادوا أن يكونوا الصوت الفني الوحيد في بلادنا الذي يؤمن بالنقد إيمانًا أصيلًا، ويقيم لوظيفته في الحركة الأدبية اعتبارًا يقف على قدم المساواة مع الفن الخالق. هذه النقطة تبدو لي شديدةَ الأهمية؛ لأنه على أساسها يمكن أن نتصور موقف الحكيم الفني من النقد الأدبي في مصر. ولقد أشار بصراحةٍ كاملةٍ إلى ثلاث نقاطٍ؛ مكان النقد في تاريخنا الأدبي الحديث، والنقد النظري والنقد التطبيقي، وواجبات النقد نحو تاريخنا الأدبي.
إنَّ النقطةَ الأولى تشير في إيجازٍ إلى أن النقد الأدبي كان احتكارًا لنقاد الشِّعر إلى وقتٍ قريبٍ؛ لأن القصة والمسرح لم يعتبرهما الموقف الرسمي أدبًا إلا منذ فترةٍ قصيرةٍ نسبيًّا. ومن ناحيةٍ أخرى تشير هذه النقطة إلى ما يشبه «الفوضى» في تاريخنا الأدبي، الذي دفعنا لأن نستضيفَ تيارات النقد الأوروبي الحديث وتيارات النقد العربي القديم، دون أن نحاول «خلق» نقدٍ مصريٍّ أصيلٍ، يمزج التجربة المصرية في الأدب بروافدِ النقد الغربي والعربي على السواء. وهي نقطةٌ جديرةٌ بأن تؤخذ في الاعتبار دائمًا؛ لأننا لم نستخلص بعدُ من هذه الفوضى مجموعة القوانين الضابطة لحركة الأدب والنقد في تاريخنا الحديث. فلا شكَّ أن لقاءنا منذ عصر النهضة بالحضارة الأوروبية قد امتزج بمرحلة البعث العربي والتجربة المصرية المحلية، وخَلَق مركَّبًا جديدًا يحتاجُ إلى جهدٍ وصبرٍ طويلين لاكتشاف عناصره وتفاعلاتها، فهذا الاكتشاف وحده هو الذي يضيءُ لنا الطريق الصحيح إلى تقييم الأعمال الأدبيَّة المعاصرة، أي: إنه هو الطريق الوحيد لخلق نقدٍ مصريٍّ حقيقيٍّ. فالفوضى التي حدثت منذ بداية القرن ما تزال رواسبها إلى الآن حين نطبق مقاييس غير أصيلةٍ على التجارب المحلية المطروحة أمامنا، ومن ثَم تصبح أزمة النقد الحقيقية هي الانفصال القائم بين موازين نقَّادنا والتجربة الأدبية، ثم تتكوَّن مع الأيام هوةٌ عميقةٌ بين الأدب والنقد، يعزوها البعض في جهلٍ شديدٍ إلى عواملَ شخصيةٍ لا يد لها في نشأة الظاهرة أساسًا.
وهنا يأتي دور النقطة الثانية التي أشار إليها الحكيم، بالنسبة للنقد النظري والنقد التطبيقي، فنحن في مرحلةٍ لا تحتاجُ منا إلى التخصص الحاد في هذا الجانب أو ذاك؛ لأن التخصص لا يكون طبيعيًّا وصحيًّا إلا في أرضٍ أدبيةٍ ممهدةٍ للحرث والتخطيط، أرضٌ رسخت في أعماقها تياراتُ الفكر النظري للنقد، وتغلغلت في داخلها تجاربُ الأدب العظيم. أما الأرض التي تتسم أولًا بالفوضى، فإن التخصصَ فيها يصبح هو نفسُه من سِمات الفوضى، وهذا ما حدث، فقد دهمت بلادَنا تياراتٌ نظريةٌ لا تتلاءم مطلقًا مع تكويننا الغضِّ، فلم تجد تجارب واقعية محلية تجري عليها تطبيقاتها؛ لهذا اتجهت إلى التجريد الفكري حينًا، أو إلى التطبيق على الإنتاج الغربي الذي لم تعرفه بلادنا أحيانًا. ومن الشاطئ الآخر للتخصص، وهو النقد التطبيقي، جنينا العديدَ من الانطباعات السطحية السريعة التي كوَّنت جيلًا مهشمًا من نقاد الذوق التأثري. وقد كان الشاطئان كلاهما من أحلام الوهم المجهد بالثقافة الأوروبية، أو الثقافة العربية، ولم يكن بينهما تيارٌ ثالثٌ يمزج النظريةَ بالتطبيقِ من خلال الأعمال الأدبية المطروحة بالفعل. حينذاك كنا سنغتني بثقافة الحضارة المتقدمة، كما نغتني بالتراث، بلا عقدٍ أو مركبات نقصٍ، ثم كنَّا — وهذا هو المهمُّ — سنبلور تجربتنا الخاصة في نظرية الأدب ونظرية النقد جميعًا.
وإذا كان الماضي قد فات، كما يقول الحكيم، فلا أقلَّ من أن نولي وجوهنا من الآن هذه الوجهة إلى تقييم تجربتنا الأدبية في النقد والفن منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى اليوم، تقييمًا علميًّا دقيقًا يستخلص قوانين مسارنا الأدبي الخاص. تلك هي الصيحة التي نستطيع أن نسمع صوت الحكيم يصرخ بها في السنوات السابقة على ثورة ١٩٥٢م، وهي صيحةٌ تزداد عمقًا وثراءً كلما توغلنا معه في السنوات التالية على الثورة.
ويتناول الحكيمُ في الجزء الثاني من «فن الأدب» علاقة الفن بالجمهور والثورة والحضارة، فيقول لا جدالَ أن الثورةَ المصريةَ كان لها أكبر الأثر في توجيه سيد درويش، كما كان لها أكبر الفضل في كلِّ ما اتَّسم به هذا الفنان من تجديدٍ: «لقد انكشفت لعيني وقلبي معجزة (مصر) عام ١٩١٩م، ورأيت الثورة في كلِّ مراحلها، تسفر عن روحٍ خفيةٍ باقيةٍ أبد الدهر، نابضة، تسعف (مصر) بين حينٍ وحينٍ. ظلَّ هذا الشعور بلا معنًى حتى سجَّلتُه في «عودة الروح»، فالمعروف أن الثورات لا ينطبع أثرها إلا على قلبٍ جديدٍ ملتهبٍ، ولا يملك مثل هذا القلب إلا الشباب في فورة شبابهم؛ لهذا كان سيد درويش — ابن الثورة — هو قلبها الجديد الملتهب الذي تأثَّر بها، وأخرج فنًّا قاد به الموسيقى الشرقية إلى أفقٍ جديدٍ» (ص٥٢). ثم يحدد أبعاد وظيفة الفن بنوع التأثير الذي يحدثه هذا الفن، فإذا طالعنا أثرًا فنيًّا، وشعرنا بعدئذٍ بأنه حرَّك مشاعرنا العليا وتفكيرنا المرتفع، فإننا أمام «فنٍّ رفيعٍ». أما إذا لم يحرك سوى المبتذل من المشاعر والتافه من التفكير، فإننا أمام «فنٍّ رخيصٍ» (ص٥٧). فالأثر الفني الكامل في نظر توفيق الحكيم هو الذي يُحدث فينا ذلك الشعور الكامل بالارتفاع. وقبل أن يحدد الموقف من الحضارة الغربية والحضارة الشرقية، يعنيه في البداية أن يحدد بشكلٍ صارمٍ الموقف من الاستعمار، فيقول إن سيطرة الغرب على الشرق اليوم، لا تكتفي بالإخضاع المادي والاقتصادي، إنها تشمل أيضًا الإخضاع الروحي: «الشعارُ اليومَ: مَن يحتل أرضك يحتل فكرك، ومَن يسلب بلدك يسلب روحك» (ص١٢٥). فأمريكا — يقول الحكيم — لا تقف عند حد الاحتلال العسكري، إنها تريد أن تفرض على الشعوب تفكيرها الاجتماعي، إلا أنه لا يتجاهل مع ذلك أن الوعي بكل ما في الحضارة الغربية من جوانب السلب (الفكر الاستعماري) لا يتعارض مع الوعي بكل ما فيها من جوانبَ إيجابيةٍ تتمثَّل في الفكر العلمي. كذلك الأمر في حضارة الشرق، فالوعي بكل ما فيها من جوانبِ السلب (التخلف الاجتماعي والاقتصادي والسياسي) لا بد أن يصاحبه الوعي بكل ما فيها من جوانبَ إيجابيةٍ تتمثل في التراث، إلى أن يقول: «فالخطرُ على غدنا كل الخطر من ذلك الفهم المحدود لكلمة (طابعنا)، ومن تلك الفكرة التي تجعل الشباب يتخذ من روحانيته الشرقية، ورواسب حضارته المصرية، سجونًا وحصونًا تعزله عن تفكير العالم، وتمنعه من المساهمة في النشاط الفكري الإنساني العام بقوةٍ وشجاعةٍ، دون أن يرى بهلعٍ في الثقافة الغربية أو الحضارة الأجنبية غيلانًا تستطيع أن تخطفَ بسهولةٍ روحَه من بين جنبَيه» (ص٢٧١).
إن توفيق الحكيم بهذه الكلمات يصل إلى تلك الذروة التي وقفت عليها القلةُ النادرةُ من مفكرينا وأدبائنا الذين اتصلوا بالغرب وحضارته اتصالًا وثيقًا، ولكنهم لم يجزعوا منه مذعورين، ولم يذوبوا فيه ذوبانًا، وإنَّما شقُّوا طريقهم الثالث بين التيارين الصاخبين، فاستناروا بأضواءِ الحضارة الغربية في رؤية واقعهم المصري، واستنبتوا التجربة المصرية الأصلية في الأدب والفن بغير عقدٍ أو مركبات نقصٍ. إن هذا الطريق الثالث يتفق مع جوهر توفيق الحكيم الذي يميل بطبعه إلى «الحل الوسط»، فأحيانًا تكون هذه الوسطية إلى جانب التقدم، كما هو الحال في الموقف من الحضارة الذي ينعكس بالضرورة على علاقة الفن بالحياة.
يقول الحكيم (ص١٨١) إنَّ واجبَ الكاتب يحتم عليه أن يُحدث أثرًا ساميَ الهدف في الناس، وخير أثرٍ يمكن أن يُحدثه عملٌ في الناس هو أن يجعلهم يفكرون تفكيرًا حرًّا، أن يدفعهم إلى تكوين رأيٍ مستقلٍّ، وحكمٍ ذاتيٍّ. فإننا لذلك (ص٢٨٢) نرى الفن لا يزدهر عادةً إلا في مجتمعٍ بزغت فيه عواملُ الإحساسِ بحريَّةِ الرأي، ونرى الفن لا يموت عادةً إلا في مجتمعٍ خُنقت فيه حرية التعبير عن الرأي؛ لأن الفنانَ يجد عمله معطلًا عندئذٍ من ناحيتين؛ من ناحيته هو — الذي لا يستطيع أن ينشئ فنًّا يوحي بتفكيرٍ حرٍّ — ومن ناحيةِ الناسِ الذين وقفت عقولهم في هذا الجو الخانق عن النمو. ثم يصل الحكيم إلى قضية الأدب الملتزم، فيرجح أن الالتزام في عنفوانه يوجد في ظل الدولة والعقائد الشمولية، بينما تتضاءل قواه في البلدان الديمقراطية، حيث لو أراد الأديب أن يلتزم (ص٣٠٨) لما قصد أحدًا هناك يلزمه غير نفسِه، فالأدب الملتزم في البلاد الديمقراطية لا يعدو اليوم أن يكون في صورة مذاهبَ شخصيةٍ. والالتزام عند الحكيم (ص٣١١) شيءٌ ينبع حرًّا من أعماق نفسِه، فإن لم ينبع الالتزام حرًّا من قلبه وعقيدته، فلا تلزمه أية قوةٍ في الوجود: «فعلى الرغم من مناداتي بالحرية، فإن عملي في أكثر كُتبي هو من صميم الأدب الملتزم، ولستُ أدري أهذا راجعٌ إلى رواسب ماضينا وتاريخنا القديم أم إلى طبيعتي الخاصة؟ إنما الذي أعرفه هو أني منذ أمسكت بالقلم ما حاولتُ قط أن أنشئ لنفسي أسلوبًا جميلًا، يتميز بجزالة اللفظ وحُسن الديباجة، مما يستهوي القارئ بحلاوة الجرس والرنين! هذا الفن للفن في الأسلوب ما خطر لي أن أمارسه، ولكني أردت أن أتخذ من الأسلوب خادمًا لأهدافٍ أخرى، غير مجردِ الإمتاع» (ص٣١٢). فالالتزام عند الحكيم كما يفسره في موضعٍ آخر هو شيءٌ يمس قضيةً عامةً تتصل بوضع هذه الجماعة البشرية في الظروف المحيطة بها، شيءٌ يشعرك بأن الأديب أو الفنان ليس مجرد مصورٍ لبيئةٍ، وساردٍ لقصةٍ، وخالقٍ لأشخاصٍ، ولكنَّه — أكثر من ذلك — محركٌ لقضيةٍ، ومفسرٌ لوضعٍ! ثم هنالك أخيرًا الأديب أو الفنان الذي لا يكتفي بسرد القصة وخلْق الأشخاص ليحرك قضيةً معينةً ويفسر وضعَ مجتمعٍ، ولكنه يرمي من وراء عمله الفني إلى تحريك قضية العصر كلِّه، وتفسير وضْع المجتمع البشري في الجيل الذي يعاصره، والزمن الذي يعيش فيه، أو الأزمان المختلفة التي يتطور خلالها: «هذه المهمة الأخيرة للأديب أو الفنان هي العملة الذهبية التي تصلح للتعامل الدولي في العالم أجمع» (ص٣١٤). على أن الالتزام عند الحكيم لا يفضي إلى خلود الأدب والفن؛ لأن الفن العالمي والأدب الرفيع وحدهما بغضِّ النظر عن القيم الاجتماعية التي يحملانها، هما اللذان يستحقان الخلود لما فيهما من «قيمةٍ أدبيةٍ رفيعةٍ»، تفيض بالشعر والفكر الذي كُتب بأسلوب «الأدب العميق» (ص٣٢١). ويستشهد الحكيم لإثبات هذه القضية بما قاله بعضُ النقادِ الأوروبيين عن عودة الروح ويوميات نائب في الأرياف، من أنه لا يشوبهما سوى الإيماءات الاجتماعية والقومية التي تحفل بها كلٌّ من الروايتين.
بهذا المنظار يرى الحكيم الشِّعر في صلته بالحياة (ص٢١٢) بمدلولها الأكثر شمولًا من الواقع اليومي، كما يرى إنسانية الأدب (ص٢٢٠) حين يخاطب الفنان الجوهر الثابت في الإنسان مهما ارتدى ثيابًا مختلفةَ الألوانِ والأجناس والأديان والطبقات والعصور، ويرى الأدب العظيم (ص٣٢٦) فيما يمكن أن يصلح لهذا العصر وتلك البيئة، وكل العصور والأجيال: «هو ذلك الذي ينظر — بإحدى عينيه — إلى الوطنِ الصغيرِ، ممثلًا في بيئته وزمنه، وبعينه الأخرى إلى الوطن الأكبر ممثلًا في الإنسانية إلى نهاية الدهر.» غير أن هذا الأدب العظيم في معاصرته وخلوده لن تكتبه سوى الصفوةِ الممتازةِ من القلة النادرة، التي عرفها تاريخُ العبقرية الإنسانية.
•••
وقد كنَّا نحن في مصر نعاني ويلات «الفوضى» الضاربة في كافة أنحاء حياتنا الروحية، من جرَّاء أزمتنا المركبة مع الغرب والتراث معًا؛ لهذا وقع اختيار الحكيم على جوهر هذه المدارس صاحبة الحلول الوسطية، لما توسَّمه فيها من «لقاء» أو مطابقة بين أفكاره «التعادلية» كما أسماها، وبين ما تقول به تلك الاتجاهات «التوفيقية». وبالرغم من أن هذا اللقاء في جوهره كان لقاءً طبيعيًّا بين أدباء البرجوازية في جميع أنحاء العالم، إلا أن توفيق الحكيم في موازاة التطور الثوري لمجتمعنا، كان ينسلخ رويدًا عن أردية الفلسفات البرجوازية، لا بقصد الوصول إلى المفهوم الاشتراكي للأدب، بل بقصد الاكتشاف العميق لفلسفةٍ «مصريةٍ»، تستمدُّ روحها وحياتها من تراثنا القديم.
أقبلت الثورة عام ١٩٥٢م، فبدأت مصر مرحلةً جديدة من مراحل النضال الثوري لتغيير المجتمع وقيمه تغييرًا جذريًّا، لم تتحول تراكماته الكمية إلى تغيره الكيفي إلا بعد ذلك التاريخ بعشر سنواتٍ. وقد كانت الثورة امتدادًا أصيلًا لمحاولات الشعب المصري الدائبة لتغيير حياة العبودية التي يحياها إلى حياةٍ حرةٍ. ولا شكَّ أن الفكر المصري الحديث قد عكس هذه المحاولات المستمرة فيما أنشأه الأدب والنقد من تجارب في الخلق والتقويم. وكان توفيق الحكيم في أعماله الفنيَّة الأولى، «عودة الروح»، «عصفور من الشرق»، «يوميات نائب»، واحدًا من كُتَّاب الثورة الوطنية الديمقراطية، بالرغم من أنه في أعماله النظرية كان يعبر عن أعلى ذُرى القلق الفكري الحاد، بين الأَسر في قيود البرجوازية الأدبية، والانعتاق من هذه القيود. وعلى النقيض من ذلك، جاءت أعماله الفنية الموازية للثورة شديدة الاضطراب والاهتزاز، بينما كانت كتاباته النظرية أكثر اتساقًا مع أحلام شعبنا في أدبٍ نابعٍ منه، ويصب فيه. لقد كان هذا التناقض والتوازن في آنٍ بين مرحلتَي ثورة ١٩١٩م وثورة ١٩٥٢م من ناحيةٍ، وبين الفكر والفن من ناحيةٍ أخرى، هو السر في أن توفيق الحكيم كان جسرًا قويًّا متينًا بين ازدهارين عظيمين في الحقل الأدبي، كما ذهب الدكتور لويس عوض في مقاله عن الثورة والثقافة (الأهرام ٢٣ / ٧ / ١٩٦٥م).
وكتاب «أدب الحياة» الذي أصدره الحكيم عام ١٩٥٩م هو الشاطئ الآخر من الجسر الذي نلتقي فيه بفنَّان الحياة على نحوٍ أكثر تحددًا وتبلورًا ووضوحًا، فمنذ البداية يقف الحكيم بصلابةٍ وثقةٍ واعتدادٍ إلى جانب الأدب الواقعي الجديد الذي رافق تعاظم الحركة الوطنية واشتدادها في أوائل الخمسينيات، ويحذِّر شبابَ الجيل الأدبي الجديد من السقوط في وهاد العادي والمألوف من واقع الحياة اليومية، الذي يتراءى للعين السطحية الساذجة، فلا ترى بدورها سوى القشور، كرد فعل على «أدب الكتب» من المعلبات المحفوظة في ذاكرة المقلدين، لا يعوزها سوى الاجترار والمحاكاة.
كان الحكيمُ بهذا الفهم الجديد يقف إلى جانب التحول الاجتماعي الجديد، ولكنه حين كان يتساءل عن تفاصيل معنى «أدب الحياة» أو «أدب الشعب» أو «أدب المجتمع»، فإنه لا يضع القضية من زاوية التحول الاجتماعي، بقدر ما يراها من زاوية المنطق الشكلي: هل أدب الشعب هو ما ينتجه أبناء الشعب بأنفسهم، أو ما يتلقَّاه هؤلاء عن غيرهم ممن يجيدون كتابة الأدب المتعاطف مع قضايا الشعب؟ هل أدب الحياة هو ما يباشر التسجيل والتفسير لكل ما يجري في حياتنا اليومية من دقائقَ صغيرةٍ، أم أنه قادرٌ على بلورة القضايا الإنسانية في مركباتٍ فكريةٍ مجردةٍ؟ إلى غير ذلك من التساؤلات التي تقيم أكثر من همزة وصلٍ بين فكرة «القيم الأدبية الرفيعة» التي نادى بها فيما سبق كمعيارٍ للأدب العظيم الخالد، وفكرة الشِّعر الأدبي الذي فوجئ بضرورة رفعه في مراحل الانتقال الاجتماعي، تلخيصًا لوجهة النظر الفكرية في الأدب والحياة إبان تلك المرحلة. فالقيم الأدبية الرفيعة ليست — على وجه اليقين — هي القيم الشكلية البحتة الخاصة بأدوات التعبير اللغوي في أحد الفنون الأدبية، وإنما تكتسب هذه القيم الشكلية قيمتها الأدبية الرفيعة حين يكتسي هيكلها العظمي بلحم التجربة الإنسانية التي عاناها الفنان، ودم الفكرة الحية التي يتوهج بها عقله الخالق. ولا أعتقد أنه من المطلوب أن ننفي عن التجربة في الأدب، أو الفكرة العقلية عند الأديب، تلك الشوائب التي يلصقها السطحيون من النقاد بالجوهر العميق لمعنى التجربة الذي يبتعد عن أن يكون إحدى الحوادث اليومية أو الملابسات الشخصية، وما يلصقونه أيضًا بمعنى الفكر في الأدب الذي يبتعد عن أن يكون مجرد منبرٍ أخلاقيٍّ يقف عليه الكاتب مرتديًا ثياب الكهنوت، كلَّا، إنَّ المحورَ الفكريَّ والتجربة الإنسانية أبعد غورًا من تلك المفاهيم المبتذلة؛ لأنها أوثق ارتباطًا بالقيم الأدبية الرفيعة من الهياكل الشكلية لهذه القيم.
أما الشعار الأدبي الذي يلخص وجهة النظر الفكرية للأدب والحياة في مرحلةٍ معينةٍ، فإنه يتطور بتطور تلك المرحلة، ويتجسد في تياراتٍ فكريةٍ تتباين مواقفها من الحركة الاجتماعية. ولعلَّه سلامة موسى هو أوَّل مَن قال بالأدب المرتبط حين بدأ سلسلة كتاباته السابقة على ثورة ١٩١٩م والتالية لها حول ضرورة ارتباط الآداب والفنون بأهداف الشعب الثورية. وإن الأديب «مرتبطٌ»، سواء أراد أو لم يرد، بأهداف إحدى الطبقات الاجتماعية، سواء كانت هذه الطبقة ثورية في موقفها من حركة المجتمع ككلٍّ، أو كانت من قوى الثورة المضادة. ولعلَّه أنور المعداوي هو أوَّل مَن استخدم عبارة الأدب الملتزم عند قيام ثورة ١٩٥٢م أثناء عرضه لمفهوم سارتر في الالتزام. وقد كان الالتزام الوجودي هو أول التيارات البرجوازية القادمة من أوروبا للتوفيق بين حرية الأديب ومسئوليته. ولعلَّه لويس عوض ومدرسة «مجلة الغد» هما أول مَن رفع شعار الأدب في سبيل الحياة، إلا أن أُسرة «الغد» كانت تقصر الشعار على المعنى الاجتماعي المباشر، بينما لويس عوض كان يتمسك بالمعنى الأوروبي الذي يرى الحياة أكثر شمولًا من المجتمع، وهو التيار البرجوازي الثاني الوافد من الغرب للتوفيق بين الحرية والالتزام. وقد كان لويس عوض بالرغم من ذلك من رواد الدعوة الاشتراكية في الأدب، وبعبارةٍ أدق، كان الامتداد الأكثر تخصصًا من سلامة موسى في مقدمة «فن الشِّعر» لهوراس، ومقدمة «بروميثيوس طليقًا» لشيلي، ومقدمة «في الأدب الإنجليزي الحديث»، وكلها صدرت عام ١٩٤٧م. بينما نرى سلامة موسى يهجر شعار الأدب المرتبط، ويدعو صراحةً إلى شعار الأدب للشعب، وهي مجموعة المقالات التي كتبها في الأعوام الثلاثة ١٩٥٣م و١٩٥٤م و١٩٥٥م، ثم صدرت في كتابٍ عام ١٩٥٦م. وكانت الحركة الاجتماعية حينذاك قد بلغت مرحلةً خطيرةً من الاستقطاب الفكري، الذي أعلن عن نفسه في المعركة التي دارت رحاها بين العقاد وطه حسين من جانبٍ، ومحمود العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض وسلامة موسى من جانبٍ آخر. وكان موقف توفيق الحكيم بلا مواربةٍ هو تدعيم الاتجاه الواقعي الجديد، بشرط ألا يتورَّط هذا الاتجاه في ردود الفعل التي تتسم بالتضخم والمبالغة، فتبتذل نفسها في القشور السطحية لواقع حياتنا اليومية، وتهجر الزاد الثقافي المكتسب من التراث الإنساني الخصب. ومن ناحيةٍ أخرى، أخذ الحكيم على الحركة الجديدة أنها طبَّقت بعض المقاييس الجاهزة في الآداب الاشتراكية الأخرى دون تمحيصٍ لتجربة أدبنا المحلي، فانزلقت من حيث لا تدري إلى نفس الخطأ الذي اقترفه نقادنا المتأثرون بالغرب. فماذا «لو أنهم قالوا بكل بساطةٍ نحن في حاجةٍ إلى فتح النافذة الشرقية كما فُتحت النافذة الغربية، وقاموا بالفعل ينقلون نقلًا أمينًا، ويترجمون ترجمةً دقيقةً عيون الأدب والنقد من البلاد الشرقية»؟ (ص١٥٣، ط أولى).
ويخاطب الحكيم ضمير الطليعة الثورية في النقد الواقعي الجديد قائلًا: «يجب أن ندرس مجتمعنا دراسةً جديةً، وأن ندرس أدبنا دراسةً دقيقةً موضوعيةً، تحيط بمراحل تطوره المتصلة بتطور المجتمع، وأن يكون أدبنا الجديد والمتجدد نتيجةً طبيعيةً للنظر الفكري والاجتماعي، وأن يكون رائدنا في كل ذلك الصدق والصراحة وسعة الأفق وحسن التطبيق» (ص١٦٥). ثم ينادي الحكيم بأن الأديب الحي الجديد يجب أن يستمدَّ حياته من الأوراق الخضراء لا من الأوراق الصفراء: «إن الأدب الجديد في مستقبل أيامنا سيكون كما أتصوره نابعًا من صميم التجربة الحية لعاملٍ في مصنعه، أو جنديٍّ في معركته، أو فلاحٍ في حقله» (ص١٩). ويفرِّق بين أولئك الذين يتخذون من الموضوعات الشعبية هيكلًا عظميًّا لأدبهم، ثم يكسونه بلحمٍ ودمٍ يعادي في جوهره قضايا الشعب. ولا يستبعد أن الجمهور القارئ قد تستهويه الأعمال الأدبية السهلة في البداية، ولكنه ما يلبث مع الثقافة الحية المتطورة أن ينمو وينضج ويزداد عمقًا، ورفضًا للأعمال السطحية، وإقبالًا على الأدب العظيم (ص٢٣–٢٩).
ليس الأدب للشعب إذن تخطيطًا رياضيًّا أو أرسطيًّا، نضع بواسطته كلًّا من الأدب والشعب في خانة من أو مع أو ضد أو في، وإنما المقصود هو الأدب النابع من التيار الفكري الأكثر تقدمًا، فدورة الأدب والشعب دورةٌ جدليةٌ تتم على ثلاثة مستوياتٍ؛ البناء العلوي للمجتمع، الطبيعة الطبقية للأدب، التراث التقدمي للفن. فلا شكَّ أن ما تدعوه الماركسية بالبناء الفوقي، أي: مجموعة القيم الفكرية والفنية والأخلاقية والسياسية التي تعكس بصورةٍ معقدةٍ التكوينَ الاقتصادي للمجتمع، لا شك أن هذا البناء يشكِّل عنصرًا جوهريًّا في ترسيخ مفهوم الأدب التقدمي، فحين تصبح ثمة خطوط تشد الفنان إلى أرض محددة الأسوار الاجتماعية، فإن العمل الفني حينذاك لا يصبح كائنًا ميتافيزيقيًّا معلقًا في الهواء، بل يصبح قيمةً موضوعيةً يمكن تلمُّس قوانينها الخاصة وأبعادها الذاتية. وكذلك فإن الطبيعة الطبقية للأدب تحدد الاتجاه الفكري السائد على أعمالٍ فنيةٍ بعينها، ومصدرها الاجتماعي، بحيث إن الكشف عن التفاعلات الدينامية داخل العمل الفني، يمسي كشفًا في نفس الوقت عن طبيعة العلاقة بين الفنان والمجتمع، فلا يستطيع الزعم بأنه يتجاوز هموم المجتمع ويتخطاها من أجل «الفكر الأرفع» أو «القيم العالمية»، تلك الشعارات اللامعة التي سرعان ما تتهاوى تحت المجهر العلمي الدقيق. أما التراث التقدمي للفن فهو الجذر الواقعي للتقاليد الأدبية التي ترسخ في وجدان الفنان الملتزم بقضايا الفئات الاجتماعية الأكثر تقدمًا في عصره، فليس الأدب التقدمي بدعًا في العصر الحديث، وإنما هو مرتبطٌ أوثق الارتباط بمحاولات السابقين وتجاربهم، الواعية وغير الواعية، في تجسيد أكثر القيم تقدمًا ودفعًا لمجتمعاتهم إلى الأمام.
بهذه العناصر الثلاثة، نستطيع أن نتخلص مع توفيق الحكيم من السؤال: لمَن يكتب الأديب؟ لأن الفنان — تقدميًّا كان أو رجعيًّا — سوف يكتب ويؤثر ويتأثر دون أن يسأل هذا السؤال. وهكذا تحل أيضًا مشكلة التناقض المفتعل بين الشكل والمضمون، فيؤكد الحكيم أن مَن صنع عملًا متقنًا ممتعًا رائعًا، ولكنه فاقد المعنى الإنساني والفكرة الدافعة للإنسان والمجتمع، فقد صنع أدبًا وفنًّا: «ولكنه أدبٌ وفن من طرازٍ بارعِ الصنعة، زهيد القيمة، كالزجاج البخس البراق، لا الجواهر النفيسة الثابتة» (ص٣٢)، أي: إن القيمة الأدبية الرفيعة لم تعد هي الشكل الخارجي كالوعاء الثمين، وإنما أضحت بما تحققه هذه القيمة في مجرى الحياة الإنسانية من تغيرات. تلك هي النتيجة الأولى في تحول الحكيم. أمَّا قضية الالتزام فقد ظلَّ إيمانه بحرية الفنان قويًّا لا يتزعزع، على أن ينتج «خدمةً للإنسان والمجتمع بالطريقة التي يراها» (ص٣٣)، أي: إن المضمون الاجتماعي هو القيمة الموضوعية التي يمكن أن يلتزم بها الفنان، أما صياغة هذا المضمون فمن حقِّ الفنان وحده أن يمنحها كل سمات عبقريته الفردية. وتلك هي النتيجة الثانية لتحوُّل الحكيم.
ولا ينبغي لنا أن نفهم هذا التحول فهمًا يتسم برد الفعل، فاهتمام توفيق الحكيم بقضايا الشعب والاشتراكية ليس تحولًا مفاجئًا، بل هو امتدادٌ أكثر تطورًا وازدهارًا — في الإطار النظري — لصاحب «عودة الروح» و«يوميات نائب»، وفي الإنتاج المسرحي يبدو هذا التحول أكثر وضوحًا في الفرق بين «شمس النهار» و«الطعام لكلِّ فمٍ»، وبين «الأيدي الناعمة» و«الصفقة»، بالرغم من الفترة الزمنية القصيرة التي تباعد بينهما. إن تحول الحكيم ليس تحولًا مفاجئًا من ناحيةٍ، كما أنه ليس تحولًا متطرفًا من الناحية الأخرى، فلا ريبَ أنه قد تطور مع القلة القليلة التي تطورت من كُتَّاب الثورة الوطنية الديمقراطية في موازاة الحركة الاجتماعية المتعاظمة في بلادنا، ولكنه يختار موقعه الذي يتلاءم مع تكوينه الجوهري، داخل الدائرة الثورية، إلى يمين المركز الثوري، لا في قلبه ولا على يساره، فهو ما يزال «الثوري المحافظ»، خاصةً إذا كانت المرحلة الثورية الجديدة هي الاشتراكية.
ومن أعماق هذا التحوُّل الجديد يقول الحكيم إنه يكفي الأديب أن يكتب قصةً أو مسرحيةً كما يكتبها كل الناس في أي لغةٍ أو دولةٍ، ويضمِّنها التصوير الأمين الصادق الدقيق لإحساس شعبه وتفكير بلده ليكون قد أدَّى واجبه على نحوٍ ما (ص٥٣). ومن أعماق هذا التحول أيضًا يقدِّم الحكيم ما يمكن تسميته ﺑ «كشف الحساب» لنقده الذاتي، فتراه يؤكد أنه ما من شكٍّ في أننا يجب أن نحمل رسالة التقدم والحرية والنضال في سبيل شعوبنا العربية على نطاقٍ أوسع «بوسائلَ أفضل وبفنٍّ أروع»، وقد يكون عذرنا حتى اليوم هو اهتمامنا بتجويد الأداة الفنية، وإدخال القوالب الأدبية وحل المشكلات اللغوية، فإذا انتهينا من هذه المرحلة، فلن يكون أمامنا إلا «الدخول في الصميم» (ص١٣٤)، ومعنى ذلك أن ما كان يشوب دعوة الحكيم إلى الاهتمام بالجانب الفني اهتمامًا مبالغًا فيه كان مجرد رد فعلٍ، لا على المهتمين بالجانب الاجتماعي، وإنما على المهتمين بالتحنيط اللغوي. وقد تكون مرحلة التجديد هذه قد أنهكت قوى مَن قاموا بها أو ساهموا فيها — يقول الحكيم — فمن الخير أن ينهض جيلٌ آخر بالعبء الجديد، ليختار المرحلة التي ستعطي أدبنا الحديث معنًى إنسانيًّا بارزًا في نظر العالم: «لذلك أرجو أن نفرغ سريعًا من الاشتغال بالشكليات، وأن نتجه بكل اهتمامنا إلى المعاني الكبرى التي تشغل الآداب العالمية في عصرنا الحاضر.»
هكذا يظلُّ توفيق الحكيم في برجه العاجي فنانًا للحياة، بل إنه في غمرة ثورته إلى جانب الأدب الجديد، يحاول أن يجعل من ثورة المعتزل في البرج العاجي قانونًا عامًّا، فيدعو جميع الكتَّاب إلى الاعتصام به. وهو يجأر بالصراخ بأن استغلال الحضارة هو مصدر السيطرة والعدوان، وأن رجال الفكر وحدهم هم القادرون على حماية الحضارة من «حافة الهاوية» التي يحاول الاستعمار أن يقذف البشرية إليها. ومن التكوين الاقتصادي للحضارة، إلى فكرها الفلسفي، يستخلص الحكيم محاور الأدب الانهزامي في الغرب. على أننا يجب أن نفرق في أدبنا التقدمي بين سياسة الأدب وأدب السياسة، أي: بين الكاتب الذي يشتغل بوقًا لحزبٍ من الأحزاب، والكاتب الذي يصدر عن نفسه في خدمة القضية التي نذر لها أدبه وفكره وفنَّه؛ لهذا السبب كان الحكيم منسجم الفكر والسلوك عندما فتكت المجاعة بأحد أقطار شمال أفريقيا الشقيقة، وهبَّت مصر ترسل المعونة الواجبة إلى شقيقتها المنكوبة، وإذا بفرنسا تسد الطريق بذراعيها القويتين، وتحُول دون وصول المدد إلى الشعب المكبَّل الجائع، ولم يجد الحكيم عندئذٍ بدًّا من أن يعيد إلى فرنسا وسامًا كانت قد منحته له بمناسبة ترجمة بعض كُتبه إلى الفرنسية. وقد أرسل إلى السفير الفرنسي مع الوسام احتجاجًا قال فيه: «ما معنى الأدب إذن في رأي فرنسا إذا لم يكن للحرية والإنسانية عندها من معنًى؟ ما أظن أديبًا حرًّا يقبل من فرنسا تقديرًا قبل أن يظهر أنها تقدر حقًّا الحرية والإنسانية.» وكان من أثر ذلك أن الحكومة الفرنسية رفضت إعطاءه التصريح بالدخول إلى الأراضي الفرنسية إلا بعد تهديدٍ من الحكومة المصرية بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل.
وهكذا نصل مع توفيق الحكيم إلى شاطئ العمل الإيجابي بالرغم من ارتفاع البرج العاجي؛ ذلك أن المعتزِل في هذا البرج لم يكُف يومًا عن الثورة، والتفاعل الحي العميق مع انعكاساتها على الفكر والفن. وأقام الحكيم الدليل الأكبر على أصالة ثورته في أنه لم يتصور الشكل الفني قط مجرد وعاءٍ يحمل اليوم صنفًا وفي الغد صنفًا آخر، بل كان التفاعل بين الشكل والمضمون في أعماله خير برهانٍ على مدى المعاناة التي يعيشها في كلِّ تحوُّل جديدٍ. إلا أن ثورة المعتزلِ في البرج العاجي لم تجعل من فنَّان الحياة نمطًا مكرورًا في حياتنا الأدبية، بل كانت له خصائصُ فكريةٌ تُعَد من سماته الجوهرية التي يلزم لنا أن نكشف عنها الستار.