الفصل السادس

عودة الروح

«لقد خرجنا جميعًا من معطف جوجول.» بهذه الكلمات كان الكُتَّاب الرُّوس يلخِّصون الدور الريادي الباهر الذي قامت به روايةٌ روسيةٌ واحدةٌ، لكاتبٍ روسيٍّ واحدٍ، وكانت الرواية هي «المعطف» للكاتب العظيم جوجول. ولعلَّه من أهم السمات التي استحقَّت من أجلها «المعطف» هذا الشعار التاريخي الذي أطلقه عليها مكسيم جوركي، هو دورها في «تأصيل» الرواية الروسية، أي إن الدافع الرئيسي لأن يتخذ طليعةُ الكُتابِ الروس من جوجول «أبًا روحيًّا»، لم يكن هو الطابع الاجتماعي الواضح في رواية «المعطف»، ولم يكن هو الطابع الحديث في الرواية الأوروبية التي تأثَّر بها صاحب «المعطف»، وإنَّما كان «الطابع الروسي» — شكلًا ومضمونًا — هو العامل الأساسي في جذب انتباه الأجيال المعاصرة لما تتضمنه «المعطف» من محليةٍ عميقةٍ، وإنسانيةٍ غامرةٍ في وقتٍ واحدٍ. كانت المعطف وثيقةَ الارتباط بالأرض الروسية، ومن خلال هذا الارتباط الحي العميق، كانت تشف بأصالة الإنسان وجوهره أينما كان. لقد أثبت جوجول في هذا العمل العظيم أن الطريق إلى «العالمية» في الأدب هو أصالة جذوره في الأرض المحليَّة، فليست المحليَّة درجةً دنيا في تقييم الفنِّ، كما أنه ليس من تناقضٍ بين المحلية والعالمية؛ لأن مخاطبة الإنسان في العالم أجمع لن تتم إلا بمخاطبة الإنسان المحلي، فهو النموذج البشري المشخص، الواقعي، والمحدد الأبعاد، وهو ملتقى السمات القومية الخاصة، والملامح الإنسانية العامة في آنٍ، ولعل أدبًا في العالم لم يحظَ بما حظي به الأدب الروسي من قبولٍ وانتشارٍ لدى القراء من جميع الأوطان والأجناس والطبقات، ولم يكن مرَدُّ ذلك إلى مسيحية تولستوي، أو سيكولوجية دستويفسكي، أو عذوبة تشيكوف، أو واقعية جوركي، أو رهافة تورجنيف، وإنما مردُّ هذا الإجماع من القارئ العادي البسيط إلى المثقف الأكاديمي الدقيق، هو عراقة التراث الروسي وأصالته، ونقاوة جذوره وعمقها.

وليس من الغريب أن تظهر الرواية كفنٍّ أدبيٍّ مستقل، مع نمو الحركات القومية في أوروبا، فقد كانت أكثر القوالب قدرةً على تأصيل الشخصية الإنسانية من جانبها المحلي، كما كانت أقدر القوالب على امتصاص الهموم البرجوازية للإنسان الجديد، إنسان عصر النهضة، وهكذا اقترنت النشأة الأولى لفنِّ الرواية بظهور القوميات الأوروبية، وتعاظم الطبقة البرجوازية، وازدهار عصر النهضة، فليس من الغريب — مرةً أخرى — أن تكون هي القالب الأدبي الذي تخصص تاريخيًّا في حمل راية الأصالة، وإن لم يُلقِ جانبًا رايةَ الإنسانيةِ، فقد كانت البرجوازية حينذاك تعتقد أنها والإنسانية سواءٌ، فالإنسان البرجوازي هو الإنسان الكامل، والثورة البرجوازية هي ثورة الإنسانية، وهكذا كانت البرجوازية تتصرف في كافة مجالات الحياة، كمندوبٍ وحيدٍ عن البشرية كلِّها، ولم يكن لديها أي مانعٍ، في الكثير من الأحيان، أن تنتدب نفسها عن الأرض والسماء معًا، فالجانب الإنساني الذي عبَّرت عنه الرواية في أوائل عهدها بالنمو هو الجانب الذي صاغته الرؤية البرجوازية للإنسان، وليس هو على الإطلاق جوهر الفطرة الإنسانية الذي كان الشغل الشاغل للدراما الكلاسيكية. وليس من الغريب — للمرة الثالثة — أن تكون الرواية مرحلةً كيفيةً جديدةً في تطور الأدب؛ إذ هي فنٌّ مغايرٌ للفن المسرحي من ناحيةٍ، وهي الفن القائد للثورة الشاملة على الكلاسيكية من الناحية الأخرى.

ولا شكَّ أن الفن الروائي في بداياته الأولى، قد اختلفت سماتُه من فرنسا إلى إنجلترا في القارة الأوروبية الواحدة، كما اختلفت هذه السمات من الرواية الأوروبية إلى الرواية الأمريكية والروسية في الأزمان المتعددة، ولكن هذا التعدد والاختلاف لم ينفِ قط الرابطة الكبيرة المشتركة في الأدب الروائي لهذه الأقطار جميعها، وهو أن الرواية فن «الأصالة» القومية الناشئة مع الطبقة البرجوازية إبان عصر النهضة، ولقد تختلف مظاهر هذه الرابطة من بلدٍ إلى آخر، ولكنها من حيث الجوهر تظل هي العالم الرئيسي والحاسم في النشأة التاريخية لفن الرواية.

ولعلَّ اختلاف المظهر الذي تتخذه هذه الرابطة المشتركة من أدبٍ إلى آخر، هو الذي يصوغ ما ندعوه ﺑ «المسار الخاص» لكل أدبٍ على حدةٍ، وإن واكب الحركة الأدبية في العالم، سواء بالتقدم أو النكوص، فإذا كانت النهضة الأوروبية قد أعلنت عن نفسها منذ القرن الخامس عشر، فإن فنَّ الرواية في أوروبا لم يظهر بصورته البدائية إلا بعد ذلك التاريخ بقرنين من الزمان. ومهما اختلف النقادُ ومؤرخو الأدب حول النشأة الجمالية للفن الروائي، فإن ما يُقال عن كونه امتدادًا لفنِّ الملحمة هو أقرب النظريات إلى الدقة والصواب، ولكن هذا لا يلغي الحقيقة الرئيسية الواضحة، وهي أن غليان عصر النهضة وانفجاراته المتوالية في كافة ميادين المعرفة، هو صاحب الفضل الأول في أن يُهدي الإنسانية بعد مائتَي عام فنًّا جديدًا قادرًا على التعبير عنها في أحرج لحظات تاريخها الأوروبي، هو الرواية.

فإذا كان «عصر النهضة» هو المعول الأساسي الذي نعتمد عليه في تتبع النشأة التاريخيَّة لفنِّ الرواية، قلنا إنَّ مسافة قرنين من الزمان باعدت بين «النهضة الأوروبيَّة» و«النهضة الروسيَّة» هي التي تأخرت بظهور الرواية الروسيَّة إلى القرن التاسع عشر، كما أن مسافة ثلاثة قرونٍ من الزمان باعدت بين النهضة الأوروبية والنهضة في التاريخ المصري الحديث، هي التي تأخرت بظهور الرواية المصرية إلى القرن العشرين، ومعنى ذلك أن الإطار القومي والمضمون البرجوازي يتوحدان في عصر النهضة كحركةٍ حضاريةٍ أكثر شمولًا وتقدمًا من التوقف عند التفاصيل.

كانت روسيا بهذا المعنى تخطو أولى عتبات التقدم الحضاري، حين صدرت رواية «المعطف» لجوجول؛ ولهذا السبب وحده نصف «المعطف» بأنها روايةٌ «روسيةٌ» ذات دلالةٍ تاريخيةٍ وقيمةٍ حضاريةٍ، فليس المهم أنها أضافت المفهوم الفني الحديث لمعنى الرواية في الأدب الروسي، وليس المهم أنها كانت ذات طابعٍ اجتماعيٍّ واضحٍ، فهذه كلُّها تفاصيل تندرج تحت العبء الأعظم الذي قامت به «المعطف»، وهو تأصيل الرواية الروسية، فقد يأخذ الناقد الحديث اليوم على هذه الرواية الكثير من المآخذ، ولكنه لن يستطيع أن ينكر حقيقةً أوليةً هي أن كافة الجداول والروافد والأنهار التي عرفها تاريخ الرواية الروسية، إنما ينبع — شكلًا ومضمونًا — من ذلك المصدر العظيم: «المعطف»، ومن هنا جاءت العبارة القائلة: «لقد خرجنا جميعًا من معطف جوجول» عبارةً دقيقةً وصادقةً إلى أبعد حدٍّ، لقد عرفت اللغة الروسية بعد «المعطف» روائع خالدةً في تاريخ الفن الروائي، ولكن التاريخ يحتفظ دائمًا في ذاكرة الأجيال بنقطة الانطلاق الأولى. إن جوجول نفسَه كَتَب صفحاتٍ تذهلنا روعتها إلى الآن في روايته «الأرواح الميتة»، ولكن هذه الصفحات لا تعادل مطلقًا «البذرة» التي أثمرت فيما بعد تولستوي ودستويفسكي وترجينيف وتشيكوف وجوركي.

ومن هذه النقطة بالتحديد أرى المدخل الطبيعي إلى رواية «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، فلعلَّ المقدمة النظرية السابقة تكفيني عناء التدليل على أهمية الدور الريادي الباهر، الذي قامت به في مصر رواية واحدة، لكاتب واحد.

الرواية المصرية، أيضًا، ابنة عصر النهضة، هنا يتضح المعنى الحضاري الشامل لكلمة النهضة، دون الدخول في تفاصيل التكوين الاقتصادي والاجتماعي والقومي والسياسي للمجتمع المصري، فالتفاصيل قد تغنينا بالفكرة القومية كأساسٍ روحيٍّ لأصالة الرواية في بلادنا، ولكن هذه التفاصيل بعينها قد تخدعنا وتضللنا إذا تمسكنا بالفكرة البرجوازية كأساسٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ لميلاد الرواية المصرية، فلا شكَّ أن ميلادنا القومي أسبق إلى حدٍّ ما من التكوين البرجوازي المتكامل للعلاقات الاجتماعية المصرية، فتاريخنا يقول إن ثمة فئات لا تنتمي إلى البرجوازية التجارية الناشئة، قد أسهمت وشاركت في صياغة الحركة القومية؛ ذلك أن تاريخنا الحديث لا يماثل ولا يوازن التاريخ الأوروبي الحديث، الذي جعل من الحركة القومية بمثابة اللحم والدم للبرجوازية. تاريخنا إذن ليس اجترارًا للتاريخ الأوروبي، ليس جنينًا يحاكي قبل مولده كافة الأطوار التي شهدها نمو التاريخ الأوروبي، لم يتم ذلك بسبب الأسبقية التاريخية للنهضة الأوروبية وتاريخ الغرب الحديث على نهضتنا وتاريخنا فحسب، بل لأن نهضة أوروبا وتاريخها الحديث، كان لهما أبعد الأثر على «المسار الحضاري الخاص» بنا، فقد تم لقاؤنا الحديث بأوروبا في مناخٍ مضطربٍ غير متكافئٍ؛ كنا في ظلامٍ دامسٍ يعلن شهداؤنا النادرون خلاله بومضات أرواحهم احتياجنا العنيف إلى «نور» النهضة، احتياج الحياة في مقابل الموت. ومن الشاطئ الآخر تعلن أوروبا — في أعلى مراحل الرأسمالية — أن لا حياة بلا ثمنٍ، ولا نور بغير استعمارٍ، ولم تحمل أساطيل الاحتلال نورًا لنا ولا حياةً، بل ضاعفت من شقوة المرحلة الحضارية المتخلفة التي عانت تعاستنا بشاعتها. إلا أن جمرة التحدي التي اتَّقدت في الوجدان المصري، أشعلت نيران النهضة الفكرية في بلادنا، وألهبت أرواحنا حماسًا للمعرفة، مهما كانت قيود التخلف القديم أو أغلال المستعمر الجديد.

هذا هو الفرق الحضاري الأكبر بيننا وبين النهضة الأوروبية، وبيننا وبين النهضة الروسية على سبيل المثال. فالنهضة الأوروبية قامت أساسًا على أثر الكشوف العلمية الجبارة، والتناقضات التي أحدثتها بين القوى الاجتماعية السائدة حينذاك. والنهضة الروسية قامت أساسًا على أثر استضافة العرش الروسي لأوروبا الغربية، تمامًا كما حدث عندنا على يدَي محمد علي وإسماعيل، ولكن الظروف الروسية كانت تختلف اختلافًا عميقًا عن الظروف المصرية. روسيا وثيقة الارتباط الجغرافي والتاريخي بأوروبا، ولم تكن تقلُّ عنها في الميزان الحضاري إلا من حيث الدرجة لا في النوع، فثمة شيءٌ يشبه التكافؤ الكيفي بينهما، ولم يتسبب المنسوب الحضاري المنخفض (بفاعلية الظروف الطبيعية كالزراعة) إلا في تأخير وصول النهضة من الناحية الزمنية، أما عندما وصلت، فإنها لم تكن عنصرًا غريبًا ولا غازيًا، فالتحمت بالحضارة الروسية وأضحت جزءًا منها أثمر عمالقة الأدب الروسي الذي يعُدُّه الغرب بدوره جزءًا من ثروته الحضارية.

أما العرش العلوي في مصر، فلم يكن من صُلب التربة المصرية بكل ما تعنيه من حضارةٍ، وبالرغم من تناقضه السياسي مع الإمبراطورية العثمانية، فقد كان يجهل جوهرها الحضاري المتخلف، ومن ثَم آلت منجزاته كلها للسقوط العظيم، سواء كانت الدولة الحديثة في عهد محمد علي، أو الاتجاه نحو الغرب في عهد إسماعيل، بل إن أكثر الجوانب سلبًا في الحكم العلوي، هو ارتباطه العضوي بالاستعمار الأجنبي في مختلف مراحله، ولعل هذا الجانب غير منفصلٍ عن الجوهر العثماني المجلوب مع الحكم العلوي؛ لهذا كان الفشل الذريع هو المصير الطبيعي لكل نهضةٍ سابقةٍ على أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. فقد كان التناقض المزدوج بيننا ويبن العثمانيين والإنجليز، هو جوهر اليقظة الحضارية الشاملة في مجتمعنا، وكان الفن الروائي والمسرح من الأبناء الشرعيين لهذه اليقظةِ الهائلةِ، بالرغم من أنهما معًا من ثمار الحضارة الأوروبية القاهرة، فقد تمكن التفاعل والنضال بيننا وبين العثمانيين والإنجليز من أن يولِّد فينا شرارةَ الوعي الثوري بكل ما هو سلبيٌّ، وما هو إيجابيٌّ. في هذه المرحلة الجديدة من مراحل الكفاح المصري، لم تقتل فينا السذاجة الحس القومي المستنير الذي يرفض الخضوع للدولة العثمانية باسم الدين، وفي نفس الوقت لا يرفض الأفكار والقيم الثورية القابعة وراء البحار باسم التراث، لقد استطاع حسُّنا القومي في مرحلةٍ باكرةٍ من تاريخنا الحديث، أن يضع أيدينا على الوجه الإنساني لمعنى النهضة الحضارية، والوجه الوطني لتراثنا الخاص؛ لهذا لم يرفض قط أن يستوعب العوامل التي أثْرت الحضارة الأوروبية بعناصر التقدم، كما لم يرفض قط أن يلفظ كل ما من شأنه أن يسلب أصالتنا بالمزيد من ألوان التخلف، سواءٌ كان رابطةً تاريخيةً تشدنا إلى السلطنة العثمانية، أو كان قهرًا أجنبيًّا بقوة السلاح.

لذلك كانت معركتنا «الحضارية» في أوائل هذا القرن، مع أكثر من جبهةٍ، وفي أكثر من مستوًى، كانت معركةً ضاريةً من أجل الحفاظ على «قوميتنا» من أنياب الإمبراطورية الجاثمة على قلوبنا وأرواحنا باسم الدين والتراث، ومن أنياب الإمبراطورية الجاثمة على أرضنا باسم مصالحها الاقتصادية في الشرق، كانت معركتنا متعددة المستويات، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والفكر والفنِّ.

وكان الشِّعر — لساننا الأدبي — قد تحوَّل إلى قوةٍ محافظةٍ منذ فشل عرابي وخفوت صوت البارودي، ولم يعد أمام الروح المصرية إلا أن تبحث عن منبرٍ آخر غير الشِّعر ترفع من فوقه صوتها. كانت هناك محاولاتٌ مستوردةٌ وممصرةٌ ومقتبسةٌ، في القصة والمسرح، ولكنها لم تشكل منبرًا جهيرًا لروحنا المتوثبة. كانت هناك أشعار العامية المصرية، ولكنها لم تشكل تيارًا عامًّا في مستوى الثورة. كان هناك الأدب الشعبي، ولكنه بدوره كان جزءًا من المعركة الرئيسية، معركة الوجود. وفي أتون المعركة ومعمعان الثورة، وُلدت الرواية المصرية، سلاحًا ثوريًّا جديدًا في المعركة. أي إنه في الوقت الذي كان الأدب الرسمي — الشِّعر — قد نكس راية الكفاح، أثمرت الحركة النضالية في مستواها الحضاري، رايةً جديدةً للثورة، هي الرواية. فالرواية المصرية في نشأتها الأولى، كانت إحدى ثمار الثورة ومن أسلحتها، ولم تكن قط مجرد انعكاساتٍ لآداب الغرب، لقد ماتت الانعكاسات جميعها غداة ولادتها، كردود الأفعال أو أصداء الموت، ولم يبقَ سوى الأصيل المتجذر في أرضنا، المنحوت من واقعنا، مهما كانت معركة النهضة مع التخلف والقهر هي الأم، ومهما كانت هذه الأم هي مصدر التفاعلات السلبية والإيجابية، بيننا وبين حضارة الغرب في مختلف مستوياتها.

كان المستوى الفكري والأدبي بغير شكٍّ، من العناصر الإيجابية التي حصلنا عليها من المعركة مع أوروبا، كما كان المستوى القومي للروح المصرية هو العنصر الإيجابي في المعركة التي اشتعل أوارها بيننا وبين السلطنة العثمانية، والمزاوجة الرائعة بين الفكر الثوري، والجوهر القومي، هو الذي أدى — في المستوى الأدبي — إلى ميلاد الشخصية المصرية في الفنِّ، وبالتالي إلى ميلاد الرواية «المصرية» لحمًا ودمًا. الرواية المصرية التي لا تبدأ ﺑ «حديث عيسى بن هشام» ولا ﺑ «زينب»، وإنَّما ﺑ «عودة الروح»، وهذا لا ينفي أن المويلحي وهيكل كانا خطوتين هامتين في تاريخ أدبنا الروائي.

لقد نجح المويلحي بغير شكٍّ في أن يزحزح التقاليد الموروثة في الأدب العربي عن المغالاة في تصورها لاكتمال القوالب التي عرفها التراث، و«الصيغة النهائيَّة» التي وُضعت للفنِّ الأدبيِّ. تمكَّن «حديث عيسى بن هشام» من الإشارة إلى أن العالم يتغيَّر، وأن قوالب الأدب جزءٌ لا ينفصل من هذا العالم، استطاع مثلًا أن يخرج في حذرٍ من قيود السجن حين اضطُر إلى وصف المخترعات الحديثة، وانحرفت الفكرة الأدبية تبعًا لذلك عن المقامة العربية، واتجهت في طريقٍ معقدٍ وشاقٍّ وبكرٍ، هو طريق القصة العربية. ويسجل كتاب المويلحي اتجاهين للأدب في ذلك العصر؛ أولهما الاتجاه إلى التصوير المحلي وإبراز حياة مصر، وثانيهما الاتجاه إلى معالجة مشاكل المجتمع وتحليلها. بدأت الحياةُ المصريةُ تظهر في الأدب حينذاك، فبالرغم من أن أسلوب المويلحي عربيٌّ في جملته وتفصيله، فإنه يصور الحياةَ المصريةَ في مختلف ظواهرها، يصفُ طبقاتِ المجتمع المتعددة بأفكارها وأخلاقياتها وعاداتها، ويصفُ معالمَ مصر الكبرى، كالمتاحف والحدائق والقصور والملاهي والمحاكم، وينقد القانون المصري ونُظم الحكم والحكام، ويتكلم عن الاقتصاديات ومجالس الأدباء، ويصل إلى أعماق الحياة المصرية، فيصف الأحياء الوطنية وقذارتها في صورةٍ رائعةٍ حين تحدث عن زيارة عيسى بن هشام وصاحبه الباشا للمحامي الشرعي بمنزله بحارة الروم، المويلحي يصور الأحياء الوطنية والإفرنجية في مصر، ثم يحلل السر في ضياع هذه القصور من المصريين تحليلًا دقيقًا صادقًا، يبين أسباب ضياع الثروات من المصريين وانتقالها إلى الأجانب. شعاعٌ من الشعور بالقومية تلمحه من خلال هذه السطور أو تلك على طول صفحات الكتاب، في كل سطرٍ تبدو نزعةٌ إلى القومية. كل صرخة من صرخات الشكوى والتذمر التي يرسلها المويلحي هي نزعة إلى القومية، غير أنه «لم يجرؤ أن يُحدِث ثورةً كاملةً تشمل الموضوع والشكل، الفكرة والثوب مختلفان عند المويلحي؛ الفكرة مصريةٌ، أما الشكل فهو عربيٌّ في ثوبٍ بدويٍّ.»١
على أنه ثمة قيمة تاريخية لها دلالتها بالنسبة لمساره الأدبي الخاص، تتبدَّى في «حديث عيسى بن هشام»، هي أنها تشتمل على البذور الأولى للاتجاه الواقعي في أدبنا الحديث، تلك البذور التي تُعنَى بالنقد الاجتماعي للنظام القائم، وتتعاطف مع الطبقات الكادحة، وتتكلم بلسان إحدى الشرائح الطبقية، إلى بقية السمات العامة التي يتصف بها الأدب الواقعي في شكله العام، إن أهمية هذه الدلالة تكمن في أن هذه الشعيرات الجذرية الأولى هي التي أمدت — تاريخيًّا — أدبنا الواقعي بعصارة الواقعية بما يتفق مع تكويننا الذاتي الأصيل، وهذا يعني من زاويةٍ أخرى أن الواقعيةَ ليست مذهبًا مستوردًا، وإنما هي مجموع النتائج المتبلور في أعمال المويلحي وطاهر لاشين وعيسى عبيد وتوفيق الحكيم. من هنا كانت الحقيقة التي خرج عيسى بن هشام ليبحث عنها، ومعه عصرٌ كاملٌ، هي «مصر البرجوازية»، فعن طريق تصارع الأفكار بين الباشا من جهةٍ وبين عيسى بن هشام ونماذج مختلفة من البرجوازيين المصريين، مثل المحامي والطبيب، «نتبين أن المثال الأعلى للحياة الاجتماعية في مصر هو الطبقة البرجوازية، وأقول المثال الأعلى، وأنا مدركٌ أن هذا المثال نفسه يتعرض بدوره لنقدٍ شديدٍ من المؤلف، الذي لا يغفل عن معايب البرجوازيين المصريين الكثيرة، ولكن نقده لهؤلاء يستهدف الإصلاح، أي إنه يرى الإبقاء عليهم بعد أن يتلافوا عيوبَهم.»٢
وعلى النقيض من وعي المويلحي وثباته، نرصد الحيرة البالغة العنف في قصة «زينب» للدكتور محمد حسين هيكل. ولا ريبَ أن زينب، كانت قد استكملت إلى حدٍّ كبيرٍ الثوبَ الروائي العصري، فلم يكن بها من آثار المقامة شيءٌ، بل هي حفلت بالعامية المصرية، فاستحدثت بهذا الفتح الرائد أداةً تعبيريةً جديدةً ليست من التراث العربي في شيءٍ، وإذا كنا نعلم عن المويلحي أنه تأثر بالغرب وحضارته، إلى جانب تأثره بمصر وواقعها، فإننا على يقينٍ من أن هاتين الميزتين هما اللتان امتدتا في شرايين زينب وهيكل. فكانت الخاصية الأولى في الدكتور هيكل أنه أحد أولئك الذين حملوا مشعل «مصر للمصريين» زمنًا طويلًا منذ عهد مصاحبته لأحد رواد الفكرة المصرية في المجال السياسي، وأقصد به «أحمد لطفي السيد»، إلا أن هيكل إلى جانب مصريته، كان واحدًا من أبناء جيل النهضة الأدبية الحديثة التي تربت بين أحضان أوروبا، فقد عاش في باريس أمدًا غير قصيرٍ، عاد بعدها وقد أورثته الحضارة الغربية والثقافة الأوروبية غيرةً على وطنه المتخلف المستعبد. ومن ذلك المزيج المركب بأصالةٍ نادرةٍ من الحس المصري العميق والأدب الفرنسي العظيم، تكوَّنت لدى هيكل أولى سمات بنيانه الفني؛ لذلك نستقبل كلماته عن الظروف التي كُتبت زينب في ظلِّها بفهمٍ كبيرٍ حين يقول: «وليل الحنين وحده هو الذي دفع بي لكتابة هذه القصة، ولولا هذا الحنين ما خطَّ قلمي فيها حرفًا، ولا رأت هي نور الوجود، فقد كنتُ في باريس طالب علمٍ يومَ بدأتُ أكتبها، وكنتُ ما أفتأ أعيد أمام نفسي ذكرى ما خلَّفت في مصر مما تقع عيني هناك على مثله، فيعادوني الحنين للوطن، حنين فيه عذوبةٌ لا تخلو من حنانٍ، ولا تخلو من لوعةٍ.»٣
لم ترث زينب واقعيَّة المويلحي؛ لأنها كانت من إحدى النواحي ثمرة الرومانسية الفرنسية، أو كما لاحظ يحيى حقي في المرجع السابق (ص٤٢) من أنها ثمرةُ قراءةِ بول بورجيه وهنري بوردو — ولا أقول إميل زولا — في استطراد السرد وقلَّة الحفاوة بالحوار، وإقامة القصة على عمود الحب والدوران حوله. ومنذ الصفحات الأولى من قصة زينب، نلتقي بأسرةٍ ريفيةٍ تجلس على الأرض لتتناول الفطور من قبل أن يخرج كل أفرادها، من كبارٍ وصغارٍ وذكورٍ وإناثٍ لعملهم الشاقِّ في الحقول، فإذا الفطور الذي سيقيم أودهم حتى الظهيرة لا يزيد على خبزةٍ وحصوة ملحٍ، فتظن أن هذا المطلع البطولي — على حد تعبير يحيى حقي — سيؤدي بنا إلى ثورةٍ عنيفةٍ ضد الفقر والظلم والاستغلال، ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك، بل نجد نقيض ما نتوقع، نجد أن «هذا الوصف مجللٌ كلُّه بنغمةٍ شاعريةٍ تُضفي على الواقع كثيرًا من الجمال والخيال، وتوحي إليك أن أهل القرية قانعون بحالهم، وأن جمال القرية هو في هذه القناعة، وتحس أن المؤلف يخشى تصدُّع هذا الجماعِ كلِّه إذا تخلَّى الفلاح عن قناعته.»٤
وتبدو حيرة هيكل على أشدِّها فيما يسميه الدكتور علي الراعي بالحيرة بين الطبقات، فما أراده حامد بطل القصة في إطار عاطفة الحب أنه أراد أن يجمع بين النقيضين دون أن يوفِّق بينهما، فكان نصيبه الفشل، حاول أن يساند طبقته ويساند غيرها عليها في نفس الوقت، فلفظته الطبقة الأخرى، ولم يعمر ما بينه وبين طبقته، فأصبح حتمًا عليه أن يختفي.٥ وتلك هي النهاية التي اختارها هيكل لبطله، هو أن يغيب تمامًا عن مسرح الرواية وأرض أحداثها، وكادت قصته أن تكون منفصلة عن قصة زينب التي تبدأ بعد ذلك، وتنتهي على نحوٍ آخر يشبه من بعيدٍ نهاية غادة الكاميليا، مما يؤكد تأثر هيكل بالرومانسية الأوروبية تأثرًا مباشرًا.

معنى ذلك أن ثمة لقاءً واضحًا بين المويلحي وهيكل هو ما أدعوه بوحدة المزيج المركب من الروح المصرية والثقافة العربية، ولكنهما بعدئذٍ يفترقان؛ المويلحي إلى ذلك التناقض الجاد بين مضمون حديث عيسى بن هشام، ذلك المضمون الواقعي المعاصر، وبين الشكل العربي المتوارث القريب من أسلوب المقامات. أما هيكل، فعلى العكس من ذلك، يتم التناقض في عمله بين الشكل الحديث بما فيه من جرأةٍ على استخدام العامية المصرية في السرد والحوار، وبين المضمون الرومانسي البعيد عن شقاء المجتمع المصري حينذاك.

لهذه الأسباب مجتمعةً، تحتل «عودة الروح» لتوفيق الحكيم مكان الريادة الحقيقية «للرواية المصرية» شكلًا ومضمونًا، بمعنى أنها في المستوى الفني المحض تحقق أولى مراحل «الوحدة الدينامية» في أدبنا الروائي، أي أولى مراحل التكامل الفني للرواية المصرية. ولعلَّه من المفيد أن نسجل «الوحدة الزمنية» التي أثمرت «عودة الروح» و«أهل الكهف» جنبًا إلى جنبٍ؛ الأولى في الثوب الروائي، والأخرى في الثوب الدرامي. أما «أهل الكهف»، فقد استقبلها النقاد الذين عاصروا ظهورها بترحابٍ شديدٍ نتبيَّن دلالته فيما قاله الدكتور طه حسين حينذاك من أن المسرحيةَ «حادثٌ ذو خطرٍ، لا أقول في الأدب العربي العصري وحده، بل أقول في الأدب العربي كلِّه، وأقول هذا في غير تحفظٍ ولا احتياطٍ … إن بابًا جديدًا قد فُتح للكُتَّاب، وأصبحوا قادرين على أن يلجوه وينتهوا منه إلى آمادٍ بعيدةٍ رفيعةٍ ما كنَّا نقدِّر أنهم يستطيعون أن يفكروا فيها الآن، نعم هذه القصة حادثٌ ذو خطرٍ يؤرخ في الأدب العربي عصرًا جديدًا، إنها أولُ قصةٍ وُضعت في الأدب العربي، ويمكن أن تُسمَّى قصةً تمثيليةً حقًّا، ويمكن أن يُقال إنها أغنت الأدب العربي وأضافت ثروةً لم تكن له، ويمكن أن يُقال إنها قد رفعت من شأن الأدب العربي، وأتاحت له أن يثبت للآداب الأجنبية الحديثة والقديمة … كل هذا يمكِّن النُّقاد من أن يتبينوا في هذه القصة روحًا مصريًّا ظريفًا، وروحًا أوروبيًّا قويًّا.»٦
إن ما يعنينا من هذا النص المطول لطه حسين، هو أن النقد المصري الحديث على يدَي روَّاده العِظام كان على وعيٍ تامٍّ بالدور الخطير الذي قام به أدب توفيق الحكيم في شق الطريق إلى «الروح المصرية» بوسائل التكنيك الغربي، وتلك هي الدلالة الجوهرية الكاملة في الوحدة الزمنيَّة التي جمعت أهل الكهف وعودة الروح في إطار حقبةٍ تاريخيَّةٍ واحدةٍ، كانت هذه الحقبة كما تبينا من القسم الأول، هي مرحلة الصراع القومي لمصر من أجل تحقيق ذاتها الأصيلة، واكتشاف وجودها الخاص، وكان الأدب من أدوات هذا الصراع التي أُحيطت بقداسةٍ أقرب إلى الإرهاب، فالاتجاه إلى الغرب في أحدث منجزاته الفنيَّة لا يطمئن القلوبَ التي استراحت إلى آثار السلف ولا تطمئن إلى حضارةِ الأجنبي، والاتجاه إلى «مصر» يثير الذعر في القلوب التي آمنت بالتراث فيما يشبه العقيدة الدينية؛ لذلك كان من اليسير أن تتجاهل هذه القلوب أو تلك ما تعنيه خطوات المويلحي وهيكل (الذي آثر السلامة فأصدر زينب بتوقيعٍ مستعارٍ) من إرهاصات التحول الثوري الجديد الذي أنجزت عودة الروح وأهل الكهف مهامه الأولى. لم تكن الفكرة المصرية ولا التكنيك الغربي في كل من حديث عيسى بن هشام وزينب على درجةٍ عاليةٍ من النضج تُسمَّى بالتحول الكيفي الجديد الذي يثير الفزع؛ لذلك سارع طه حسين وقلةٌ نادرةٌ معه بحماية الخطوة الأولى لتوفيق الحكيم في الطريق الشاقِّ الوعر، وإن لم تسلم هذه الخطوة ممن يقول إن «أهل الكهف خطرةٌ على شبابنا، لأنها تزيغ أبصارهم عن الحقائق.»٧ وقصة الهجوم الذي تعرضت له عودة الروح عند ظهورها تكشف لنا، كما يذهب الدكتور عبد المحسن بدر، عن أن قضية الأدب الأولى «كانت ما تزال قضية الأسلوب، وأن النقاد والأدباء في عصره لم يلتفتوا إلى محاولة المؤلف الجادة والمخلصة لتطوير الرواية العربية، وتقديم بناءٍ روائيٍّ متماسكٍ، يتعدى نطاق الترجمة الذاتية، بإطارها الضيق، وبنائها المفكك، وأسلوبها التقريري، إلى أفقٍ آخر أوسعَ وأرحبَ.»٨

تلك هي القيمة الحقيقية لريادة «عودة الروح» المصرية، فهي ثمرةُ نظرةٍ شاملةٍ لتوفيق الحكيم تجلَّت في نفس الوقت في مسرحية «أهل الكهف»، أي إنها ليست وليدةَ نزوةٍ عابرةٍ أو فكرةٍ طارئةٍ، وإنما هي على الرغم من أنها امتدادٌ تاريخيٌّ لجهود الرواية العربية في مصر، إلا أنها تحوَّلت بتراكمات هذا الامتداد إلى مستوًى كيفيٍّ جديدٍ بدأت به الروايةُ المصريةُ تاريخَها الحقيقيَّ، وحياتَها الحقيقيَّةَ. إن أهميةَ هذه النقطة تتأكد لنا من التأثير الضخم لهذه الرواية على مجرى أدبنا الروائي المعاصر، ولو أنها كانت مجرد عملٍ عظيمٍ في عصره وكفى، لما استطاعت أن تحفر لنفسِها هذا المجرى في أعمال الأدباء المعاصرين، وفي مقدمتهم نجيب محفوظ، هذا التأثير لا يؤكد العظمة الفنية للرواية في ذاتها، بقدر ما يؤكد تلبيتها لاحتياجات مرحلةٍ تاريخيةٍ محددةٍ، بكل ما تشتمل عليه من سمات السلب والإيجاب، بل إن عودة الروح تحمل من خصائص عصرها هذه السمات السلبية والإيجابية في صورةٍ تمنحها رؤية العصر وروح العصر، وفي صياغةٍ تنقل ما بقي منها إلى أدبنا الحديث.

وهاتان هما النقطتان اللتان نستنير بهما في تقييم «عودة الروح»؛ ماذا حملت أولًا من ملامحِ العصر؟ وماذا استطاعت أن تحمل إلى الأجيال التالية؟ ولنواجه الرواية، ونحن ندلي بإجاباتنا، وجهًا لوجهٍ.

•••

تبدأ عودة الروح بما يشبه «البرولوج» الذي يسبق الفصل الأول، فنحن مع مجموعةٍ من الإخوة القادمين من الريف، غير أن ظروف الحياة تبقيهم في القاهرة. فهذا طالبٌ ﺑ «المهندسخانة»، وذاك ضابطٌ موقوفٌ عن العمل، والآخر مدرِّسٌ، ومعهم ابن شقيقهم الثري القاطن بالريف، وشقيقتهم العانس التي تخدمهم، وهم جميعًا قد استلقوا على فراش المرض بتلك الغرفة في حيِّ السيدة، فإذا سألهم الطبيب لماذا يرقدون معًا، وفي الشقة غرفةٌ أخرى للاستقبال يمكن استخدامها في مثل هذه الظروف، ينطقون جميعًا في صوتٍ واحدٍ: «مبسوطين كده». ويعلِّق الحكيم بصورةٍ مباشرةٍ ذات دلالةٍ: «… ولو استطاع أحدٌ لقرأ على وجوههم الباهتة ضوء سعادةٍ خفيةٍ بمرضهم معًا، خاضعين لحكمٍ واحدٍ، يُعطَون عين الدواء، ويطعمون عين الطعام، ويكون لهم عين الحظِّ والنصيب.» وعندما يقول الطبيب — أو المؤلف — إن أحدًا غير الفلاح لا يستطيع أن يعيش هكذا، الزوجة والأطفال ورب البيت وبهائمه في مكانٍ واحدٍ، نضع أيدينا على نقطة البداية في «عودة الروح».

المنطلق الغني عند الحكيم في الفصل الأول هو الحدث في لحظة حضورٍ، مع استخدام ما يُسمَّى ﺑ «الفلاش باك»، فنحن نكاد نتعرف على معظم الشخصيات في جلستهم العائلية المعتادة، ولكن الفنان يتخير من بينهم جميعًا «زنوبة» و«محسن» ابن أخيها ليسلط عليهما الأضواء بغير تحفظٍ. فالأولى فتاةٌ عانسٌ تسكن مع إخوتها في القاهرة لترعى شئونهم الخاصة بعد أن فاتها قطار الزواج، وبعد أن تربص بها «البخت المايل» العديد من المرات. أما «محسن» فهو يناضل عبثًا مظاهر الضعف التي تسري في كل أعضائه كلما ذُكِر اسمُ «سنية» جارته الجميلة أمامه، ويعتمد الحكيم أساسًا في صياغة هذه الشخصيات على الحوار من ناحيةٍ، والعامية المصرية من ناحيةٍ أخرى، ويتطور المسار الروائي من البساطة إلى التركيب مع تطور الشخصيات والحوادث من الواقعية إلى الرمز، فلا ريبَ أننا عندما نستمع إلى لفظة «الشعب» التي تأتي عفوًا على لسان محسن وهو يسأل عن أعمامه، لا نتصور مطلقًا أن المؤلِّف يحاول استدراجنا إلى ما هو أعمق من النداء الشائع. كذلك حين تبدأ علاقة محسن بابنة الجيران «سنية»، لا نستشعر أن ثمة شيئًا غير طبيعيٍّ سوف يحدث، وإنما يخلق الحكيم هذه الشخصية أو تلك من صميم النموذج الواقعي المماثل لها في دنيانا؛ لذلك أقدم على العامية المصرية بغير افتعالٍ، كما أقدم على الحوار دون تململٍ، ولكنه لم يلبث أن تحول بنا مع هذه البدايات الأولى إلى مسارب يصعب معها أن نُبقي على تصورنا الواقعي للأحداث والنماذج الإنسانية، وإنما نراه يقدِّم الشخصياتِ من خلال الحدث (كما قدَّم لنا زنوبة) أو يقدم لنا الحدث من خلال الشخصيات (واقعة منديل سنية)، أو هو يقدِّم بعض الشخصياتِ من خلال بعضها الآخر (محسن وزنوبة).

ويستهوي الفلاش باك منهج الكاتب في تعرية الشخصيات من حاضرها لنقف على «الماضي»، سواء كان في الفرد، أو في الشريحة الاجتماعية. فأثناء تعرفنا على «سليم» الضابط الموقوف، يتوقف بنا الحكيم — وسرعان ما يجد المناسبة لهذا التوقف — فيروي لنا قصة سليم مع سيدةٍ شاميةٍ في بورسعيد، وكيف أدى به الأمر إلى حالة الإيقاف الراهنة، وبينما نلاحظ على الحوار المتدفق قوة الإيحاء والتركيز والبعد عن المباشرة والتقرير، نجد أن السرد يجانبه هذا التوفيق، فكثيرًا ما تدخَّل الكاتب في السياق قاطعًا الطريق على الصورة الموحية بتعليقٍ ذهنيٍّ جافٍّ، كأن يقول عن محسن «وما كان أحراه أن يهدأ ويطمئن! فمَن ذا يتهم أو يسيء الظن بغلامٍ في الخامسة عشرة من عمره؟!» حين بدأت الاتهامات تتبادل الأيدي فور إعلان زنوبة عن ضياع منديل سنية من فوق سطحها، لا شك أنه في بعض الأحيان لم يكن الحوار في المستوى النفسي والذهني للشخصيات، وبالتالي لم يكن يجسد المستوى الدرامي للحدث. يحتج «عبده» مثلًا على معاملة «مبروك» قائلًا: «ومبروك مش ابن آدم؟ ومبروك مش واحد منا»، ومن امتى مبروك له معاملة غير معاملتنا؟ «من امتى ظهر التمييز ده في البيت؟» «فخفض مبروك الخادم بصره خجلًا، وجلست أصابعه تلعب بأزرار قفطانه القذر الممزق، وأحس في أعماقه أشياء لا يفهمها، وشعر بدافعٍ خفيٍّ يدفعه إلى اختلاس النظر لثياب محسن الجديدة الثمينة، غير أن شيئًا آخر جعله يغض من بصره، ثم إذا الدافع يدفعه ثانيةً إلى النظر سرًّا إلى ثياب محسن الجديدة الثمينة، وكانت تلك النظرات بريئةً ساذجةً لا تؤدي أي معنًى، ولكن فيها بعض الخضوع والانكسار والكآبة! ولعلَّ ذاك على غير علمٍ منه! ولعله كان يحس في تلك اللحظة بشيءٍ من الفرق يجب أن يظل موجودًا بينه وبين أولئك الذين يعايشهم منذ أمدٍ عيشة الأهل، إلا أنه لم يفطن لشيءٍ من هذا، ولم يدرك قط شيئًا، إنما هو مجرد إحساسٍ سريعٍ مرَّ كالبرق.» ربما أعطى هذا النص دلالةً أخرى، هي الفرق بين التحليل «الفني» في الرواية، والتحليل «العقلي» في البحث أو المقال، فالتحليل هنا يقتصر على التقاط المظاهر التفصيلية في الصورة دون ترجمتها إلى «وقائع» أو «معلومات»، على النقيض مما يقوله عن محسن الذي كان يذرف الدموع أمام أهله متوسلًا إليهم ألا يرسلوا إليه العربة تنتظره خارج المدرسة: «ما كان محسن الصغير يتمنى غير شيءٍ واحدٍ: أن يكون مثل رفاقه الصغار الفقراء! لا شيء كان يذيبه خجلًا سوى أن يبدو ممتازًا على أقرانه بثوبٍ أو نقودٍ أو مظهر ثراءٍ، واشتد به الأمر إلى حد أن كان يخفي اسم أسرته عن رفاقه.» إن سوء الاختيار يبدو هنا شديد الوضوح.

وتتراكم جزئيات العمل الروائي فوق بعضها البعض، على الأساس الكلاسيكي في الدراما، أي إن الحدث الرئيسي يكتسب حقًّا مجموعة من الروافد الجانبية، ولكنه يتركز ويزداد تركيزًا، إلى أن يصل به إلى التكثيف. فالترجمة الحرفية للواقع الخام تسيء إلى معنى اختيار الحدث للتدليل على هدفٍ فنيٍّ.

إحدى المراحل التي يمكن تسميتها بالأزمة، والمؤلف يجعل من فصول الرواية «تجارب مصغرة» للحدث الرئيسي الأكبر، كتمهيدٍ نفسيٍّ للقارئ والسرد في واقعيته يقرب من تولستوي وجوركي وبلزاك وزولا أكثر من قربه لدوستويفسكي أو فلوبير؛ لأنه يعتمد في جوهره على «العائلية» في البناء الطويل — أو التاريخي — للرواية، والأنموذج في الشخصية والحدث، هناك عشرات الأحداث الجانبية التي توضح سيطرة الغيبيات على المجتمع (زنوبة وقلب الهدهد اليتيم)، أو الهوة العميقة بين الكيان الرسمي وجوهره الحقيقي (سليم). إن التوازن أو الاختلال بين معدل تراكم الأحداث الجانبية ومعدل تبلور الهدف الرئيسي هو الذي يقيِّم في النهاية مدى نجاح «عودة الروح» نجاحًا فنيًّا، فإذا كان هناك مَن يؤكد أنه ليس في القصة توازنٌ بين الباطن والظاهر؛ لأن الباطن عظيمٌ، والظاهر وقائع صبيانية فيها الكثير من التصنع، ويكاد عقدها في بعض الأحوال أن ينفرط لمبالغته في الطول،٩ إذا كان هذا صحيحًا فإنه ليس من المعقول أن نقيم لعودة الروح تمثالًا لمجرد أنها رواية «عن» الثورة، فالثورة الحقيقية في الفن تنبع من داخل العمل الروائي نفسه: هل هو يحمل خصائص العمل الثوري «فنيًّا» أم أنه مجرد بوق لهتافات الثورة؟

إن الأحداث الجانبية في «عودة الروح» تؤدي روائيًّا إلى نقطةٍ محددةٍ، هي أن الجميع أحبوا سنية، وقعوا في غرامها، وتسابقوا الواحد تلو الآخر إلى خطب ودِّها، هذا من ناحية الهيكل الروائي، غير أننا من ناحيةٍ أخرى نلاحظ تدخلًا بين هذا الهيكل المصنوع من العواطف الملتاعة، والهيكل الآخر المصنوع من العواطف الوطنية التي تبدو لنا في تشبيه محسن لسنية بإيزيس، ثم تتضح في ذلك النقاش بين الأثري الفرنسي ومفتش الري الإنجليزي في منزل والد محسن، ثم تتضح أكثر فأكثر في المقتبسات التي يختارها الحكيم من كتاب الموتى وأسطورة إيزيس وأوزوريس. كم أساءت شطحات الحكيم في ولعه بالفلاش باك والحواشي والذيول والتعليقات الهامشية إلى بنيان هذا الهيكل الأساسي.

لقد أحبها الجميع حقًّا، وكان هذا الغرام الجماعي هو الذي فرَّقهم لأول مرةٍ، وجعلهم يشمئزون من حياتهم، ودفعهم إلى انفراد كلٍّ منهم بنفسه، وهكذا أصبحت «سنية» محورًا تدور حول بقية الشخصيات، ولكن هذا المحور هو الذي دفع بقية الشخصيات إلى حالة «الصراع» العاطفي الذي يبلور صراعًا واقعيًّا آخر، وبدلًا من الاعتماد على الحركة الدرامية في الحوار، اعتمد الحكيم على «اللوحة» السردية. ثم شجب النمطية وسكونها بتعدد المواقف المحورية في الرواية، إلا أننا نلتقي بالزوائد الاضطرارية نتيجةً لسوء اختيار «الموقف الروائي» حين يتم هذا الاختيار على ضوء مفهوم الحدوتة في الرواية، وإذا كان للحدوتة جوانبُ إيجابيةٌ، كالبطل الشعبي، فإن لها جوانبَ سلبيةً، كإغفال عنصر الزمن، وهو عنصرٌ فنيٌّ مشاركٌ في بناء العمل الفني على نسقٍ مختارٍ مسبقًا على عملية الخلق، لا أن يتولد عفويًّا من مجموعة الأحداث الحدوتية.

والجزء الثاني من عودة الروح — وهو يبدأ بزيارة محسن لقريته في إجازةٍ مدرسيةٍ — يجيب على هذا السؤال: كيف يصبح المشهد الواحد مضمونًا كاملًا، وتصبح جميع الأحداث إطارًا ضخمًا لهذا المضمون؟ إن الحوار الفوتوغرافي قد يزعجنا، والحوار الذهني قد يزعجنا أكثر، ولكن ما لا ريب فيه أن بداية الجزء الثاني هي بداية الغوص في أعماق مصر التي تجسدت في الجزء الأول كأفرادٍ، هنا تبدو مصر كقضيةٍ وفلسفةٍ وحضارةٍ ومصيرٍ، قد يُضطر الفنان إلى المباشرة والتقرير، ولكن من خلال الحدث الروائي، وتلك هي إضافة «الواقعية الاجتماعية» إلى معنى الحدوتة في الرواية، وهو أكثر جوانبها سلبًا؛ لأنها تحول الشخصية إلى بوقٍ للدعاية، فيفاخر أحد ركاب القطار بمصريته قائلًا: «أهل مصر شعبٌ أصيلٌ عريقٌ، من ٨ آلاف سنة واحنا في وادي النيل، وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت ما كانت أوروبا لسة ما وصلتش حتى لدرجة التوحش.»

ويردُّ عليه آخر: «لك حق يا أفندم … احنا من غير شك شعب اجتماعي بالفطرة! والسبب هو إننا شعب زراعي من قديم الأزل، في الوقت اللي كانت فيه الشعوب الأخرى تعيش عيشة الصيد.»

إن أمثال هذه النصوص قد تنفي عن توفيق الحكيم ما اتهمه به البعض حين جعل فرنسيًّا يدافع عن مصر،١٠ ولكنها في الدرجة الأولى تفرق بين واقعيته الرومانسية — إن جاز التعبير — والواقعية النقدية والواقعية الطبيعية كلتيهما. والجزء الثاني بأكمله يصور المرحلة الخطيرة في حياة محسن، المرحلة التي أفاق فيها — ومعه أعمامه بقية «الشعب» — على أن سنية تحب جارهم الوارث الجميل من دونهم جميعًا، حينذاك توحدت قلوبهم جميعًا في المحنة، محنة الحب العظيم الخائب، حتى «زنوبة» شاركتهم المأساة لأنها كانت تأمل خيرًا في ذلك الوارث الجميل الذي يقيم منذ زمنٍ أسفل شقتها في نفس العمارة، هي المرحلة التي تبدأ وتنتهي بهذا الشعار: «ما أسعدَ الجماعةَ! وما أحسنَ تلك الحياةَ مع الشعب!» وهي أيضًا المرحلة التي يتعرف فيها على حقيقة مصر، مصر الروح ومصر الثورة معًا، مصر الفلاح الذي أذلته أمه، وامتهنه أبوه، ولم يعرفه حقًّا إلا على «الطبيعة» الحية الصامتة، وعلى لسان أعجمي جاء من أوروبا بحثًا عن «الحقيقة» في جوف أرضها. والجزء الثاني أخيرًا هو بداية التركيز على مصر الأرض والفلاح، وتجسيد التناقض بين مصر والهيمنة العثمانية من ناحيةٍ، والفكرة العربية من ناحيةٍ أخرى.
ويغلب على هذا الجزء الإلحاح على «حيوية الشخصية» كعنصرٍ أساسيٍّ في تجسيم الشخصية الفنية، فما إن وصل محسن إلى محطة القرية حتى نزل من القطار «وسار بين الخادمين كالمستغرب، وكلمة «بيه» ترن في أذنه رنينًا غريبًا، غير أنه لم يكره ذلك هذه المرة، وشعر بشعورٍ غريبٍ من الخيلاء، وود لو أن سنية كانت حاضرةً لترى وتسمع». إلا أن هذا الزهو والخيلاء يعود فيتوارى أمام ذلك المشهد المستفز لجوهره الأصيل حين عاملت أمه التركية الأصل الفلاحين الذين تجمهروا لتحيته معاملةً مهينةً مليئةً بالإذلال والكراهية لأهل مصر، حتى والده الذي راوغ كثيرًا في قبول هذه السيطرة من «امرأة»، استجاب لها في النهاية وشارك في «المهزلة»، ويضع توفيق الحكيم كلتا يديه بشجاعةٍ وجرأةٍ على مأساة الفلاح المصري في ظل سطوة الأتراك والسادة من المصريين، ويشتد به حماسه فيفرِّق بين الفلاح المصري والبدو، ولو على لسان البسطاء من أهل القرية، وتحقق هذه الصفحات الحافلة بالتعاطف مع الفلاحين، درجةً عاليةً من النضج، تحقق الذاتية مع الموضوعية في إطارٍ من الصدق الفني الصارم، تحقق معنى «الهروب من الشخصية»، وكيف أنه لا يتناقض مع «التجربة الشخصية»، فبينما كان الحكيم في الجزء الأول من الرواية ينقل من حياته الخاصة نقلًا حرفيًّا١١ ما جاء في حوار محسن مع سنية حول حياته المبكرة مع العوالم أو مع زنوبة وأعمامه عن الحياة في الريف، نراه هنا يقوم بعملية تقطيرٍ لتجربته الشخصية في الحياة، فتصبح هي الأساس والمنطلق، ولكنه يجوب بها بعدئذٍ آفاقًا بعيدةً عن الواقع اليومي المألوف، هكذا جاء تمسكه بتجربته مع الأم التركية والأب الفلاحي الأصل عنصرًا أصيلًا في تجربته مع الأرض والفلاح.

وهكذا أيضًا جاء موقفه المبكر من الفكرة العربية موقفًا منحوتًا من الواقع، حين أخذ يستجوب «الخفير» حول الفروق بين «الفلاحين» و«البدو»، وكان الخفير بدويًّا، وهي حيلةٌ فنيةٌ لإثبات العكس مباشرةً:

– «كيف يا بيه البدوي مثل الفلاح؟!

– ايه الفرق بين الاثنين؟

– كيف يا بيه … كيف؟ … البدوي أصيل.

– والفلاح مش أصيل؟

– الفلاح عبد ابن عبد … احنا بدو ما نرضى الضيم.»

فإذا علمنا أن لفظة البدو كانت «العرب» في الطبعات الأولى من الكتاب، أيقنَّا بهدف المؤلف في مناقشته لعروبة مصر: «فهل هذا الفلاح مَن يصح اتهامه بأن لا أصل له وهو أصل الأصول؟!» «بينما هذا البدوي لا يزال على الوحشية وحب الحرب والثأر والدم … بقايا الحياة الأولى للهمجية القلقة غير المستقرة التي أساسها الغزو والسلب ونهب القبيلة للقبيلة.» وهي نفس العبارات التي جاءت في كتابه «تحت شمس الفكر» في معرض حديثه عن الفرق بين العرب والمصريين، كمدخلٍ لحديثه عن الموقف «المصري» الأصيل من الأحداث الجارية من حوله. لهذا نحن نفهم معنى ابتسامة محسن وهو يُصغي إلى إجابات الشيخ حسن ورأيه في البدو، ثم انفعاله بالسعادة وهو يردد: «الفلاح أحسن من البدوي، وأكرم من البدوي، وأطيب من البدوي، مش كده يا عم الشيخ حسن؟»

إلا أن هذه الدرجة العالية من النضج في معظم صفحات الجزء الثاني من «عودة الروح»، لا يستقيم معدل النضج فيها حين يستخدم الحكيم نفس المنهج التعبيري في معالجة بعض المشاهد الأخرى. وهو في ولعه ببعض أدوات التعبير وشغفه باستخدامها إنما يؤكد أنَّ الرواية المصرية في طورها الأول كانت «محدثة نعمة»، ما إن تنجح في استعمال إحدى أدوات التعبير حتى تجنح إلى استعمالها بمناسبةٍ وبغير مناسبةٍ، إلى أن تأتي بنتائجَ عكسيةٍ على طول الخط، كما لاحظنا في إقحام المؤلف للفلاش باك في كل واقعةٍ وفي تصوير كلِّ شخصيةٍ، وكما لاحظنا في استخدامه للرمز في هذا الجزء الثاني، فهو يسرف حين يصور لنا البقرة التي ترضع العجل من أحد ثدييها، ويرضع الطفل البشري من ثديها الآخر، وهو يتعسف حين يرجع بهذه الظاهرة إلى إيمان المصريين القدماء بوحدة الوجود. وهو يتطرف حين يجعل مفتش الآثار الفرنسي وحده هو الذي يعلم حقيقة مصر دون غيره من عباد الله، لقد استهوته فكرة النقيض التي جرَّبها في موقفه من العروبة على لسان البدوي (أو العربي)، فأراد محاكاتها على لسان الفرنسي. وبينما أحرزت التجربة الأولى بعض النجاح، أخفقت المحاكاة في سيلٍ من التقارير المباشرة. ويتأكد لنا من جديدٍ أن هذا الجزء هو المقابل الريفي للجزء الحضري؛ الأصالة في طرفٍ، والزيف في الطرف الآخر، مصر في جانبٍ والاستعمار الغربي في الجانب الآخر. كذلك نحن نستطيع أن نتتبع الفكرة المصرية عند الحكيم في هذا الجزء من موقف الأم التركية إلى موقف العربي (البدوي) من الفلاحين، إلى موقف البقرة من ابنها والابن البشري، إلى تضحية الفلاح العظمى، إلى قوله: «هل يستطيع هو أيضًا أن يضحي في سبيل سنية، وأن يقذف بنفسه في الألم والشقاء من أجلها، أم أنه ليس من دم ذلك الفلاح؟» وقول المفتش المصري: «جئ بفلاحٍ من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجاربَ ومعرفةٍ رسب بعضها فوق بعضٍ وهو لا يدري! نعم هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظاتٌ حرجةٌ، تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته، هذا ما يفسر لنا — نحن الأوروبيين — تلك اللحظات من التاريخ التي نرى فيها مصر تطفر طفرةً مدهشةً في قليلٍ من الوقت، وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عينٍ.» بهذا الفهم لحقيقة مصر والمصريين يرى الرجل الأجنبي معجزة الأهرام على أنها صلاةٌ من الحجر شيدها التساند والتآزر الخفي في محبة «المعبود» الأكبر، فللمصريين قلبٌ واحدٌ وروحٌ واحدةٌ، وهنا تأتي عبارة «الكل في واحدٍ» في مكانها المناسب تمامًا؛ لأنها عماد الفكرة المصرية — روائيًّا — عند توفيق الحكيم، فترجمتها السياسية هي تجسد القلب الواحد في قائدٍ وزعيمٍ يخلص لمصر إخلاص شعبها لها.

وما إن يعود محسن إلى القاهرة حتى نُفاجأ معه بالقمة الكلاسيكية لحركة الأحداث، فقد تمت خطبة سنية إلى الجار الوارث الجميل، واشتعل البيت نارًا لاهبةً للقلوب المحبة، ويتحقق شعار «الكل في واحدٍ» في وحدة الشخصيات إزاء الحدث العظيم «المشترك»، وتتجسد الهزيمة الروحية في ذلك «الوجد» الصوفي كمخلصٍ من العذاب، فيلجأ محسن إلى «السيدة زينب» باكيًا، وتنهمر عليه الأحلام ليلًا تحمل إليه أشهى القبلات من ثغر سنية: «ولأول مرةٍ أحس القرب منهم … فالعاطفة بينهم مشتركةٌ، وكل شيءٍ مشتركٌ، وكذلك الخيبة والألم.» ولقد اهتم الحكيم بتصوير النماذج الثلاثة «سليم» و«عبده» و«محسن» في لحظةٍ واحدةٍ، من ناحية الزمان ومن ناحية العاطفة نحو سنية، وكان هذا الاهتمام تعبيرًا بالغَ الدلالة على موقفه الفني من هذه الشخصية الرمزية، وموقفه الإنساني من بقية الشخصيات، وهو التعاطف الشديد، ويتضح الحس الدرامي للحكيم في بلورة الموقف من سنية، فالهياج العصبي من جانب زنوبة، يقابله العطف والتقدير من جانب الجميع، ويعتمد الفنان على تجميع الخيوط من حركة الأحداث وتكوين الشخصيات في هذا الموقف، ويجعل من «البطولة للجميع» سمةً رئيسيةً من أهم السمات الفنية في «عودة الروح»، ومن بعدها الرواية المصرية. وفي سبيل ذلك لا يعنيه أن يقدم لنا قرب الخاتمة شخصيةً جديدةً (مصطفى) من جذورها الاجتماعية والنفسية، وهو الفتى الذي آلت إليه نهاية قصة سنية بالزواج منها، فلم يظفر باشمئزاز أحدٍ سوى زنوبة التي تكنُّ له مشاعرَ خاصةً كعانسٍ مزمنةٍ. وقد حاول الحكيم أن يجسِّد التناقض بين الهياج العصبي من جانب زنوبة، والعطف والتقدير من جانب الجميع. هذا التناقض لم يصل إلى مستوى الكراهية ولا إلى مستوى التعاطف، وإن ظلَّ متوترًا مذبذبًا كبندول القلق. وفي موازاة هذا التوتر أقام الفنان توترًا آخر بين بيت الدكتور حلمي — والد سنية — وبين بيت الشعب، وسنية من بين أفراده على وجه الخصوص، ويبدو أن التوتر بلغ مداه بالمؤلف فاختلطت عليه وسائل التعبير، فترجم الحوار في كثيرٍ من المقاطع إلى السرد الفصيح، مبررًا هذا المقطع أو ذاك بقوله مثلًا: «هذه خلاصةُ ما انفجرت به الأم.»

وتنحاز كاميرا الحكيم في الصفحات الأخيرة إلى سنية، إذ تغيرت حتى في نظر سليم، ولم تعد تلك المرأة «المادية» المغرية، وإنما هي ذلك الاسم المعنوي الذي لا يدل إلا على معبودٍ واحدٍ يتألمون كلُّهم من أجله، وكان محسن يشاهد ما جرى أمامه في ابتسامةٍ وسرورٍ داخليٍّ لعبارة «معانا منديلها»، و«قالت لنا تعالوا» … إلخ، متأثرًا للفظة «نحن» التي حلت محل لفظة «أنا». وإذا تجاوزنا عشرات من الحواشي والذيول التي تعترض طريقنا مع تعليقات المؤلف وملاحظاته الشخصية، استطعنا أن نبلغ خاتمة الجانب المأساوي في الرواية، حين يذهب محسن إلى بيت سنية ليخرج منديلها الحريري ويعطيه لها في صمتٍ، ولولا روح الميلودرام في هذا الموقف «المؤثر» لكان الخاتمة الطبيعية. ولكن المؤلف — معنا — قد أدرك أن النهاية «الفاجعة» على هذا النحو لا تثمر الرمز العظيم الذي بنى روايته على أساسه، ومن ثَم كان لا بد من الانتظار قليلًا حتى يأتي الربيع وتحبل مصر، وتحمل في بطنها مولودًا هائلًا: «وها هي مصر التي نامت قرونًا تنهض على أقدامها في يومٍ واحدٍ، إنها كانت تنتظر — كما قال الفرنسي — ابنها المعبود، رمز آلامها وآمالها المدفونة، يُبعث من جديدٍ … وبُعِث هذا المعبود من صُلب الفلاح.» ويخرج محسن في خضم المظاهرات الوطنية، فقد انفجرت الثروة من قلبٍ واحدٍ وهو قلب مصر. وكما أن سنية هي إيزيس، فكذلك «المعبود» العظيم الذي قاد ثورة مصر هو أوزوريس. ويُفاجأ محسن بأنه ليس بمفرده في طوفان الثورة، بل إن «الشعب» كلَّه قد خرج يشعل البركان الذي ظلَّ يغلي آمادًا طويلةً، الشعب الصغير والشعب الكبير على السواء، إلى أن تم القبض على «الشعب الصغير» بعد العثور على كمياتٍ مكدسةٍ من المنشورات بغرفةٍ على السطح!

ولا يلبث محسن مع أعمامه في المعتقل أيامًا حتى يُحوَّلوا إلى أحد المستشفيات — من باب العطف على مركز والد محسن الاجتماعي — وهناك يلتقي بهم ذلك الطبيب الذي صادفناه في بداية الرواية: «هو انتم؟ … وبرده هنا كمان جنب بعضكم؟ الواحد جنب اخوه»، فقد فوجئ بهم على أسرَّة تصطفُّ إلى جانب بعضها في مكانٍ واحدٍ، ويتم بذلك ميلاد «عودة الروح».

وقبل أن نتساءل عن مكان هذا العمل في تاريخ الأدب المصري الحديث، لا بد لنا من مناقشة مجموعةٍ من الآراء الهامة، التي رافقت ولاحقت صدوره بمختلف مناهج التقييم.

فنحن نستمع منذ وقتٍ مبكرٍ إلى رأيٍ يقول إن الخاتمة جاءت باردةً تافهةً، ليس فيها حرارة الباطن ولا عظمته: «فصورة الثورة باهتةٌ مقتضبةٌ، ويمكن أن يُقال إنها دخيلةٌ على القصة وثانويةٌ بالنسبة لموضوعها.»١٢ بالرغم من أن صاحب هذا الرأي نفسه يقول في مكانٍ آخر إن أساس هذه القصة هو الأسطورة الفرعونية الواردة في كتاب الموت عن مقتل الإله أوزوريس، وكيف طافت أخته لجمع أشلائه، وانحنت عليه تنادي روحه، علَّها تعود للجسد فيُبعث حيًّا: «فالأشلاء المتفرقة هي مصر المتقطعة الأوصال، وعودة الروح الشرارة التي أوقدتها الثورة المصرية.»١٣
غير أن هناك رأيًا آخر يقول إنَّ النفسَ المصريةَ في عودة الروح هي النفسُ البسيطةُ والعميقةُ في آنٍ، وقد ثارت في أنسب الأوقاتِ وأكثرها ملاءمةً لطبيعتها التي تُؤثِر الصمتَ الطويلَ، تعقبه الثورة العارمة.١٤ وثورة مصر هي خاتمة البحث عن طريقٍ يرفض الاستعانة بالشرق ممثَّلًا في الخلافة، كما يرفض الاستعانة بالغرب ممثَّلًا في فرنسا.١٥ هذا الطريق الذي يصل بين مصر القديمة ومصر الحديثة برباطٍ حيٍّ من آيات النضال التي أحسها محسن بصورةٍ مبهمةٍ، فهي لم تخرج إلى منطقة العقل والعمل إلا في الوقت الملائم.١٦
وهناك رأيٌ ثالثٌ يميل إلى أن عودة الروح تترجم لحياة توفيق الحكيم الشخصية،١٧ بينما يميل رأيٌ حديثٌ إلى أن المؤلف يتصور مصر التي يظهر عليها التفككُ والانقسامُ، هي نفسها التي تخفي قوةً روحيةً هائلةً تنتظر المعبود الذي يلم أشتاتها المبعثرة، ويوجهها إلى الهدف الحقيقي لتقوم بالمعجزة، كما حدث في ثورة ١٩١٩م، وهي لا تستطيع القيام بالمعجزات إلا إذا توحدت جهودها في العمل المشترك، ووجدت الزعيمَ الذي يوحِّد جهودها في سبيل هذا الهدف.١٨ ويدور تصور توفيق الحكيم عند صاحب هذا الرأي على ثلاثة محاورَ؛ تعلقهم بالمعبود، وسعادتهم في العمل كتلةً متماسكةً، وارتباطهم بهذه العاطفة ارتباطًا عميقًا ينبع من أعماق قلوبهم لا من عقولهم.١٩ ولعل تفسير هذه الظاهرة — عند صاحب الرأي نفسه — يرجع إلى تصوير الحكيم للتاريخ المصري، فهو يرى أن مصر محتفظةٌ بطبيعتها الخالدة الثابتة على مر العصور، وأن هذه الطبيعة لا تتغير ولا تتبدل، وأن ما يظهر على سطح الواقع من مظاهر التخلف، كبؤس الفلاح مثلًا، ليس إلا غشاءً سطحيًّا يكشف عن جوهرٍ حقيقيٍّ أصيلٍ ورائعٍ، ونتيجةً لذلك، نجد المؤلف لا يشغل نفسه بالكشف عن روح الشعب في صورةٍ واضحةٍ صريحةٍ؛ وذلك لأنه يعتقد أن هذه الروح كامنةٌ ثابتةٌ واضحةٌ حتى في العادي والبسيط من المواقف، وقد أدى نفس هذا التصور إلى ما نحس به من أن الأحداث في الرواية لا تتطور نحو غايتها، وهي التعبير عن روح الشعب المصري، ولكنها تظل ثابتةً لا تخضع للتطور، فإذا وقعت الثورة التي يريد بها المؤلف التعبير عن هذه الروح، فإننا نحس بأنه لم يمهد لوقوعها تمهيدًا، وأنها وقعت فجأةً دون أن نحس ببوادر ظهورها، فهي في نظر المؤلف أشبه بالمعجزة.٢٠
بينما يركِّز رأيٌ حديثٌ آخر على أن الفكرة الرئيسية في الرواية هي فكرة «المعيشة المشتركة»،٢١ وأن ما تحرص عليه الرواية هو سلامة الفكرة أولًا، ثم سلامة الواقع من بعدُ.٢٢ وسنية لذلك — في المستوى التجريدي — تدفع فريقًا من أبناء الطبقة الوسطى إلى الاشتراك في الثورة التي تمهد الطريق لمستقبل الطبقة كلِّها، وتدفع فريقًا آخر من أبناء نفس الطبقة إلى مقاومة السيطرة الأجنبية على اقتصاد البلاد، ليتسع مجال العمل أمام الطبقة، وتحصل على مكاسبَ جديدةٍ تبني لأبنائها مصيرهم الجديد.٢٣ والواقع — عند صاحب هذا الرأي — أن الحكيم ينظر في «عودة الروح» إلى بلاده نظرةً ديناميةً ثائرةً، تجعله يقف وقفةً صلبةً إلى جوار مصر وشعبها ضدَّ كل أعدائها.٢٤ إن ثورة مصر التي تنفجر في الصفحات الأخيرة من عودة الروح هي حصيلة هذه الآلاف من السنين التي هي ماضي مصر، والمصريون مستعدون للقيام بالعظيم من الأفعال، وروحهم في حالةٍ ثوريةٍ بركانيةٍ، تنام حينما تفتقد مصر الزعيم والقائد.٢٥

إن تعدد هذه الآراء في «عودة الروح» على مدى جيلين من الزمان في مرحلةٍ حضاريةٍ واحدةٍ يؤكد شيئًا هامًّا، هو أن هذا العمل بالرغم من كل ما يمكن أن يؤخذ عليه من تحفظات الناقد المعاصر، كان تلبيةً فنيةً جادةً لاحتياجات المرحلة التاريخية التي نبت فيها، وكان ممثِّلًا أمينًا لمعظم خصائص العصر الذي وُلد فيه، سواء بالسلب أو بالإيجاب، وهذا هو «المنظور» الذي فرضته «عودة الروح» على نقادها، ولكنها لم تظفر بصياغةٍ منهجيةٍ ترتفع إلى مستوى هذا العمل الهام.

فعودة الروح ليست مجرد بناءٍ روائيٍّ أكثر تكاملًا من الأبنية السابقة، وإنما هي تجسيدٌ حيٌّ دقيقٌ للصراعات التي عاناها الروائي المصري في اكتشاف الرواية المصرية كفنٍّ أدبيٍّ جديدٍ، فلا شكَّ أنه من اليسير أن نصنِّف «زينب» هيكل في خانة الأدب الرومانسي، ولكنَّه من العسير أن نصنِّف «عودة الروح» في أية خانةٍ تقليديةٍ. إن كاتبها يستوحي الدراما الكلاسيكية في اتخاذ «العقدة» مركزًا رئيسيًّا لتجمع الأحداث والمواقف والشخصيات، هكذا كان موقف «سنية» من الغرام الجماعي الذي لم ترفضه بادئ الأمر، لقد أبدت شيئًا من الود لمحسن وعبده وسليم، وشجعت كلًّا منهم على انفرادٍ أن يقع في هواها، ولكنها من ناحيةٍ أخرى وقعت في غرام «مصطفى» جارهم الوارث الجميل. وهو نفس «الأمل» لزنوبة، العانس المتصابية، ومن ثَم يصبح «الحل» الكلاسيكي المُعَد سلفًا هو أن تختار سنية «مصطفى» من بين الجميع، وأن تختار الثورة وقودها من بينهم، وأن تظل زنوبة شبحًا يائسًا من الزواج. هذا هو البناء الكلاسيكي في المسرح الذي أحبه الحكيم بكلِّ ذرات دمه، وقد انعكس على العمل الروائي من جانبين؛ الجانب الأول هو الاعتماد الرئيسي على الحوار، والجانب الثاني هو الاعتماد على «حركة» الشخصيات، لا على تطورها، تلك هي السمة الكلاسيكية المزدوجة النتائج في «عودة الروح»، فنحن قد لا نلمس خصائصَ فرديةً مميزة لكلِّ شخصيةٍ من الشخصيات، ربما شعرنا بها مجموعة من «النماذج» التي تلخص اتجاه إحدى الطبقات أو الفئات الاجتماعية، وبالتالي فهي لا تتطور إنسانيًّا، إنما هي تتحرك رمزيًّا، وليس ثباتها نتيجة تصور الحكيم لثبات جوهر مصر، فهذا الفهم أقرب ما يكون إلى «التبرير» دون التحليل، والحق أن شخصياتِ الحكيم جميعَها في حالة «حركةٍ»، توجهها فكرةٌ مسبقةٌ عند المؤلف، وهذه النقطة تفسر لنا الكثير من الجوانب الفنية في الرواية، فالنطاق المثالي عند الحكيم، كإيمانه بالفرد إيمانًا مطلقًا، وإيمانه بالفكرة «الخالدة» كمحورٍ وحيدٍ لبقاء مصر وثورة مصر، هو الذي يلجئه إلى التصميم الذهني في الرواية، والبناء الكلاسيكي هو أكثر التصميمات الذهنية قربًا ومنالًا، وبالرغم من أننا قد نلمح شخصيةً حيَّةً هنا أو هناك، في هذا الموقف أو ذاك، فإننا لا نستطيع أن نرى شخصيات عودة الروح شخصيات إنسانية من لحمٍ ودمٍ، وإنما هي أدوات المؤلف لتجسيد مجموعة من الأفكار. وهكذا ينزلق الحكيم على جدران البناء الكلاسيكي بحوارياتٍ فيها الكثير من المباشرة والتقرير، وسردٍ مليءٍ بالتعليقات التي تقتحم السياق في غير قليلٍ من العنف، والمسرح الكلاسيكي هو مسرح الثبات حقًّا، وهو مسرح الحركة أيضًا، هو المسرح الذي يناقش الصفات الثابتة للإنسان، معدنه وجوهره الأصيل في مجموعة الفضائل والرذائل «الخالدة» في النفس البشرية. غير أنه مسرح الحركة التي تتطور خلالها الشخصيات إنسانيًّا، ولكنها تهبط وترتفع وتذهب وتجيء حسبما تمليه رموزها الذهنية أولًا، وحسبما يتوجه البناء الدرامي من المقدمة إلى العُقدة إلى الحل، من البداية إلى الأزمة إلى الانفراج، هذا هو الجانب الذي ورثته «عودة الروح» من الكلاسيكية، وإن كانت في الرداء النثري للرواية قد زحفت إليها روح الميلودرام في كثيرٍ من المواضع؛ ذلك أن الحكيم لم يقتصر على الجانب الكلاسيكي، وإنما هو راح يستوحي العديد من الاتجاهات الأخرى، ولم تكن الظلال الميلودرامية (كما لاحظنا في المشهد الختامي بين سنية ومحسن) سوى الانعكاس الأمين للصراع الذي عانته الرواية المصرية في لحظات ميلادها على يدَي توفيق الحكيم.

فلقد كان الاتجاه الرومانسي يغالب البنية الكلاسيكية للرواية. تولَّد هذا الاتجاه فنيًّا من ضرورةٍ فكريةٍ مسبقةٍ، وهي أن المؤلف استهدف القيام بعملية بعثٍ تاريخيٍّ لمصر، تعتمد على أمجاد الماضي القديم من جهةٍ، وتنطلق من تصورٍ مثاليٍّ للفكرة المصرية من الجهة الأخرى، ثم تزاملت الفكرتان (مصر الخالدة والعبث) في تجسيد مجموعةٍ من الأحداث التي تشكل فيما بينها «قصة حبٍّ» من حيث الظاهر، وتحيي المضمون الثوري للبرجوازية الناشئة من حيث الجوهر. إن استخدام الفلاش باك، واستحداث الحلم في «عودة الروح»، هو انعكاسٌ لإيمان المؤلف ﺑ «الماضي»، فالطبقة التي يجسم أحلامها ويتشيع لأمانيها قد أحست حتى النخاع بما ينطوي عليه الواقع الراهن آنذاك من مرارةٍ؛ الاستعمار والإقطاع والرأسمالية الكبيرة تهيمن جميعها على مقدرات البلاد، وتبدو هذه الأعواد الغضَّة من بواكير إنتاج الطبقة المتوسطة، وكأنها تختنق من هذا الحصار الدموي المحكم؛ لذلك تطلعت البرجوازية المصرية الناشئة إلى أمجاد الماضي القديم، تستمد منه القوة على مواجهة الواقع المر حينًا، ونسيانه حينًا آخر، أي إن المجتمع المصري في أحدث أشكاله الطبقية تقدمًا، كان يعاني آلام المخاض الرومانسي التي أعلنت عن نفسها في اهتمام المثقفين اهتمامًا زائدًا بالتاريخ، وعناية الأدب وتوفره على الرواية التاريخيَّة.

وهكذا لم يستطع الحكيم أن يعتمد اعتمادًا كليًّا على البناء الكلاسيكي، وإنما راح يستوحي إلى جانب البناء الرومانسي كما سبق له أن تمثله في آيات العصر الذهبي للرومانتيكيَّة الفرنسيَّة. ولعلَّنا نلاحظ جرثومة الرومانسية وقد غزت أحشاء «عودة الروح» منذ بدايتها، منذ أن وقع الفتى المراهق «محسن» في هوى ابنة الجيران «سنية»، لمجرد أنَّ شعرها الأسود وعينيها الواسعتين يذكِّرانه بصورةٍ في كتاب التاريخ، هي صورة «إيزيس»، أي إن عاطفة الحب هنا لا علاقة لها بالغرام الكلاسيكي الخالد الذي نتعرف عليه في أعمال كورني وراسين وشكسبير، ذلك الغرام الذي يقترن في معظم هذه الأمثال بالبطولة والقدر، إلى غير ذلك من مسميات وتعبيرات التاريخ الأدبي عن روائع الأدب الكلاسيكي.

كذلك فإن عاطفة الحب في «عودة الروح» لا علاقة لها بالغرام الواقعي إن جاز التعبير عن هذا الموضوع الذي شغل أذهان رجال الأدب في أواخر القرن التاسع عشر، بحيث كانت هذه العاطفة في الفن الروائي أقرب إلى المعادلات الاجتماعية عند كاتبٍ عظيمٍ كبلزاك، أو المعادلات الكيميائية عند كاتبٍ آخر كزولا. إن «الحبَّ» في عودة الروح هو الغرام الرومانسي التقليدي الذي ينشأ عادةً بين الأعمار المبكرة في ظروف الضغط العائلي المرهق لأعصاب الشاب الغض، إلا أن توفيق الحكيم لا يكتفي بقيام الشكلِ التقليديِّ للحبِّ الرومانسي بين محسن وسنية، وإنما هو يضيف إليه من رائحة الرمز التاريخي وعبق الماضي ما يركز الجانب الرومانسي تركيزًا شديدًا، تكاد معه «فاجعة الحب» أن تصبح محور المأساة. إن «العودة إلى الماضي» لرؤية المستقبل هي جوهر البناء الرومانسي في الرواية، فالتداعي الذهني يعرفنا به على تاريخ زنوبة ومحسن ومصطفى، خاصةً حديث محسن الطويل مع سنية عن سني حياته الأولى — الطفولة — و«الحلم» الوحيد في القصة هو حلم محسن بازدهار الحب والفوز بقبلات المعشوقة. بل إن الحكيم يبالغ أكثر ويقدم لكلِّ جزءٍ من جزئَي الرواية بأبياتٍ من الأسطورة المصرية القديمة، تلك هي إذن طلائع الرومانسية في عودة الروح.

بل إننا لا ننسى أن المؤلِّف كتب جزءًا كبيرًا من هذه الرواية بالفرنسية أثناء غيبته في باريس، فما أقرب الشبه بينه وبين هيكل حين كتب قصة «زينب» في نفس المكان. إن «الحنين» وحده هو الذي يربط بين القصتين ربطًا عميقًا، الحنين الذي يحمل خصائص المثقف البرجوازي المتمرد، ولكن أغلال تمرده أقوى من أن تحلها يداه الضعيفتان، ومن ثَم يلجأ إلى الأحلام، إلى الريف، إلى مصر القديمة، إلى اللغة الشعبية، إلى كافة أدوات الخيال الرومانسي الجامح. حقًّا، إن زينب هيكل لا تعاني من صراعٍ بين أكثر من اتجاهٍ فني، فهي من الأدب الرومانسيِّ المحض، ولكنهما معًا — زينب وعودة الروح — أغنيةٌ حالمةٌ للريف المصري؛ لذلك نرى الريف في كليهما وكأننا أمام شاشة سينما، ولسنا نجوس على أرض الواقع التعس، فبالرغم من أن تعاسة هذا الواقع هي التي فجَّرت التمرد في الفنَّان، إلا أنه يناضلها بسلاح التجاهل واللامبالاة، بل هو يضفي عليها من خياله الشيء الكثير، فيراها كما تتوهم أحلامه، معلنًا رفضه للواقع وتعاليه عليه، هذا هو التكوين الرومانسي لعودة الروح، فالبؤس الذي يقاسيه الفلاح يختفي وراء ستارٍ كثيفٍ من الشعار الرومانسي القائل «عشرة آلاف سنة» يحملها هذا الفلاح على كتفيه، تتوسد أعماقه، وترسب في وجدانه، لا تزول. كذلك يختفي هذا البؤس في الشعار المعقد الذي يعاني من مركب النقص «نحن أفضل من أوروبا». ويختفي مرةً ثالثةً في تلك المناقشات الملتوية بين البدوي والفلاح لتعلن هذا الشعار «نحن أكثر أصالةً»، وهكذا، وما أخصب الصراع الذي دارت رحاه بين الوجه الرومانسي والوجه الكلاسيكي لعودة الروح!

غير أن اتجاهًا آخر ظلَّ يغالب الاتجاهين السابقين منذ أمسك الحكيم بالقلم ليخطَّ السطر الأول في هذه الرواية الرائدة، ذلك هو الاتجاه الواقعي، إن السحابة الرومانسية قد أمطرت أحلامًا كثيرةً، ولكنها لم تخفِ وجه الشمس، والرخام الكلاسيكي الثابت الأركان لم تزلزله حركة التنقلات الكثيرة في المكان، ولكنه لم يقف حائلًا دون حركة الزمان؛ لهذا يحتفي الحكيم بالواقع في عودة الروح على نهجٍ خاصٍّ لم يسبقه إليه أحدٌ في أدبنا الحديث، يحتفي بالواقع في اختيار القضية-المحور، والشخصيات الرئيسية، وزوايا المعالجة. فالقضية في عودة الروح ليست على الإطلاق، هي قضية الفضيلة أو الرذيلة أو الانتقام أو القدر أو غيرها من قضايا الأدب الكلاسيكي العظيم، كما أنها ليست قضية الفروسية أو الحب الفاجع أو الموت أو غيرها من قضايا الأدب الرومانسي، وإنما هي على وجه التحديد قضية «مصر الثورة»، أو قضية الطبقة المتوسطة في مصر إبان الثُّلث الأول من القرن العشرين؛ لهذا لم تَرِد جزافًا كلماتٌ مثل «الشعب» أو «الحكومة» على لسان هذا أو ذاك من الشخصيات دالًّا من حيث المظهر الخارجي على الكيان العائلي ومَن يتصرفون فيه، رامزًا من حيث الجوهر العميق إلى الشعب الحقيقي والحكومة الحقيقية؛ ولهذا أيضًا تم اختيار الشخصيات بوعيٍ نافذٍ بطبيعة المرحلة التاريخية التي عاشتها بلادنا آنذاك، فليست الأم التركية والأب المصري الموظف بالحكومة، ومفتش الري الإنجليزي، والأثري الفرنسي، ثم الأعمام القاطنون بحيِّ السيدة، أحدهم مدرسٌ والآخر ضابطٌ موقوفٌ والثالث طالبٌ بالمهندسخانة، ومبروك الخادم والدكتور حلمي والد سنية؛ ليست هذه الشخصيات إلا تجسيدًا واعيًا بحقيقة الوضع الاجتماعي في مصر، ولعلَّ الأحداثَ الجانبيةَ التي تبدو لنا تافهةً في أول الامر، كسيطرة العالم الغيبي على العانس «زنوبة» شقيقة المدرِّس والمهندس والضابط والموظف الكبير، والإفلاس المستمر الذي ينشب أظفاره بقوةٍ في أمعاء هذه الأسرة المتآلفة، ثم الغرام الجماعي لابنة الجيران، وفوز الوارث الجميل بها، وما تجشمه من عناءٍ حتى يقابلها عند طبيب أسنانٍ، وما عاناه في سبيل الاستقرار بالقاهرة وبيع الدكان الموروث بالمحلة الكبرى، وكذلك التفاصيل الصغيرة التي وقعت في القرية من أمه وعنجهيتها وتسلطها ونفورها من احتفاء الفلاحين بمجيء ابنها، وتحكُّمها في زوجها الذي يدخل في دائرة نفوذها فيأمر الفلاح المسكين بأن يذهب في «عز الحر» يشتري خبزًا إفرنجيًّا من المدينة المجاورة، إلى غير ذلك من عشرات الأحداث التي قد توحي للوهلة الأولى أنها «وقائعُ صبيانيةٌ» تصيب الرواية بالتفكك، ليست إلا ذلك «النسيج الواقعي» للرواية كما يفهم الحكيم الواقعية، وهو النسيج المشتمل على القضية الرئيسية، النسيج البرجوازي الناشئ بين أحضان مجتمعٍ يئنُّ تحت وطأة التحالف الاستعماري شبه الإقطاعي، فنحن لا نستطيع أن ندرج هذه الأحداث «العادية والتافهة» في نسيجٍ كلاسيكيٍّ يختار شخصياته غالبًا من النبلاء والأحداث «العِظام»، ولا نستطيع أن ندرجها في نسيجٍ رومانسيٍّ شديد الرَّهافة والشفافية، وإنما نستطيع القول بأن الحكيم استوحى من الواقعية الأوروبية هذا المعنى للعادي والمألوف والتافه كنسيجٍ للأدب الواقعي، ولكن الحكيم ليس واقعيًّا مع ذلك بالمعنى الأوروبي الشائع في أواخر القرن التاسع عشر، ليس واقعيًّا «نقديًّا»، وليس واقعيًّا «طبيعيًّا»، وغنيٌّ عن البيان أنه ليس واقعيًّا اشتراكيًّا. فالواقعيَّة الأوروبيَّة، سواءٌ منها التي تركز على الجانب الاجتماعي أو الجانب البيولوجي، وسواءٌ منها التي تؤمن بحتميةٍ وراثيةٍ أو تطبِّق نظريةً فيزيقيةً أو نفسيةً، فإنها ترى الواقع وتشكله فنيًّا وفق نظرةٍ سوداويةٍ حالكةِ السواد؛ لأن آمالها وأمانيها قد أخفقت وتحطمت على صخرة الواقع الجديد المتولد من النظام الاستغلالي.

توفيق الحكيم على النقيض من هذه النظرة المتشائمة، كان متفائلًا أشدَّ التفاؤل، ولكنه لم يرث من الواقعية الاشتراكية تفاؤلها؛ لأنه لم يقف يومًا على الأرض الفلسفيَّة لهذا اللون من ألوان الواقعيَّة، ولأنه لا يعبر عن الطبقة الاجتماعيَّة التي تدعم كيانها هذه النظرة، كان واقعيًّا حقًّا في انحيازه المطلق لقضية الثورة الوطنيَّة في مصر، وكان واقعيًّا حقًّا، في تفاؤلٍ عظيمٍ بالمستقبل، تفاؤل يبتعد به عن أسوار الواقعية النقدية والطبيعية المظلمة، ولا يصل به إلى عالَم الواقعيَّة الاشتراكيَّة المليء بالضوء، واقعيَّة «عودة الروح» أقرب ما تكون إلى الواقعيَّة الاجتماعيَّة غير الممنهجة في إطارٍ نظريٍّ، وإن قُيدت في نفس الوقت بإطارٍ من الرمز.

على أن ذكرنا لهذه الجوانب الثلاثة، كلٌّ منها على انفرادٍ، يمضي بنا في غياهبَ مضللةٍ، فالحق أنها تفاعلٌ فيما بينها على نحو غاية في التعقيد، حتى ليصبح نوعًا من التبسيط القول بأن هذا الجانب رومانسيٌّ، والآخر كلاسيكيٌّ والثَّالث واقعيٌّ. إن صراعًا عظيمًا لا يهدأ بين هذه الاتجاهات الثلاثة يصوغ منها شيئًا جديدًا على أدبنا الحديث، هو مزيجٌ مركبٌ من الكلاسيكيَّة والرومانسيَّة والواقعيَّة، هذه الظاهرة تدل أولًا على أصالة الفنَّان المبدع؛ لأنه لم يبادر إلى النقل الحرفي عن أحد الاتجاهات الأوروبيَّة، بالرغم من أن النقل في ذاته كان يقيه شر العيوب الكثيرة التي تزاحمت على جانبَي الرواية، كما تدل هذه الظاهرة أيضًا على أن امتداداتها في أدب نجيب محفوظ والشرقاوي، تُعَد استجابةً أصيلةً لخصائص العصر.

ويبدأ الصراعُ بين كلاسيكيَّة عودة الروح وبين رومانسيتها وواقعيتها منذ أن تبدأ قصة الحب الصامت بين محسن وسنية، ثم يبدأ مرةً أخرى عند وصول محسن إلى القرية، ومرةً ثالثة عند خاتمة الرواية. ينعكس الصراع في بدايته الأولى بين الحوار والفلاش باك، وبين السرد واللغة الشعبيَّة، وبين الحلم والتسلسل المنطقي، فلا شكَّ أن المهارة الفائقة التي يتمتع بها الحكيم في إدارة الحوار بين الشخصيات، كانت تتوارى خلف أردية التداعي الذهني الذي يرجع بإحدى الشخصيات إلى الوراء موضحًا جذورها الاجتماعيَّة والنفسيَّة في أسلوبٍ تقريريٍّ جافٍّ، بل إن هذا السرد كان ينعكس على الحوار نفسه حين يتصل به الأمر بحركة الفلاش باك، فتراه يصبح تعليقًا مباشرًا، أي إن التفاعل بين أداة العودة إلى الماضي (الفلاش باك)، وأداة لحظة الحضور (الحوار)، قد أثمر العيوب الرئيسية في الرواية، وهو احتفالها بتدخُّل المؤلِّف بين الحين والآخر، وإقحامه لشخصيته دون مبررٍ. إلا أن الحوار في هذا العمل كان حوارًا كلاسيكيًّا محضًا، بمعنى أنه قد شارك في عملية البناء الكلاسيكي في الرواية، فلم تهتم المناقشات الدائرة بين الشخصيات بجزئيات حياتها اليومية بقدر ما اهتمت بالثابت، بل والخالد، من الأمور. وحين عُنيت في القليل النادر بالتفاصيل الصغيرة المألوفة كان السرد ينهج نهجًا واقعيًّا، كذلك الفلاش باك كان أقربَ إلى التداعي الذهني الذي يصوغ «الماضي» في إطارٍ من الذكريات لا في إطار المونولوج الداخلي، وهذا ما يؤكد لنا أن الطابع النفسي لم يكن هو الطابع الذي استهدفه الفنَّان من فكرة الفلاش باك، وإنما هو الطابع الرومانتيكي. وبالرغم من أن التعارض بين الأداتين قد أثمر أحد عيوب الرواية، فإنه بغير شكٍّ قد ساهم في إضافة عنصر الحركة إلى الرواية المصرية، الحركة الدرامية عن طريق الحوار، والحركة الاجتماعية أو التاريخية عن طريق الفلاش باك، ومهما شابت المحاولة الأولى أخطاء البداية، فإنها قد تطورت فيما تلاها من أعمالٍ تخلصت من العيوب وأبقت على الانتصارات، واتَّسمت بهذا اللون الخاص من «التعبير» المصري الذي لا يميل إلى تعقد الفلاش باك إلى درجة المونولوج الداخلي، ولا يميل إلى تبسيط الحوار إلى درجة الديالوج الفوتوغرافي الصرف.

كذلك شهدت «عودة الروح» صراعًا عنيفًا بين اللغة الشعبية والسرد الفصيح. لقد كان اختيار الحكيم للعامية المصرية خامةً لغويةً للرواية، امتدادًا للمحاولة الرائدة التي بدأها هيكل في «زينب»، غير أن هيكل لم يلقَ أيةَ صعوباتٍ في استخدام العامية بمعناها الرومانسي الذي يسمح له بنقلها من الحوار إلى السياق السردي دون اعتبارٍ لأية تقاليد تمنعه من ذلك، وهي لم تكن قط شَجاعةً من هيكل بقدر ما كانت انسجامًا مع التكامل الرومانسي في «زينب»، فهي روايةٌ لم تعانِ من أية صراعاتٍ داخليةٍ أو انشقاقاتٍ أو ازدواجٍ، إنها روايةٌ رومانسيةٌ من البداية إلى النهاية، من الداخل إلى الخارج، في أحداثها ومواقفها وشخصياتها وحوارها ولغتها وسردها؛ لذلك كانت اللغة في زينب لغةً رومانسيةً إن جاز التعبير، لغة المطلقات المجنحة، لغة الطبيعة، لغة الموت، لغة الألم. هي أيضًا تلك اللغة الجنينيَّة التي تُذكِّرنا بنشأة اللغات الأوروبيَّة في صراعها من أجل الاستقلال عن اللاتينيَّة (مع الفارق النوعي بين اللاتينيَّة والعربيَّة وبين اللغات الأوروبيَّة والعاميَّة المصريَّة)، فهي لغة الطبقات والقوميات الناشئة. من هنا لم يفكر هيكل كثيرًا فيما إذا كان من اللائق استخدامها في السرد الروائي، فاستخدمها غير عابئ بالتقاليد الكلاسيكيَّة، وإن تخفى على الغلاف تحت توقيعه المستعار «مصري فلاح».

ولم يعبأ الحكيم أيضًا بالتقاليد الكلاسيكية في اللغة منذ أمسك القلم وكتبَ، ولكنَّه كان مهمومًا ببذور اتجاهٍ جديدٍ يغلي في أعماقه، هو الاتجاه الواقعيُّ. وكما لم يأخذ الحكيم رومانسيته عن القوالب الجاهزة في الأدب الغربي، كذلك لم يأخذ واقعيته من هذه المصادر، فهو يحتضن اللغة الشعبيَّة في دفئها الواقعي المنساب مع جزئيات حياتنا اليومية، ولكنه في السرد يصطدم بالرصيد اللغوي من التراكيب العربية الراقدة في ذاكرته، وهكذا نُفاجأ بتعارضٍ حادٍّ بين العامية المصرية في واقعيتها المألوفة، والسرد الفصيح في كلاسيكيته الرخاميَّة. إن هذا التعارض كثيرًا ما أثَّر على التكوين الدرامي للشخصيات، ففي أجزاءٍ منها تتموج الشخصية بحيويةٍ دافقةٍ، وفي أجزاءٍ أخرى تسلك سبيلًا «تمثاليًّا» يجفف رمق الحياة في كيانها النابض. فالشخصيةُ الفنيةُ في بنائها اللغوي تتكون عبر مستوياتٍ مختلفةٍ من التوتر ودرجاتٍ متفاوتةٍ من الحرارة، ولكن هذا البناء يتعرَّض للانشطار بين برودة الموت وتدفق الحياة حين يعاني من الازدواجية اللغوية بين التعبير الواقعي الحي، والتعبير الكلاسيكي الجامد. ليس معنى ذلك أنه كان مطلوبًا من الحكيم أن يكتب السرد بلغة الحوار، فللسرد نوعيته الخاصة واستقلاله الخاص، غير أن اختلاف النوع الفنيِّ لا يبرر اختلاف مناهج التعبير، أي إنه إذا كان المنهج الواقعي في الحوار يقضي باستخدام اللغة الشعبيَّة، فإن هذا المنهج في السرد يقضي باستخدام لغةٍ بعيدةٍ عن الشموخ الكلاسيكي، قريبةٍ من واقع الحياة اليوميَّة، وإن لم تكن مرادفةً لهذا الواقع حرفيًّا، أي تلك اللغة الميسورة للأحداث والشخصيات والمواقف التي تتكوَّن منها «عودة الروح»، وهي ليست أحداثًا تاريخيَّةً، كما أنها ليست شخصياتٍ تجري في عروقها الدماء الزرقاء، وهي أيضًا ليست مواقفَ صارخةً بالبطولة المأساوية إزاء القدر، إلى غير ذلك من المحاور الكلاسيكيَّة التي تستلزم بناءً لغويًّا يتفق مع طبيعتها. «عودة الروح» هي ابنة الطبقة المتوسطة، ابنة الثورة المصريَّة، ابنة محسن وسنية وزنوبة ومبروك، وبالتالي فإن السرد الذي يناسبها هو السرد «الواقعي» في استلهام الحياة اليوميَّة، والبعيد في نفس الوقت عن حرفية اللغةِ الشعبيَّةِ. إلا أن الحكيم في معاناته الهائلة للصراع بين الاتجاهات الفنية الثلاثة، كان مخلصًا لتلك المرحلة التاريخية من الثقافة المصرية التي أملت عليه شجاعة التوظيف اللغوي للعامية المصرية جنبًا إلى جنب السرد الكلاسيكي الفصيح.

•••

تلك هي انعكاسات الصراع اللاهب الذي دارت رحاه في الجزء الأول من «عودة الروح» على «قصة الحب» بين محسن وسنية، وهو نفس الصراع الذي شهدته الفترة التي أمضاها محسن في الريف، وهو نفس الصراع الذي يختتم به الحكيم روايته. غاية ما نشعر به من فروقٍ أن الصراع كان يزداد حدةً كلما شقَّت الأحداث طريقها إلى النهاية، ومن ثَم كانت العيوب تزداد وضوحًا، والانتصاراتُ كذلك.

إن مصادر التكوين الثلاثي في عودة الروح (الرومانسية، الواقعية، الكلاسيكية) تكمن في الاضطراب الحضاري العظيم الذي صاحب تاريخنا الأدبي الحديث، كما تكمن في التاريخ الشخصي لتوفيق الحكيم، وهما عنصران يمكن مراجعتهما في القسم الأول من هذا الكتاب، فلا ريبَ أن لقاءنا بالحضارة الغربية عند نهاية القرن الماضي بتراثٍ يكاد يخلو تمامًا من منجزات الحضارة الحديثة، بالإضافة إلى التجربة المحلية الأصيلة، كان له أثرٌ عميقٌ في تشكيل هذه «الصورة» التي حملتها إلينا «عودة الروح»، أو ذلك المزيج المركَّب من العناصر الثلاثة التي استجابت لها تربتنا المحليَّة.

ولعلَّ ما يؤكد أصالة هذه التجربة أنها امتدت في تربتنا امتداداتٍ غائرةً في أعمق إنتاجنا الروائي إلى الآن؛ ثُلاثيَّة نجيب محفوظ. إن البناء الكلاسيكي المحكم يضبط الثلاثية من جزئها الأول إلى جزئها الأخير، بالرغم من أنها تنتمي إلى خانة الأدب الواقعي العظيم دون أن تصنَّف في الواقعية النقدية أو الطبيعية أو الاشتراكية، وبالرغم من الوحدة اللغوية التي آثرها نجيب محفوظ بين السرد والحوار، وبالرغم من الحس الرومانتيكي الذي يخصص له نجيب فصلًا كاملًا، هو «قصر الشوق». حقًّا، إن الثلاثية امتدادٌ أكثر تطورًا وازدهارًا لعودة الروح، ولكنه الامتداد المستوعِب للظاهرة الفنيَّة، والمبقي عليها في آنٍ، وما أعظم الشبه بين خاتمة الثلاثية من جانبٍ، وخاتمة عودة الروح من جانبٍ آخر! إن القصةَ تنتهي في كلتيهما وقد دخل أبطالها السجن. السجنُ ثمرةُ الثورة الاجتماعيَّة عند نجيب محفوظ، وثمرة الثورة الوطنيَّة عند توفيق الحكيم.

إن الخاتمة في كلٍّ من الروايتين تضع حقًّا حجر الزاوية في البناء المعماري لهما، فهو «قضيَّة الثورة»، سواءٌ كانت في المرحلة الوطنيَّة أو في المرحلة الاجتماعيَّة، وهكذا ترسَّب هذا الضمير الفني، إن جاز التعبير، في الأعمال التالية لعودة الروح. ربما كانت التطورات التي حدثت في تاريخ الرواية المصرية بعد هذا العمل، تبتعد به كثيرًا عن العيوب التي شابته يوم ميلاده، ولكن هذا التاريخ ظلَّ محتفظًا بالسمات الأساسية لهذا العمل، مما يؤكد لنا مرةً أخرى أنه لم يكن عاملًا عابرًا في حياتنا الأدبيَّة، وإنما هو يلخص ويجسد جزءًا عزيزًا من تاريخنا الحضاري. إن أعمال نجيب محفوظ التي تبدأ ﺑ «عبث الأقدار» إلى «خان الخليلي» ليست إلا هذا المزيج المركب من الرومانسيَّة والكلاسيكيَّة، وليست «زقاق المدق» و«بداية ونهاية» إلا مزيجًا من الكلاسيكية والواقعيَّة. وتأتي «بين القصرين» مزيجًا شديد التعقيد — بالرغم من بساطته الظاهرية — بين الواقعيَّة والكلاسيكيَّة والرومانسيَّة.

تصارعت إذن الاتجاهات الفنيَّة الثلاثة الكبرى على صفحات «عودة الروح»، وكان من النتائج المباشرة لذلك أن صعب تصنيف هذا العمل الأم في خانةٍ تقليديةٍ من خانات الأدب الأوروبي، ومن هذه النتائج أيضًا أن امتدت خصائص هذا العمل في أدبنا الروائي على مدى تاريخه بكل ما تحتويه هذه الخصائص من سوالبَ وإيجابياتٍ. كذلك كان من هذه النتائج أن حفلت «عودة الروح» بعيوبٍ تسرف في السذاجة، ربما خلت منها روايةٌ لكاتبٍ ضئيل الموهبة والثقافة، إذا كانت روايته نقلًا أو تطبيقًا حرفيًّا لأحد المذاهب، غير أن هذه العيوب بعينها كانت من المصادر الهامة لإحراز الانتصارات بعد ذلك.

إن هذا الصراع بين الرومانسيَّة والكلاسيكيَّة والواقعيَّة، لم يكن هو الصراع الوحيد في «عودة الروح»، لقد كان هناك صراعٌ أكبر، هو الصراع الرئيسي في الرواية، الصراع بين الواقع والرمز، بين الواقع الخام الذي يصوغ أرضية العمل الفني، والرمز الفكري الذي يسقطه عليه من الخارج من الذهن. فتوفيق الحكيم صاحب تجربة الذهن والتعميم الذي أحطنا بها فيما سبق، هو نفسه الذي كتب «عودة الروح»، فهل ثمة فارقٌ بين الصياغة الدراميَّة وصناعة الرواية إذا تصدَّى لهما كاتبٌ واحدٌ؟ لا بد أن يكون هناك بعض الفروق التي تحتمها الطبيعة لكلِّ فنٍّ. ولكن هناك أيضًا أوجه الشبه التي تحتمها الطبيعة الواحدة للكاتب الواحد؛ لذلك أرى أن «عودة الروح» كُتبت بمزاج الفنان صاحب «تجربة الذهن» والتعميم. من الصفحة الأولى تصادفنا هذه الكلمات عن نشيد الموتى تحت عنوان الرواية: «عندما يصير الزمن إلى خلودٍ سوف نراك من جديدٍ، لأنك صائرٌ إلى هناك، حيث الكلُّ واحدٌ.» وفي الصفحة الأولى من الجزء الثاني نقرأ عن كتاب الموتى: «انهض! … انهض يا أوزوريس، أنا ولدك حوريس، جئت أعيد إليك الحياةَ، لم يزل لك قلبك الحقيقي، قلبك الماضي …» إن هذه الكلمات المقتبسة من أوراق البردي المصرية القديمة، ليست إلا قوسين كبيرين يحيطان الرواية من أولها إلى آخرها، الفنان يعيد نقلهما مرةً أخرى بين دفتَي الغلاف في لغةٍ أخرى، هي الأحداث والشخصيات والمواقف وغيرها من أدوات التعبير، وأحيانًا يلجأ إلى نقلهما حرفيًّا على لسان محسن وهو يتهدَّج في أحاديثه مع الفلاحين، أو على لسان الأثري الفرنسي في نقاشه مع المفتش الإنجليزي. ولو أننا استثنينا هذه الأحاديث المباشرة لاكتشفنا أن الحكيم يستهدف ما هو أكثر مباشرةً ووضوحًا، يستهدف أن تكون سنية «إيزيس» وأن يصبح زعيم الثورة «أوزوريس»، وأن تصبح الرواية هي التجسيد المعاصر للأسطورة الفرعونية القديمة، أو أن تصبح الأسطورة الفرعونية القديمة هي التجسيد المعاصر لأحداث عودة الروح. فالحقُّ أن الحكيم قد تأرجح بين المعنيين لهذه العلاقة بين الواقع والرمز، وقد تسبب هذا التأرجح في الكثير من تضخم بعض المواقف والشخصيات، وهزال بعضها الآخر، مما أوقع الرواية في براثن الكاريكاتور في بعض أجزائها. ولعلَّ المفارقة الكاريكاتورية الأولى هي موقف سنية من الأسرة العاشقة، فقد تصرفت سنية في بعض الأحيان كما لو كانت «إيزيس» فعلًا، تربط بين القلوب وتؤاخي أوصالها لتدفع بها إلى الثورة. ثم تتصرف مرةً أخرى كما لو كانت «أية فتاةٍ مراهقةٍ» تدور الأحاديث بينها وبين محسن في أسلوبٍ غضٍّ أقرب إلى الركاكة. وتتصرف مرةً ثالثةً كما لو كانت «امرأةً» تبحث عن مستقبلها لا عن عاطفتها، فتبحث عن العريس المناسب، وتستحث غيرة الجميع. لا شك أن التضارب بين الأوضاع المختلفة لسنية قد أثمر «حياة» هذه الشخصية النابضة، إلا أن هذه الحياة كانت في نفس الوقت حلبةَ صراعٍ بين واقعيتها ورمزيتها. كذلك الأمر بالنسبة لمحسن — هذه العين الفنيَّة البصيرة — كم ضاقت أسماله بما يحمله من رموزٍ، وكم فاضت رموزه واتسعت على تكوينه الواقعي! ولا يقتصر الأمر على الشخصيات وحدها، وإنما يتجاوزها إلى «الموقف» الفنيِّ؛ لا شك أن محسن حين يرى البقرة ترضع ابنها والطفل البشري معًا، يود أن يرتدي عند المؤلف ثيابًا رمزيةً، ولكن ما أوسع هذه الثياب على «الجسم» الواقعي للموقف! إنها تلغي بنفسها الهدف من وظيفتها.

وهكذا نستطيع أن نتصفح في عودة الروح من بدايتها إلى نهايتها موكبًا طويلًا من المشاهد التي يتناقض فيها الواقع مع الرمز. وتتجمع هذه التناقضات وتلتقي مع تناقض الاتجاهات الفنية الغالبة على البناء الروائي؛ تناقض بين المضمون الواقعي المنحوت من كيان الطبقة المتوسطة وثورتها الوطنية، وبين الرمز الرومانتيكي المأخوذ عن «أحلام المجد» الفرعونية. ربما يقال إن الرومانتيكية هي ابنة الطبقة المتوسطة، وبالتالي فلا تناقض هناك، ولا ريب أن هذا صحيحٌ، عندما يصبح الموت أو الأحلام أو الغابة أو الريف أو الحب هو مضمون العمل الفني، أما حين تصبح «الثورة» هي مضمون هذا العمل، فإن الواقعية هي الاتجاه الغني المرشح لتجسيد الثورة؛ ولذلك كانت الواقعية هي أيضًا ابنة الطبقة المتوسطة، فالطبقة المتوسطة شرائح، والطبقة المتوسطة مراحل، والطبقة المتوسطة بيئات، والطبقة المتوسطة المصرية في العشرينيات من هذا القرن، هي الشريحة الاجتماعية التي شاركت بنصيبٍ موفورٍ في الثورة المصرية، الثورة الوطنية الديمقراطية، وعودة الروح هي صوت هذه الثورة بشكلٍ عامٍّ، وصوت تلك الطبقة بشكلٍ خاصٍّ. ولعلنا نستطيع أن نتتبع هذا التناقض بين الواقع والرمز في هذه الرواية، إذا وضعنا أيدينا على ثلاث نقاطٍ.

والنقطة الأولى هي أسبقية الفكرة الذهنية على التشكيل الفني، ولا شكَّ أن الروائي في أية صورةٍ من الصور يحاول أن يصمم عمله الفني ذهنيًّا قبيل أن يبدأ تحقيقه عمليًّا، ولكن ثمة فرقًا كبيرًا بين «التصميم» الذهني و«الفكرة» الذهنية. التصميم يقتصر على الخطوط العامة في عملية البناء، أما الفكرة فهي الملاحقة الذهنية لكل تفصيلةٍ صغيرةٍ في هذا البناء، وهي تخلق دائمًا ما يمكن تسميته بالمسافة بين الواقع والرمز.

والنقطة الثانية هي «معنى التجربة الشخصية» في عودة الروح، فلا شكَّ أن ثمة روابطَ عديدةً بين أحداث عودة الروح، وأحداث التاريخ الشخصي لتوفيق الحكيم، وكثيرًا ما تأرجحت العلاقة بين ذاتية الفنَّان وموضوعية العمل الروائي، بحيث إن بعض المواقف كانت «هروبًا من الشخصية» كما يقول «إليوت»، وبعضها الآخر «نزوعًا إلى الشخصية والتصاقًا بها»، كما ينبغي أن ندعو ذلك «النقل الحرفي» عن الواقع.

والنقطة الثَّالثة هي الفكرةُ المصريةُ التي كانت محورًا رئيسيًّا لعودة الروح، محورًا لنسيجها الواقعي وجوها الرومانسي ومعمارها الكلاسيكي، ومحورًا لرموزها المتعددة. إن الفكرةَ المصريةَ في ذلك الحين كما بيَّنَّا من قبلُ هي العمود الفقري لمفهوم الثورة عند أبناء البرجوازية الناشئة من المثقفين؛ ولذلك كانت العمود الفقري لثورتهم في «عودة الروح»، من هنا تصبح مناقشة قضية «المعجزة» فكريًّا، مدخلًا موضوعيًّا لحل مشكلة «المفاجأة» فنيًّا حين وقعت أحداثُ الثورةِ في عودة الروح، فقد أخذ بعض النقاد على الحكيم أن نهاية الرواية جاءت مفتعلةً؛ لأن الثورة شبَّت هكذا دون مقدماتٍ. والحقُّ أن الحكيم قصد إلى ذلك، من قبل أن يبدأ كتابة الرواية، أراد أن يؤكد أن الثورة كامنةٌ في «الروح المصرية» كمونًا يبدو للعين المجردة وكأنه الاسترخاء الأبدي، ثم تأتي لحظةٌ — لم يحسب حسابها أحدٌ — تنفجر فيها الثورة، فتبدو لتلك العين وكأنها «مفاجأة»، بينما هي الصورة الطبيعية لمصر التي تنام في مظهرها، وتغلي في باطنها، تغلي بتفاعلات «عشرة آلاف سنة تتوسد أعماق هذا الفلاح»!

وهكذا ينتهي الصراع بين الواقع والرمز في إطار أسبقية الفكرة الذهنية على التشكيل الفني، وفي إطار معنى التجربة الشخصيَّة، وفي إطار الفكرة المصريَّة، ليثمر بعد ذلك القيمة الحقيقيَّة لعودة الروح، ليثمر «الرؤيا المصرية» بمعناها الفني العميق. لا يعني ذلك أن هناك رؤيا إنجليزيَّة وأخرى فرنسيَّة، وهكذا، وإنما يعني أن التصور الرومانسي للفكرة المصريَّة إبان الثلاثينيات من هذا القرن، هو عماد الرؤية الفنيَّة عند توفيق الحكيم، والرؤيا الفنيَّة بهذا المعنى هي البطل الرئيسي في «عودة الروح»، هي الإضافة النوعيَّة الجديدة للأدب في بلادنا، فقد أصبح من حقِّنا أن ندعو أدبنا أدبًا مصريًّا بعد أن ظلَّ أمدًا طويلًا نهبًا مشاعًا بين التقليد والنقل والاقتباس. أصبحت لنا رؤيتنا الخاصة للعالَم، عندما وُلد لنا الفنَّانُ ذو الرؤيا الخاصة للوجود، وعندما وُلدت لنا الروايةُ ذات الرؤيا الخاصة للفنِّ، وتلك هي الثورة الحقيقية التي أحدثتها «عودة الروح»، النقلة الكيفية بأدبنا من ذلك الصراع بين الرواية والمقامة عند المويلحي في «حديث عيسى بن هشام»، ومن ذلك الصراع العنيف بين الرواية والنثر الفنيِّ عند هيكل في «زينب»، إلى ذلك الصراع العظيم بين الفنَّانِ ورؤياه الفنيَّة الخاصَّة عند توفيق الحكيم في «عودة الروح» روائيًّا، وفي «أهل الكهف» مسرحيًّا.

إن الرؤيا هي خلاصة «عودة الروح» وجوهرها، هي المعطف الذي خرج منه أدبنا الروائي الحديث. وهكذا عادت الرواية المصريَّة إلى «الحياة»، لم تعد تخضع لقالبٍ مسبقٍ، وإن خضعت لفكرةٍ مسبقةٍ تصوغ مع بقيَّة العناصر الخالقة للعمل الفنيِّ ذلك العنصر الذي ندعوه بالرؤيا في الفن.

١  صلاح الدين ذهني، «مصر بين الاحتلال والثورة»، طبعة أولى، ١٩٣٩م، مكتبة الشرق الإسلامية (ص٤٩)، وراجع ما بعدها.
٢  د. علي الراعي، «دراسات في الرواية المصرية»، طبعة أولى، ١٩٦٤م، المؤسسة المصرية العامة للتأليف (ص١٤).
٣  نقلًا عن «فجر القصة المصرية»، ليحيى حقي، طبعة أولى، ١٩٦٠م، المكتبة الثقافية، دار القلم (ص٤٠).
٤  المرجع السابق (ص٤٧).
٥  المرجع السابق (ص٢٩).
٦  طه حسين، «فصول في النقد والأدب»، طبعة أولى، ١٩٤٥م، دار المعارف بالقاهرة (ص٩٢-٩٣).
٧  يحيى حقي، عدد فبراير من مجلة «الحديث»، الصادر بحلب، عام ١٩٣٤م، وأُعيد نشر المقال في كتابين؛ بحر القصة المصرية، وخطوات في النقد.
٨  راجع كتابه «تطور الرواية العربية الحديثة في مصر»، طبعة أولى، ١٩٦٤م، دار المعارف بالقاهرة (ص٣٩٤).
٩  يحيى حقي، فجر القصة المصرية (ص١٣٣).
١٠  يحيى حقي، فجر القصة المصرية (ص١٣٤)، وعبد المحسن بدر، تطور الرواية العربية الحديثة في مصر (ص٣٨٧).
١١  راجع «سجن العمر».
١٢  يحيى حقي، المصدر السابق (ص١٢٤).
١٣  نفس المصدر (ص١٣٢).
١٤  صلاح الدين ذهني، مصر بين الاحتلال والثورة، (ص١٣٥-١٣٦، ١٤٢–١٤٥).
١٥  صلاح الدين ذهني، مصر بين الاحتلال والثورة، (ص١٣٥-١٣٦، ١٤٢–١٤٥).
١٦  صلاح الدين ذهني، مصر بين الاحتلال والثورة، (ص١٣٥-١٣٦، ١٤٢–١٤٥).
١٧  إسماعيل أدهم، توفيق الحكيم (ص٩٢–١٢٤).
١٨  د. عبد المحسن بدر، المصدر السابق (ص٣٨١–٣٨٤).
١٩  د. عبد المحسن بدر، المصدر السابق (ص٣٨١–٣٨٤).
٢٠  نفس المصدر (ص٣٨٦).
٢١  د. علي الراعي، دراسات في الرواية المصرية (ص١٠٠–١٠٣).
٢٢  د. علي الراعي، دراسات في الرواية المصرية (ص١٠٠–١٠٣).
٢٣  نفس المصدر (ص١٠٦، ١٠٧، ١١٢، ١١٤، ١١٥).
٢٤  نفس المصدر (ص١٠٦، ١٠٧، ١١٢، ١١٤، ١١٥).
٢٥  نفس المصدر (ص١٠٦، ١٠٧، ١١٢، ١١٤، ١١٥).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤