الفصل السابع

عصفور من الشرق

لأن عودة الروح جاءت تلبيةً أصيلةً لاحتياجات العصر والبيئة، ولأنها حملت بوعيٍ نافذٍ خصائصَ هذا العصر وتلك البيئة، فإن أهم ما يعني الناقد من إنجازاتها الفنيَّة والفكريَّة هي أنها أعادت الرواية المصريَّة إلى الحياة، وأنها استحدثت الرؤيا الفنيَّة في الأدب المصري المعاصر، وسوف يمتد بنا الحديث حول «عودة الروح» من هاتين الزاويتين، في هذا الفصل، والذي يليه. فالحقُّ أن «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف» ليسا إلا امتدادًا للانتصارات والسوالب التي حققتها «عودة الروح» في مسارها التطوري إلى أمام، خاصةً وأن توفيق الحكيم كتب يقول إنه لم يكن قد انتهى من «عودة الروح» حين اختتم جزءها الثاني، فقد كان يظن أنه سيتلوها بجزءٍ آخر أو عدة أجزاء، وكثيرًا ما بدا لي ظن الحكيم في مكانه الصحيح، وكثيرًا ما بدا لي أنه حقق هذا الظن بالفعل؛ إذ بالرغم من أنه كتب كلمة النهاية في خاتمة الجزء الثاني من «عودة الروح» عام ١٩٢٧م، إلا أنه في «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب في الأرياف» راح يستكمل ما بدأه في روايته الأولى. وفي حدود هذا المعنى تُعَد الروايات الثلاث أقرب ما تكون إلى «ثلاثية». وحتى لا يتبادر إلى الذهن أن الخيط الذي يربط بين الأجزاء الثلاثة هو «الترجمة الشخصية» للمؤلِّف، فإنه يجدر بنا أن نقولَ إن علاقة توفيق الحكيم بثلاثية «عودة الروح» تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ علاقةَ نجيب محفوظ بثلاثية «بين القصرين»، أي إنه إذا كانت ثمة روابطُ تصل بين شخصية محسن وتوفيق الحكيم، وهي، بغير شكٍّ، روابطُ أبعد ما تكون عن «الترجمة الذاتية» للفنَّانِ. وفي كتابي «المنتمي» حاولت في الفصل الأول «جيل المأساة» أن أبرهن على هذه الحقيقة، وهي أن كمال عبد الجواد لم يكن قط ترجمةً حرفيَّةً لنجيب محفوظ، وإنما كان تجسيدًا موضوعيًّا أمينًا لجيل الأزمة التي ينتمي إليها نجيب محفوظ انتماءً ثوريًّا، وهذا هو المعنى الذي أريد أن أسبغه على شخصية «محسن» في كلٍّ من «عودة الروح» و«عصفور من الشرق»، فهو تجسيدٌ لنفس الأزمة في جيلٍ مختلفٍ ومن زاويةٍ مختلفةٍ، ويبدو أن أزمة هذه الأجيال من المثقفين هي بعينها أزمة الطبقة المتوسطة التي ينتمون إليها في شتى مراحل تطورها، في ثوريتها وفي ترددها وفي نكوصها، وهي وإن عبَّرت عن نفسها في الرواية المصرية منذ البدايات المبكرة في «حديث عيسى بن هشام» و«زينب»، ثم في «حواء بلا آدم» و«إبراهيم الكاتب» وغيرها من عشرات الأعمال التي كتبها جيل الروَّاد من أمثال طه حسين والعقاد والمازني وتيمور ولاشين، فإنها قد تجسدت في أعمالٍ أخرى تجسيدًا يرتفع بها إلى مستوى الرمز وعلامات الطريق، من أمثال قصة «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و«مذكرات طالب بعثة» للويس عوض.

وإذا كنا نعالج «عصفور من الشرق» في هذا الفصل، و«يوميات نائب» في الفصل التالي، على أنهما حاشيتان ملازمتان لعودة الروح، فإن هذا لا ينفي أن لكلٍّ من الروايتين قيمتها الذاتية واستقلالها الخاص، وهما — معًا — قد صدرتا في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ تعقب نشر «عودة الروح» بخمس سنواتٍ، إذ ظهرت «عصفور من الشرق» عام ١٩٣٨م، وكانت «يوميات نائب» قد ظهرت قبلها بعامٍ واحدٍ، إلا أن صدورهما في فترةٍ واحدةٍ يدل على مدى الانفصام الذي عاناه الحكيم في شخصيته الفنيَّة؛ ذلك أنه في «عصفور من الشرق» انتصر للرومانسية انتصارًا حاسمًا، بينما نراه في «يوميات نائب» وقد انتصر للواقعيَّة انتصارًا حاسمًا آخر.

ويبدو أن السنوات الخمس بين «ظهور» عودة الروح، وظهور «عصفور من الشرق» كانت أكثر السنوات عذابًا في حياته الفنيَّة؛ لأنه كان يتمثل خلالها فنيًّا ذلك الصراع الهائل الذي نشب في أعماقه أثناء وجوده في فرنسا بين الحربين، وراح يستعيد في خياله تلك المرحلة التي وضعته بين اختيارين كلاهما أشقُّ على النفس من الآخر؛ الشرق أم الغرب؟ فالشرق في وجدانه غائرٌ حتى الجذور التي تمد قلبه بشرايين الحياة، والغرب في ذهنه ماثلٌ حتى النخاع، فهو الذي يمد عقله بأسباب الوجود. وبين العقل والقلب، بدأت رحلة العذاب في أدب توفيق الحكيم، وجاءت «عصفور من الشرق» و«يوميات نائب» في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ تغرسان بذور الموقف «التعادلي» في حياته الفنيَّة. من هنا كانت «عصفور من الشرق» تجسيدًا واعيًا لموقف التردد بين الحضارتين، وذبذبة تميل ببندول الحكيم نحو أحد الموقفين.

فما هو ذلك الموقف الذي نلامسه في «عصفور من الشرق»؟ من اليسير حقًّا أن نُجيبَ بأنه الموقف الرومانتيكي الخالص، وليست إجابتنا هذه ببعيدةٍ عن حرفيَّة النص وفحواه على السواء، ومن اليسير كذلك أن نُجيب بأنه موقفٌ رجعيٌّ ينتكس بصاحبه عن مضمون الثورة التي ينتمي إليها، ولن تعوزنا الاستشهادات المطولة من واقع الرواية وأحداثها جميعًا. ولكني أعتقد أنه على الرغم من أن «عصفور من الشرق» هي انتصارٌ حاسمٌ للرومانسية، فإن هذا الانتصار لا يتم إلا على الصعيد الجمالي فحسب، كما أعتقد أنه على الرغم من أنها تتضمن موقفًا رجعيًّا من نظريات التقدم الاجتماعي، فإن هذا لا يتم إلا على المستوى الذهني المجرد، أما في مستوى «الرؤيا» التي نحن بصدد بحثِ امتداداتها من «عودة الروح» إلى «يوميات نائب»، فإن «عصفور من الشرق» تقول لنا شيئًا آخر.

وقبل أن نجلو هذا الشيء الآخر ونتتبع خطواته، علينا أن نرصد بصبرٍ وإمعانٍ تفاصيلَ ذلك الوجه السالب لعصفور من الشرق، الوجه القائل بالرومانسيَّة الفنيَّة، والقائل بالرجعيَّة الفكريَّة.

والرومانسيَّةُ الفنيَّةُ ليست في ذاتها عيبًا، ولكنها إذا أمست شيئًا قريبًا من الطرطشة العاطفيَّة — على حد تعبير الدكتور مندور — فإنها تسيء إلى العمل الفني أبلغ الإساءات. وهكذا نحن نستقبل في «عصفور من الشرق» قصةَ حبٍّ لاهبٍ بين فتانا «محسن» وإحدى فتيات باريس هي «سوزي»، ولقد تردد محسن كثيرًا قبل أن يعزم على محادثة سوزي ومصارحتها بغرامه المشتعل. وكانت سوزي تعمل في أحد المسارح كبائعةِ تذاكر، وكان محسن يرقبها من بعيدٍ على أحد المقاهي الكثيرة الموازية للمسرح الذي تعمل فيه، وعندما لاحظ محسن أن العشَّاق في باريس يتبادلون الحب والقبلات علانيةً في الشوارع بين الناس، تقزَّز من هذا الابتذال لأشياء ينبغي أن تُحفظ في الصدور كما تُحفظ اللآلئ في الأصداف! وعندما نصحه صديقه أندريه أن يبدأ علاقته مع حبيبته بهديةٍ رمزيةٍ، كباقة زهورٍ أو زجاجة عطرٍ، أجابه محسن: «إنها أعظمُ قدرًا عندي، وأجلُّ خطرًا من أن أقدِّم لها شيئًا أو أن أوجِّه إليها كلامًا»، وقد لمعت في رأسه كالبرق صورٌ من الماضي، فرأى محبوبته «سنية» في ثوبها الحريري الأخضر الذي كان يتطلع إليه من بعيدٍ «لا يدري، غير أنه يحس قوةً ترغمه على الجلوس قُرب مكانها، وأنه يحبُّ هذا القُرب لذاته». ثم بدأ محسن أولى خطواته «العمليَّة» فيما يرى، وقد كانت أولى خطواته نحو القمة الرومانتيكيَّة في واقع الأمر، فإذا هو يغامر بتتبعها من عربة المترو إلى عربة المترو الآخر، إلى أن لحق بها ذات مرةٍ ونزل معها في إحدى المحطات، «وسارت في طريقٍ طويلٍ تنبت على جانبيه أشجار الزيزفون والكستناء، فتابعها متواريًا بين لحظةٍ وأخرى خلف جذوع الأشجار»، إلى أن عرف أين تقيم، فكاد قلبه يطير من الرقص «كأنه ظفر بإيوان كسرى»، وسرعان ما نقل أمتعته من غرفة والدَي صديقه أندريه التي كان يقطن بها، إلى غرفةٍ بالمنزل الذي تقيم به سوزي، وراح يستمع كل صباحٍ إلى صوتٍ ملائكيٍّ ينشد عن رواية كارمن:

الحب طفل بوهيمي،
لا يعرف أبدًا قانونًا.

وكان صوتها تلك النغمات الذهبية القادمة من غرفةٍ تقع أسفل غرفته تمامًا؛ لذلك تصبح الهدية المناسبة «ببغاء» يجيد كلمة «أحبك» يرسل به إليها من نافذته العلوية إلى شرفتها في قفصٍ يتدلى بحبلٍ قصيرٍ، وتأخذ العلاقة مرحلتها الجدية حين يدعوها إلى العشاء فتَقبَل، ولا يحس بجانبها رغبةً في طعامٍ أو شرابٍ؛ لأن المعدة تنام «عندما تستيقظ الروح»، ويستقبلها في غرفته ليقرأ لها الأشعار، ولكنها تفضِّل ترجمة الأشعار في سعار الشفاه ووقدة اللحم والدم: «ولم يفطن إلا إلى وجه سوزي الناعم الحار قد لاصق وجهه، وكأنها تقبِّله! نعم، إنها بين ذراعيه تقبِّله، هذا لا ريب فيه الآن، وهي حقيقةٌ واقعةٌ الآن، لا وهمَ فيها ولا غموضَ، ولم يدرِ الفتى كيف حدث ذلك، ولا ما يصنع بعد ذلك!» وما إن التقى بصديقه أندريه وروى له ما حدث، حتى صدمته الإجابة التي أدركها بنفسه، ولكنَّه لم يود أن يسمعها من الآخرين: «أرأيت؟ إنها فتاةٌ ككل الفتيات! وعاملةٌ كآلاف العاملات.» وشعر محسن كمَن يهوي إلى الأرض، شعر بفراغٍ «في مادة نفسه لا يدري بعد اليوم بماذا يملؤه»، لقد تحولت سوزي في لحظاتٍ إلى شيءٍ غير سماويٍّ، «تفاحة» حقًّا، ولكن من «الأرض»، حلوة حقًّا، «لكن داخلها الدود»، غير أن سقوطه على الأرض الباردة من علياء المجد الرومانسي، لم يكن هبوطًا على أرض الواقع الصُّلبة، وإنما على أرضٍ رخوةٍ مادت به في أوحال «الطرطشة» العاطفية أكثر فأكثر، أصبح يشرب من الكوب الذي مسَّته بفمها، وعندما ذهب معها إلى أحد المطاعم وباغتهما صديقهما «هنري»، فما كان منها إلا أن اتخذت موقف الصمت والتخفي وراء غلاف مجلةٍ، أما هو فقد غادر المطعم من فوره، ولكن ليس إلى غير رجعةٍ، لقد ذهب إليها، وتوسَّل على أعتاب غرفتها، وتضرع إلى كلِّ لحظةٍ من لحظات الأسبوعين اللذين قضتهما معه، غير أن إجابتها جاءت حاسمة، لم تفتح له الباب، ولم تسفر توسلاته عن أي عطف، إن بابَها المغلقَ في وجهه لا تخترقه صلاةٌ، ولا يفتحه بخورٌ! إنها الآن في حجرتها كإلهٍ في سمائه، وقد احتجب بالسحبِ واعتصم بالشهبِ، فلا أحد يدري كيف يدنو منه. وأخيرًا قرر أن يكتب لها رسالة الوداع التقليدية في كل حبٍّ فاجعٍ، روى لها كيف أمسى طريدًا من حظيرة الإيمان، يتعرف على صوت قدميها الصغيرتين كلما خرجت أو عادت: «أنا رجلٌ شريدٌ، طُرد من قصر الحب السحري، فهو يلجأ في يأسه إذا جنَّ الليل إلى الحيطان والأفاريز.» وما أفظع الرد الذي تعطفت به عليه! في جرأةٍ لم يألفها قلبه الشرقي الغض، قالت له: «وددت لو أني لم أعش قط هذين الأسبوعين!» إذن فلا أمل! لا أمل إلا في قليلٍ من الموسيقى حتى يستطيع أن يعتصم بالسحب ضد هذا الحب الأرضي الذي وضع أنفه في الرغام، لا خلاص إلا في «الدين والفنِّ» الذي يستوجب التجرد والارتفاع عبر أجواز الفضاء العلوي.

وهكذا يتم البناءُ الرومانسيُّ الفجُّ في «عصفور من الشرق»، وهي فجاجةٌ فنيةٌ إلى أبعد مدًى، بالرغم من أنها أكثر تماسكًا من عودة الروح، بل إن هذا التماسك على وجه التحديد، هو الدليل الأول على فجاجتها؛ ذلك أن التفكك أصاب عودة الروح من جراء الصراع العنيف بين أكثر من اتجاهٍ، أما «عصفور من الشرق» فقد استلهمت الجانب الرومانسي وحده، بهذا المعنى قلتُ إنها انتصارٌ حاسمٌ للرومانسية في أدب توفيق الحكيم، وحان الوقت لأقولَ إنه انتصارٌ لأكثر الجوانب سلبًا في هذا الأدب؛ لأن رومانسيَّة الحكيم الثوريَّة في «عودة الروح» قد أُجهضت في «عصفور من الشرق»، بفاعلية المحتوى الرجعي لبنائها الفكري، ولأن رومانسية الحكيم في «عصفور من الشرق» اقتصرت على القشرة الخارجية للرومانتيكية الفرنسية التي طالعها الفنَّان في شبابه الباكر، رومانتيكيَّة الحب الغامض، الذي يبدأ وينتهي بغير سببٍ واضحٍ، وإن اتضحت أسبابه، فهي من التهافت بحيث تصبح تحقيقًا لمطالب اللهو الجنسي عند فريقٍ من فتيات أوروبا، وتحقيقًا لمطالب الحرمان الجنسي والعاطفي عند فريقٍ من شبابنا، وهي رومانتيكية الغرام الفاجع الذي يصوغ الفنان مادته من واقعةٍ فرديةٍ غير قابلةٍ للتعميم، وهي في فرديتها غير قابلةٍ للتدليل على شيءٍ، وهي واقعةٌ محاصرةٌ بين مجموعةٍ من الرسائل والمقتبسات والأشعار، لقد اختار الحكيم في قصته هذه التي تقلُّ عن المائتَي صفحةٍ من القطع المتوسط، أكثر من اثني عشر اسمًا استشهد بمأثوراتها في مواضعَ مختلفةٍ، منها الجاحظ وإسحاق الموصلي وحافظ الشيرازي وأنا كريون وعمر الخيام وبتهوفن وشاعرٌ يابانيٌّ مجهولُ الاسم وديهاميل وهكسلي والقرآن والمسيح وغيرهم. إن الدلالة الأولى لهذا العدد الوافر من الاقتباسات أن تجربة الكاتب من الافتعال والزيف بحيث لا يمكنها الوقوف على قدميها بغير عكاكيز، فهذه الأشعار وتلك المأثورات الفنية المقتبسة هي ثمار تجارب الآخرين مع الحبِّ، ومهما التقت تجارب الحب في الكثير، فإنها تختلف في الأكثر والأهم؛ لأن الحب تجربةٌ ذاتيةٌ موغلةٌ في التفرد، خاصةً إذا كان حبًّا رومانسيًّا، ونحن لم نكتشف هذه الملامح الخاصة بعلاقة محسن بسوزي، بل إن الفنان آثر أن ينقل «ظلال الزيزفون» في الطريق إليها، وهي ظلالٌ وارفةٌ على الأدب الرومانسي جميعِه حقًّا، ولكنها في «عصفور من الشرق» ظلالٌ باهتةٌ من تجارب هذه الكثرة الوافرة من أصدقاء الكاتب بين جدران مكتبته، إنها قصة الحب المجفف في الكتب، وليست قصة الحياة الدافقة بكل ما هو جديدٌ، هذا على الرغم من أن محسن في «عصفور من الشرق» يشدنا إلى محسن في «عودة الروح»، ومحسن في «عودة الروح» هو — من إحدى الزوايا — توفيق الحكيم في «سجن العمر» و«زهرة العمر»، أي إن ثمة وشائجَ قويةً تصل بين الحكيم ومحسن، ومعنى هذا أن «التجربة الفردية» مع الحياة كانت مُعدةً سلفًا وفي انتظار العمل الفني الذي يحتويها بعد أن يهرب بها من شخصية المؤلف، هذا ما صنعه نجيب محفوظ في الثلاثية، فأعطانا كمال عبد الجواد تعبيرًا حاسمًا عن جيله، ولكنه أيضًا تعبيرٌ فرديٌّ لا يُضاهَى. أما الحكيم فقد نقل عن حياته إلى أعماله الفنية دون أن يتدخل في بعض المشاهد بالحذف والإضافة والتعديل، مما جعل هذا النقلَ الحرفي ينحدر ببعض أجزاء الرواية إلى المستوى الفوتوغرافي الجامد، هكذا عرفنا إلامَ انتهى مصير «سليم» وسنية في «عصفور من الشرق»، بعد أن تركناهما في «عودة الروح» دون أن يكون لمعرفتنا هذه أي دورٍ فنيٍّ في بناء الرواية الجديدة، تمامًا كما نقل إلينا من الحياة طفولته الباكرة مع الأسطى شخلع في ذلك الحديث الطويل مع سنية ﺑ «عودة الروح». إن كل ما تقوم به هذه المشاهد المنقولة حرفيًّا عن الحياة، أو الأعمال السابقة، هو المزيد من تعطيل السياق الروائي أو تضخيم أحد الجوانب على حساب جانبٍ آخر، أو إصابة جانبٍ ثالثٍ بالهزال، وهذا ما حدث في «عصفور من الشرق»، فهي نكسةٌ في حياة الرومانتيكية المصرية، نكسةٌ على مؤلفات هيكل وتمصيرات المنفلوطي وترجمات الزيات، وهي نكسةٌ — أولًا وأخيرًا — على عودة الروح، وهي النكسة التي أورثت سلبيتها فيما بعد أعمال جيلٍ كاملٍ من الكُتَّاب الرومانسيين.

غير أن سلبية الوجه الرومانسي لعصفور من الشرق، تتكامل تكاملًا دقيقًا مع رجعية الوجه الفكري، وهو الوجه الذي يتبدَّى لنا من اللقاء الآخر بين محسن و«إيفان»، العامل الروسي الأبيض الفارِّ من الثورة الاشتراكية في بلاده إلى باريس. وبالرغم من أن الحكيم كان صادقًا كل الصدق في تصوير إيفان بائسًا تعسًا في حياته المشردة بين أحياء باريس، إلا أنه أنطق هذه الشخصية بما يجعل منها قناعًا تسترت خلفه آراء الحكيم الشخصية في الاشتراكيَّة العلميَّة.

يمهد الفنان لهذا اللقاء بينه وبين إيفان، بأن يُضطر للذهاب إلى إحدى الكنائس برفقة صديقه أندريه، فيحس بعين الخشوع الذي كان يهز نفسه كلما دخل في القاهرة مسجد السيدة زينب، فإذا قال له صديقه إنهم يدخلون الكنيسة في أوروبا، كما يدخلون المقهى (وهو نفس الصديق الذي أعطاه من قبل المفهوم الأوروبي للحبِّ، هكذا يسلك الحكيم طريق المتوازيات في هذه القصة، فالشخصية هي هي لم تتطور، تنطق في هذا الموقف ما يتسق بها مع بقية المواقف) أجابه محسن: بل إن الكنيسة هي المرادف المرئي للسماء. لهذا السبب فقط يهاجم الرأسماليين — لا الرأسماليَّة — ويقول عن الأميركيين الذين التفُّوا حوله يتطلعون إلى زيه الأسود العجيب وقبعته العريضة: «يُخيَّل إليَّ أن هؤلاء الأمريكان قومٌ خُلقوا من الأسمنت المسلح، لا روح فيهم، ولا ذوق ولا ماضي، إذا فتحت صدر الواحد منهم وجدت في موضع القلب دولارًا.» فإذا استمع إلى الشيخ العجوز والد صديقه يردد أن عصرًا عبوديًّا جديدًا قد بزغ مع حياة «الصناعة»، هذه التي تفرق الأُسرة وتشتتها، همس محسن: «نعم، لن يذهب الرق من الوجود، لكلِّ عصرٍ رقُّه وعبيدُه.» كانت هذه كلها بمثابة التمهيد للقائه بالعامل الروسي «إيفان»، التمهيد الفكري والفني معًا. وقد أعلنت بداية اللقاء عبارة نطق بها هذا الفتى النحيل الشاحب بأحد المطاعم، حيث تصادف أن اعتزم محسن أن يأكل به، وهي العبارة التي قال فيها: «إني دائمًا وحدي في الحياة»، ولكم يشعر محسن بحبٍّ وتقديرٍ — يستطرد الكاتب — لأولئك الذين لا تطيب لهم السكنى إلا داخل أنفسهم: «ذلك أن قليلًا من الناس مَن يملك نفسًا رحبةً غنيةً، يستطيع أن يعيش فيها، وأن يستغني بها عن العالم الخارجي، إنه يعتقد دائمًا أن الزاهدين الحقيقيين ليسوا إلا أُناسًا لهم نفوس كالفراديس، وتنيرها الشموسُ، وتتلألأ فيها الكنوزُ، فهي عالمٌ من الفتنة والسحر لا نهاية لبدائعه وأسراره.» ثم يبدأ بينهما حديثٌ طويلٌ ينكر فيه إيفان أن روسيا الاشتراكية هي جنة الفقراء، ويعتقد أن أنبياء الشرق فهموا المشكلة على وجهها الصحيح، وهي أن المساواة لا يمكن أن تقوم على هذه الأرض، وأنه ليس في مقدورهم تقسيم مملكة الأرض بين الأغنياء والفقراء. أمَّا نبي العصر الحديث — كارل ماركس — فقد جاء بإنجيله الأرضي «رأسمال المال» ليحقق العدل على هذه الأرض، فقسَّم الأرض وحدها بين الناس، ونسي «السماء»، فماذا حدث؟ ويجيب إيفان على نفسه: «حدث أن أمسك الناس بعضهم برقاب بعضٍ، ووقعت المجزرة بين الطبقات تهافتًا على «هذه الأرض» …» كمَن يلقي تفاحةً بين أطفالٍ يتلمَّظون! ثم يعلو صوته في وصف ماركس: «لقد ألقى قنبلةً (المادية والبغضاء واللهفة والعجلة) بين الناس، يوم أفهم الناسَ أن ليس هنالك غير «الأرض» يوم أخرج السماء من الحساب.» أما أنبياء الشرق في رأي محسن فقد ألقوا زهرة الصبر والأمل في النفوس، حين قالوا بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، إن مسيحية اليوم في رأي إيفان هي الماركسية حقًّا، ولكنها على نقيض المسيحية الأولى، مثلها الأعلى على الأرض، فهي تحض الفقراء وتغريهم بمملكةٍ تُقام على أنقاض طبقةٍ، وأشلاء طبقةٍ، وتنصحهم بالهجوم على قيصر وأخذ ما لقيصر: «… وإن إنجيل هذا الدين، كتاب رأس المال، تجد أيضًا في بعض صفحاته تنبؤاتٍ مخيفةً كتنبؤات يوحنَّا في رؤياه، ففيه توعَّد بانهيار هذا العالم، وحلول عالمٍ آخر قوامه العمال وحدهم! أي أجسام تسير بغير رءوس فوق المناكب؟ يا له من حلمٍ مخيفٍ.» أما إسلام العصر الحديث في رأي إيفان فهو الفاشية التي لها طابع الإيمان والنظام، ولكنه الإيمان بالزعيم والنظام الذي «لا يؤدي إلى التوازن الاجتماعي بالتواضع والزكاة»، وإنما هو نظامٌ فرضته يد الإرهاب والدكتاتورية الفردية: «نعم أنا من العمال ومن الفقراء، لكن لي من سوء الحظ رأسٌ يفكر، إني أعرف أن وعود أديان الغرب الجديدة كلها إنْ هي إلا تغريرٌ بالعمال والفقراء»، «وإني لأتنبأ لك منذ الآن بوقوع نوعٍ من الحروب الصليبية بين الماركسية والفاشستية تُحشد فيها الدهماء ضد الدهماء، وتتناثر فيها الجثث.» وهكذا يصبح اليوم الذي يستطيع فيه الحيوان أن يحيا دقيقةً واحدةً خارج الواقع والمادة، هو آخر عهده بالحيوانية كما يقول محسن. ولست أود أن أستطرد في ذكر ما تحدث به إيفان عن الإسلام والجنة والنار وغير ذلك، مما يؤكد أن إيفان ليس له وجودٌ في عالم الواقع الروائي الناضج، وإنما هو قناعٌ أسدله محسن على وجهه ليقول لنا رأيه — أو رأي المؤلف على وجهٍ أدقَّ — في الماركسية. لم يكن لإيفان هذا إلا وجود جزئي حين صوره الحكيم مريضًا مشردًا لا يجد قوت يومه، يكاد عمله بالمصنع أن يسحق كيانه الهزيل، هذا الوجود الجزئي يؤكد مرةً أخرى تلك الصلة التي أود أن أقيمها بين قصة محسن مع سوزي، وقصته مع إيفان، قصة التلاحم بين الرومانسية السلبية الفجَّة، مع الرجعية الفكرية الساذجة، ولا يقتصر الرداء الرومانسي على قصة الحب الغامض بين محسن وسوزي، بل هو يمتد إلى قصة العلاقة الغامضة أيضًا بينه وبين إيفان، فهي علاقة تبدأ في مطعم على أثر عبارةٍ توحي بالشعور بالوحدة والانطواء، وهي علاقةٌ بإنسانٍ مريضٍ مكدودٍ مشردٍ، ثم تنتهي بوفاته على تلك الصورة التقليدية للمأساة الرومانسية، يموت وعيناه مصلوبتان على شمس الشرق التي توهج بها خياله المتَّقد، يموت وفي أعماقه يتوسد الحنين إلى ذلك العالم الساحر وراء الغيب، يموت وفي إحدى عينيه فارس، وفي العين الأخرى غادة الكاميليا، وكأن شخصية إيفان هي الامتداد الرومانسي لقصة محسن مع سوزي، فإذا لم تكن هي قد ماتت إلا في قلبه، فلتمُت من جديدٍ في شخص إيفان الحبيب.

وهي قصة رجعية مفرطة في السذاجة، فقد أساء صاحبها اختيار «البطل» المعادي للاشتراكيَّة، فالعمل الفني لا يكتسب موضوعيته إذا أتيت بمتهمٍ ليقول رأيه في المجني عليه، والعمل الفني لا يكتسب قيمته إذا جعلت من عاملٍ بسيطٍ فقيهًا في الإسلام والمسيحية والماركسية والفاشية، يأخذ معه «رأس المال» إلى المطعم حتى لا ينقطع عن القراءة أثناء الأكل، والعمل الفني لا يكتسب أهميته إذا أدرت فيه حوارًا فكريًّا خالصًا لا يعتمد على الصراع بين رأيين، وإنما ليكمل أحدهما الآخر في اتفاقٍ سطحيٍّ بعيد المدى. هذا العمل يسقط فنيًّا في هاوية الفكر المجرد الذي يصطنع لنفسه أبواقًا وأقنعةً من الشخصيات والأحداث والمواقف، فيصبح تحريكها ممكنًا بصورةٍ آليةٍ، أما تطويرها فيصبح شيئًا كالمستحيل. أما من زاوية الفكر فإن هذا العمل يسقط مرةً أخرى، إذا جاء الموقف العنيف من الماركسية نتيجة أنها تُعنَى بالأرض لا بالسماء، فالمناقشة هنا تنتفي بمجرد خروجها عن الإطار الموضوعي للقضية المطروحة للبحث، وهي «الإنسان على هذه الأرض»، أما إذا كان المؤلف «لن ينسى السيدة زينب الطاهرة وفضلها عليه في المُلمَّات … إن لها وجودًا حقيقيًّا في حياته»، وأقول المؤلف — لا محسن — لأن هذه العبارة وغيرها مما ورد داخل القصة يلتقي مع ما جاء في مقدمتها من إهداءٍ: «إلى حاميتي الطاهرة السيدة زينب»، فما من مرةٍ وقع في شدةٍ إلا وجد العزاء عند باب ضريحها ذي القضبان الذهبية، وكل نجاحٍ ظفر به في الحياة هو دفعةٌ من يدها، وكل عطفٍ هو نظرةٌ من عينيها، وكل ابتسامةٍ من الحظِّ إنما هي ابتسامةٌ من شفتيها، ومن هنا تصبح الاشتراكية والمساواة عند محسن «خيالًا»، بينما السيدة زينب في ردائها الأبيض بالسماء هي «الواقع»، لا ينبغي إذن أن نبني شيئًا جميلًا — يقول محسن — فوق هذه الأرض. والحق أن محسن لا ينسى أن يشنَّ حملةً ضاريةً ضد رجال الدين كحملته ضد رجال الصناعة، رجال الدين في نظره هم «أول مَن ينعم بمملكة الأرض»، والصناعة هي التي خلقت فئةً قليلةً من الرأسماليين «لا دين لها إلا الذهب»، هو هو بعينه، الهجوم الرومانسي المعتاد على رجال الدين ورجال الصناعة، الهجوم الانطباعي المنفعل، ذلك أن الخسارة في نهاية الأمر ليست إلا «تلك الرحلات الطويلة على ظهور الجياد أو الإبل»، و«التمهل حول الأعشاب النابتة والسكون عند شواطئ الجزر»، تلك هي الفاجعة الرومانسية بكل ما تحتويه من سلبيةٍ وخذلانٍ، فالصناعةُ الحديثةُ «فتتت» طبيعة العمل عند العامل، أصبح «متخصصًا» في جزئياتٍ دقيقةٍ، ويا للعار! وأصبح التعليم العام «مجانيًّا»، وهكذا تُتاح الفرصة للدهماء أن تنال قسطًا من الثقافة التي تضللها عن طريق السماء. الخلاص إذن يتبلور في ذلك الشعار «إلى الشرق! إلى الشرق! إلى الشرق! فلنرحل معًا إلى الشرق! … إن أجمل ما بقي لأوروبا إنما أخذته من الشرق»، فالنور يشرق من بلاد الشمس ليغرب في بلاد الغرب. الشرق هو بلاد العلم الخفي الباطن، أما الغرب فهو بلاد العلم «الظاهر» الخارجي. وتبدأ مرحلة الاحتضار في حيان إيفان، فيهمس لصديقه محسن: «أريد أن أرى جبل الزيتون، وأن أشرب من ماء النيل وماء الفرات وماء زمزم وماء … هلمَّ إلى المنبع! … إلى المنبع!» ولا يلفظ إيفان أنفاسه قبل أن يسرد عليه محسن كيف أصبحت الأفكار الأوروبية مقدسات الشرق، وأن الشرق يدافعون عنها الآن كما دافعوا عن الأديان من قبلُ، وأنه لن يجد في الشرق شرقًا، لن تجد غاندي في قلوب الشباب، ستجد موسوليني: «حتى أبطال الشرق قد ماتوا في قلوب الشرقيين.» وينتهي المرض بإيفان إلى آخر مراحله فيردد: «اذهب أنت يا صديقي … إلى هناك … إلى النبع، واحمل ذكراي وحدها معك … وداعًا.»

وتنتهي «عصفور من الشرق» بهذا الوداع المؤثِّر، كما لو كانت إحدى علاقات «الحب العظيم» قد تخللت إليها الدسائس والحيل ففشلت جميعها، ولم تنجح سوى «الطبيعة» أو «السماء» في تحطيم الأمل الكبير، حطمته بالمرض والفقر والوحدة، حطمته بالعذاب، ولكنه العذاب الذي يطهر الإنسان من ربقة الجسد ومن ربقة المادة والواقع، فيتعالى على الموت متعزيًا في رحاب الله.

•••

ليكن موقف توفيق الحكيم في ذلك الحين من الماركسية وغيرها من المذاهب ما يكون، غير أن الناقد المنصف يرى نفسه محاصَرًا بين سؤالين؛ الأول: كيف حاول الفنان أن يصوغ هذا الموقف صياغةً جماليةً حتى نتبين مبلغ الصدق أو الادعاء فيه؟ والثاني يتعلق بذلك التوقيت الذي صدرت فيه القصة، ودلالته بالنسبة لمسار الحركة الأدبية في مصر عند أواخر الثلاثينيات قبيل الحرب العالمية الثانية. أما السؤال الأول، فقد أجبنا عليه فيما سبق لنا من تعرفٍ على جوانب شخصية إيفان العامل الروسي الأبيض، إذ اتضح لنا مدى الزيف والافتعال في بنائها، بحيث إنها بلغت من التهافت درجة تقول بأن الكاتب أقحم آراءه الشخصية إقحامًا متعسفًا أفسد السياق التعبيري للرواية. وأما السؤال الثاني فنجيب عليه بأن هذه الآراء المتخلفة للحكيم هي نتاج ذلك المناخ المأساوي الحاد الذي عاشته مصر فيما بين انتكاسة ثورة ١٩١٩م ومعاهدة التهادن عام ١٩٣٦م. فبينما استطاعت الثورة أن تفجر الأمل بين ضلوع الحكيم، أقبلت مرحلة الإرهاب الدكتاتوري تجر أذيال الخيبة والأسف، أقبلت لتؤكد ضرورة احتواء الحركة الاستقلالية على مضمونٍ اجتماعيٍّ لا ينفصل عنها، وقد طُرحت المسألة الاجتماعية حينذاك على الصعيد العالمي، ولم تكن حالة مصر إلا انعكاسًا صارخًا لأزمة الرأسمالية ومطاردتها الحادة العنيفة للحركة والفكر الاشتراكيين. كان الحكيم يعاني صراعًا هائلًا بين الحس الوطني الديمقراطي الرابض في أعماقه وبين حسه الاجتماعي الرابض بين أسوار الطبقة المتوسطة الناشئة، و«عصفور من الشرق» هي لحظة الرجحان لكفَّة المستقبل البرجوازي التي عايشها في أوروبا، بينما تأتي «يوميات نائب في الأرياف» ترجيحًا لكفَّة المضمون الاجتماعي المتقدم الذي عايش ضرورته وحتميته في ريف مصر.

ولعلَّ «عصفور من الشرق» تلتقي من هذه الزاوية، وتختلف في نفس الوقت، مع قصةٍ أخرى صدرت بعدها بحوالي سبع سنوات، تلك هي «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، وهي قصة الدكتور إسماعيل طبيب العيون الذي نشأ في كنف أم هاشم وقنديلها الذي يضيء بغير صراع: «لا شرق هنا ولا غرب، ما النهار هنا ولا الليل، لا أمس ولا غدًا.» وعندما أخذ أهبته للسفر إلى «بلاد برة»، كان والده ينطق هذه العبارة كأنها إحسانٌ من كافرٍ لا مفر من قبوله «لا عن ذلةٍ، بل للتزود بنفس السلاح». وفي مصر لم يكن إسماعيل يشعر بمصر إلا شعورًا مبهمًا: «هو كذرة الرمل اندمجت في الرمال»، أما في إنجلترا: «قد بدأ يشعر بنفسه كحلقةٍ في سلسلةٍ طويلةٍ تشده وتربطه ربطًا إلى وطنه.» وفي مصر كان مرتبطًا بالفاتحة أن يتزوج من قريبته فاطمة النبوية، الفتاة القروية ذات العينين المريضتين، وفي إنجلترا نسي هذا الوعد وأحب ماري الإنجليزية، وذاق معها أمتع الملذات، ثم عاد إسماعيل إلى مصر. لشدَّ ما تغيَّر! هكذا أكدت الساعات الأولى من قدومه، فقد تصادف أن لاحظ أمه تقطر زيتًا من قنديل أم هاشم في عينَي فاطمة النبوية، فاعتبر ذلك امتهانًا لكرامته، ونطقت أمه أخيرًا تستعيذ بالله وتقول له: «اسم الله عليك يا إسماعيل يا بني، ربنا يكملك بعقلك. هذا غير الدوا والأجزا، هذا ليس إلا بركة من أم هاشم.

وإسماعيل كثور هائج لوحت له بغلالة حمراء: أهي دي أم هاشم بتاعتكم هي اللي ح تجيب للبنت العمى. سترون كيف أداويها فتنال على يدي أنا الشفاء الذي لم تجده عند الست أم هاشم.

– يا ابني ده ناس كتير بيتباركوا بزيت قنديل أم العواجز، جربوه وربنا شفاهم عليه، احنا طول عمرنا جاعلين تكالنا على الله وعلى أم هاشم، ده سرها باتع.

– أنا لا أعرف أم هاشم ولا أم عفريت.»

«ثم هجم إسماعيل على أمه يحاول أن ينتزع منها الزجاجة، فتشبثت بها لحظةً، ثم تركتها له، فأخذها من يدها بشدةٍ وعنفٍ، وبحركةٍ سريعةٍ طوَّح بها من النافذة»، بل إنه لم يكتفِ بذلك، وذهب إلى مسجد أم هاشم حيث هوى بعصاه على القنديل فحطمه وتناثر زجاجه، وكاد يومها أن يموت تحت أقدام الزوار الذين انهالوا عليه ضربًا وركلًا، ولم ينقذه من الموت سوى الشيخ الدرديري خادم المسجد.

وما إن حل رمضان من نفس العام حتى أحس بخيبة أملٍ كبيرةٍ تجتاح مشاعره: «يحدِّث إسماعيل نفسه: لماذا خاب؟ لقد عاد من أوروبا بجعبةٍ كبيرة محشوةٍ بالعلم، عندما يتطلع فيها الآن يجدها فارغةً، ليس لديها على سؤاله جوابٌ، هي أمامه خرساء ضئيلة، ومع خفتها فقد رآها ثقلت في يده فجأةً.» وبدأ التحول الجديد في حياته حين أخذ يستشعر الألفة في كل الكائنات والجمادات المحيطة به من حوله بحي السيدة، أما ما هو أكثر أهمية أن نفس إسماعيل اطمأنت: «وهو يشعر أن تحت أقدامه أرضًا صلبةً، ليس أمامه جموع من أشخاصٍ فرادى، بل شعب يربطه رباطٌ واحدٌ، هو نوعٌ من الإيمان، ثمرة مصاحبة الزمان.» وأخيرًا أحس أن غشاوةً ما كانت تَرين على قلبه قد زالت، أو في طريقها إلى الزوال، وفهم الآن ما كان خافيًا عليه «لا علم بدون إيمانٍ». ومن ثم راح يشيد عيادته المتواضعة بحي البغالة بجوار التلال، وأخذ ينادي الجميع أن تعالوا، فيكم مَن آذاني وكذب عليَّ وغشَّني، ولكني رغم هذا لا يزال في قلبي مكانٌ لقذارتكم وجهلكم وانحطاطكم، فأنتم مني وأنا منكم، أنا ابن هذا الميدان، لقد جار عليكم الزمان، وكلما جار واستبد، كان إعزازي لكم أقوى وأشد، وعاد من جديدٍ إلى عمله وطبِّه يسنده الإيمان، وتزوج إسماعيل من فاطمة النبوية، وامتدت شهرته إلى خارج العاصمة، إلى الريف الحزين.

تتفق «قنديل أم هاشم» مع «عصفور من الشرق» وتختلف، بل هي قد تتفق مع «عودة الروح» في أكثر من موضعٍ، وإن اختلفت عنها في أكثر المواضع، أما اتفاقها مع «عصفور من الشرق» فيأتي من ذلك التشابه بين تكوين محسن وتكوين إسماعيل، التكوين الشرقي الذي قد تبهره حضارة أوروبا، ولكنها لا تخلعه من أرض حضارته. وأما اتفاقها مع «عودة الروح» فيأتي من ذلك التشابه بين إيمان إسماعيل بالشعب المصري ايمانًا يربط بين حلقات تاريخه المبعثرة في خيطٍ واحدٍ، وإيمانه بأن جماهير هذا الشعب يخفق بين ضلوعها قلبٌ واحدٌ، وإيمانه بأن روح هذا الشعب هي نوعٌ من الإيمان ثمرة مصاحبته للزمان. إلا أن قصة يحيى حقي تعود فتختلف عن قصة الحكيم في أنها بناء خصصه صاحبه لإقامة هذه الفكرة وحدها، لا تزاحمها أفكارٌ أخرى، وكافة الأدوات التعبيرية مجندةٌ في خدمتها، وإذا كانت «قنديل أم هاشم» تتضمن خطأً فنيًّا فادحًا يجعلها أقرب إلى أن تكون مشروعًا مخططًا لتأليف روايةٍ منها إلى القصة القصيرة أو الرواية القصيرة، فقد تركزت فيها الأحداث والمواقف بصورةٍ إخباريةٍ لا في لحظة حضور. وإذا كانت قد تضمنت خطأً فنيًّا آخر في استخدامها لعنصر المفاجأة استخدامًا يهز البناء من أساسه؛ إذ نرى التناقض بين إسماعيل والحياة المحيطة به قد تجسد منذ الليلة الأولى لقدومه من إنجلترا، كما نلاحظ تحوله الجديد في شهر رمضان قد تم بصورةٍ آليةٍ غير ممهدة، إلا أن ما يغفر هذه الأخطاء فنيًّا للمؤلف أن بناءه هذا كان بناءً حيًّا، فشخصياته من لحمٍ ودمٍ، وأحداثه ومواقفه هي ثمرة التناقضات الدينامية والصراع الخارجي معًا، بل إن الفكرة الذهنية في القصة لا تسبق التشكيل الفني لها، وإنما تمتزج الفكرة بالشخصيات والأحداث فتؤثِّر فيها وتتأثر بها، وتتبادلان المواقف أو مراكز التجربة، فينتج عن ذلك كله مركبٌ جديدٌ غاية الجدة، يعلو كثيرًا فوق الفكرة بمفردها والشخصيات بمفردها والأحداث بمفردها، فقد توجه إسماعيل إلى أوروبا بتكوينٍ محددٍ هو تكوين المراهق جسدًا وعقلًا، وهناك تغيَّر تكوينه فعاد شابًّا «محدث نعمة» في العلم، ناكرًا قيمة الإيمان، ثم امتزج علمه مع الأيام والليالي الطويلة، فأصبح علمًا يسنده الإيمان. هكذا كان إسماعيل في «قنديل أم هاشم» شخصيةً حيةً نابضةً، لا مخلوقًا ذهنيًّا مجردًا، شخصية قابلة للتطور من الداخل والخارج معًا، لا شخصية قابلة للحركة القادمة من الخارج وحده، من المفتاح الفكري الذي يمسك به ذهن المؤلف على وجه التحديد؛ لذلك كان إسماعيل شخصيةً صادقةً موضوعيًّا، مهما شاب هذا الصدقَ عند هذا أو ذاك ما يختلف معه أو يتفق عليه. هي شخصيةٌ صادقةٌ بمعنى أن الفنان استطاع أن يتلمس أدق شعيراتها الأساسية، فقدمها إلينا إحدى «حالات» الحضارة التي نعيشها. ليكن رأينا في هذه الحالة ما يكون، ليكن رأينا في صاحبها ما تشاء لنا التحليلات الأيديولوجية الصارمة، ولكن هذه التحليلات مهما تباينت في نتائجها واختلفت في مناهجها، فإنها لا تستطيع أن تنكر موضوعية تلك «الحالة» وصدقها، ونفاذ العين الفنية التي التقطتها. أما الموقف الفكري ليحيى حقي من هذه الحالة أو تلك الظاهرة، فهو أن «لا علم بغير إيمان». وإذا كان الفنان قد استخدم قنديل أم هاشم والشيخ درديري وفاطمة النبوية أدوات صياغة لنسج هذا المعنى، فإن هذا لا يضيره، وهو حرٌّ كامل الحرية في خلق عالمه، فليست هذه الجزئيات إلا تجسيدًا من الواقع، يقابل بينها الكاتب وبين ما يعادلها في مجال الفكر. «لا علم بلا إيمانٍ» هو المركب الموضوعي الذي أثمره لقاء الشرق بالغرب في قصة يحيى حقي، لقاء إسماعيل القادم من القاهرة إلى لندن، والعائد من لندن إلى القاهرة عبر سلسلةٍ من التجارب الذاتية والموضوعية. ذهب إسماعيل إلى أوروبا في شخصيةٍ محددةٍ، وهناك أضاف شخصيةً جديدةً، وعاد ليصبح شخصيةً ثالثةً مركبةً بأصالةٍ من الشخصيتين. ولا يحق لنا أن نبتذل الفن فنسقطه حرفيًّا على الواقع ونقول إن الإيمان عند يحيى حقي هو زيت القنديل عند الشيخ درديري في مسجد أم هاشم. إن العلاقة الجدلية بين الفن والواقع تحُول بيننا وبين هذا الابتذال، فإذا كان الواقع هو المصدر الأصيل لإنبات شخصيةٍ كإسماعيل، فإن الفن وحده هو الذي يضيف «إسماعيل = العلم والإيمان». ولك أن تؤمن بعد ذلك بما تريد، فالعمل الفني من الرحابة بحيث لا يملي عليك قانونًا معينًا للإيمان، ولكننا حين نعود إلى تلك المرحلة التاريخية التي صدرت فيها القصة لنجد أن مشكلات «الفن للفن والعلم للعلم» من القضايا المطروحة في ذلك الحين، يدفعنا الأمر إلى الاعتقاد بأن يحيى حقي التزم الجانب التقدمي في هذه المعركة التي دارت رحاها علانيةً في أوروبا، ومتخفيةً أو متنكِّرةً في الشرق العربي. يحيى حقي يلتزم جانب «العلم للمجتمع»، وهو الشعار الذي يتضمن إيمان العالم بشيءٍ ما إزاء مجتمعه.

توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق» على النقيض المقابل لهذه القصة التقدمية، فقد راح يفتعل شخصيةً رئيسيةً كإيفان، ويزيِّف أحداثًا كاملةً في صورة حوارٍ مباشرٍ أحيانًا، وفي صورة مطولاتٍ مقتبسةٍ أحيانًا أخرى، وفي صورة مقالاتٍ كالحواشي تندسُّ أثناء السرد، وفي صورة ذكريات مقحمة لا جدوى منها، كل ذلك أفسد السياق التعبيري فنيًّا، كما أفسده فكريًّا، ولا شك أن صراعًا هائلًا — كما سبق أن قلتُ — نشب في عقل الحكيم ووجدانه الفني إبان تلك المرحلة التالية لصدور «عودة الروح» بسنواتٍ خمسٍ، ولقد شاء الحكيم بتجربته الذهنية التي تميل إلى التعميم أن يعبر عن كل جانبٍ من جانبَي الصراع على حدة، فعبر عن الجانب السلبي في «عصفور من الشرق» وعن الجانب الإيجابي في «يوميات نائب»، ولم يشأ أن يزاوج بينهما في مركبٍ صراعيٍّ واحدٍ، مخافة أن ينتصر في النهاية — ولا بد أن يفعل ذلك — لأحد الجانبين، واكتفى بأن يصدر العملان في فترةٍ زمنيةٍ واحدةٍ لا تتجاوز العام.

إلا أن «عصفور من الشرق» لم تكن في جوهرها عملًا سلبيًّا خالصًا، وإنما قد حملت إلى جانبها رومانسيتها الفنية ورجعيتها الفكرية، دلالة أخرى على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية. تلك هي «الرؤيا» التي وُلدت في «عودة الروح»، وانبعثت عن ذلك التفاعل الحضاري بيننا وبين الغرب من ناحيةٍ، وبيننا وبين المنطقة العربية من الناحية الأخرى. وُلدت لنا مع عودة الروح «الرؤيا المصرية» التي حاولت أن تقيم التوازن بين المجد المصري القديم والحضارة الغربية الحديثة، بأن تمدَّ جذور الإنسان المصري المعاصر إلى أرضه التاريخية ليمتص عصارتها الحضارية، ويتمكن من الوقوف على قدميها وجهًا لوجه أمام حضارة العصر، لم تكن رؤيا عنصرية تحس تفوقًا ما في التربة المصرية وطمي وادي النيل، بل كانت رؤيا «المقاومة» للتخلف المحلي وأدوات القهر الأجنبي، ولم تكن رؤيا انعزالية تنطوي على نفسها بعيدًا عن جيرانها، وإنما كانت رؤيا «الحضور» الواعي بالذات دون أن يتورط في أغلالٍ وهميةٍ باسم العروبة أو باسم الدين. هذه الرؤيا التي صاغتها عودة الروح في إطار الصراع بين الاتجاهات الفنية الثلاثة من ناحيةٍ، وبين الواقع والرمز من ناحيةٍ أخرى، أقبلت «عصفور من الشرق» و«قنديل أم هاشم» لتوطيد دعائمها النظرية والتطبيقية. فإذا كانت عودة الروح وقصص نجيب محفوظ التاريخية وغيرها من أعمال عادل كامل وباكثير والسحار قد حاولت أن تمد الجذور إلى مصر الفرعونية، فإن عصفور من الشرق وقنديل أم هاشم تمدان الجذور إلى مصر العربية الإسلامية، ولا يعني ذلك سوى أنه ينبغي أن تُطرح قضية التراث في إطارها التاريخي، فليست مصر الفرعونية ومصر المسيحية ومصر الإسلامية ومصر العربية الحديثة إلا وحدة حضارية عميقة الجذور في أغوار النفس المصرية، ولا يعني ذلك أيضًا سوى أن قضية التراث لا ينبغي أن تنفصل عن قضية المعاصرة، ولا يعني ذلك ثالثًا سوى أن التفاعل بين الماضي والحاضر من جهةٍ، وبيننا وبين أرفع ذروةٍ حضاريةٍ في العالم الحديث من جهةٍ ثانيةٍ، هو جوهر «المسار الخاص» لحضارتنا وآدابنا وفنوننا، التراث والمعاصرة هي قضية محسن مهما جاء تعبيره مختلفًا عن إسماعيل في قنديل أم هاشم، أو لويس عوض في «مذكرات طالب بعثة». إن ارتباط لويس عوض بالتراث كان ارتباطًا معاصرًا عبَّر عنه في الاستخدام الشجاع للغة الشعبية، أما الارتباط بالتراث عند الحكيم فقد آثر الشكل الكلاسيكي في استخدام اللغة، بالرغم من نجاحه السابق في «عودة الروح» حين استخدم العامية المصرية استخدامًا موفقًا.

ولم ينقذ توفيق الحكيم من هذه المجموعة الهائلة من التناقضات إلا كتابُه الرائدُ «يوميات نائب في الأرياف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤