الفصل الخامس

المفكر السياسي

تقع أهمُّ كتابات الحكيم السياسيَّة «تاريخيًّا» في أكبر الفترات حرجًا من تاريخ مصر الحديث، إذ هي تبدأ قبيل الحرب الأخيرة مباشرةً (١٩٣٨م)، وتكاد تنتهي عام ١٩٤٨م، أي قبل الثورة بأربعِ سنواتٍ تقريبًا. ومعنى ذلك أن عشر سنواتٍ كاملةً مرت بها مصر والعالم بأحداثٍ جِسامٍ كان توفيق الحكيم خلالها كاتبًا دءوبًا على متابعة هذه الأحداث متابعةً عمليةً مباشرةً، فبالرغم من أنه لم ينضوِ تحت لواء حزبٍ من الأحزاب، إلا أنه كان أكثر نشاطًا من كُتَّاب هذه الأحزاب الذين احترفوا الكتابة السياسية، بينما كان الأدب إحدى هواياتهم.

وكانت أولى المشكلات التي صادفت الحكيم عند عودته من أوروبا هو «النظام السياسي»، أو شجرة الحكم كما أسماها في مجموعة الأحاديث التي نشرها عام ١٩٣٨م، فهو ثائرٌ على النظام البرلماني في مصر، ويسميه الأداة الصالحة لتخريج الحكَّام غير الصالحين. على أن نقده العنيف للنظام النيابي لا يعني أنه يطالب بإلغائه، فزوال هذا النظام من عالمنا — يقول الحكيم — يُفضي إلى مشكلاتٍ لا حلَّ لها؛ لأن هذا النظام ليس تدبيرًا متعسفًا فرضته إرادةٌ معينةٌ في وقتٍ معينٍ، وإنما هو نتيجةٌ طبيعيةٌ لتطور فكرة السلطة الشرعية منذ فجر التاريخ (ص٧، ١٥، ١٦ من شجرة الحكم).

ويصور رئيس الوزراء في أحد فصوله الحوارية كآمرٍ ناهٍ يُعيِّن ويَفصل ويُحيل إلى المعاش، ويعطي ويمنع، ويطلق اليد في الميزانية والمصاريف السرية، ويتزاحم حوله ذباب المحاسبين والمقربين، حتى إذا ما استقال أو أُقيل تخاطفته مجالس إدارة الشركات (ص٣٢، ٣٣). ولا بأس من إنشاء بعض المطاعم للفقراء، وإن لم يكن الغرض منها إطعام الفقراء (ص٣٨). ويردد أحد أصحاب المعالي في نفس الفصل الذي أقامه الحكيم في الآخرة: «الشوك هو المسئولية، وفاكهة الحكم كما ذقناها في مصر لم يكن لها شوكٌ ولا نوًى، بل كانت سهلةَ المأخذ سائغةَ المأكل» (ص٤٢).

وينفض يده من عملية «الانتخاب» كمظهرٍ ديمقراطيٍّ في البلدان المتحضرة، فهو يذكر قول هتلر: قد يكون من الأيسر أن نأمل رؤيةَ جملٍ يمرُّ من ثقب إبرةٍ، على أن نأمل في رؤية رجلٍ عظيمٍ يُكتشف عن طريق انتخاب الجماهير. فيردُّ صاحب المعالي كما تصوره الحكيم: هذا قولٌ يجوز في ألمانيا وأوروبا، أما في مصر فمَن قال إن الشعب أو الجماهير تنتخب أحدًا (ص٤٥). فالمسألة بسيطةٌ: جمع الأصوات وجمع الدودة إن هما إلا عملية واحدة في أرض مصر (ص٤٦). ويصوغ الحكيم مدى الضلال الذي يغرق فيه الشعب للدرجة التي معها تنطلي عليه الخدعة، فيقيم التماثيل لأولئك الذين سلبوه كل شيءٍ باسم الديمقراطية (ص٤٨)؛ لأن الناس في مصر — وكان اليأس بدأ يعرف طريقه إلى قلب الحكيم — هم قصيرو النَّظر، «ولن يروا المبادئ إلا إذا ارتفعت فوق الكراسي» (ص٥٥).

وما إن يستولي عليه اليأس تمامًا حتى يفرض تناقضًا ضخمًا بين المبادئ والسلطة، فيجعل الزعيم (في فصلٍ حواريٍّ آخر يستلهم فيه شخصية سعد زغلول) يقول: إن غلطتنا الكبرى هي قبولنا الحكم، فعبقريتنا الحقيقية كلمة «الأغلبية المطلقة»، فكدنا ننزلق إلى نوعٍ من حكم الطغيان، لا يمكن أن تقرَّه مبادئنا ولا ماضينا الديمقراطي النزيه (ص٥٩).

تلك هي أهم آراءِ الحكيم السياسية التي بلورها في فصولٍ تمثيليةٍ نُشرت لأول مرةٍ عام ١٩٣٨م، ثم نُشرت بعد ذلك بين دفتَي كتابٍ، وهي آراءٌ أقرب إلى الانطباعات السريعة لذلك الفنان القادم من أوروبا يحمل في مخيلته صورًا لامعةً لمعنى الديمقراطية والعمل السياسي، صورًا هي في الأغلب نتاج المزاوجة بين التراث الديمقراطي المغربي كما تحكيه الكتب، والتراث الحضاري كما ترويه المتاحف، ولم تَخرج حياةُ الحكيم في باريس عن هذا الإطار «الثقافي» في معظمه، والابتعاد التام عن خضم الحياة السياسية الحقيقية التي واجهت ذروة الأزمة في أتون الحرب العالمية الأولى، فقد آذنت نهايةُ القرن التاسع عشر بنهاية «العصر الذهبي» للرأسمالية بمضمونها الديمقراطي واقتصادها الحر، وبدأت عصرًا جديدًا هو عصر الاستعمار بعد أن بلغت تراكمات التركيز والتركز بالاحتكارات، مرحلة كيفية جديدة تقف حائلًا صلبًا ضد الديمقراطية والاقتصاد الحر. وقد عبرت المرحلة الجديدة عن نفسها تعبيرًا مباشرًا في النازية والفاشية اللتين ظهرتا في مجال السياسة الدولية كتتويجٍ أصيلٍ لنهاية العالم «الحر»، وبداية الدكتاتورية العسكرية والعنصرية كوجهٍ آخر للعُملة الاستعمارية.

ولقد كان الاستعمار أحد العناصر الرئيسية التي أسهمت في زيادة حدة تخلفنا الحضاري وغياب التقاليد الديمقراطية عن أسلوب الحُكم في بلادنا، وهذه هي النقطة الأخيرة التي لم يتنبه إليها الحكيم إلا في صورة انطباعاتٍ عاجلةٍ، تناولت القشرة الخارجية في حياتنا السياسية دون التوغل في جذور هذه «الشكلية» لدولاب الحكم النيابي عندنا، فالتناقض بين المبادئ والسلطة، وبين السلطة والمسئولية، وبين المسئولية والشعب، كلها وليدة تاريخٍ طويلٍ من العبودية في مختلف صورها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هذه العبودية التي تبدَّت في تخلفٍ حضاريٍّ رهيبٍ، وانعدام التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحُكم، فليس الفرق الكائن بيننا وبين الغرب في ذلك الوقت فرقًا شكليًّا بين الصورة الحضارية اللامعة التي عاشها الحكيم في باريس، والصورة الشائهة التي استقبلته في مصر كما يذهب البعض،١ لقد كان الفرق فرقًا حضاريًّا كاملًا بين حضارةٍ قاهرةٍ وحضارةٍ مقهورةٍ، وفي ظِل الحضارة المقهورة تفرخ أبشع الأنظمة الرجعية العفنة التي لم يرَ الحكيم في شبابه الباكر سوى طلائها السطحي وقشرتها الخارجية، فالنظام الدستوري الذي أعقب ثورة ١٩١٩م كان كسبًا تقدميًّا لا شك فيه، ولكن الهيمنة الاستعمارية للاحتلال البريطاني، والسطوة الاستبدادية للرجعية المحلية ممثلةً في العرش وكبار الملاك؛ دأبت هذه القوة مجتمعةً على سرقة واغتصاب مكاسب الشعب الديمقراطية، فابتُلينا حينًا بزيور، وحينًا آخر بمحمد محمود، وحينًا ثالثًا بإسماعيل صدقي، إلى آخر هذه القائمة التي نزعت دستور ١٩٢١م من محتواه الديمقراطي، وحاولت الانقلاب الدستوري عام ١٩٣٠م، وبين التاريخين كان البرلمان يُغلَق يوم افتتاحه، وتظلُّ البلاد بغير دستورٍ ثلاث سنواتٍ متتاليةٍ، وتُعطَّل عشرات الصحف، وتُلغى مئات الاجتماعات، وتُضرب آلاف المظاهرات بالرصاص. لقد كان هؤلاء الحكَّام الذين سخر منهم الحكيم من ألدِّ أعداء الديمقراطية، فلم تكن الديمقراطية إلا ضحيةً يُعتدى عليها، كما لم تكن جماهير الشعب المصري إلا ضحيةً أخرى. غير أن نضال هذا الشعب لم يتوقف لحظةً واحدةً عن إحراز المكاسب الثورية، وإن ظلت في مستوى التراكمات الكمية التي لم ترتفع إلى مستوى التغير الكيفي إلا في لحظات الانفجارات المتوالية، التي لم تنقطع على طول تاريخنا الحديث.

ولعلَّ اهتزاز ثقة الحكيم في الديمقراطية من ناحيةٍ، وفي الشعب المصري من ناحيةٍ أخرى، هو أنه قد عاش عمره في نطاق «تجربة الذهن» التي تشاهد معالم الحضارة الغربية في قمتها الفكرية والفنية، ثم تشاهد ملامح حضارتنا في حضيضها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، ثم يعقد مقارنته الظالمة التي تقوم أساسًا على الإطلاق والتعميم دون التحليل والتفصيل. وقد وصفت مقارنته بالظلم لأن هجومه العنيف على النظام البرلماني والأحزاب السياسية، كادت تفلت سهامه الحادة لتصيب الديمقراطية نفسها، وأكثر الأحزاب قربًا من الشعب، ومن هنا لم تجئ تلك الفصول التمثيلية التي نشرها الحكيم عام ١٩٣٨م بالثمار الإيجابية المرجوة من قلب شابٍّ وطنيٍّ متحمسٍ لرقي بلاده كتوفيق الحكيم. وربما كان من المفيد القول بأن كتابات الحكيم النظرية بشكلٍ عامٍّ، وكتاباته السياسية بشكلٍ خاصٍّ، تتميز بالعموميات الشديدة، فتناقش الهياكل المجردة من اللحم والدم، وتعتمد على الأبنية الهندسية بأشكالها المتوازية أو المتناظرة أو المتناقضة، هذا المنهج السهل يؤدي بدوره إلى نتائجَ سهلةٍ، غير أن مقدماته «العامة» لا تتدبر التعاريج والمنعطفات التي لا تخضع للمنطق الشكلي في الفكر السياسي، كما أنها لا تتقصَّى الخفايا المستترة في جوف الحركة الاجتماعية، والتي لا تتضح لمَن يراها من الخارج، وهذه كلها من نواتج تجربة الذهن التي عاشها الحكيم في برجه العاجي، وتلك إحدى نتائج ثورة المعتزل في صورتها السلبية، فهو قد يرى أنه يقف فكريًّا في صفٍّ واحدٍ مع مبادئ حزب الوفد، ولكنه يقشعر إذا ما اعتلى الوفد عرش السلطة؛ ذلك أنه لا يتصور الفكر في مجال التحقيق إلا شيئًا ملوثًا بالمطامع والأهواء والرغبة في التسلط، أما الفكر المجرد عن شبح السلطة، فهو الفكر الحقيقي الأصيل، إذن فلا مجال لالتحام الفكر بالواقع، وإنما يمضي كلٌّ منهما في دورةٍ آليةٍ مستقلةٍ عن الآخر. ويتحول الفكر إلى أحلامٍ تقترب من بناء المدينة الفاضلة في أحسن الأحوال، ولا يصل مداه إلى دائرة العمل من أجل تحقيقه.

لهذا السبب تصاحب فكرة الدورات المنفصلة توفيق الحكيم (١٩٤١م) في كتابه «سلطان الظلام»، حين يضع يده على إحدى مصائب القرن العشرين؛ الحرب العالمية الثانية، فيقول إن كنيسة العلم الحديث بكرادلتها الرأسماليين تفتح أبوابها على جهنم الغرائز الأولى: «نعم … نحن في نهاية الدائرة … أسوف ندور دورةً أخرى من جديدٍ؟» (ص٢٧). ويبدو أن هذه الحرب بالذات كان لها أكبر الأثر في موقف الحكيم السياسي، ولا بد لي من أن أقتطع هذا النص المطوَّل الذي يشير فيه إلى هذه الحرب قائلًا: «تلك هي أعنف صدمة هزت نفسي في السنوات القلائل التي تلت الحرب الكبرى الأخرى … لقد كنت ممن يؤمنون باطراد التقدم الإنساني … لقد كنت أتابع وقتذاك آمال الساسة والكُتَّاب في جمعية الأمم، والسلام، وأطالع آراء ماركس وتلاميذه في «الدولية» و«اللاعسكرية» … لقد كنت غارقًا أنا أيضًا في تلك الأحلام التي نسجها لنا هداة البشر وقادته الروحيون من الرسل والشعراء والمفكرين … لقد كنتُ موقنًا بأن الأوان قد آن — عقب تلك الحرب — لزوال الحواجز بين الأمم، وانقضاء عهد القبائل الوحشية المتنافرة التي يسمونها اليوم «دولًا» تُغير إحداها على الأخرى مدفوعةً بمطالب الأرض والدم والجنس، واتجاه البشرية أخيرًا إلى تحقيق ذلك المجتمع الإنساني الأعلى الذي يجعل من سكان هذا الكوكب إخوةً أحرارًا …» (ص٣٤).

لقد طبَّق الحكيم فكرة الدائرة التاريخية للإنسان على العلم والرأسمالية، فأثمر التطبيق يأسًا مريرًا من العلم والرأسمالية معًا، ثم طبَّق الفكرة على التقدم الإنساني، فقالت له الحرب إن ثمة تناقضًا «حتميًّا» بين الفكرة الدائرية والتقدم الإنساني، والحق أن نهاية الحرب الأخيرة كانت قد أعلنت سقوط الرأسمالية كأملٍ للإنسان، ولكن هذه النهاية بعينها أعلنت في نفس الوقت بزوغ الاشتراكية كنظامٍ عالميٍّ، مهما شابته أخطاء البداية، فهو الأمل الأكثر واقعية لإنسان اليوم والغد، ولم تلمح بصيرةُ الحكيم السياسية هذا الجوهر العميق لأن تبدأ الحرب حربًا استعماريةً، وتنتهي حربًا تحريريةً، لم يلمح أن العلم في ظِل الرأسمالية من الحتمي استخدامه من أجل الحرب، ولكنَّه في ظِل الاشتراكية هو رسول الحضارة والسلام.

ثار الحكيم على العلم والرأسمالية كأي فنانٍ رومانتيكيٍّ حالمٍ في أوروبا، وما إن شاهد أنقاض الخراب حتى سارع يهرول إلى الغابات «البكر» والطبيعة «العذراء» والبراءة «الأولى»، حينذاك أعلن يأسَه من الفكرة العالمية التي تلقاها فيما يبدو مع سلامة موسى كطريقٍ للخلاص من البؤس المحلي، أي إنها كانت في حياتها بمثابة «المطلق» الرومانسي، كالحلم الذي يتجاوزان به حاضرًا تعيسًا إلى مستقبلٍ أكثر «إنسانيَّة» … أي إننا يجب أن نفرِّق بين الفكرة العالمية التي تبناها بعض المفكرين الأوروبيين، كويلز، وتلقفها الاستعماريون كدعامةٍ فكريةٍ للإمبريالية، وبين هذه الفكرة حين وصلت إلينا في مرحلة المخاض القومي، فقد كانت بمثابة الجناح الآخر للفكرة المصرية، هذه تستمدُّ قوتها من تراب الأجداد، والأخرى تستمدُّ بريقَها من تراب المستقبل، وكلاهما تجاوزٌ رومانسيٌّ لمرحلة العذاب المزدوج؛ الأتراك والإنجليز.

وإذا كانت الحربُ الأخيرةُ، سواءٌ في وجهها المشرِق (هزيمة النازية وقيام النظام الاشتراكي)، أو في وجهها المعتم (الخراب الحضاري العظيم)، قد أوصلت الحكيم إلى طريق اليأس من العلم والرأسمالية والعالمية، فقد أوصلته أيضًا إلى محطة اليأس من الديمقراطية. لقد انعكست آثار الحرب على الشعوب الصغيرة بمزيدٍ من الضغط على الحريات الديمقراطية من ناحية، والضغط على البطون الخاوية من ناحيةٍ أخرى، أي إن الخرابَ الحضاريَّ العظيمَ انعكس علينا بالمزيد من التخلف الحضاري والفراغ الديمقراطي، ولكن هذا لا ينسينا شيئًا آخر، هو أن قيام الاشتراكية كنظامٍ عالميٍّ، أصبح نصيرًا فعالًا لنضال الشعوب الصغيرة، وأصبح مَعينًا لا ينضب من الفكر الاشتراكي المتبلور خلال التجربة الواقعية عند التطبيق، وليس من الغريب أن يكون تاريخ قيام النظام الاشتراكي، هو نفسه تاريخ النضال الاشتراكي الفعَّال في بلادنا.

ولم تَرِد هذه النتيجة أيضًا في حساب توفيق الحكيم، الذي اهتزت كل المعاني في نفسه، فلم يعد يقارن بين حضارة أوروبا وحضارة الشرق؛ لأن حضارة أوروبا أصبحت عنده موضع اتهامٍ، من هذه النقطة بدأ يتساءل: هل أنا كاتبٌ ديمقراطيٌّ؟ (ص٤٣ من سلطان الظلام).

ثم يجيب أنه ليس ديمقراطيًّا «بالمعنى السياسي» للكلمة، فهو لا يستطيع أن ينتمي إلى الديمقراطية باعتبارها نظامًا سياسيًّا أو حزبيًّا؛ لأن الحريةَ الفكريةَ والروحيةَ — التي هي كلُّ مُسوح المفكر الحرِّ الحقيقي — تمنع من الانخراط في سلك حزبٍ أو نظامٍ قد يُضطر إلى الدفاع عنه بالحق أو بالباطل، وهو لا يستطيع أن يدافع إلا عن «المبادئ العليا الخالدة» البعيدة عن الأشخاص الزائلين. إن الذي يدافع عنه هو الديمقراطية باعتبارها «مبدأً إنسانيًّا» لا نظامًا سياسيًّا، الديمقراطية الموجودة في قلب كلِّ إنسانٍ يقدِّر معنى «حقوق الإنسان» ومعنى «الحرية» و«الكرامة الآدمية» … لذلك لم أستطع أن أغمض عيني على بعض النُّظم السياسية المنتمية إلى الديمقراطية يوم تطرَّق إليها الفساد، وعبث بها الساسةُ «المحترفون» (ص٤٤). هكذا هاجم الحكيم مظاهر الحكم الديكتاتوري، وسخر من مظاهر الحكم الديمقراطي معًا، وهكذا أيضًا أصبح يعتقد أن الكاتب الذي ينشئ مذهبًا سياسيًّا يتمسك به ويكبِّل فكرَه بنصوصه، مثله مثل الكاتب الذي ينضم إلى مذهبٍ سياسيٍّ قائمٍ، كلاهما قد فقد «النظر الحر» إلى بقيَّة المذاهب والأشياء، والكاتب الحر لذلك هو الحارس الأمين لجوهر الفضائل الإنسانيَّة (ص٤٥).

أي إن الحرب العالمية الثانية كانت العامل الحاسم والسبب المباشر في أن يرفض الحكيم لأول مرةٍ «المثال الغربي»، وقد كان لديه بمثابة المعيار الوحيد للتقدم، وأن يرفض «الواقع المصري»، وأن يتجاهل «الطريق الاشتراكي» إلى التقدم، وربما كانت كلمات أحمد بهاء الدين التي كتبها في تقديم كتاب الحكيم «تأملات في السياسة»، هي التقييم الموضوعي الدقيق لهذا الموقف الذي اتَّخذه الحكيم في أكثر الأوقات حرجًا، قال بهاء: «ليس معنى ذلك أن يصف الكاتب الذي يؤمن بعقيدةٍ معينةٍ بأنه ليس كاتبًا حرًّا، ما دامت هذه العقيدة تدعو إلى الحرية، وما دمنا متفقين على مسئولية الكاتب، فإن أقصى درجات المسئولية بغير شكٍّ، هي الالتزام بعقيدةٍ معينةٍ … إذا وجد الكاتبُ طبعًا العقيدةَ التي ترضيه، التي يؤمن بها بعقله وقلبه معًا» (ص٤).

إن هذه المرحلةَ الحرجةَ في تفكير الحكيم السياسي، لا تذيب الفواصل بينه وبين الأعداء الطبيعيين لكل نهضةٍ وتقدمٍ، فبالرغم من اهتزاز الرؤية واختلالها، إلا أنه لا يأمل في إصلاح العالم إلا إذا عولج شقاء الملايين (ص٤٨ من سلطان الظلام). بل هو يكشف زيف الاشتراكيات الوطنيَّة التي تسترت خلفها الفاشيَّة والنازيَّة، قائلًا إن الصائغ الذي يريد أن يلحم ذهبًا بنحاسٍ ليس أقل تزييفًا من أولئك الذين أرادوا أن يلحموا الاشتراكيَّة بالوطنيَّة (ص٤٩). لهذا لا يتصور الحكيم الاشتراكيَّة إلا كنظامٍ عالميٍّ يبدأ من الخارج وينتهي إلى الداخل، أي أن تصبح الاشتراكيَّة بين الدول أولًا، ثم بين أفراد الشعب الواحد ثانيًا. إن رفض الحكيم للمثال الغربي البرجوازي في التقدم، ورفضه للمثال الواقعي في مصر، لم يكن ليؤدي به إلا إلى طريق الاشتراكية، ولكن الحكيم كواحدٍ من أبناء الثورة الوطنية الديمقراطية، لا يفهم الاشتراكية على النحو الذي طُبقت به في المعسكر الاشتراكي، أو بعبارةٍ أكثر صراحةً، يرفض هذا التطبيق على ضوء «جوهره» الذي لا يحيد عنه، وهو الديمقراطية بمعناها الليبرالي، هو لا يحس تناقضًا بين الليبراليَّة والاشتراكيَّة؛ إذ يكفي أن يكون معنى الأولى هو «الحريَّة»، وأن يكون معنى الثانية هو «العدالة»، ليتخيل عالمًا مثاليًّا أقرب إلى المدن الفاضلة التي تجمع بين الحريَّة والعدالة، لم يكن عند الحكيم معنًى تاريخيًّا للديمقراطيَّة، ولا دلالة اجتماعيَّة لها، بل هو تصور الديمقراطيَّة «جوهرًا ثابتًا خالدًا» لا يختلف معناه من عصرٍ إلى عصرٍ، ولا من نظامٍ إلى نظامٍ، ولا من طبقةٍ إلى طبقةٍ، بل يكفي أن يكون الحزب الشيوعي وحده هو الحاكم في الاتحاد السوفيتي، وأن يكون الحزب النازي وحده هو الحاكم في ألمانيا، لتصبح الشيوعيَّةُ والنازيَّةُ شيئًا واحدًا، هو «الدكتاتوريَّة». كما يكفي أن تتعدد الأحزاب في إنجلترا وفرنسا، لتصبح البلدان شيئًا واحدًا، هو العالم «الحر»، أو هو الديمقراطيَّة. هذا التعميم والإطلاق والتجريد هو سر أسرار المرحلة الحرجة في تفكير الحكيم السياسي، وهو أيضًا سر اختياره ﻟ «الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة» كحلٍّ نهائيٍّ لأزمة الديمقراطيَّة في المجتمعات الليبراليَّة، وأزمة الاشتراكيَّة كما تصورها في المعسكر الاشتراكي. وكما أن فكرة العالميَّة التي دعا إليها الحكيم في إحدى فترات حياته لم تكن هي الفكرة الاستعمارية التي دعا إليها بعض مفكري الغرب، كذلك لم تكن الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة هي الصورة الأوروبية لذيول الدولية الثانية المنشقة على الماركسيَّة، والتي استخدمها الاستعمار فيما بعد كواجهةٍ أيديولوجيَّة تغطي حقيقته.

كانت الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة عند توفيق الحكيم هي المزج الآلي بين «عدالة الشرق وديمقراطيَّة الغرب»، كما كان شعار خالد محمد خالد في اللجنة التحضيرية عام ١٩٦١م، أي بعد آراء توفيق الحكيم بعشرين عامًا، وعلى ذلك يمكن أن يُقال إن ثمة تيارًا فكريًّا كاملًا عرفته مصر بعد الحرب العالمية الثانية يرفض الحل البرجوازي، كما يرفض الحل الاشتراكي العلمي لأزمة بلادنا التي تفاقمت في أعقاب الحرب. ولقد كان هذا الحل التوفيقي يحمل بذور فنائه في داخله؛ لأن الليبرالية ليست إلا الوجه الآخر للبرجوازيَّة، فليست هناك ديمقراطيَّةٌ مطلقةٌ، وإنما هناك ديمقراطية طبقة من الطبقات، أو حلف طبقي من فئاتٍ اجتماعيةٍ متقاربة الأهداف.

ومرةً أخرى أقول إن هذا التيار الفكري لم يكن صدًى للاشتراكيات الديمقراطية التي عرفتها أحزابُ اليمين المقنع في أوربا، وإنما هي رمزٌ للإفلاس الحقيقي للنُّظم البرجوازية، سواء في بلادنا أو في الغرب، أي إفلاس الواقع والمثال معًا، وهو رمزٌ لم يحمله جيل الثورة المنتكس، وإنما حملته البقية الباقية التي احتفظت بمضمونها الوطني الديمقراطي، وإن فوجئت بظاهرةٍ جديدةٍ على النطاق المحلي والعالمي معًا. تلك هي «الثورة الاجتماعية» التالية بالضرورة للثورة الوطنية في مصر، وتلك أيضًا هي «الاشتراكية»، البديل الثوري لأزمة الرأسمالية في حضارة الغرب.

وفي قمة هذا التيار، يقف توفيق الحكيم معلنًا أن العالم يتجه الآن «من غير شكٍ» إلى الاشتراكية (ص٤٩). بل إنه قد خطا إليها بالفعل «خطوةً واسعةً»، والديمقراطية الاشتراكية هي «صياغةٌ مقبولةٌ» (ص٥٢) «لجوهرين» متلائمين.

هذا المزيج الآلي من الاشتراكية والديمقراطية يدفع الحكيم لأن يقف مع جميع الشعوب ضد النازية، ضد شهريار الجديد الذي لا يكتفي بذبح عذراء في كل صباحٍ كما كان يفعل شهريار الأول، «بل إن حمَّام الدم الذي لديه أرهب وأروع»، كما جاء في كتابه «حماري قال لي»، عام ١٩٤٥م، تحت عنوان «حماري وهتلر» (ص٢٦). إن العالم قد تغيَّر حقًّا، فأمست مصائر الشعوب تتقرر أحيانًا في جلسةٍ واحدةٍ بقاعة مؤتمرٍ أو مقصورة قطارٍ (ص٣٠). وعندما يسمح شهريار الجديد — هتلر — لشهرزاد — الأسطورة — أن تدلي بآرائها كاملةً، يؤكد الحكيم أنه ربحٌ لا يُستهان به أن يسمح لها بحرية الرأي والكلام والمناقشة، ولو إلى أجلٍ قصيرٍ (ص٣١). ويوجه الحكيم حديثه على لسان شهرزاد إلى الفوهرر قائلًا إنك لو أحببت الجنس البشري كلَّه، لا الجنس الآري وحده، لكنتَ أعظم ألف مرةٍ مما أنت الآن، ومما تريد أن تكون. ويوجه إليه السؤال: لماذا لم توجه قوتك وثورتك للارتفاع بالإنسانية كلِّها، فيسطر التاريخ لك صفحةً لا يسطر مثلها لغير الرُّسل والأنبياء (ص٣٦). إن الصفحة التي يعدها التاريخ لأعمال هتلر — يقول الحكيم — ليست بذي شيءٍ عظيمٍ، وقد كتب مثلها لكثيرين من قادة الجيوش الذين فتحوا العالم معتمدين على القوة العسكرية، ففرحوا بأكاليل النصر الحربي الذي زان جباههم، ولم يفطنوا إلى أنها أكاليل من الزهر الذي يذبل بعد حينٍ، ولقد ذبلت فعلًا وهوت، وذرَتها الرياحُ في كل تلك الفتوح التي تفاخر بها أولئك القوَّاد العسكريون؛ ذلك لأن لا شيء يثبت في الأرض وينبت الثمار الخالدة غير البذرة الطيبة التي يلقيها في نفس البشر رجلٌ يحبُّ الإنسانية كافةً: «هذا هو المجد الذي ليس بعده مجدٌ لإنسانٍ» (ص٣٧). فالنصر الحقيقي عند توفيق الحكيم هو الذي يستطيع أن يسير بالبشرية «ولو خطوةً … ويسعدها ولو لحظةً … إن كلمة نبيٍّ أو ترنيمة شاعرٍ، أو تغريدة موسيقيٍّ، لأبقى على الدهر من صيحات الظفر وطبول النصر في أكبر معركةٍ حربيةٍ».

ومعنى ذلك أن صلابة الحكيم في الدفاع عن الشعب ضد النازية، تنطلق من أن الهتلريين ألدُّ أعداء «حرية الفكر والتعبير»، ولما كان الفكر هو مضمون «الحضارة» الإنسانية، فإن «السلام» هو الدفاع عن هذه الحضارة، أي إن ثالوث الحرية والفكر والسلام الذي يدفع الحكيم إلى مهاجمة النازيين والفاشيست، هو جوهر «الحضارة» الإنسانية التي يستميت الحكيم كمفكرٍ وفنانٍ في حراستها من الهستيريا العسكرية والبغاء السياسي. والحق أن هذا الوجه «الحضاري» للحرب ضد الفاشية ليس وجهًا سلبيًّا، ولكنه وجهٌ ناقصٌ؛ لأن ثمة وجهًا آخر للقضية لا يتكامل إلا به، هو الوجه الاجتماعي المحض، وهو الوجه الذي عالجه الحكيم في فصلٍ آخر تحت عنوان «حماري وموسوليني»، قائلًا إنك «إذا أعطيت شعبَك كلَّ شيءٍ، وسلبته حريته، فإنك لم تعطه شيئًا» (ص٤٤). وهذا هو المضمون الاجتماعي للحريَّة، نعم إن هذا المضمون يتوقف عند حدود تلك المبادئ التي أذاعتها الديمقراطيات قبيل انتهاء الحرب، وجعلتها بمثابة الأركان الأربعة للعالم الجديد (ص٥٦). ولكنها في مصر تعني الارتفاع بمستوى الفلاحين، وتوطيد المركز الاقتصادي، وزيادة الثروة الأهلية، سواء بإدخال وسائل إنتاجٍ جديدةٍ أو بتحسين الإنتاج الزراعي والصناعي القائم (ص٥٧). كذلك ثمة مضمونٌ اجتماعيٌّ للسلام، ففي الإمكان القضاء على القوة كوسيلةٍ للأعمال السياسية إذا قوبلت ووُوجِهت بقوةٍ أخرى أعظم منها تقوم على دعائمَ اقتصاديةٍ وخلقيةٍ، ويعززها بوليس مشترك، يمنع أية دولةٍ أو مجموعةٍ من الدول أن تجد الفرصة التي تمكنها من الاعتداء على أية دولةٍ مجاورةٍ لها في أي مكانٍ من العالم (ص٥٨). أما المضمون الاجتماعي للفكر فهو ما يعبر عنه الحكيم تعبيرًا غير مباشرٍ حين يقول: «كل ما عندي قلمٌ لا أرضى أن أسخِّره في هدم الأشخاص لمجرد الهدم، ولا أن أستخدمه في بناء أشخاصٍ طمعًا في الغنم … إنما هو خادمٌ بالمجان لأي فكرةٍ كبيرةٍ أدافع عنها» (ص٦٢).

والآن … ما هي الفكرة أو الأفكار الكبيرة التي يدافع عنها توفيق الحكيم في تلك المرحلة الخطيرة التالية لانتهاء الحرب، والسابقة على ثورة يوليو ١٩٥٢م؟

قبل أن نُجيبَ مع الحكيم على هذا السؤال، لا بد لنا أن نستمع إلى «نقده الذاتي» الرائد، حين قال في صراحةٍ ووضوحٍ: الواقع أنها كانت سُبَّة أن يجلس أمثالنا هكذا ينظرون إلى أحداث بلادهم ولا يحركون رأسًا ولا ذنَبًا، نحن الذين نشأنا في هذا البلد، ونعمنا بخيره وخميره، ورعينا برسميه ونخيله، وشربنا من ماء نيله؛ كان حتمًا علينا أن يكون لنا يدٌ في مصيره (حماري والسياسية، ص٧٦). ولا شكَّ أن السياسةَ في الماضي كانت «خدعةً كبرى» تعتمد على مهارة مَن يسحب خاتم السلطة من إصبع منافسه (ص٧٩). ويشنُّ الحكيم من جديدٍ هجومًا ضاريًا على «بحر الصمت» الذي غرق فيه الشعب، وكأنَّه استمرأ مشاهدة اللعبة، فالحكومات المتوالية تستغل هذا الصمت على أوسع مدًى، فتكبله بأغلال المواثيق والانتخابات والبرلمان إلى آخر أدوات لعبة الكراسي الموسيقيَّة. ويسألنا الحكيم: ألم نسمع بخبر ذلك المأمور الذي حبس مجرمًا من مجرمي التموين تطبيقًا للقانون، فاتصل به أحد ذوي النفوذ وأمره أن يفرج عنه فورًا، فأخرجه من الحبس بعد الصفع والإهانة، وأجلسه في مكتبه، ووقف بين يديه قائلًا: والله لا يصح أن تنصرف قبل أن تشرب القهوة (ص٨٢).

وليس هذا هو الشعب المصري، الذي قام بهبَّته الثورية عام ١٩٤٦م (العام التالي لصدور كتاب الحكيم)، فلم يكن نائمًا ولا صامتًا، ولكن صبره الطويل يمنح البعض هذا التفسير عن طيب خاطرٍ، بينما هو يعد العدة للوثبة الكبرى والانفجار العظيم.

وأعود إلى السؤال: ما هي الفكرة أو الأفكار الكبيرة التي دافع عنها الحكيم في تلك المرحلة الخطيرة من تاريخنا الحديث، فقد كان نقده الذاتي بمثابة المقدمة لتحوُّله الثوريِّ الجديدِ، هذا التحول الذي أعلن عن نفسه لأول مرةٍ في المقال الذي نشره في ١١ سبتمبر سنة ١٩٤٦م، يحرِّض فيه على المعركة المسلحة مع الاستعمار، بأن نتبنَّى حركات «المقاومة السرية» التي حررت فرنسا من النازي (راجع كتابه تأملات في السياسة، ص١٢٩). وبعد عشرة أيامٍ من هذا المقال الناري يكتب عن الأساس الاقتصادي للثورة الاجتماعية، فيطالب بفرض الضرائب التصاعدية إلى أعلى حدٍّ ممكنٍ (بحيث تبدأ من ٥٠ بالمئة) (ص١٤١). وفي ١١ أكتوبر عام ١٩٤٧م، أي بعد عامٍ كاملٍ من مقاله الثوري الخطير، يكتب تحت عنوان «لستُ شيوعيًّا … ولكن» ما يلي بالحرف:

  • «… إن الثورةَ الروسية ليست إلا الشطر الآخر المُكمل للثورة الفرنسيَّة …»

  • «أريد أن تتحقق في بلادي ثلاثة أشياء؛ أن يكون كل ولدٍ يولد، وكل مواطنٍ يوجد، ملكًا لنفسه وملكًا للوطن في آنٍ واحدٍ، فإذا تولت الحكومة إدارتها (يقصد الشركات) للحرص على مصالح الكافة، كان ذلك أفضلَ وأتمَّ.»

  • العلاقة بين العمل ورأس المال تقوم على شعار العامل: «أشركني في الربح» (ص١٥٤، ١٥٥ من المرجع السابق).

وقد كان هذا هو المقال الخطير الثاني الذي طالب فيه بالتأميم وإشراك العمالِ في الربح، وهذه مرحلةٌ مختلفةٌ تمامًا عن المرحلة التي كان يسترشد خلالها بحزب العمال الإنجليزي، والإصلاحات الاجتماعية في فرنسا، حيث يحاربون البطالة ويؤَمِّنون العامل في حدود النظام القائم، بل تدعيمًا غير مباشرٍ لهذا النظام، أو ترميمًا له.

وقد كانت مصر في هذه الآونة قد أضحت مرتعًا لحركاتٍ سياسيةٍ عديدةٍ تحمل لافتة الاشتراكية، كحزب عباس حليم وحزب أحمد حسين، بالإضافة إلى المنظمات السرية لليسار الشيوعي، والمنظمات العلنية، كالطليعة الوفدية، وليس من المهم أن يُقال إن الحكيم كان بعيدًا عن الأحزاب، وبالتالي لم يتأثر بها، فالمهم هو أن هذه التنظيمات كانت تعبيرًا بصورةٍ أو بأخرى عن درجة «الغليان» التي أصابت الحركة الاجتماعية المصرية، بحيث إن تجاهل موجات هذه الحركة يصبح موقفًا في حد ذاته؛ لهذا أقول إن هبَّة ١٩٤٦م كانت مصدر التحول الجديد في حياة الحكيم السياسية، تمامًا كما كانت الحرب العالمية الثانية عام ١٩٣٩م، وكما كانت ثورة ١٩١٩م. تلك هي العلامات الرئيسية الثلاث في خريطة الفكرة السياسية عند توفيق الحكيم. كانت ثورة ١٩١٩م واضحةً غايةَ الوضوحِ في مراميها السياسية، كالتحرر والاستقلال الوطني. وكانت الحرب الأخيرة هي اللطمة التي أيقظته على ظاهرةٍ جديدةٍ، هي الثورة الاجتماعية. وجاءت هبة ١٩٤٦م، التي اتخذت مظهرًا وطنيًّا ديمقراطيًّا، هو القضاء على معاهدة صدقي-بيفن في مهدها، ولكنها من حيث الجوهر كانت تحمل جنين الثورة الاجتماعية الشاملة على النظام بكامله.

وعندما وقف توفيق الحكيم إلى جانب هبة ١٩٤٦م في صراحةٍ وجرأةٍ ووضوحٍ، وعندما التزم بهذا الموقف إلى ما قبل حركة يوليو ١٩٥٢م، كان في الواقع يرسم أقصى ما يمكن أن يصل إليه كاتب الثورة الوطنيَّة الديمقراطيَّة حين يرتفع على انتكاسات الثورة الأولى، ويصبح جسرًا عظيمًا بين ثورتين.

هكذا رأى توفيق الحكيم في قمة نضجه السياسي أن وحدة العالم على أي صورةٍ من الصور «خرافة»، وأنها وهمٌ من الأوهام التي تقوم في رءوس «المثاليين» (ص١١٢). وفي ١٣ نوفمبر سنة ١٩٤٨م أعلن توفيق الحكيم أن الثورةَ لم تعد تنفجر من قلبٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ لقصدٍ واحدٍ، ولكنها تنفجر من قلوبٍ عدةٍ في أوقاتٍ متفرقةٍ واتجاهاتٍ متباينةٍ: «روح مصر الحقيقية لم تذهب، ولن تخمد … هذا إيماني الذي لن يزول … ومنذ بدت هذه الروح لعيني عام ١٩١٩م تملَّكتني عقيدة أن هذا الذي أرى ليس شيئًا جديدًا ولا طارئًا … إنما هو شيءٌ موجودٌ دائمًا، باقٍ أبدًا، ولكن روح مصر تنام أحيانًا عندما ينساها أهلها فلا يوقظونها، وتتبدد أحيانًا عندما يختلس منها أبناؤها أقباسًا ينفقونها في شتَّى الأغراض، وتحار أحيانًا عندما يتعدد الزعماء، فيقودونها كلٌّ في طريقٍ، وهي تظلُّ هكذا في نومها أو بددها أو حيرتها، إلى أن يتيح لها القدر، بين فترةٍ وفترةٍ، من الظروف والرجال والأحداث، ما يدفعها إلى وحدة الغاية والسبيل والقيادة، عند ذلك يرى العالم العجب، ويصيح الناس ويهمس التاريخ: انظروا، لقد تكررت المعجزة، وعادت الروح» (ص١٣٣).

كتب الحكيم هذه الكلمات قبيل حركة يوليو ١٩٥٢م بأربع سنواتٍ فقط، بعدها «عادت الروح». ولم تكن نبوءة الحكيم تبشيرًا بالثورة فحسبُ، بل كانت نذيرًا لما آلت إليه البلادُ أيامها من فوضى مخيفةٍ، كان الملك وأحزاب اليمين والاستعمار في حلفٍ واحدٍ متحدٍ، ضد قوى الشعب العظيم وإرهاصات ثورته المجيدة.

ولم يكتب الحكيم بعد يوليو ١٩٥٢م في الفكر السياسي المباشر؛ لأنه من ناحيةٍ كان قد اطمأن على تمام دوره كواحدٍ من عشرات المفكرين الأحرار الذين جعلوا «الثورة» قبل وقوعها حلمهم الوحيد، يعبئونه في رءوس الملايين التي استطاعت أن تحوِّل الحلم إلى واقعٍ. ومن ناحيةٍ أخرى كان الحكيم يعلن أن «الفن» هو أقدر وسائله التعبيرية على مواكبة الركب الثوري في خطِّ سيره إلى الأمام.

فلعلَّ كتاباته السياسية المباشرة، هي أقلُّ وسائله التعبيرية قدرةً على الإنابة عن موقفه الأصيل من الحركة الاجتماعية، على عكس ما نتوقع من المقال المباشر الذي يملك صاحبه أن يضمِّنه آراءه بغير مشقةٍ أو عُسرٍ؛ ذلك أن توفيق الحكيم المفكر لم ينفصل قطُّ عن توفيق الحكيم الفنَّان، فإذا تمَّت عملية الانفصال هذه في بعض الأوقات، فإنها لا تتم بنفس القدر من الأصالة الذي نلاحظه على إنتاجه الفني.

لهذا أيضًا علينا أن نحذر محاولة المطابقة بين كتاباته النظريَّة وأعماله الفنيَّة، فبالرغم من أن أفكاره المحورية هي القاسم المشترك الأعظم بين هذه وتلك، إلا أنهما لا يمضيان في خطَّين متوازيين كالصوت والصدى، فلعلَّ ما بينهما من التداخل والتشابك والتعقيد، واستقلال وسائل التعبير في كلٍّ منهما؛ يجعل من الصعب على الباحث أن يكتشف أية دقةٍ هندسيةٍ في الموازنة بين المقال النظري والعمل الفني.

على أنَّه مهما عثرنا على اختلاف الرسم البياني من الكتابات النظريَّة إلى الأعمال الفنيَّة، فإن الركيزة الأساسية في إنتاج الحكيم النظري والفني، هو أنه أحد المفكرين القلائل الذين احتوت قلوبُهم الثورةَ منذ إرهاصاتها الأولى عام ١٩١٩م.

١  راجع: توفيق الحكيم أفكاره وآثاره، لأحمد عبد الرحيم مصطفى، ص٦٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤