الفصل الثالث

راهب الفكر

يمكنك أن تتصور رجلًا نحيلًا فوق رأسه بيريه لا يفارقه، وفي إحدى يديه عصًا لا يتركها، وفي عينيه نظرة ذاهلة على الدوام. تلك هي الصورة الخارجية لتوفيق الحكيم كما التقطتها له الصحافة المصرية منذ زمنٍ بعيدٍ، تحت عناوينَ مختلفةٍ، كأن تصفه بعدوِّ المرأة، أو بحر النسيان، أو البخيل الأبدي.

وكان الحكيم من الذكاء بحيث إنه لم ينفِ عن نفسه أية «تهمةٍ» من هذه الاتهامات التي يجسدونها في صورته الشائعة بين الناس، بل هو أحيانًا يتمادى في عملية التجاهل هذه للدرجة التي معها تنتقل المبالغة إلى الطرف النقيض، فهو يسطو على إحدى هذه التسميات التي يغرقه بها بعض الظرفاء من السطحيين أو السذج، فيدعو أحد كُتبه «من البرج العاجي»، ويسمي نفسه براهب الفكر الذي تزوج الفن زواجًا كاثوليكيًّا — كما تتزوج الكنيسة المسيح — ومن ثَم فهو العدو الطبيعي للمرأة.

وتضافرت مبالغة الحكيم وظرف أصدقائه من الكتَّاب في أن يظل الرجل أسيرًا لتلك الصورة الغريبة في أذهان أجيالٍ عديدةٍ من القرَّاء. وساعد على تثبيت هذه الصورة ما أشاعه البعض عن «الفنان» في الغرب من أنه يسلك كل تصرفٍ غير مألوفٍ، فيطيل لحيته، ويقلب نهاره ليلًا بين الحانات، ويجيد التصعلك والبطالة والتشرد، باختصارٍ هو إنسانٌ شاذٌّ أقرب إلى أن يكون مجنونًا.

ولم يحاول توفيق الحكيم للمرة الثانية أن ينفي عن نفسه صفة الجنون، فانطوى بين جدران الوظيفة حينًا، وجدران الصحيفة حينًا آخر، وكواليس المسرح تارةً، وفي غرفةٍ نائية بالمنزل تارةً أخرى. وهو في هذه الأطوار جميعها، يعيش وحيدًا بلا رفيقٍ ولا أنيسٍ أو صديقٍ يأنس إليه سوى الكتاب، أو تلك الأشباح من الأفكار المجردة التي تزوره بين الحين والحين في مخيلة العذاب، إلى أن ينجح في القبض عليها، ومن ثَم تتجسد صفحات من تجربة الألم في معاناة الخلق.

وقد تسببت ظاهرة الانطواء هذه في حياة توفيق الحكيم، في تضخيم ظاهرة الشذوذ التي أحاطه بها البعض. غير أن هذا لا يلغي حقيقةً موضوعيةً في تفكير الحكيم وفنِّه، هي أن تجربته مع الحياة هي تجربة الذهن، أي إن برجه العاجي لم يقتصر في الابتعاد به عن الأحزاب السياسية فحسبُ، بل عن الحياة الاجتماعية في مفهومها العريض أيضًا. ولعل التجربة الذهنية وحدها هي منشأ ميله إلى الفن المركز، شِعرًا كان أو مسرحًا، ومنشأ ميله إلى التفكير الرياضي سواء في الفلسفة أو المعمار أو الموسيقى، ولعل تجربة الذهن — أخيرًا — هي منشأ ميله إلى «التعميم» في الحكم على طبائع الأشياء أو حركة تفاصيلها. وتجربة الذهن في المسرح تخلف حوارًا ممتازًا؛ لأن جوهرها الجدل، ولكن ما أندر أن تخلف شخصياتٍ حيةً! وفي مجال الفن غالبًا ما تميل كفتها إلى جانب العقل دون العواطف الدافقة والشعور المنساب.

تجربة الذهن هي النتاج الطبيعي للبرج العاجي الذي احتمى راهب الفكر بين أسواره الفنية العالية، فمهما كانت الصور الكاريكاتورية التي يرسمونها للحكيم رجلًا ذاهلًا يرتدي البيريه، ويمسك العصا، ولا يصادق أحدًا، على جانبٍ كبيرٍ من المبالغة، فإنها بلا جدالٍ تتضمن جانبًا من الصواب مرجعه ما أدعوه بتجربة الذهن التي عاشها الحكيم، بكل أبعادها الفكرية والفنية، فالبرج العاجي حقيقةٌ أساسيةٌ في حياة توفيق الحكيم؛ لأنها بمثابة المظهر الخارجي لتجربة الذهن. أما رهبنة الفكر فهي العمود الفقري لتجربة الذهن التي يعانيها الفنان بالتجرد الكامل من كافة المغريات الطارئة، والنزوات العابرة، والملاذِّ السهلة المباشرة.

لا بدَّ لنا إذن من التعرف على الطريقة التي استطاع بها فنان الحياة عبر رحلة العمر أن يكون راهبًا للفكر. إذا كان البرج العاجي هو مفتاح السر، فلا بد لنا من التعرُّف على طريقة البناء التي تمكَّن بها توفيق الحكيم من أن يشيد أسوار الفن العالية.

وربما كان الفضل الأول يرجع إلى توفيق الحكيم نفسه في عثوري على مفتاح السر خلال كتاباته النظرية من منتصف الأربعينيات إلى منتصف الخمسينيات، فقد أهدتني هذه الكتابات إلى «رؤيا» توفيق الحكيم من أعلى القمة في برجه العاجي، هذه الرؤية التي تشتمل على ثلاثة أشعةٍ رئيسيةٍ، هي: الفكرة المصرية، وفكرة الحرية، وفكرة الفن.

وقبل أن ندرس هذه المعالم الكبرى في حياة الحكيم، مفكرًا وفنانًا، علينا أن نلقي نظرةً سريعةً على أرض الفكر المصري الحديث التي أنبتت لنا هذا الرجل، وأثمرت في أعماله النظرية والفنية ما يُعَد مدخلًا رائعًا إلى الأدب المصري الحديث.

•••

منذ أواخر القرن التاسع عشر، كانت مصر تعاني ويلات الصراع المزدوج، مع الاستعمار الغربي من ناحيةٍ، والتخلف الحضاري من ناحيةٍ أخرى. وقد تجلَّى هذا الصراع في حركة الشارع المصري المناضل من أجل الاستقلال والتقدم. أما انعكاسات هذا الصراع على الآداب والفنون فقد اتخذت أسلوبًا مباشرًا في بعض الأحيان، وغير مباشرٍ في أحيانٍ أخرى. فالأسلوب المباشر اتضحت معالمه في تلك المساجلات الصاخبة حول تحرير المرأة بين قاسم أمين وأعداء التطور، وحول الديمقراطية بين لطفي السيد وأعداء الحرية، وحول الفكر الديني المستنير بين الإمام محمد عبده وأعداء النور. واتضحت هذه المعالم في الأسلوب غير المباشر، كدعوة شبلي شميل إلى فهم معنى التطور، ودعوة فرح أنطون إلى فهم الأدب الحديث، ودعوة يعقوب صروف إلى فهم المنهج العلمي. ومن نفس الطراز من الدعاة، كان الدكتور هيكل يكتب أول قصة مصرية «زينب» باسمٍ مستعارٍ «مصري فلاح»، وكان الدكتور طه حسين يحرر العقول من ربقة القيم السائدة في النقد الأدبي، يرافقه على نفس الشاطئ شكري والعقاد والمازني.

غير أن الصراع لم يبقَ طويلًا في تلك الدائرة المتسعة، فتبلور الاختيار الحضاري أمامنا على المستوى السياسي، بين الإمبراطورية العثمانية والاحتلال الإنجليزي، فانبثقت للتوِّ أغلى أماني الشعب المصري القومية على اللسان الهاتف «مصر للمصريين». وسرعان ما التأمَ الاستقطاب في شملٍ واضحٍ، ولم تعد القضية مفتَّتةً بين تحرير المرأة والمنهج العلمي والأدب الحديث من ناحيةٍ، والحجاب والغيبيات والمقامات من الناحية الأخرى، بل أضحت القضية هي «مصر» المناضلة ضد الهيمنة العثمانية والاستعمار البريطاني معًا.

ولم تكن كلمة «مصر» غريبةً على الألسنة والأقلام، ولكنها بالفعل كانت غائبة عن الوعي والإدراك. كانت الذات المصرية مشاعًا بين الأتراك والإنجليز وقرون طويلة من الذل والانسحاق الذي جعل شخصيتها المعنوية موضع ارتياب حتى من أبنائها؛ لذلك كانت «مصر للمصريين»، في تحديدها السياسي، مدخلًا مبدئيًّا إلى مصر الذات الحضارية الواعية بنفسها، فأكبَّ أدباؤنا على «التاريخ» أول الامر، يدرسون أحداث هذا البلد على مر السنين، ثم التفتوا إلى «الحضارة» العريقة التي أثمرتها أجيال العمالقة من أجدادنا، ثم تنبهوا إلى «الفكر» الذي تنطوي عليه هذه الأرض في جوف أحيائها لا بين أكفان موتاها فحسب. هنا تولى الفن قيادة التيار «المصري» الغالب على الوجدان الوطني آنذاك، ملخصًا فكرة «البعث» في نهضةٍ حضاريةٍ شاملةٍ؛ ولهذا كانت الفكرة المصرية في تاريخنا الحديث — على كافة المستويات — بمثابة الميلاد الحقيقي لعصر نهضتنا الحديثة. ولا شكَّ أنه كان على حافتَي الطريق مَن ينادي بالدولة العثمانية، ومَن يهتف للحضارة الغربية، ولكنهما معًا كانا يلتقيان في العداء لمصر وطنًا وحضارةً، كانا يلتقيان في الرغبة الحارة في تذويب الشخصية المصرية ذوبانًا نهائيًّا، إما تحت السيطرة العثمانية باسم الدين والتراث، وإما تحت السيطرة الاستعمارية باسم الحضارة والتقدم. كانا معًا يشكلان التيار اليميني في بناء عصر النهضة. ولعلَّ الشخصيات التي شاركت في دعم هذا التيار هي بعينها الشخصيات الوافدة من أوروبا، وقد فرَّ بعضها مذعورًا يهرول إلى قمقم الماضي السلبي، وعاد البعض الآخر يجر أذيال الأسف على الفردوس الأوروبي المفقود. وبالرغم من هذه المسافة الطويلة بينهما، التقيا في العداء الصريح لتيار مصر الثورة، الذي اندفع من هزائم القرن الماضي وانتصاراته، يستوضح التفاصيل الحضارية في تاريخنا، لعلَّها تجيب.

وقد كانت الدعوة المصرية في المجال السياسي والاقتصادي واضحةً، إنها تطلب الحرية والاستقلال. أما في المجال الفكري والفني، فقد كانت الفكرة أكثر ضبابيةً مما يتصور أصحابها، وفي بعض الأحيان كانت أكثر خطورةً. كانت أكثر ضبابيةً حين تساءلوا: ما هو الفكر المصري؟ كيف نبنيه؟ ما هو تراثه؟ وكانت أكثر خطورةً حين اتصل الجواب على هذه الأسئلة بالكثير من المقدسات في حياة المصريين.

وكان التيار اليميني على وعيٍ تامٍّ بالمشكلات القائمة في وجه الفكرة المصرية، فإذا رفض أصحابه الأساليب الديمقراطية في المحاجاة، وإذا هُزمت أساليبهم العدوانية المباشرة، فلا بأس عندهم من النفاذ إلى «داخل الدائرة» المصرية بأسماءٍ مستعارةٍ، وأثوابٍ منتحلةٍ لا يقصدون بها سوى التخريب الداخلي، فكم حاول الاستعمار أن «يشجع» الفكرة المصرية ببذر الأفكار اللامعة من حيث المظهر، ولكنها تستهدف القضاء على هذه الفكرة من حيث الجوهر، بل إن الكثيرين من عملاء الاستعمار في مجال الفكر ارتدوا ثياب الفكرة المصرية وتكلموا باسمها، فأساءوا إليها أبلغ الإساءات، وتلك هي غاية الاستعمار من التضليل زمنًا باسم الفكرة المصرية. كذلك راحت الرجعية ترتدي مسوح الدين والتراث لتناضل في أكثر المراكز حساسيةً، وما إن فشلت حتى حاولت أن تغزو هي الأخرى مواقع الفكرة المصرية من الداخل. ومرةً أخرى يلتقي السلفيون بالاستعماريين في تحالفٍ غريبٍ للقضاء على مصر الثورة. وقد نجح التيار اليميني بجناحيه في ترك بصماته على نشاط الكثيرين من أدباء الفكرة المصرية، فتحولت إلى أشياعٍ عديدةٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.

غير أن المرحلة الأولى من البحث عن الذات المصرية اتسمت بالجهود الشاقة المضنية في سبيل خلق فكرٍ مصريٍّ وأدبٍ مصريٍّ وفنٍّ مصريٍّ. في مجال التاريخ كان سليم حسن وعبد القادر حمزة وغيرهما أدواتٍ ملهبةً للبحث عن الحلقات المفقودة من تاريخنا الطويل. وفي مجال الحضارة كان طه حسين والعقاد وسلامة موسى وهيكل يبحثون عن الأصول الضائعة للفكر المعاصر لهم. كان الفكر والأدب في تلك الفترة كفاحًا داميًا من أجل اكتشاف الذات. ولقد تعثرت أدوات البعض حين كانت تصطدم بالمقدسات، تارةً في صورة اللغة، وتارةً في صورة الدين، ولكنها في النهاية كانت تغوص إلى أعماق تكويننا الحضاري، فتقلُّ مواضع الاصطدام، إلى أن تبلورت الفكرة المصرية في عشرينيات وثلاثينيات هذا القرن، وليس غريبًا أن يتم تبلورها مع نيران أولى حلقات الثورة القومية عام ١٩١٩م، وينتظم هذا التبلور بقية حلقات الثورة إلى عام ١٩٥٢م، حيث كان المضمون الاجتماعي للثورة يفرض شكلًا تاريخيًّا جديدًا هو مصر العربية الحديثة.

تبلورت الفكرة المصرية مع نشأة البرجوازية المصرية ونضجها في مرحلة الصراع المرير مع الاستعمار الغربي، وازدادت التيارات بداخلها تشعبًا وانشقاقًا، فكاد ينفرد سلامة موسى في كتاباته آنذاك بضرورة المضمون الاجتماعي لمصر الثورة ممثلًا في الاشتراكية. وأسس مع زملائه «المجمع المصري للثقافة العلمية»، وجمعية «المصري للمصري»، ومجلة «المصري»، وكتب «مصر أصل الحضارة» يهتدي بالجوانب الإيجابية في الحضارة العربية، وكان في هذه الكتابات جميعها يمثل جانبًا من اليسار داخل الفكر المصري. وانشق البعض الآخر يهتدون بالجوانب السلبية في دعوة السلفيين إلى إمبراطوريةٍ عربيةٍ، وهي امتدادٌ لفكرة الإمبراطورية العثمانية، ودليلٌ على تسرب تيارها الفكري إلى دائرة الفكرة المصرية، كما يهتدون بأكثر الجوانب السلبية في الحضارة الغربية المتمثلة حينذاك في النازيين والفاشيست. واختار طه حسين وهيكل والعقاد موقفًا وسطًا لا يحبذ المضمون الاجتماعي لمصر الثورة المتمثل في الاشتراكية، مع الاكتفاء بالحرية والاستقلال. ومن ناحيةٍ أخرى يحاربون بلا هوادةٍ التيارَ اليميني المتمثل في مصر الفتاة.

نشأ توفيق الحكيم وترعرع في هذا المناخ المضطرب بين اليمين واليسار والوسط، وكواحدٍ من أبناء الثورة الوطنية الديمقراطية، لم يتردد في الانضواء تحت لواء الفكرة المصرية. ولكن تكوينه الخاص، الذي قَبِل السياسة ورفض العمل السياسي، أو قَبِل الثورة واعتزل في البرج العاجي، أبى إلا أن يتجاوز اليمين واليسار والوسط، ليحاول أن يصنع للفكرة المصرية شيئًا جديدًا.

كانت الفكرة المصرية — بشكلٍ عامٍّ — قد انتهت إلى أن الوعي الحضاري هو سبيلنا إلى اكتشاف ذاتنا، هذا الوعي لا يتأتَّى إلا بجمع أشلاء تاريخنا الممزق من مصر الفرعونية إلى مصر القبطية إلى مصر الإسلامية إلى مصر العربية الحديثة. فالتصور التاريخي الشامل لأرض مصر هو أول الدعائم لتثبيت الفكرة المصرية. وتفرعت من هذه الفكرة الرئيسية بعض الأفكار التابعة لها بالضرورة، مثل الدراسة الفولكلورية لأعماق هذا الشعب وضميره، والدراسة الميثولوجية لعقائد الإنسان في بلادنا منذ وُجد. التفت الحكيم إلى هذا النوع من الدراسات التي تتجاوز في نظره ما دعاه بالحدود الضيقة للفكرة المصرية، حدود الطبقة الوسطى البازغة، وحدود القهر الأجنبي، وحدود التهديد العثماني وما إلى ذلك من صراعاتٍ «ماديةٍ» مباشرةٍ. قال الحكيم إنه كلما استطعنا أن نغوص في أعماق الزمن، في أعماق الأرض، في أعماق الإنسان، فسوف نستكشف الجوهر الثابت لمصر، الذي يتجاوز بخلوده أسوار العرض الزائل من الصراعات الراهنة. مصر «الروح» هي البعد الجديد الذي أراد الحكيم أن يضيفه إلى الفكرة المصرية، مصر التي حاربت الزمن في الماضي بالأهرام أو التحنيط، هي بعينها التي تتوسد الفلاح المصري الحديث وهو يناضل الزمن بالصبر، مصر التي تتلاءم مع «تجربة الذهن» عند توفيق الحكيم، هي مصر الفكرة، التي تتجسد حينًا في إيزيس، وحينًا آخر في شهيدٍ من عصر الشهداء المسيحي، وحينًا ثالثًا في ثورة ١٩١٩م.

والحق أن ثورة ١٩١٩م هي التي أوحت إلى الحكيم بهذا البُعد الجديد للفكرة المصرية، ولكنها حين انعكست على وجدان المعتزل في البرج العاجي، مضت به من فورها إلى تفاعلات تجربة الذهن التي أثمرت له ما يسميه بمصر الفكرة أو مصر الروح. وليس غريبًا أن يكون العمل الأول والأكبر في حياة توفيق الحكيم هو رواية «عودة الروح»، فهي رواية الثورة بحقٍّ، وهي رواية الفكرة المصرية التي ترقد في ضمير الفلاح المصري منذ آلاف السنين، وليس غريبًا مرةً أخرى أن تكون العلامة الرائدة لميلاد الرواية المصرية لحمًا ودمًا. وليس غريبًا للمرة الثالثة أن يصبح الحكيم هو فنَّان الفكرة المصرية من أهل الكهف إلى يا طالع الشجرة، مرورًا بإيزيس وأخواتها، بل منذ كتب تمثيليته الفرعونية الأولى، وهو بعدُ صبيٌّ، في نفس الوقت الذي كتب فيه حسين فوزي صديق عمره ما دعاه بالأوبرا المصرية. وهكذا أصبح الحكيم هو الباب الفني الكبير الذي تخرَّج منه نجيب محفوظ وعادل كامل وغيرهما فيما أنشآه من أعمالٍ مصرية الرداء والجوهر.

فإذا كانت الفكرة المصرية تلعب في حياة الحكيم دورًا هامًّا، فإنه من الأهمية البالغة أن نلتفت إلى أسس التفكير الفلسفي عند توفيق الحكيم، حتى ندرك البذور التي أثمرت فيما بعدُ أعماله الفنية.

يقول توفيق الحكيم في كتابه «تحت شمس الفكر» عام ١٩٣٨م: «إني دائمًا أومن بأن مصر لا يمكن أن تموت؛ لأن مصر منذ الأزل ظلَّت تعمل وتكد آلاف السنين لهدفٍ واحدٍ، مكافحة الموت … ولقد فازت مصر ببغيتها، وكلما ظن الموت أنه انتصر، قام حوريس من أبنائها يصيح: انهض، انهض أيها الوطن! إن لك قلبك، قلبك الحقيقي دائمًا … قلبك الماضي … وإذا الموت يتراجع أمام صوتٍ مُدوٍّ من أعماق الوطن: إني حيٌّ … إني حيٌّ» (ص٢٠٩).

تلك هي «خامة» الفكرة المصرية عند الحكيم، فالاستمرار التاريخي هو عصارة الحياة في مصر، بواسطته استطاعت أن تقاوم الموت. إن عامل الاستمرار التاريخي يجر الحكيم جرًّا إلى الماضي، فيحيط عودة الروح بأسطورة إيزيس وأوزوريس، ولكن هذا الماضي لا يجعل من الحكيم رومانسيًّا يستنشق عبير الأكفان، ليغنم بأمجادهم فيزهو بها ويفخر. لا شكَّ أن هذه الأمجاد كانت سلاحًا وطنيًّا يستحث النخوة في صدور المناضلين ضد الاحتلال والإمبراطورية العثمانية على السواء، ولكن تراب المومياوات بعدئذٍ يتحول إلى مخدرٍ يصيب البعض بمركب العظمة الذي يجب العلاقة الدينامية بينهم وبين النضال الثوري. توفيق الحكيم لم يكن رومانسيًّا مخدرًا بعبق الماضي؛ لهذا نراه يقول في نفس الكتاب (ص١٣٥): «إن مصر ليست كتابًا مفتوحًا، إنما هي هيكلٌ قديمٌ مغلقٌ يحوي كنوزًا، قد ضاع مفتاحه، فعلينا قبل كل شيءٍ أن نفتح بابه ونستخرج ما فيه … ليس الخير أن نظلَّ طول الزمن نتغنَّى بمفاخر هذا الهيكل، ونحن نائمون على أعتابه.»

كذلك لم يُصَب توفيق الحكيم بمركبات النقص التي أصابت روَّاد الفكرة المصرية أحيانًا بردود الأفعال، فهو لا يتردد في وضع الحضارة المصرية في مكانها التاريخي، لا سبيل إلى فهم حضارتنا والوعي بذاتنا الحضارية، إلا بمقارنتها إلى بقية الحضارات المحيطة، ومختلف العصور الحضارية. إن الثقافات والحضارات عند الحكيم لا تموت، ولكنها تُهضم في ثقافاتٍ وحضاراتٍ أخرى: «فالثقافة العربية قد امتصتها واحتوتها الحضارة الأوروبية القائمة ضمن الذي امتصت وهضمت، فمادة الثقافة لا تنعدم، ولكنها تتحول إلى ثقافةٍ جديدةٍ، وتدخل في تركيب حضارةٍ جديدةٍ، فالقول بإحياء الثقافة العربية القديمة أو الثقافة الإغريقية القديمة قول لا أستطيع أن أفهم له معنًى» (ص١٢١). وقد يتسرع البعض في الحكم ويقولون إن الرجل في حماسه للفكرة المصرية لم يعترف بالتراث العربي، وليس هذا لغوًا فحسبُ، بل هو جهلٌ نشيطٌ، على حد تعبير فولتير، بالدور الخطير الذي لعبه الحكيم في حياة التراث من جهةٍ، كما أنه جهلٌ لا شبيه له في فهم الإطار القومي الذي كانت تتمدد فيه مصر إبان تلك المرحلة من جهةٍ أخرى. كلَّا، إن الحكيم يؤمن بأن الحضارات تقوم على حضاراتٍ قبلها، وأن هيكل الحضارة القائمة ينهض على طبقاتٍ متعددةٍ من حضاراتٍ سابقةٍ: «فلو فرضنا المستحيل، وأردنا أن ننزل طبقات ونرجع إلى ثقافةٍ قديمةٍ، فماذا نجد غير شيءٍ أولي إلى جانب ثقافة العصر الحاضر؟» (نفس الصفحة). يؤدي ذلك إلى أن الحكيم كان يعي طبيعة الصراع المزدوج للروح المصرية، مع القهر الأجنبي، والسلطنة العثمانية؛ لذلك يصبح أكثر صراحةً فيقول: «إن طابعنا الفكري، وطريقة نظرنا إلى الأشياء وتقاليدنا، وإحساسنا بالجمال الفني، ومشاعرنا نحو مظاهر الطبيعة المختلفة، وأسلوبنا في التعبير عن حقائقِ الأشياءِ — كل ذلك ينمُّ عن عن عقليةٍ خاصةٍ وعبقريةٍ مستقلةٍ، لا ينبغي أن تتحلل وتتزايل تحت طغيان موجةٍ أقوى» (ص١١٩) مهما كان مصدر هذه القوة، هو القديم أو القهر.

لهذا السبب لا نقول إن توفيق الحكيم «تفادى» السقوط في وهاد العنصرية، وإنما نقول، على العكس، إنه كان على وعيٍ متصلٍ بطبيعة التفاعل الدائر بين الذات والموضوع، بيننا وبين الآخرين، فهو حين يتصور تاريخ الحضارة عصورًا، وحين يتصور هياكلها طبقات فوق بعضها البعض، وحين يتصور زمانها الحاضر شرايين متجاورة، لا يستطيع أن يسقط في هاوية الإيمان بالعِرق أو العنصر، مهما آمن بفردية الطابع الذاتي لحضارتنا، فهذه الفردية ليست إلا دليلًا على الأصالة، لا على العنصرية، يوضح الحكيم هذه القضية في نقطتين؛ الأولى «أن الفكر البشري ليس له حدود دولية، إنما هنالك المزاج الخاص، والطبيعة الخاصة التي تكيِّف تلك الثورة المباحة التي تنهل منها كل ثقافةٍ وكل حضارةٍ»، والنقطة الثانية «… ولا نستثني من ذلك الحضارة الإسلامية نفسها في عصورها الزاهرة، فما هي إلا جماعُ أفكارٍ وثقافاتٍ وحضاراتِ أممٍ مختلفةٍ، صبَّها الإسلام في قالبه، وجعل منها لونًا خاصًّا» (ص١١٦).

وليس توفيق الحكيم في ذلك إلا واحدًا من أبناء الصف الرائد؛ طه حسين والعقاد ومصطفى وعلي عبد الرازق وأحمد أمين ومصطفى الرافعي وزكي مبارك ومحمد عبده وخالد محمد خالد … فكتاباتهم حول الإسلام هي أروع ما كُتب في اللغة العربية في هذا الدين، ومع ذلك فهم لا يخلطون بين العروبة والإسلام من ناحيةٍ، ويعتزون بنظرتهم المصرية إلى الدين العظيم من ناحيةٍ أخرى.

إن التفاعل الحضاري عند الحكيم هو «الأخذ والعطاء» الذي يقيم التشابه في طرفٍ، والاختلاف في الطرف الآخر، هذا هو مضمون «التعادلية» في الكون كما تصوَّره الحكيم: «ها هنا إذن قوام التناسق، التشابه لا كل التشابه، الاختلاف لا كل الاختلاف». وهذا هو مضمون التعادلية في المجتمع، وهي تؤدي في نهاية المطاف إلى تجميد الثورة بمحاولة تثبيت البناء الطبقي للمجتمع، وهي التي تقود إلى هذه المعادلة: «لا ريبَ عندي أن مصر والعرب طرفا نقيضٍ، مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف» (٦٤). يجب ألا ننسى أن عروبة مصر لم تخطر على بال الجيل الذي يمثله الحكيم، بل كانت شيئًا منافيًا للفكرة المصرية التي آمن بها جيل الرواد جميعًا، لارتباطها في بعض الأذهان بالفكرة الدينية من ناحيةٍ، والسلطنة العثمانية من ناحيةٍ أخرى.

وهكذا تبدو مثالية الحكيم في الدفاع عن الإسلام، وعن الدين بشكلٍ عامٍّ، مُستمدةً من جوهرٍ عميقٍ، هو مصر القديمة، لقد قلتُ إن الركن الأول في حياة راهب الفكر هو الفكرة المصرية، وكنت أستطيع أن أقول «الدين» بمعنى التصور المثالي للوجود، بأن تكون ثمة قوة مفارقة له، هي العقل الأعظم، وانطلاقًا من هذا التصور ينسف الحكيم الهوة القائمة بين الإنسان وقدره عبر المأساة؛ لأن السلم الميتافيزيقي إلى التوحد مع الإرادة العليا دائم التجاوز والتخطي، وكلمات الحكيم حول الدين «تحت شمس الفكر» تؤكد تفكيره المثالي الذي يصنف الإنسان تصنيفًا ميتافيزيقيًّا أقرب إلى تعاليم أوليفر لودج، غير أن مثالية الحكيم لا تمنعه من الوقوف إلى جانب مرحلةٍ متطورةٍ من مراحل الفكر العام، هي مرحلة «حرية العقل» في التفكير والتعبير. لا بد إذن من التفرقة بين شكل كتابات الحكيم «الدين» ومضمونها التحرري إلى جانب «العقل»، من هنا ارتفعت سياطه دائمًا على جلود المحترفين من أعداء «الفكر الحر».

وفي سبع نقاطٍ سجَّل توفيق الحكيم تاريخه الشخصي مع الفكرة المصرية في إطارين رئيسيين هما: المطلق، والتجسيد، وهما العنصران اللذان سنلتقي بهما في الزاويتين الأخريين عند تفكير الحكيم؛ الحرية والفن.

إن الفكرة المصرية عنده فكرةٌ غيبيةٌ مطلقةٌ، تتجسد حقًّا في النسبي، ولكنها هي في ذاتها كيانٌ مطلقٌ، إنها قد تتجسد في أعظم الأعمال، كبناء الأهرام مثلًا، وقد تتجسد في الظاهرة البشرية، كالفلاح المصري. والتجسيد صفةٌ ملازمةٌ للمطلق، ربما يغيب عنه زمنًا طويلًا، ولكنه لا يلبث أن يحل ومعه السلام إلى الأرض. وكانت ثورة ١٩١٩م كما قلتُ هي أول «ظاهرة» تراءت فيها روح لمصر لعين الحكيم، كمطلقٍ بلا حدودٍ في الزمان والمكان.

كانت نقطة الانطلاق التي بدأ منها توفيق الحكيم فكرته عن مصر هي «الرغبة في كتابة مأساةٍ مصريةٍ على أساسٍ مصريٍّ» (ص١٠٥)، فالمأساة هي الخطوة الأولى في حياة الحكيم نحو مصر، نحو قلب مصر؛ ذلك أن العدو الأعظم — الموت — كان العنصر الأول في هذه المأساة، ولكن المصريين «شيدوا الأهرام لنقوى على هذا التنين … حصون الروح في حربها المخيفة مع عناصر الفناء الآدمي … التحنيط كذلك اختراعٌ آخر، ولَّدته ضرورة الدفاع في تلك الحرب الضروس» (ص١٠٦)، فالمقاومة إذن هي «خامة المأساة» المصرية، هي المسافة القائمة بين الموت وعنصرٍ آخر يتصل بالمقاومة، فالمقاومة ليست إلا لحظة التجسيد الواقعي لروح مصر في نضالها للزمن: «إنها صيحات الروح تدوِّي طول الأبد من بين سطور كتاب الموتى … إن أعظم مأساة لم تُدوَّن، ولا يمكن أن تُدوَّن، «المأساة المصرية»» (ص١٠٦). من هنا يصبح استيحاء «كل ما هو مصريٌّ» في الأدب والفن، لونًا من ألوان المقاومة، ولحظة من لحظات التجسيد الحي الواقعي للمطلق، ولعل الأشياء المصنوعة، كالأهرام والتحنيط، أقل قدرةً على تجسيد المطلق من الطبيعة الحية: «في مصر أفكار لم تتغير إلا قليلًا، منذ عهد الأساطير الأولى حتى اليوم؛ وذلك لأنها متصلةٌ بصميم هذه الأرض، ومستوحاةٌ من نفس طين هذا الوادي الخصيب، ومن نفس هذا النيل الخالد» (ص١٥٧)؛ لهذا كانت دورات النيل مع الأرض ازدهارًا واحتراقًا، هي لحظات التجسيد الأعمق لكيان مصر الروحي، وهذا هو العنصر الآخر المقابل لعنصر الموت، على طول طريق المقاومة؛ البعث، وعند فكرة البعث يتوقف الحكيم طويلًا:

  • «… إنَّ مصر كانت تؤمن إيمانًا عجيبًا بانتصارها على الزمن، رمز العدم، بالبعث الدائم» (ص١٨٠).

  • «… من هذا النيل خرجت أساطير البعث، وفي هذه الأرض الجميلة الدائمة الخصب نشأت فكرة الخلود وقتال العدم تشبثًا بهذه الأرض المحبوبة، لم تخلق الآلهة جنةً سواها، فهي المرجع والمآب، يموتون عليها ويعودون إليها، موتٌ ثم حياةٌ ثم موتٌ … وهكذا إلى أبد الآبدين … لا الموت يفنى ولا الحياة تفنى … شأن هذا النيل في حياته وموته» (ص١٠٨).

  • «… ولم تكن مصر تقبل اعتناق المسيحية أو الإسلام دينًا لها، لو لم تجد في هذين الدينين فكرة البعث جوهرها ولُبها. ولقد رفضت مصر دين إسرائيل؛ لخلوِّه من تلك الفكرة التي لا تعيش مصر بغيرها … البعث هو نشيد مصر الخالد، يغنيه النيل كل عامٍ … والنبات والطيور والسماء والشعراء» (ص١٠٩).

  • «… مصر في العهد المسيحي، كان فيها أدبٌ قصصيٌّ دينيٌّ صوفيٌّ رائعٌ تلمس فيه الشخصية المصرية بأفكارها الثابتة ووسائلها الخاصة، أكثر مما تلمح فيه الطابع الروماني. ومصر الإسلامية شيدت مساجدَ ضخمةَ المظهر، قوية البنيان، بسيطة التفصيل، لولا أسلوب البناء الإسلامي لخلتَها معبدًا فرعونيًّا» (١٠٩).

لقد عمدتُ إلى هذا الاقتباس المطول لأترك توفيق الحكيم بنفسه يحدد «الهدف» أو الفكرة الغائبة، أو الجسم المحمول على جناحَي المطلق والتجسيد، فالفكرة المصرية هي طريق الخلاص — عند السياسيين الوطنيين في ذلك العهد — من ربقة الصراع المزدوج، ولكنها عند الحكيم هي طريق الخلاص للنفس المصرية في هذا العالم، هي قرينة المطلق عند هيجل حين تجسد في الدولة البروسية، ولكنه عند الحكيم لا يتجسد في دولةٍ بعينها، وقد لا يتجسد في «الدولة» على الإطلاق، وإنما هو يظهر في ثورة ١٩١٩م كما ظهر من قبلُ في الأهرام والتحنيط، وكما يظهر الآن في الفلاح الذي كتب عنه في «يوميات نائب في الأرياف». ولكن الحكيم كفنانٍ لا ينسى أن الفكرة المصرية تجد لها مستقرًّا أصيلًا في الشخصية الفنية؛ لهذا كان رائدًا في كفاحه المرير من أجل إحياء الشخصية المصرية في الفن. مرةً أخرى تصبح الفكرة المصرية هي طريق الخلاص، عبر أخلد ظواهر الوجود الإنساني، الفن: «الفن الحديث كلُّه من تصويرٍ ونحتٍ وعمارةٍ انطلق يبحث عن وسائلَ جديدةٍ للتعبير، فوجدها في مصر القديمة، وجد طريقة تركيب الأشكال المختلفة على قواعد هندسة الكوبزم، وجد وسائل التعبير عن حقائق الشكل التي تخفى على العين العادية … وجد أساليب الحركة والإضاءة في التماثيل والأعمدة مما لا نظير له في قوة الأداء وبساطته، كلُّ ذلك وجده الغرب وشيد على أساسه فنًّا جديدًا، ونحن نستطيع أن نجد أكثر من ذلك لو بحثنا طويلًا وتأملنا مليًّا، إنَّ كنوز قلوبنا العميقة لا قاع لها، وهي أدنى إلى أيدينا من الغرباء» (ص١١١).

إنَّ هذه الصيحات التي صرخ بها توفيق الحكيم عام ١٩٣٨م «تحت شمس الفكر» ظلَّت معه إلى أحدث مراحل إنتاجه إذا قرأنا مقدمة «يا طالع الشجرة»؛ فالموت والبعث هما محور نظرية الفداء والخلود في الفكرة المصرية، هما محور «الخلاص» الروحي الأمثل من ربقة الوجود العرضي الزائل، هما أيضًا محور الشخصية المصرية في الفن.

ولعلَّ فكرة الموت والبعث هي المصدر الأول لكافة الثنائيات الفكرية التي لعبت دورها في حياة الحكيم، وتلاءمت مع تجربة الذهن التي عاشها بين أسوار برجه العاجي. ولكن الزاوية الثانية في تفكير الحكيم، الحرية، كانت تصوغ المسافة بين الموت والبعث في الإطار الذي دعوناه بالمقاومة، ومن هنا تحمل هذه «الحرية» مدلولها الثوري في صورتها النسبية المجسدة في التيار الليبرالي الذي عرفته الثورة الوطنية الديمقراطية منذ ١٩١٩م، تمامًا كما حملت الفكرة المصرية مضمونها الثوري حين كانت تتجسد في أتون الثورة السياسية، أو في مجال الخلق الفني للشخصية المصرية، أما حين تتحول الفكرة المصرية إلى مستوى «المطلق» المجرد، فإنها تتحول إلى فلسفةٍ مثاليةٍ، وهذا هو جانبها السلبي، وهو نفس الأمر الذي يحدث مع فكرة «الحرية» عند الحكيم، فهي تؤدي دورها الثوري في المعركة الوطنية، ولكنها ما إن تنتقل من هذا المستوى الجزئي في نظر الحكيم إلى المستوى الكلي الشامل، حتى تتجرد عن مضمونها الاجتماعي، وتتحول إلى فكرةٍ غيبيةٍ ساكنةٍ.

ونحن عندما نقرأ «من البرج العاجي»، الذي كتبه الحكيم عام ١٩٤١م، نلاحظ أن هذا البرج هو الشكل الملائم لمعنى الحرية في ثورة هذا المفكر المعتزل، فالشكل والمضمون في هذا البرج، هما تجسيد للجانبين الرئيسيين في طريق الخلاص عند توفيق الحكيم؛ الجانب الإيجابي هو ما يخص المستوى الجزئي المحسوس المباشر، والجانب السلبي هو ما يدفع صاحبه إلى الطموح الفلسفي حين يفترض أن «التعميم» و«التجريد» لكل ما هو جزئيٌّ ومحسوسٌ إلى مستوى الكل والشمول، والجوهر الروحي الأسمى، هو السبيل إلى بناء الأسس الراسخة العميقة لفلسفةٍ مصريةٍ أصيلةٍ وخالصةٍ.

وفي بعض الأحيان، كان يجمع بين هذين المستويين على صعيدٍ واحدٍ، كأن يصيح «من البرج العاجي»، ص٥٤: «وهل يطول غضب الله علينا فلا يظفرنا بعظيمٍ من هؤلاء العظماء الذين يستطيعون أن يردوا الاعتبار إلى قيمة الرأي، ويطهروا النفوس من درن المادة، ويعيدوا المُثل العليا النبيلة إلى مجدها القديم، ويرتفعوا بالأمة كلِّها في لحظةٍ إلى سماء الخلق العظيم»، هكذا يشوب الضباب كل شيءٍ حين يخلط بين فكرته الجزئية عن الحرية — وهي الديمقراطية الليبرالية — وبين فكرته الكلية المطلقة الشاملة عن الحرية، باعتبارها الزاوية الثانية في طريق الخلاص الروحي؛ لهذا السبب يصبح «الكل في واحدٍ» كما يرتدد صوته في «عودة الروح» مناديًا بفكرته المثالية عن الفرد، وهي نفس الفكرة التي رددها عن «الفنان»، وهي نفس الفكرة التي رددها عن «الله»، فالفردية عنده ليست الفكرة الليبرالية المعتادة، ولكنها شيءٌ خاصٌّ، استقاه من مفهومه العام للفكرة المصرية والحرية، والفن.

على هذا النحو راح يشرح البرج العاجي: «… عند أكثر الناس معناه اعتصام الكاتب بالسحب اعتصامًا يقصيه عن أحداث الدنيا، وحقائق الوجود، وهذا غير صحيحٍ على الأقل بالنسبة إليَّ، فما من حدثٍ استوجب تحرك القلم إلا حرك قلمي، وما من أمرٍ هزَّ البشرية إلا هزَّ نفسي، بل ما من قضيةٍ من قضايا الحياة الكبرى التي تمس الإنسان وتطوره وتقدمه إلا شغلتني ودفعتني إلى الجهر بالرأي، حتى في النُّظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية» (ص٣٢).

ولا شكَّ أنَّ توفيق الحكيم في كتاباته حول الديمقراطية لم يكن مترجمًا آليًّا للحرية بمفهومها البرجوازي الأوروبي، وإنما كان يحاول دائمًا أن يكسوها بلحمٍ ودمٍ من التربة المصرية التي يعيش فيها الفلاح «عاري القدمين، يجوع أغلب أيام الأسبوع»، هذا الذي يُسمَّى إنسانًا بحكم النوع (ص١٧٥من تحت شمس الفكر). لم تكن الديمقراطية عنده مجرد إطارٍ شكليٍّ مجسدٍ في الصحافة والبرلمان، بل هو إيمانٌ عميقٌ بالشعب الذي آن الأوان لأن يسأل عن البرامج لا عن شغل المقاعد: «إن الشعب اليوم قد تغير في نظري، وإن عقليته قد تكونت، وأصبحت له رغبات حيوية تمس صميم غذائه اليومي وحياته المادية، إنه يطالب أن يعيش، لا معنويًّا فقط كما كنا ننادي بالأمس، ولكن ماديًّا أيضًا عن طريق اللقمة المتوفرة لملايين من المحرومين» (ص١٨٨، نفس المرجع). وكما تشعبت الاتجاهات الوطنية عن الفكرة المصرية إلى تياراتٍ عديدةٍ، فقد تعددت التيارات التي تنادي بالحرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، هكذا وجدنا مَن ينادي بالصدقة والإحسان — باسم الدين — علاجًا للمشكلة الاجتماعية، وفي واقع الأمر يتسلحون ببعض المواقع ذات الحساسية عند غالبية الشعب، بضرب المواقع الأكثر مباشرةً وخطورةً؛ آماله في حياةٍ أفضلَ، لهذا يتساءل الحكيم: «إلى متى تظل مصر — ونحن نملك نظامًا ديمقراطيًّا — تعتقد أن إصلاح شئون الطبقة الفقيرة معناه التصدق والإحسان؟ … وإلى متى ونحن لدينا برلمانٌ، لا نجد فيه ممثِّلين لملايين من أبناء الطبقات الفقيرة، يدافعون عمَّا تراه هذه الطبقات منهضًا مصلحًا لحالها؟ … ما معنى الديمقراطية إذا لم تكن هي تمكين طبقات الشعب كلِّها — على اختلاف مراتبها ومطالبها — من الدفاع عن نفسها بنفسها تحت قباب المجالس النيابية؟» (ص١٨٩). وليس لهذه التساؤلات إلا معنًى واحد، هو أن المضمون الاجتماعي للحرية عند الحكيم أن تُتاح الفرصة لجميع المواطنين بصورةٍ متكافئةٍ، والمضمون الاجتماعي للحرية كما يفهمه مستمدٌّ من فكرةٍ ذات أصلٍ تقدميٍّ صريحٍ، هو «التمثيل الطبقي» للمجتمع، ولكنها في النهاية تستقر على الوسادة البرجوازية القائلة: «على نحوٍ يكفل التوازن بين المصالح»، وهذا هو المصير الوحيد أمام «التعادلية» في المجال الاجتماعي، تجميد الثورة، وذلك بتجميد الحركة الاجتماعية على الرغم من وعي الحكيم النافذ بطبيعة السلطة الطبقية في مصر آنذاك، وهي أن أحزابنا على تعددها وكثرتها، لا تمثل في حقيقة الأمر غير طبقةٍ واحدةٍ، هي طبقة كبار الملَّاك (ص١٩٠). فنحن في حقيقة الأمر شعبٌ لا وجود له على خريطة الحضارة، إنما نحن زرَّاعٌ وخدَّامٌ وعبيدٌ يعيشون على هامش الحضارة، يخدمون المصالح الأجنبية (ص٢٠٥). لهذه الأسباب «ينبغي وضع حدٍّ» لما نراه من استئثار مئاتٍ من أهل هذه البلاد بالخبرات، وترك الملايين في جوعٍ وعري كالسائمات (ص١٩٥). فإلى أن تصبح المسألة الاجتماعية في مصر ذات تأثيرٍ مباشرٍ في أداة الحكم، كالمسألة السياسية سواء بسواء، «فليس لنا أن نقول إن في مصر مسألةً اجتماعيةً على الإطلاق» (ص١٩٥).

هذا هو الحد الأقصى لمعنى الحرية في مستواها الجزئي المحسوس والمباشر معًا، أي في مستواها الاجتماعي عند توفيق الحكيم، وهي رؤية تقدمية كامتدادٍ للنضال الثوري من أجل الاستقلال، ولكنها عند الحكيم لا تتجاوز الأسوار الشائكة التي ضربها الاستعمار والرجعية حول «المسألة الاجتماعية»، فتتخطى مرحلة الثورة الوطنية إلى مرحلة الثورة الاجتماعية، وإنما يسلك الحكيم نفس السلوك الذي سلكه في الفكرة المصرية، فيرتفع بمعنى الحرية من مستواها النسبي إلى مستوى المطلق، وتصبح من ثَم طريقًا غيبيًّا للخلاص، فالحرية «المطلقة» عند الحكيم ليست صدًى لهذا المعنى عند أية مدرسةٍ أوروبيةٍ تتستر خلف هذه اللافتة لابتلاع الطبقات المسحوقة، وإنما هي فكرةٌ مثاليةٌ تدور في نفس الفلك الميتافيزيقي الذي تدور فيه الفكرة المصرية من ناحيةٍ، والفكرة الفنية من الناحية الأخرى.

•••

ففكرة الفن هي الركن الثالث أو الزاوية الثالثة في تفكير الحكيم، فليس الفن انفراجًا لشهوةٍ ذاتيةٍ، ولا تعبيرًا عن أزمةٍ موضوعيةٍ، وإنما الخَلق في الفن هو الصورة المصغرة لإبداع الخالق الأعظم؛ لهذا ترتفع فكرة الفن عند الحكيم إلى معنى «الدين»، وعلينا أن نضع عشرات الخطوط الحمراء تحت كلمة الفن إذا اقترنت باسم توفيق الحكيم، فإننا نخطئ كثيرًا عندما نراه يدافع عن «الفن»، فيزعم بعضنا أنه يعني به الطرف المقابل للمجتمع أو الإنسانية، فالحقُّ أن تركيز الحكيم على الفن والفنان والعمل الفني، كان عملًا رائدًا في تاريخنا الأدبي والحديث؛ لأن الأديب في مصر لم يكن «فنانًا» بمعنى الخَلق والإبداع الذي يمزج أساليب الحضارة الأوروبية بالتجربة المصرية المحلية، لينتج «فنًّا» يتميز بالأصالة والصدق والجدة والتفرد، كان أدبنا في معظمه ترجمةً واقتباسًا وتمصيرًا ومحاكاةً، سواء للآداب الغربية، أو للتراث العربي، شعرًا ونثرًا، فكانت لفظة الأديب لا تعني في الأغلب سوى الإجادة اللغوية؛ ولهذا أيضًا اقترنت مهارة الأديب بالتفقه في علوم اللغة. وبالرغم من محاولات المويلحي وهيكل في مجال القصة الروائية، وشكري والعقاد في مجال الشِّعر والنقد، وغيرهم في مجال المسرح، فإن الدلالة الجوهرية لكلمة «الفنان» لم تثبت دعائمها إلا على يدَي توفيق الحكيم، سواء بإنتاجه الفني مباشرةً، «عودة الروح – أهل الكهف»، الذي يُعَد صفحةً جديدةً في التراث، أو في كتاباته النظرية التي حاولت أن تقرِّب بين معنى الفن وكلمة الخَلق، بإيجاد أوجه التشابه بين «الخالق الأعظم» والمبدع البشري.

وكما أن فكرة الحرية لم تكن بمعزلٍ عن الفكرة المصرية، كذلك لم تكن فكرة الفن بمعزلٍ عن مصر والحرية، من هنا كان دفاع الحكيم الحار عن «الفن» هو رد فعلٍ للمدرسة السلفية أو «اللغوية» في الأدب العربي، وهي رد فعل أيضًا لمدرسة التعريب والتمصير والاقتباس، فهي لم تكن قط ردًّا على الاتجاه الواقعي الملتزم، كما تصور البعض، وإنما كانت نضالًا ضد الجبهة الرجعية والمستوردة في آنٍ، وهي ليست رد فعلٍ فحسب، بل هي «فعل» أيضًا يدعم مصرية الأدب بفكرة «الخلق» في شكلها العام، وخلق الشخصية المصرية في شكلها الخاص. لهذا كانت رؤيا جديدة على أدبنا الحديث، فكانت الدعوة «الفنية» قرينًا للمضمون الاجتماعي لا تنفصم عراهما، ذلك الكائن الذي رأى فيه «الجمال» كصياغةٍ إلهيةٍ، ولم يرَ المضمون الاجتماعي، إن الفن كفكرةٍ مطلقةٍ هو الذي باعد بين الحكيم وبين المرأة كشخصيةٍ إنسانيةٍ حتى تورط البعض ودعَوه خطأً بعدوِّ المرأة، وليس من المعقول أن يقرر الحكيم أن المرأة منذ فجر التاريخ حتى اليوم قد برهنت على ذكاءٍ عظيمٍ ظهر في مختلف ميادين النشاط البشري، فكرًا وعملًا: «كل شيءٍ قد برزت فيه وساوت فيه الرجل، وفاقته أحيانًا، فتركت للناس فيه أحدوثةً باقيةً وذِكرًا خالدًا» (ص٩٥ من المرجع السابق)، أقول إنه ليس من المعقول أن يقرر الحكيم هذا الرأي عن المرأة ثم يكون عدوًّا لها، بل لا بد أن تكون المرأة إحدى لحظات الفن التي تجسدت في كائنٍ بشريٍّ حتى يحيطها الحكيم بهذا السياج القدسي، إن عداءه للمرأة في صورتها النسبية الجزئية المحسوسة المباشرة، يرادف دفاعه عن الفن في صوره الكلية الشاملة المطلقة، فهو لم يكن رد فعلٍ للأدب الملتزم، ولم يتناقض معه. كذلك المرأة كلحظة فنٍّ متجسدةٍ، ليست نقيضًا للمرأة العاملة، ولكنها رد فعلٍ للمرأة الخواء من أية قيمةٍ رفيعةٍ، بل إن الفكرة المطلقة للفن، هي التي تقود الحكيم إلى إنسانية الأدب وعالميته، فهو لم يكتسب هذه الفكرة من الدعوة إلى العالمية التي تبناها بعض المفكرين الأوروبيين، مثل «ﻫ. ج. ولز»، ولكنه افترضها في محاذاة الفن المطلق، من هنا يثور على أن سفور المرأة قد سبق سفور الأديب في مصر، حتى إن جانبًا كبيرًا من أدبنا الحديث ما زال أدبًا حبيسًا تفوح منه رائحة الحجرة المغلقة، أدب صناعةٍ، وأدب «علب محفوظة» من التعبيرات المستعارة من خزائن الأقدمين، أما أدب الهواء الطلق، أدب التعبير عمَّا في أعماق النفس في حريةٍ وأمانةٍ وإخلاصٍ، أدب الحياة النابضة بتفاصيل المشاعر الآدمية: «هذا الأدب الخارج من القلب ليخاطب كل قلبٍ على وجه البسيطة، هذا الأدب العالمي الذي يؤثر في نفس كل أمةٍ وكل جنسٍ وكل آدميٍّ؛ لأنه ينبع صافيًا خالصًا حارًّا من قلبٍ آدميٍّ»، فإننا لا نكاد نعرفه (ص١٠٦ من المرجع السابق). على أن الحقيقة الفنية عند توفيق الحكيم هي أن العمل الفني مخلوقٌ جديدٌ، وكائنٌ مستقلٌّ عن ذلك الواقع الذي يعيشه الفنان ويزعم أنه رواه بحذافيره؛ لأن العمل الفني ليس مجرد المادة الأولية من الحوادث الداخلة فيه، ولا هو ذلك اللحم والدم الذي يكون منه جسمه (ص١٢٠)، وإنما هو بطبيعة الحال الفكرة المطلقة الدائمة التجاوز الأبدية التخطي، فكل فنٍّ عظيمٍ هو عملية إحياءٍ، هو «بعثٌ»: «كل فنٍّ عظيمٍ هو رد الروح إلى مشاعرَ غرستها السماء في نفوسنا يومًا» (ص١٢٣). أما الخيال في العمل الفني، فلا ينبغي أن يكون سوى وسيلةٍ من وسائل إعادة … على النقيض من اتهامات المتحذلقين والأدعياء، فهذا توفيق الحكيم يقول: «إن الأدب في مصر لم يكن إلى عهودٍ قريبةٍ غير حليةٍ عاطلةٍ في معاصم الأدباء … لقد كان يعيش هؤلاء الكتاب على هامش المجتمع فقط، بل على هامش حياة الآخرين من أصحاب الجاه والثراء … لم يكن الأدب في مصر إذن أداةَ تسجيلٍ وتوجيهٍ لشئون المجتمع، ولم تكن أقلام الكتَّاب أبواقًا توقظ النائمين، ولكنها كانت معازف ينعس على أنغامها المترفون» (ص١٩٣، تحت شمس الفكر). ومعنى ذلك أن صاحب الدعوة الفنية كان على وعيٍ تامٍّ بالارتباط الاجتماعي بينه كفنانٍ وبين مصر كمجتمعٍ، على غير النحو الذي قال به البعض في أوائل الخمسينات.١

على أن ذلك أيضًا هو المستوى النسبي للفن، الذي لا يتعارض عند الحكيم مع المستوى المطلق، فالفنُّ كفكرةٍ مطلقةٍ هو المعرفة الحدسية للكون، هو الرؤيا أو النبوءة التي يعبر الفنان والمتلقي بواسطتها الهوة بين الواقع والحلم، أي إنها المعبر الثالث لطريق الخلاص، يتجسد حينًا في قصةٍ أو قصيدةٍ أو مسرحيةٍ، ومن خلال هذا الجسد المرئي تتألق مشكلات المجتمع وهموم الإنسان الواقعية، ولكن الفكرة الفنية سرعان ما تتمدد كيانًا أثيريًّا مطلقًا بلا حدود.

ويوضح الحكيم معنى التفاعل بين مصر والحرية والفن بما نراه عند المصريين القدماء من سليقة المنطق الداخلي للأشياء، أو التناسق الباطني، أي القانون الذي يربط الشيء بالشيء، فجمال الأهرام — مثلًا — يقوم على ذلك التناسق الهندسي المحض، والقوانين المستنيرة التي قامت عليها تلك الكتلة من الأحجار «جمال عقلي داخلي» (ص٨٥، تحت شمس الفكر). هكذا يصبح الجمال أحد أشكال المعرفة، هو المعرفة الحدسية التي لا تجعل شيئًا على هذه الأرض يغري الفنان بالبقاء، إلا لكي يعرف «أنه يريد أن يعرف»، يعرف ماذا؟ يعرف ما لم تسمع به أذنٌ، وما لم تره عينٌ، وما لم يخطر على قلب بشرٍ: «تلك لذته الوحيدة التي بقيت له، وذلك هو الخيط الذي يربطه بالحياة» (ص٧٥، تحت المصباح الأخضر). وعندما يصبح الفنان نبيًّا أو قريبًا من الألوهية، يتجرد عند الحكيم من رداء جنسيته الزائل، ليدخل معبد الفكر الخالد، ويتكلم باسم تلك الهيئة الواحدة المتحدة التي تعيش الدفاع عن قيم البشرية العليا. (٨٢، نفس المرجع).

بل لعلَّ الفكرة المطلقة للفنِّ عند الحكيم هي التي تجسدت في «المرأة» (الروح) إلى تلك المشاعر الحقيقية «التي صنعها اللهُ»، وكادت تجرفها اللحظات الجارية لولا يد الفنَّان (نفس الصفحة). ومرةً أخرى، تلتقي مصر والحرية والفن عند الحكيم في وحدةٍ واحدةٍ لا تتجزأ حين يقول إنه مؤمنٌ كل الإيمان بأن جذور التمثيل «كفنٍّ بشريٍّ» ما نبتت إلا في أرض مصر، وإن مصدر التمثيل عند الإغريق والهنود، إنما هو في طقوس تلقين الموتى في مصر، وما كان يُتبادَل فيها من حوارٍ يجري بين الكاهن وبين شخصٍ يمثل الميت، ولعلَّهم أيضًا كانوا يمثلون في الأعياد الدينية يوم البعث والحساب والعقاب والميزان بكلامٍ مرتجلٍ أو موضوعٍ، ولم يكتفوا بتصوير هذه العقائد رسومًا على الحيطان (ص١٧٩ و١٨٠). هكذا تصبح مصر هي البعث، والبعث هو الحرية، والحرية هي الفن، وهكذا يصبح الماضي والحاضر والمستقبل وحدةً وجوديةً شاملةً لمختلف لحظات التجسد التي تمر بها الفكرة المطلقة، سواءٌ كانت مصر أو الحرية أو الفن، أو هذا الثالوث مجتمعًا كطريقٍ وحيدٍ للخلاص، يقول الحكيم: «أما أنا فليس لي ماضٍ قريبٌ، أمامي أن أنفذ إذن إلى ذلك الماضي السحيق الذي كادت تدوس معالمه رمال الزمن» (ص٥١ من المرجع ذاته).

وهو بذلك لا يجعل الفنان مجرد شاهد عصرٍ، وإنما هو — كما قال سلامة موسى — نبيٌّ له رسالةٌ.

وربما لا يكون توفيق الحكيم هو المفكر المثال للدعوة المصرية من حيث الإمكانيات الذاتية للفكر بشكلٍ عامٍّ، وربما لا يكون هو المفكر التقدمي النموذج للدعوة المصرية من الناحية الأيديولوجية بشكلٍ خاصٍّ — فإن سلامة موسى هو ذلك المفكر — ولكن توفيق الحكيم دون ترددٍ هو الفنان المثال لهذه الدعوة في تاريخنا الأدبي الحديث، فإن ريادته الفنية في هذا المجال هي التي أعطت «الرؤيا» في الفن معالمها الأساسية في لغتنا، وبذلك انتقلنا من عصر الأدب بمعناه اللغوي إلى فن الأدب وأدب الحياة، أدب «مصر» وأدب «الحرية»، ولقد أراد الحكيم أن يجعل طريقه الشخصي للخلاص — ممثلًا في الثالوث المطلق لمصر والحرية والفنِّ — طريقًا عامًّا، أراد أن يجعل من طريقه خلاصًا للفرد وخلاصًا للمجتمع، من هنا بلغ به الطموح الفلسفي درجته القصوى حين أخذ يعد المواد والخامات اللازمة لإقامة بناءٍ منظمٍ دعاه بالتعادليَّة.

١  راجع «نماذج فنية من الأدب والنقد»، لأنور المعداوي، ١٩٥١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤