المفكر التعادلي
صادفتنا في الفصول السابقة كلمةُ «التعادلية» ومشتقاتها في أوضاعٍ كثيرةٍ متنوعةٍ، ومعنى ذلك أن توفيق الحكيم كان يقصد بهذه اللفظةِ مدلولًا معينًا تناثر في معظم كتاباته الفنيَّة والنظريَّة على السواء، ولكن هذا المدلول لم يتحدد بصورةٍ مباشرةٍ إلا في كتابه «عصا الحكيم»، الذي نشره عام ١٩٥٣م، وقال فيه تحت عنوان «الله تعويذة الأمريكان» إن حضارة الإنسان يجب أن تقوم على قدمين ودعامتين من الفكر والإيمان، أي العقل والقلب، أو الدنيا والدِّين، أو مد نشاط الإنسان واهتمامه إلى ما هو أدنى وما هو أعلى، أي الحياة في عالمين؛ عالم المادة، وعالم الروح (ص٤٠). وفي مكانٍ آخر يقول تحت عنوان «لو حكم الفلاسفة» إنَّه لا بد في جهاز الإنسانيَّة من محركات الغريزة إلى جانب فرامل الحكمةِ (ص٧٧).
وليس في الكتاب بعد ذلك إلا تفريعات وتخريجات منثورة هنا وهناك عن المصدر الأصلي الذي وجد له متنفَّسًا حقيقيًّا عام ١٩٥٥م حين ألَّف كتابه المعروف بالتعادليَّة، حيث بلغت الفكرة عنده حينذاك درجةً عاليةً من الوضوح والتبلور سمحت له بأن يفترض أسسها نظامًا فلسفيًّا هو «مذهبه في الفن والحياة»، وما دام قد أصبح مذهبًا، فإنه لا يقتصر على الفرد، بل تستتبعه الدعوة والجهاد وجمع الأنصار حول المذهب الجديد. ولعلَّه من المفيد أن نقول منذ البداية إن الحكيم لم يقصد قط إلى تكوين مذهبٍ أو نظامٍ فلسفيٍّ بالمعنى العلمي الدقيق، فربما كانت كلمة «مذهب» لم تدخل بعدُ فكرنا الحديث إلا بمعناها المجازي البحت، أمَّا أننا نقصد مجموعة من الفروض النظرية التي تتسق في بناءٍ متكاملٍ مع مجموعةٍ من النتائج المنطقيَّة ذات النظرة الشاملة للعالم، فإننا لا نكاد نملك من هذا اللون من ألوان التفكير الفلسفي إلا درجاته الموغلة البدائيَّة التي ترسبت في كياننا الروحي أمدًا طويلًا، وباتت أقرب ما تكون إلى العاطفة الدينيَّة منها إلى النزعة الفلسفيَّة.
ومنذ نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تكتلت الجهود المضنية في إيجاد تيارٍ فلسفيٍّ أو تياراتٍ فلسفيةٍ، بعضها مستوردٌ توًّا من الغرب، وبعضها الآخر اجترارٌ لتراثنا القديم، وبعضها الأقل يحاول أن يتلمس طريقه من أرض الواقع الخام في تجريبيةٍ واضحةٍ، تمزج شيئًا من الغرب بشيءٍ من التراث بشيءٍ ثالثٍ من الواقع المرئي المباشر، وليس هذا تصنيفًا دقيقًا، ولكنه تعميمٌ مفرطٌ لذلك المناخ الفكري الذي عشناه طيلة قرنٍ كاملٍ، بين شدٍّ وجذبٍ من القديم والجديد. فقد كان المجتمع المصري إبان العقود الأولى من هذا القرن يعاني ويلات تكوينه القلق من العلاقات الإقطاعية والقيم الاستعمارية وآلام المخاض التي تجتازها الطبقة المتوسطة بما يرافقها من وعي بطيء، ولكن متعاظم، للعمال والفلاحين والمثقفين الثوريين، ومعنى ذلك أن الأرض المصرية كانت التربة الخصبة لجميع التيارات الفكرية التي هبَّت من وراء البحار، ومن كُتُب الأقدمين، ومن لحم ودم الطبقات الاجتماعية البازغة. ولا سبيل إلى الشك في أن هذه التيارات مجتمعةً قد تفاعلت مع بعضها البعض بالرغم من تنافرها الجذري الأصيل، كما لا سبيل إلى إنكار ظاهرة الاستقطاب التي اتضحت في أشكالٍ متعددةٍ، ولقد كان التفاعل والاستقطاب كلاهما الظاهرة الرئيسية في فكرنا الحديث، فنحن نعثر على الدعوة الاشتراكيَّة عند سلامة موسى جنبًا إلى جنبٍ مع الدعوة النيتشوية في كتابات نفس المفكر.
ومهما بلغت عملية الاستقصاء الذاتية لشخصية سلامة الإنسانيَّة، فإننا لن نجد تفسيرًا لهذا التفاعل بين أقطابٍ متنافرةٍ إلا في أرض الواقع الاجتماعي لبلادنا، فتراثنا لم يكن يستطيع أن يمهد التربة المحلية بالمذاهب المُعَدة سلفًا، التي تستطيع أن تنتقل بمجتمعنا من مرحلةٍ شديدة التخلف الحضاري إلى مرحلةٍ متقدمةٍ، ولم يكن في مقدور الحضارة الغربية أن تمنح حضارتنا عن طيب خاطر إكسير الحياة، واللقاء بيننا وبينها قد تم في مناخٍ غير صحيٍّ، هو لقاء الحضارة القاهرة بالحضارة المقهورة، وما كان الجمع الآلي بين حضارة الغرب والتراث المحلي ليثمر طريق الخلاص، فكان لا بد من دراسةٍ استكشافيةٍ للواقع المصري بأقلام العقاد وطه حسين وهيكل وسلامة موسى والمازني وغيرهم من أبناء الثورة الوطنية الديمقراطية التي قادتها الطبقة المتوسطة حينذاك، وهذا هو الوجه الآخر للظاهرة؛ الاستقطاب، فمهما كانت يسارية سلامة موسى، ويمينية هيكل والمازني، واعتدال طه والعقاد، فإنهم جميعًا وقفوا صفًّا واحدًا يحمل لواء الفكر المصري المتحرر من ربقة الجوانب السلبية في التراث والحضارة الغربية معًا، ويحاول أن يقيم «الوعي الحضاري المصري» المتكامل من تاريخنا الممزق عبر العصور الطوال، وكانت هذه العملية الشاقة جديرة بأن تثمر تيارًا فلسفيًّا جديدًا يضع أوصال مصر الفرعونية ومصر المسيحية ومصر الإسلامية ومصر العربية الحديثة في كلٍّ واحدٍ ممتزجٍ بأروع ثمار الحضارة العربية والتراث العربي، ولكن انتكاسة الثورة التي عبَّرت عنها معاهدة التهادن عام ١٩٣٦م أوقفت لسانها العظيم عن النطق بمبادئها وقيمها، مما أدَّى إلى توقف امتداداتها وتطوراتها، إلى أن انفصل جيل الثورة عن الثورة، وظهر الجيل التالي قبيل الحرب العالمية الثانية يحمل بين جنبيه حلقاتٍ جديدةً في الثورة الوطنية والاجتماعية، ولكنه يحمل أيضًا معالم دنيا جديدة تجاوزت عتبات عالم ما قبل الحرب، فقد تخطى العلم كافة المحاولات الاجتهادية لخلق فلسفاتٍ جديدةٍ تنبع من الأرض المحلية، وأصبح لزامًا لمَن يحاول أن يضيف جديدًا إلى التراث الفلسفي، أن يقف على قدمٍ واحدةٍ مع خطوات القدم الأخرى، قدم العلم، في مستواه الطبيعي والاجتماعي على السواء.
ولما كانت حضارتنا متخلفةً نسبيًّا عن أرفع مستوًى حضاريٍّ في العالم الجديد، الذي بلغت كشوفه ذرى العلوم الاجتماعية والتكنولوجية، فإن طموحنا إلى تغذية التراث الفلسفي برافدٍ جديدٍ قد حال دونه اختراق المسافة الحضارية الشاسعة بيننا وبين الحضارة العالمية، فقد بدأت الحرب العالمية الثانية حربًا استعماريةً، وانتهت حربًا تحريرية تُوِّجت بقيام النظام الاشتراكي العالمي. ومن ناحيةٍ أخرى، بدأ عصر الذرة بمأساة هيروشيما، ولكن ما أسرع أن تحول إلى أحلام «ولز» و«جول فيرن» في السفر إلى الفضاء!
وكان من الطبيعي أن يسقط الجيل التالي، أو جيل الوسط، في براثن الحرب، فتحُول نيرانها بينه وبين الهدف العظيم، ولكنه بلا جدالٍ أعاد اكتشاف جيل الثورة، وأصبح جيل الحرب أكثر تطورًا وتبلورًا وازدهارًا. غير أنه ما إن أقبلت ثورة ١٩٥٢م حتى كان جيلنا يشق الأفق نحو نظرةٍ جديدةٍ إلى مجتمعه والعالم، كانت الفكرة الاشتراكية قد انتقلت من سلامة موسى إلى جيل الحرب، فاتضحت معالمها الفكرية أكثر من ذي قبل. وجاء عام ١٩٥٢م يحمل نهاية حلقات الثورة الوطنية الديمقراطية، وبداية حلقات الثورة الاشتراكيَّة التي أعلنت عن نفسها في بداية الستينيات.
نحن إذن جيل الثورة الاشتراكيَّة الذي أعد نفسه من خلال الكتابات الوطنية والكتابات الماركسية، والأحداث المضمرة في باطن الأرض المصرية الحبلى بالثورة. ولا شكَّ أن ظلالًا من أفكار جيل الروَّاد كانت ما تزال عالقةً بوجداننا الثوري، كما أن رواسب عديدةً من أفكار جيل الحرب ما تزال كامنةً في روحنا المناضلة، بل إن آثار المدارس الأوروبية، كالوجودية والوضعية المنطقية، قد وجدت لنفسها مأوًى عاطفيًّا في بعض العقول التي لم تتجاوز وضعها الطبقي ذهنيًّا بأية صورةٍ من الصور، فحاولت عبثًا تأصيل هذه الاتجاهات المستوردة من مرحلة انحلال الغرب.
كاتبان فقط من الأجيال السابقة علينا، هما اللذان حاولا صُنع شيءٍ جديدٍ؛ سلامة موسى حاول اكتشاف الطريق المصري إلى الاشتراكية، وتوفيق الحكيم حاول ترميم البناء الفكري للبرجوازية من فضلات ثوريتها القديمة، حين كانت الدعوة المصرية تجسيدًا أمينًا لإحدى مراحل الثورة في تاريخنا الحديث؛ ولهذا السبب جاء كتابه «التعادلية» أقرب ما يكون إلى النداء الأخير للروح الثورية القديمة للطبقة المتوسطة، حتى تستطيع أن تواكب الركب الصاعد إلى الاشتراكية، كما جاء هذا الكتاب مجموعة من الخواطر المبعثرة حول الإنسان والحرية والفن والعدالة وما إليها، ولكنه لم يتحول قط إلى «مذهبٍ» أو «فلسفةٍ» إلا بالمعنى المجازي للكلمة، لا لأن الحكيم لا يستطيع أو لا يملك القدرة لأن يبني مذهبًا في الفكر، وإنما لأن الاشتراكية كنظامٍ عالميٍّ قد وضعت العالم أمام حالةٍ كيفيَّةٍ جديدةٍ لم يعد معها من الممكن «خلق» مذاهبَ جديدةٍ، وإنما يمكن إيجاد وجهات نظرٍ جديدةٍ ومتفرعةٍ عن المذهب الأصلي، سواء في ذلك وجهات النظر المتفرعة عن الاتجاه الاشتراكي في الفكر الحديث، وهو الاتجاه المعبر عن فكر الطبقات الكادحة، أو وجهات النظر المتفرعة عن فلسفات البرجوازية عبر تاريخها الطويل.
والحكيم كما قلتُ مرارًا هو أحد أبناء الثورة الوطنيَّة الديمقراطيَّة، ولكنه أيضًا لم ينتكس مع انتكاسة رواد جيل الثورة، وأصبح كما يقول لويس عوض رمزًا للجسر القائم بين ثورتين أو ازدهارين عظيمين، وهو لكي يكون جسرًا عظيمًا، لا بد له من أن يتفادى أسباب النكسة التي أطاحت بالعمالقة عن صدارة الركب الثوري المتقدم، ومن هنا تتسم محاولاته الفكرية أول ما تتسم بالاجتهاد الشديد والعرق الغزير الذي يتصبَّب باردًا على جبين راهب الفكر.
وأود الآن أن أعود إلى نقطة ابتداء، هي أن الحكيم لا يُنشئ مذهبًا في الفكر المصري، وإنما هو يستخدم هذا التعبير على سبيل المجاز، فثمة عنصران رئيسيان ينبغي التوقُّف عندهما وتوضيحهما قبل أن نتوغل في أدغال الحكيم الفكرية؛ العنصر الأول هو «معنى الفرض» النظري أو الفلسفي عند توفيق الحكيم، فهو يفترض أن الإنسان كائنٌ «متعادلٌ» ماديًّا وروحيًّا، وأنه يشترك مع كل الكائنات التي تحملها هذه الأرض المتعادلة، ومن كلمة «التعادل» هذه يفترض توازنًا ثابتًا غير متخلخلٍ — في الأحوال العادية — بين كافة مجالات الحياة، وفي مختلف مستوياتها.
والحق أن الحكيم بوضعه كلتا يديه على ثنائيات المجتمع والطبيعة، كان قد عرف أول الطريق إلى تفكيرٍ علميٍّ صحيحٍ في مجال المعرفة الإنسانية، فقد أمست تناقضات المجتمع والطبيعة منذ هيروقليطس في الفلسفة اليونانية حقيقةً أوليَّةً ينطلق منها كل فيلسوفٍ جادٍّ، إلى أن أمسكت بها الفلسفة الألمانية على يدَي هيجل فماركس. ولكن الحكيم في الوقت الذي وقف فيه مع بداية الطريق الصحيح كان قد بدأ المسير في منعطفٍ مسدودٍ من منعطفات هذه الطريق، ذلك المنعطف الذي يتراءى لنا من «التبسيط المذهل» لفكرة التناقض، للدرجة التي لا يلتقط معها سوى القشور السطحية المكبرة، كالليل والنهار في الطبيعة، والخير والشر في الأخلاق، والرجل والمرأة في الإنسان، إلى غير ذلك من «الثنائيات» كما دعوتها منذ قليلٍ، رافضًا تسميتها بالمتناقضات. والجانب الآخر من القشرة السطحيَّة هو الحركة البطيئة التي تقرب من الآلية أحيانًا، والسكون الحقيقي أحيانًا أخرى، لهذه السلسلة «المنطقيَّة» من الثنائيات.
هذا على الرغم من أن الفلسفة قطعت شوطًا بعيدًا في تصور التناقضات وحركتها في المجتمع والطبيعة، فليست التناقضات قاصرةً على المشاهد المكبرة من الكون، ولكنها تصل إلى أدق عناصره وجزئياته وذراته، وهي تمضي في حركةٍ جدليةٍ أبدية الصراع تمضي به من البساطة إلى التركيب إلى الأكثر تركيبًا، وتتحول به من الكمِّ إلى الكيف إلى الكمِّ من جديدٍ، إلى الكيف في مستوًى جديدٍ، ومن العام إلى الخاص إلى الأكثر خصوصيةً، وهكذا يحدث التقدم في جوهره العميق، سواء في الظواهر الطبيعيَّة أو في الظواهر الاجتماعيَّة.
فالفرض النظري إذن بأن الكون «متعادل» هو فرضٌ لا أساس له في أرض المعرفة الإنسانية، التي تجاوزت المفهوم الثنائي إلى مفهوم التناقض، كما تجاوزت الكون إلى الحركة.
أما العنصر الآخر، وهو البناء المنطقي للبحث، فإننا نتعرف عليه من التقاط الحكيم لمجموعةٍ من الظواهر، والحكم عليها بقانون التعادل المفترض. وبالرغم من فساد الفرض النظري وعدم صحته علميًّا، فإننا سنمضي مع هذه الظواهر التي طبق عليها «القانون» حتى نكتشف فساده للمرة الثانية عند التطبيق.
يقول الحكيم إن ثمة اختلالًا هذه الأيام في صميم العصر، فالقلق السائد على الأجيال المعاصرة مبعثه هذا الاضطراب في ميزان التعادل بين العقل والقلب، بين الفكر والإيمان (٢٦)، فأزمة الإنسان في هذا العصر هي عندي نتيجة اختلالٍ في تركيبه التعادلي.
والإنسان عند الحكيم — وفقًا لفكرة التعادلية — حرٌّ في اتجاهه، حتى تتدخل في أمره قوًى خارجيةٌ يسميها أحيانًا القوى الإلهية: «حرية الإرادة في الإنسان عندي إذن مقيدة، شأنها في ذلك شأن حرية الحركة في المادة» (ص٣٩). ويقفز إلى التساؤل: وهنا ينبغي أن نسأل العقل والعلم هذا السؤال المعضل: ما هي هذه القوى الخارجية؟ ويستعير من الوجودية تعبير «المسئولية والحرية»، ولكن بمعنًى مختلفٍ عن معنيَيهما في الفكر الوجودي، فالخير والشر هما الموجب والسالب في كهرباء العلاقات البشرية، والخير والشر في رأيه لا شأن لهما بالإنسان الفرد، ولا وجود لهما إلا بالمجتمع (٤٩). وليست السجون هي العلاج «التعادلي» للبشر، وإنما «أداء الخير للمجتمع» هو هذا العلاج المثمر، وعلى هذا الوضع يجب أن تُلغى السجون، ويُقام بدلًا منها مصانعُ وأدواتُ إنتاجٍ (ص٥٦). ووجود الخير والشر يؤدي إلى وجود الضمير، فالضمير عند الفرد هو الإحساس الذاتي بالذنب، أو هو شعور الذات بشرٍّ لحقَ الغير لم يُقدَّم عنه حساب. والضمير عند المجتمع يولِّد شعورًا مماثلًا بأن عدلًا ما نحو الغير لم يتحقق: «وهنا تقوم الثورات الاجتماعية لتصحح الوضع، وتعيد حالة التعادل التي تُسمَّى العدالة أو العدل الاجتماعي» (ص٦١). فلما استطاع الشعب في العصور الحديثة أن يحكم نفسه بنفسه، انشطرت قوته نفسها إلى قوًى مختلفةٍ في صورة أحزاب تتوازن وتتعادل كي تحتفظ بوجودها الضروري للتعبير عن إرادة مَن تمثِّلهم من طوائف الشعب. فإذا تغلبت طائفةٌ في النهاية وابتلعت كلَّ ما عداها من الطوائف والطبقات، واتحدت في قوةٍ واحدةٍ تشمل الدولة كلها، فإن هذه القوة أيضًا لا تلبث أن تولِّد قوةً أخرى خفيةً تعارضها وتجاهد في الظهور، وقد تُخنَق وتُكبَت وتُهزَم وتُخفِق، ولكنها لا بد يومًا أن توجد؛ لأن قانون التعادل الذي نرى مظهره في الشهيق والزفير هو الذي يعمل هنا أيضًا، ونرى مظهره في وجود «حركة تُوازِن حركة … لأن هذا هو شرط الحياة» (ص٦٢). من هنا كان العرض والطلب هو القانون التعادلي في مجال الاقتصاد، كما أن قانون رد الفعل، والتعويض، هما المحركان لجهاز التعادل، فقوة العمل التي تمثل «التنفيذ» تخشى وتكره دائمًا قوة الفكر التي تمثل «النقد والتوجيه»، وإذا ما تحول الفكر السياسي إلى عملٍ سياسيٍّ «منظمٍ في حزبٍ» فقدَ جوهره (الحرية)، وتحوَّل إلى نقيضه الذي لا سبيل إلى اللقاء معه؛ «العمل». ويحذرنا الحكيم تحذيرًا مطولًا من أن نفهم كلامه على غير النحو الذي يقصده فيقول: «لا … استقلال الفكر شيءٌ والانعزال شيءٌ آخر، المنعزل لا يتأثر ولا يؤثر، فهو شيءٌ غير كائنٍ بالنسبة إلى الغير، أي المجتمع، والفكر الذي ينعزل عن العمل شأنه شأن الفكر الذي يبتلعه العمل، كلاهما لا وجود له، إنما المقصود باستقلال الفكر هو أن يكون له كيانٌ خاصٌّ وإرادةٌ خاصةٌ في مواجهة العمل، حتى يستطيع أن يتأثر به ويؤثر فيه» (ص٧٥). ولعل اختلال التعادل بين قوة الفكر وقوة العمل هو محور المأساة البشرية في العصر الحديث (ص٧٩). هكذا التعادلية في الفن؛ فالحرية هي نبع الفن، وإذا كان الوجه الأول للفن هو التعبير، فالوجه الآخر هو التفسير: «وتفسير حياة شعب معناها اتخاذ رأيٍ معينٍ تجاه هذا الشعب» (ص١٠٣). وإذن فهناك التزام في التفسير، وليس هناك التزام في التعبير، واختلال التعادل بينهما إما أن يؤدي إلى الفن للفن، أو إلى الواقعية الاشتراكية. الفن للفن ابتلاع الشكل للمضمون، والواقعية الاشتراكية ابتلاع المضمون للشكل.
ويختتم توفيق الحكيم كتابه عن «التعادلية» بقوله: إن مسئولية المفكر الحر الحقيقية إنما هي أمام نفسه وحدها لا أمام حزبٍ من الأحزاب ولا حاكمٍ من الحكام، وإن المفكر الذي يترك مكانه لينضوي تحت لواء سلطة العمل الممثل في حزبٍ أو حاكمٍ هو مفكرٌ هاربٌ من رسالته، وإن هذا الهروب إلى معسكر الساسة والحاكمين هو الذي جرد الفكر من سلطانه، وجعل منه تابعًا لا متبوعًا: «ولم يخطر في بالي قط أن أعزل الفكر عن أي نشاطٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ، فالعزلة التي دعوت إليها هي العزلة عن السياسيين لا عن السياسة، وعن الأحزاب لا عن المجتمع، فالفكر في كل ألوانه من أدبٍ وقصصٍ وفنٍّ يجب في نظري أن يُعنَى بكل ما يجري ي مجتمعه وعصره من شئون السياسة والاجتماع؛ لأنه ما دام يُعنَى بالبشرية، وما دامت البشرية متصلةً بالسياسة والمجتمع، فلا بد للمفكر أو الأديب أو الفنان أن يعيش عصره كلَّه ومجتمعه كله بما فيه من شئونٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ» (ص١١٤).
إنَّ الملاحظة الأولى على عنصر «البناء المنطقي للبحث» في كتاب التعادليَّة، هو التعميم، ولعلَّه أحد عناصر «تجربة الذهن» التي عاشها راهبُ الفكر المعتزل في البرج العاجي، هذا التعميم يجعل من كلمة «العقل» أو «القلب» التي يستخدمها الحكيم شيئًا بلا معنًى أو بلا دلالةٍ اجتماعيةٍ؛ ذلك أن العقل الإنساني له إطاره التاريخي الذي لا يُعرف إلا به، فالعقلُ البدائي يختلف عن العقل العبودي عن العقل الإقطاعي عن العقل البرجوازي عن العقل الاشتراكي، وبالرغم من أن هذا التقسيم نفسه لا يخلو من التعميم، إلا أنه تعميمٌ من أجل التقريب الواقعي لا من أجل الفكرة المطلقة، فالعقلُ عند الحكيم تركيبٌ ميتافيزيقيٌّ مطلقٌ، وكذلك العلم، بل إنَّ العلم عنده هو المستوى الفيزيقي أو التكنولوجي فحسب، أما العلم الاجتماعي، فليس له شأنٌ عند الحكيم؛ ذلك أن عملية التصنيف لا يقيمها على أساس الاتصال والتفاعل، بل على أساس الانفصال والتجاوز، وهذا هو جوهر الفكرة التعادلية التي تقوم على التناقض الشكلي المحض، فتصبح حركتها أقرب إلى السكون أو أقرب إلى الدورة الآلية الميكانيكيَّة. التاريخ يُعيد نفسَه، وكلُّ شيءٍ إذن يُعيد نفسَه، وبالتالي فلا تغير حقيقي هناك. فكل شيءٍ يأخذ مكانه الآن سوف يأخذ نفس المكان غدًا، وليست الحركة داخل الزمان حركةً حلزونيةً أو لولبيَّةً، ولكنها حركةٌ دائريةٌ منتظمةٌ تعيد كلَّ شيءٍ إلى مكانه المقدر له منذ البدء، وهذا هو الثبات الأعظم، أو السكون الأبدي، بل هذه هي نقطة الانطلاق الغيبية في تفكير الحكيم التي افترضت جمود الواقع مضمونًا، وتحوُّله شكلًا، وهو تفكيرٌ طبيعيٌّ لابن الطبقة المتوسطة التي تفترض بدورها خلودها فوق عرض السلطة.
فالصورة المطلقة من قيود الزمان والمكان، للعقل والعلم، هي التي توالدت فيما بعدُ وأفرخت الفصل المتعسف بين العقل والقلب، أو بين الفكر والعمل، أو بين الالتزام والحرية، فالعقل المطلق يدور فلكيًّا مع القلب دورةً أهليةً أو ثورةً اجتماعيةً، فكلٌّ منهما له «منطقة حرام» تمتنع على الآخر، منتظمة، إذا أصابها الخلل دعوناه كسوفًا أو خسوفًا، مدينة فاضلة أو حربًا تجاوزها، تمامًا كدوائر الحرية عند توما الأكويني التي تتلاصق ببعضها البعض، ولكنها لا تتداخل فيما بينها على الإطلاق، هو التصور السكوني للعالم، للزمان والمكان والإنسان، فالعاطفة البشرية هي الانفعال الذاتي لوجدان الفرد منذ بدء الخليقة، والعقل الإنساني هو الإدراك الذهني لتفكير الفرد منذ بداية التاريخ، وهكذا لا يتغير سوى الشكل من المجتمع العبودي إلى المجتمع الحديث، أما الجوهر أو المضمون الإنساني فثابتٌ خالدٌ ثبوت القوى الخارجية التي أودعته طينة البشر وخلودها، والشكل البشري هو الجسد، والمضمون هو الروح، الأول مصيره إلى زوال الشكل، والآخر مصيره إلى خلود الجوهر وتوحده مع الينبوع الأسمى، هكذا تنتهي التعادلية إلى أحد الألوان الأخلاقية المفرطة في المثالية، تكاد تلامس «الوجد الصوفي» الذي سبق أن لامسناه في الثالوث؛ مصر والحرية والفن، بل أكاد أقول إن الجانب «المطلق» في هذه العناصر الثلاثة، قد تجمَّع وتوحَّد وتبلور في مطلقٍ واحدٍ دعاه الحكيم خطأً بالتعادلية، وكان الأجدر به أن يدعوه بالسكونية.
وهكذا تؤدي «الثنائيات» إلى الطرف الأقصى المقابل لصراع المتناقضات، الثنائيات تؤدي إلى الانفصال والثباتية والسكون، والمتناقضات تتصارع وتتفاعل وتلتحم ببعضها البعض في حركةٍ دائبةٍ مستمرةٍ تؤدي إلى تغير الظاهرة شكلًا ومضمونًا، ومهما كان خطأُ هيجل فادحًا عندما تصور الفكر سابقًا على الواقع، فإنه سيبقى له الفضل العظيم في ريادته للفكرة الجدلية العميقة في إطارها المثالي، فقد تصور حقًّا الفكر سابقًا على الواقع، ولكن متحققًا فيه، وما كان يمكن أن يتم ذلك في فلسفة هيجل إلا عن طريق صراع المتناقضات، التي تؤدي إلى «تركيبٍ» يختلف كمًّا وكيفًا عن شكل الظاهرة ومضمونها في الصورة السابقة على المستوى الجديد من الصراع. من هنا كان الكشف العظيم لماركس أنْ وضع الفكرة الهيجلية عن الجدل في إطارها المادي، فجعل الواقع سابقًا على الفكرة ومصدرًا لها.
ومنذ هيرقليطس إلى ماركس، مر الجدل بتطوراتٍ عديدةٍ في محاذاة التطور الحضاري للمجتمع الإنساني، لم يستلهم منها الحكيم سوى المعنى القريب والمباشر لفكرة التناقض، التي ما عنت عنده سوى الازدواج والثنائية، وهذا يوضح حقيقةً هامةً، هي أن تعادلية الحكيم ليست استيرادًا غربيًّا محضًا، وبعبارةٍ أدقَّ، ليست تقليدًا آليًّا ومحاكاةً حرفيةً لإحدى الفلسفات البرجوازية في الغرب، إنه قد يقتطف زهرةً من هنا وشوكةً من هناك، ولكنه يغرس هذه وتلك في تكوينه الذاتي والموضوعي، فتثمر شيئًا جديدًا لا علاقة له إلا بألفاظ العقل والعلم والديمقراطية والالتزام، وما إليها.
وكذلك فإني أستبعدُ تأثُّر الحكيم بأيٍّ من تيارات الفكر المصري الحديث التي تبلورت إلى حدٍّ ما في أصولٍ غربيةٍ، كالوجوديَّة والوضعيَّة المنطقيَّة والماركسيَّة، وفي هذه النقطة بالتحديد تتجلى فكرة الحكيم بشأن إيجاد فلسفةٍ أصيلةٍ مستمدةٍ من كياننا الروحي، أي فسلفة مصرية، وقد غاب عن ذهنه تمامًا أن إمكانية إيجاد مثل هذه الفلسفة يقرب من المستحيل، على العكس من إمكانية تحققها في الأدب والفن، بل ربما كان نجاح الحكيم في تصوير الفكرة المصرية أدبًا وفنًّا، هو الذي قاده إلى محاولة تصويرها بناءً نظريًّا أو فلسفيًّا، لقد غاب عنه بالتأكيد أن ارتباط الفلسفة بالعلم في العصر الحديث يجعل من العسير على حضارةٍ متخلفةٍ نسبيًّا عن حضارة العلم أن تثبت فلسفةً جديدةً، فالعلم يحتم على الفلسفة أن تتجاوز النظرة المحلية إلى الأشياء، إلى النظرة العالمية، والعلم يقول إن النظرةَ العالميةَ الشاملةَ في عصرنا هي الاشتراكية التي توطدت دعائمها النظرية بالفعل، وليس أمام الشعوب المتيقظة حديثًا إلا الاجتهاد الخصب المثمر في اكتشاف طريقها الخاص إلى الاشتراكية، هذا إذا كان المفكر قد ارتبط تاريخيًّا ونضاليًّا بالفكر الاشتراكي. أما توفيق الحكيم فقد تبنَّى تفكير الطبقة المتوسطة بشكلٍ عامٍّ، أي ليس كما هو متحققٌ بالفعل في فلسفات البرجوازية الغربية، وليس كما هو منقولٌ إلى الفكر البرجوازي المصري، وإنما هو قد جمع بعض الجوهريات الثابتة في الفكر البرجوازي، كفكرة الديمقراطية وفكرة العقل وفكرة الأخلاق، ثم أضاف إليها تأملاته الذاتية القريبة من مستوى «الفن» منها إلى البحث الفلسفي المجرد، فجاءت التعادلية مجموعة من الخواطر التي سبق أن طالعناها مبعثرةً، وأضحت الآن على درجةٍ ما من التبلور.
هي إحدى ثمار الطبقة المتوسطة، بمعنى أن التعميم، كعمودٍ فقريٍّ لوجهة نظرٍ ما، يقود بالضرورة إلى ثبات الوضع القائم اجتماعيًّا وإن اختلفت «أشكاله» السياسية الممثلة في الأحزاب، وهي أيضًا إحدى ثمار الطبقة المتوسطة، بمعنى أن «الأخلاق» كسلوكٍ بشريٍّ تتعلق بمجموعةٍ من القيم المجردة عن العلاقات الاجتماعيَّة والواقعيَّة.
ولكنها أيضًا تعبيرٌ أمينٌ عن تجربة الذهن في حياة راهبِ الفكر، فالتناقض عنده بين الفكر والعمل، هو النتاج الطبيعي لتجربة الذهن، والمنطلق السكوني في مجال الفكر، فلو أن منطلق الحكيم هو التصور الجدلي لعلاقة المعرفة بالواقع، سواءٌ كان هذا التصور ماديًّا أو مثاليًّا، لكان التناقض بين الفكر والعمل قابلًا للحل، ولكن الحياة الفكرية داخل إطار تجربة الذهن والمنطلق المسكوني تقيم حاجزًا أبديًّا بين الفكر والعمل. التصور الجدلي لعلاقة المعرفة بالواقع يغني المعرفة بالواقع، فيضيف إليها تراكمات التجربة الفعلية، التي تؤدي بدورها في المدى البعيد إلى تغيرٍ كيفيٍّ أكيدٍ في مستوى المعرفة. كذلك يحدث العكس في نفس اللحظة فيغتني الواقع الخام بالمعرفة الواعية ويحدث التزاوج الخصب المثمر بينهما، فتتعدد أبعاد الواقع، وتتزايد جوانبه الإيجابيَّة، وتقل الجوانب السلبيَّة، وهذا هو الفهم العلمي الدقيق لمعنى الإرادة الإنسانية، فليست الحريةُ إلا الوعي بقوانينِ الضرورة المضمرة في الطبيعة والمجتمع. ولما كان الوعي عنصرًا إنسانيًّا متطورًا، كانت إرادة الإنسان ذات الفعالية الحقيقية هي الومضات المشعة من التحام الفكر بالواقع، لا باستقلال كلٍّ منهما عن الآخر، وليست الأحزاب وكافة أشكال النضال الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلا مواد اللحام أو همزات الوصل بين الفكر والعمل، وأكاد أقول إن التنظيم السياسي هو أحد أشكال الفكر، وبالتالي فهو سلاحٌ في يد المفكر لا قنبلة تهدده بالانفجار والتلاشي كما تصوَّر الحكيم.
كذلك علاقة الشكل بالمضمون في الأدب والفن، فليس الفصل بينهما إلا وليدًا للتصور الأرسطي القديم لمعنى الأدب، هذا المعنى الذي تسلط على فلسفات الجمال قرونًا طويلةً، وما يزال يلقي ظلالَه على عصرنا إلى الآن، بل لقد بلغت سطوة أرسطو ومفهومه الشكلي أن بدأت بعض الفلسفات المعادية في جوهرها لأرسطو تُغيِّر من جلدها بحيث لا تتلاءم معه شكلًا، ولكنها تنتهي إلى الاتفاق الجوهري معه مضمونًا.
والحقُّ أن الشكل في الأدب ليس هو الإناء والمضمون هو الماء بداخله، كما أنه ليس بالهيكل العظمي والمضمون هو اللحم الذي يكسوه والدماء التي تسري في شرايينه تمده بالحياة، فالشكل والمضمون تعبيراتٌ مجازيةٌ يجب أن نتخلص منها سريعًا؛ لأن أجيالًا جديدةً بازغةً ينبغي عليها أن تنشأ في جوٍّ مطهرٍ من رواسب المفاهيم الشكلية، فالعمل الأدبي هو مجموعةٌ من العناصر النفسيَّة والاجتماعيَّة والتاريخيَّة والذهنيَّة، تشابكت فيما بينها على نحوٍ غاية في التعقيد، وبالتالي قد يكون الشكل بمعناه القديم عنصرًا جوهريًّا من عناصر المضمون، والعكس صحيحٌ أيضًا، ومن ثَم تصبح جميع العناصر في تفاعلٍ دائبٍ مستمرٍّ يغيِّر من هيكل المستوى الفني والمعرفة الفنية في كلِّ لحظةٍ، بحيث لا يُبقي على شكلٍ بمفرده ولا مضمون بمفرده يمكن الحكم على أحدهما بابتلاع الآخر كما تصوَّر الحكيم، فالفن للفن ليست ابتلاعًا شكليًّا للمضمون، وإنما هي في ذاتها مضمونٌ فنيٌّ، والواقعية الاشتراكية ليست ابتلاعًا مضمونيًّا للشكل، وإنما هي في ذاتها شكلٌ من أشكال المعرفة، هذا التداخل العميق والمعقد بين الشكل والمضمون لا يعني إلا شيئًا واحدًا، هو فساد الفكرة الأرسطية المتسللة إلينا عبر العصور.
وكذلك الحرية والالتزام، فما دام المفهوم العلمي للحرية هو الوعي بالقوانين المضمَرة في الكون، فإن الالتزام حينئذٍ بهذه القوانين يصبح أمرًا شبه محتَّمٍ، لا سبيل إلى الخلاص منها إلا بالأحلام الميتافيزيقية أو الجنون أو الانتحار، وما دام المفهوم التاريخي للحرية يمضي في خطٍّ موازٍ للتقدم الإنساني، فلا سبيل أمام الكاتب الحر إلا أن يلتزم بخطوات هذا التقدم، أو يتخلف عن الركب مولولًا على أمجاد الماضي، فثمة «وحدة نسيج» من الالتزام والحرية، لا علاقة لها بالعصر الحديث ومذاهبه ومؤسساته الحزبية، كلُّ ما يمكن أن يضيفه عصرنا هو المزيد من الوعي، وبالتالي المزيد من الحرية، حينذاك لا تتجسد الحرية في برجٍ من العاج يعتزل فيه راهبُ الفكر بعيدًا عن «الغوغاء» أو «الدهماء» أو «الرعاع»، فتلك هي التسميات الحقيقيَّة التي يجب أن تحلَّ مكان الأقنعة التي دعاها الحكيم بالأحزاب والمنظمات السياسيَّة.
هذه الملاحظات كلها تنضوي تحت لواء ما أسمِّيه بالتعميم في تفكير توفيق الحكيم. بقي الجانب الآخر الذي أسميته بالنظرة الأخلاقيَّة، هي النظرة التي تتولَّد نتيجةَ تراكماتٍ كميةٍ للقيم الأخلاقيَّة على طول الزمن. ترفض هذه النظرة التصنيف التاريخي للقيم كعلاقةٍ اجتماعيةٍ قابلةٍ للتطور من عصرٍ إلى آخر وفق مجالات النظام الاجتماعي، فليست «الأخلاق» قيمًا مطلقةً نهائيةً، ولكنها تتلون بألوان النبات الاجتماعي، سواءٌ كان طبقةً أو فئةً، أو أفرادًا، وسواءٌ كانت الأرض الاجتماعية، هي مزرعة الإقطاعي أو مصنع البرجوازي.
إن غياب معنى الجدل عن تعادليَّة الحكيم أحالها إلى سكونيةٍ غامضةٍ، لا تُقدِّم حلولًا واقعيةً من جانب «الفكر» المصري إلى «العمل» الثوري. وأعتقد مخلصًا أن الحكيم قد تعسف مع نفسِه حين تصور هذه «الفكرة التعادلية» هي محور أعماله الفنيَّة. ولعلَّ الإنصاف يقتضي أن نكتشف الأفكار المحورية في هذه الأعمال، ولكن هذا الإنصاف أيضًا يقتضينا أن نكتشف ظلالَ هذه «الفكرة» على تطبيقات الحكيم لها في الواقع العمليِّ المباشر.