يوميات نائب في الأرياف
أبادر فأقول إن «يوميات نائب في الأرياف» تُعَد نموذجًا رائدًا للواقعية النقدية في الأدب المصري الحديث، تمامًا كما كانت «عصفور من الشرق» نموذجًا للرواية الرومانسية. وبالرغم من أنه ليس من تقاليد النقد الحديث «الحكم» على العمل الفني، فضلًا عن الحكم مقدمًا، فإنني أرى من الأهمية بمكانٍ أن أضع هذه المصادرة في مقدمة حديثي عن «يوميات نائب»؛ ذلك أن الإيهام الكامل بالواقع هو السمة الرئيسية في هذه الرواية، ولا شك أن ثمة فرقًا بين الإيهام الجزئي بالواقع عن طريق المسافة النسبية التي يخلقها الفنان بين الواقع والرمز، وبين الإيهام الكامل بهذا الواقع الذي أخذ به الحكيم في تلك المرحلة العنيفة من مراحل انفصامه الفني بين الرومانسية والواقعية. إلا أن الحكيم لم ينحدر إلى المستوى الفوتوغرافي المحض في تصور الواقع وتصويره، وإنما هو راح يستوحي من هذا الواقع أكثر جزئياته حضورًا وتجسيدًا لواقعٍ أشمل، هو الواقع المصري في ثلاثينيات هذا القرن، فاختار من هذا الواقع القرية المصرية التي عمل بها وكيلًا للنائب العام في أولى مراحل حياته العملية، وبالرغم من أن الإطار العام للقضية هو «اليوميات» التي سجلها وكيل النيابة — وهو شخصية هامشية في القصة تقوم بدور الراوي — إلا أن الحكيم قد حاول أن يصوغ الأحداث التفصيلية بين ذراعَي القصة الأصلية، وهكذا أراد هذا الفنان الواقعي أن يلعب لعبته الفنية الجديدة في نطاق الواقعية الفوتوغرافية بأن يكسر رتابة الواقع وإملاله، وذلك بأن يخطط قصة رئيسية هي قصة الفتاة «ريم»، وعن طريق اليوميات تتخلل هذه القصة عشرات الأقاصيص الصغيرة، التي تكشف عن بشاعة المأساة التي يعيشها الريف المصري حينذاك.
وتبدأ «يوميات نائب» ببلاغٍ يقول إن رجلًا في الأربعين، يُدعى «قمر الدولة»، وُجد في منطقةٍ مجاورةٍ وقد أصابه عيارٌ ناريٌّ، فينتقل وكيل النيابة إلى مكان الحادث ويأمر بنقل المصاب إلى المستشفى، ولكنه لا يجد شهودًا على الحادث، ولا يعرف شيئًا عن الظروف المحيطة بالمجني عليه سوى أن زوجته قد ماتت منذ عامين، وتركت شقيقتها الصغيرة «ريم» التي تقيم معه بعد وفاة أختها، وريم إذن هي الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يقول شيئًا فينير مجاهل التحقيق، فلا بد من التحفظ عليها حتى يصل وكيل النائب العام إلى أول الطريق المؤدي إلى الحقيقة، ويتطوع مأمور المركز بأن تبيت الفتاة الصغيرة في بيته ما دامت بلا مأوًى ولا أهل.
وتبرز لنا بين الصفحات شخصية على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية، هي شخصية الشيخ عصفور، فهو يحدب على الفتاة ويرافق مجريات الأمور تحت نظر السلطات دون أن تكون له مصلحةٌ مفهومةٌ، وبغير أن تكون له وظيفةٌ محددةٌ. وما إن يستيقظ وكيل النيابة في صباح اليوم التالي ليستجوب الفتاة حتى يُفاجأ الجميع بهروبها من بيت المأمور، ولم تكن حالة المجني عليه قد سمحت باستجوابه، فيأمر المحقق بالبحث عن «ريم» في كل مكانٍ من القرى المجاورة، ولكنهم يخفقون في العثور عليها، وبينما كان وكيل النيابة في طريقه إلى المستشفى للسؤال عن «قمر الدولة»، يشاهد ريم مع الشيخ عصفور، يجلسان خارج السور إلى جانب عشرات من الزوَّار، فيتركهما ليذهب إلى المأمور ويطلب إليه «قوة» تتوجه للقبض عليهما.
وما إن تذهب القوة إلى هناك حتى تُفاجأ بالشيخ عصفور بمفرده، أما «ريم» فلا أثر لها، وقع المحقق في حيرةٍ لا نهاية لها: لقد اختفى عصفور من قبل ولم يُعثر له على أثرٍ، وها هو ذا يظهر الآن دون أن تكون معه «ريم» التي يُخيَّل لوكيل النيابة أنه رآها برفقته عند المستشفى، وفي هذه الأثناء يعلن المستشفى عن وفاة المجني عليه «قمر الدولة»، فيكاد المحقق أن يستريح من عناء البحث الطويل ليغلق ملف القضية، إلا أن مفاجأةً أخيرةً تقع بالعثور على جثة «ريم» طافيةً على مياه إحدى الترع القريبة من القرية، وتتشابك أطراف الجريمتين تشابكًا معقدًا ينتهي بتحويل كلا الجثتين إلى الطبيب الشرعي، وتصبح التأشيرة الأخيرة في «يوميات نائب الأرياف» هي تصريح الدفن، وتُحفظ القضية لعدم معرفة الفاعل كغيرها من القضايا العديدة التي يُقيَّد ما تحتويه من جرائم «ضد مجهولٍ»، وتتراكم الملفات في مخازن المحاكم، أكداسًا فوق أكداسٍ تشهد بضخامةٍ هذا «المجهول» في حياتنا.
والمجهول في «يوميات نائب» حيلةٌ فنيةٌ بارعةٌ من جانب توفيق الحكيم، فإذا كانت الأحداث المادية المحسوسة والمباشرة تقول إن الفاعل مجهولٌ، فإن الفاعل خلال عشرات التفاصيل الصغيرة يقول إن الفاعل معلومٌ، يبدو لنا هذا «الفاعل» عملاقًا ضخمًا واضحًا في ساحة المحكمة حين يدور مثل هذا الحوار بين القاضي والمتهم.
– انت يا راجل متهم بأنك غسلت ملابسك في الترعة.
– يا سعادة القاضي ربنا يعلي مراتبك … تحكم عليَّ بغرامة لأني غسلت ملابسي؟
– لأنك غسلتها في الترعة.
– واغسلها فين؟
ويعلق الفنان: «… ولم أرَ واحدًا من المخالفين قد بدا عليه أنه يؤمن بحقيقة ما ارتكب، إنما هو غرم وقع عليهم من السماء كما تقع المصائب، وإتاوةٌ يؤدونها لأن القانون يقول إنهم يجب أن يؤدوها.»
ويبدو لنا هذا الفاعل العملاق مرةً أخرى في تلك «الجحور» المسقفة بحطب القطن والذرة يأوي إليها الفلاحون، أو على حد تعبير المؤلف، قطعان من البيوت تعيش في بطونها ديدان من الفلاحين، وقد حدث ذات مرة أن طرح البحر كيسًا كبيرًا، فهرول إليه أهل القرية واعتبروه كنزًا من القدر، إذ استخرجوا منه أشكالًا وألوانًا من الثياب والأقمشة، وكان هذا الكيس في واقع الأمر قد سقط من إحدى عربات اللوري الخاصة بنقل البضائع من المصنع إلى الشركة، وما إن اكتشف رجال الأمن أن الثياب الجديدة التي ارتداها أهل القرية فجأة هي «ثيابٌ مسروقةٌ» في عُرف القانون، ولا بد إذن من تقديمهم جميعًا إلى المحاكمة، وأمام وكيل النائب العام قالوا: فهمنا يا حضرة البك، لكن … بقى الكساوي كانت قدام نظرنا ورماها البحر علينا، والواحد منا من غير مؤاخذة عريان.
– انت يا راجل فاكر الدنيا فوضى، والا فيه قانون وحكومة!
ويظهر أن الرجل لم يستطع صبرًا فقال: بقى هي الحكومة لا منها ولا كفاية شرها؟ لا كستنا ولا تركتنا ننكسي.
ويبدو لنا هذا الفاعل العملاق مرةً أخرى حين نعلم أن مأمور المركز اعتاد في أوائل كل شهرٍ أن يلعب الورق مع الموظفين جميعًا، فيربح مرتباتهم ويظل طول الشهر يقرضهم ما يحتاجون إليه للأكل والمعاش حتى لا يموتوا جوعًا إلى يوم القبض، فيلاعبهم من جديدٍ ويأخذ مرتباتهم الجديدة ويقرضهم ما سيعيشون به طول الشهر وهكذا، والقاضي مشغولٌ عن سماع دفاع المتهم عن نفسه بكتابة الحيثيات ومنطوق الحكم، في نفس الوقت الذي يكون فيه الحاجب قد أحضر له سلة اللحم والزبد والجبن، وانتظره بها على المحطة في قطار الساعة الحادية عشرة صباحًا، فهو يسكن العاصمة ويحضر إلى المحكمة ثلاث مرات في الأسبوع، فإذا قال له أحد الفلاحين: والعمل إيه يا حضرة القاضي؟
– العمل إن الحكم السابق بحبسك ينفذ عليك، احجزه يا عسكري.
– الحبس بالزور يا حضرة القاضي! أنا مظلوم، لا قاضي سمع كلامي ولا حاكم طلب سؤالي لحد الساعة؟
– اخرس! معارضتك يا راجل بعد الميعاد.
– وماله؟
– القانون يا راجل محدد بثلاثة أيام.
– أنا يا سيدي القاضي غلبان لا أعرف أقرا ولا اكتب، ومن يفهمني القانون ويقريني المواعيد؟
– يظهر إني طولت بالي عليك أكثر من اللازم. أنت يا بهيم مفروض فيك العلم بالقانون … احجزه يا عسكري.
ويتصور وكيل النيابة أن رجل القضاء لا ينبغي له الكلام في السياسة، ومهما تغيرت الوزارات والأحزاب فإن القانون هو القانون. ولكنه سرعان ما يدرك خطأ تصوره، فما إن تقبل الانتخابات حتى يحس المأمور بأهميته ولا يعبأ بتفتيش وكيل النائب العام لسجن المركز، الذي يمتلئ بالمعارضين للوزارة الجديدة بغير «أمر حبسٍ»!
ويبدو لنا هذا الفاعل العملاق مرة أخرى حين يذهب طبيب المركز لإنقاذ ولادةٍ متعسرةٍ، فما إن يضع يده في الرحم حتى يجده محشوًّا بالتبن، وإذا مثانة المريضة قد تهتكت، والمولود قد مات فيها منذ يومين، فالتفت إلى «ست هندية الداية الصحية» مستفهمًا، فقالت: أصل يا سيدي الدكتور لما دخلت يدي أسحب الولد لقيتها راحت «مزفلطة»، قمت قلت «احرش كفي بشوية تبن». ومدت للطبيب يدًا ملوثةً بالتبن قد بدت منها أظافر طويلة سوداء. وماتت المريضة وطفلها، واكتفت الصحة بأن سحبت من هذه الداية «الصحية» التصريح، ولكنها لم تغير «النظام» وهي تعلم أن ألوف الأطفال يموتون على هذه الصورة كل عامٍ، «إن أرواح الناس في مصر لا قيمةَ لها».
هذا هو «الفاعل» المعلوم إذن من خلال هذه الأمثلة القليلة والجزئيات المنثورة هنا وهناك. إن الفنان يضع النظام الاجتماعي بأكمله فاعلًا رئيسيًّا في كافة الجرائم التي تقيَّد عادةً «ضد مجهولٍ». إنه لا يتجاهل العناصر القانونية الأخرى التي تشارك بصورةٍ أو بأخرى في هذه الجرائم، كضعف الإحساس الخلقي والمصادفات غير المتوقعة، والسلوك الشخصي للأفراد إلى غير ذلك، ولكن هذه الروافد جميعها تصب في مجرًى رئيسيٍّ واحدٍ، هو النظام الاجتماعي السائد وما يتفرع عنه من قوانين في كافة مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية. والحكيم بذلك يختلف عن رواد الواقعية النقدية في الأدب الغربي، حيث كانت مهمتهم الأولى هي «ترميم النظام» بالكشف عن تمزقاته المختلفة واقتراح مقاسات «الرقع» المطلوبة. إن الفنان المصري الذي يعيش في مرحلةٍ حضاريةٍ مختلفةٍ كيفيًّا عن الحضارة الأوروبية، يحس في أعماقه أنه لا بد من «تغييرٍ جذريٍّ» في الأساس الاجتماعي، ولا جدوى من الإصلاح الجزئي.
فالحضارةُ الأوروبيةُ التي أثمرت الواقعيةَ النقديةَ في القرن الماضي، كانت حضارةً علميةً وصناعيةً متقدمةً، أما حضارتنا التي عبرت عن نفسها في الريف المصري إبان ثلاثينيات هذا القرن، فقد بلغت من الانحطاط أبشع صوره على الإطلاق؛ لذلك يحاصر فنان «يوميات نائب» النظام الاجتماعي بأكمله بين قوسين، كحدٍّ أدنى للاتهام الموجه للعصر جميعه، وهكذا ترتفع واقعيته النقدية إلى المستوى الثوري، ولعل البناء الفني الذي لخص لنا الأحداث الرئيسية في جريمة ضد مجهول، ثم أضاف أن التفاصيل تكشف لنا عن مجرمٍ مجهولٍ، لعل هذا البناء يضمر ذلك اللون الرفيع من ألوان السخرية الهادئة، التي لا تقوم على المفارقات اللفظية أو المصادفات الجزئية، وإنما تقوم على ذلك الصراع الواضح البيِّن بين التناقضات التي لا نهاية لها. فالخطوط العامة للرواية تصوغ قصة جريمةٍ يوميةٍ تقيَّد عادةً ضد مجهولٍ، والخطوط التفصيلية تصوغ قصة الجريمة الأم التي يعرف الجميع فاعلها الأصلي، وتلك هي الريادة الفنية في قصة «يوميات نائب في الأرياف»، إنها مجموعةٌ من الخطوط المعقدة في لوحةٍ دراميةٍ كبيرةٍ، تتحول عند النظر المدقق إلى مجموعةٍ هائلةٍ من اللوحات التي لا نهاية لغناها الدرامي العظيم. وليس غريبًا أن يتخصص فيما بعدُ كاتبٌ مسرحيٌّ معاصرٌ كسعد الدين وهبة في استيحاء هذه القصة في أغلب أعماله المسرحية، مع فارقٍ واحدٍ هامٍّ هو أن صدور «يوميات نائب» عام ١٩٣٧م يتخذ لنفسه دلالةً جوهريةً أعمق بكثيرٍ من صدور «المحروسة» و«السبنسة» في الستينيات من هذا القرن.
البناء الفني في «يوميات نائب» إذن بناءٌ مركَّبٌ، فهو يشتمل على قصةٍ رئيسيةٍ، ثم تشتمل هذه القصة بدورها على مجموعةٍ من الأقاصيص، إلا أن الفنان هنا لا يستخدم أدوات التعبير الرومانسي التي جربها في «عصفور من الشرق»، كالرسائل والفلاش باك ومختلف أشكال الذكريات. حقًّا، هو يستطرد أحيانًا بما يخرج به عن السياق الأصلي، ويجرح الشكل التعبيري، كما نلاحظ في بداية القصة حين ذهب وكيل النيابة لمعاينة مكان الحادث، فيتذكر أنه ترك ذات مرة جريحًا يعالج سكرات الموت، وراح يصف ما يرتديه، فما إن فرغ وانحنى على المصاب يسأله عن المعتدي، فإذا به قد تُوفِّي. وكما نلاحظ ذلك التداعي الذي اقتحم عالمه الواقعي عند إحدى المقابر، فقد نظر إلى بقايا الإنسان وهو يتخيل أن هذه الجثث والعظام فقَدَت لدينا ما فيها من رموزٍ، فهي لا تعدو في نظرنا قطع الأخشاب وعيدان الحطب وقوالب الطين والآجُر، إنها أشياء تتداولها أيدينا في عملنا اليومي، لقد انفصل عنها ذلك «الرمز» الذي هو كل قوتها: «نعم، وماذا يبقى من تلك الأشياء العظيمة المقدسة التي لها في حياتنا البشرية كل الخطر لو نزعنا عنها ذلك الرمز؟ أيبقى منها أمام أبصارنا اللاهية غير المكترثة غير جسمٍ ماديٍّ، حجر أو عظم لا يساوي شيئًا ولا يعني شيئًا، ما مصير البشرية وما قيمتها لو ذهب عنها الرمز؟ الرمز هو في ذاته كائنٌ لا وجود له، هو لا شيء، وهو مع ذلك كل شيءٍ في حياتنا الآدمية، هذا اللاشيء الذي نشيد عليه حياتنا هو كل ما نملك من سموٍّ نختال به ونمتاز به على غيرنا من المخلوقات.»
أقول حقًّا إن هذا التداعي أو ذاك الاستطراد يعطِّل السياق الفنيَّ، فيصيبه بالركود أحيانًا، ويبعث فيه شيئًا من التشتت الذي لا غاية له في معظم الأحيان. ولا يستطيع الفنان أن يحتج علينا بأنه كتب قصته في قالب «اليوميات» التي تتسع لأمثال هذه الشطحات، فالحق أيضًا أن تصميم «يوميات نائب» خلا تمامًا من التأملات الذهنية المجردة والخواطر المبعثرة، وإنما هو اختار اليوميات هنا إمعانًا في واقعية الواقع لا هروبًا إلى سبحات الخيال في عالم الوهم، اليوميات تمنح هذا العمل بُعدًا واقعيًّا صميمًا لأنها تغوص في أعماق القرية المصرية بكل ما يأتي به الغوص من بشاعة المأساة التي تعيشها، فاليوميات ليست — كما هي عند المراهقين — دغدغة لحواس يقظة في منتصف الليل. إن الحكيم يعيد إلى اليوميات معناها السليم فيقيمها على قدميها بدلًا من سيرها على رأسها في وضعها السابق، اليوميات عند الحكيم إطارٌ واقعيٌّ صارمٌ مهما شابته بعض الاستطرادات والتداعيات الذهنية في بعض المواضع.
والقصة الرئيسية تبدو كما لو كانت جريمةَ قتلٍ عاديةً، مقيدةً ضد مجهولٍ ما دامت السلطات لم تتوصل إلى معرفة الجاني، والأقاصيص الفرعية تبدو كما لو كانت مجريات الأمور الطبيعية في عالم هذه القرية المشبعة بالدماء والرشوة والفقر والاختلاس والتزوير. إلا أننا لو تصورنا للحظةٍ واحدةٍ أن كلًّا من القصة الرئيسية والأقاصيص الفرعية يشكل عماد الحياة الحقيقية في هذه القرية من قرى مصر، لاستطعنا أن نضع أيدينا على أسرار هذا البناء المركَّب في «يوميات نائب»، الذي يبدو لأول وهلةٍ ممعنًا في البساطة والأُلفة، تلك البساطة التي نعرفها عند الكاتب الألماني العظيم «برتولد بريخت»، وإن كان يختلف في طريقه إليها عن الطريق الذي يسلكه الحكيم في يومياته، فبريخت يلجأ إلى التعميم وشيءٍ من التجريد، ولأنه يعمم الواقع المرئي المباشر ولا تشغله المشكلة الميتافيزيقية المجردة بطبيعتها، فإن هذا الواقع المجرد يتسم بالبساطة والألفة عند المتلقي، على الرغم من تعقيد المشكلات الفنية التي يواجهها بريخت في سبيل هذا الجمع المزدوج بين البساطة والتجريد.
أما توفيق الحكيم فيصنع شيئًا مختلفًا، وإن اقترب خطوات مما يصنعه بريخت، فهو لا يعمم الواقع ولا يجرده ولكنه يقدمه في صورة «الإيهام الكامل» الذي يُغرق المتلقي في تفاصيل اليوميات وجزئياتها الدقيقة، وإن لجأ إلى التعميم والتجريد في المستوى الفني المحض، في طريقة استخدامه لأدوات الصياغة الجمالية والتعبيرية … فكيف ذلك؟
إن العامل عند بريخت «يمثل» الطبقة العاملة، والرأسمالي «يمثل» الطبقة الرأسمالية … ولكن الفلاح عند الحكيم هو فلاحٌ من لحمٍ ودمٍ يمثل نفسه وطبقته الاجتماعية معًا، وهو يمثل نفسه في إحدى لحظاتها — لا في تاريخها كله — وهو يمثل طبقةً من إحدى الزوايا لا من جميع زواياها؛ لذلك يكثر عدد الفلاحين في قصة الحكيم بغير أن تكون هذه الكثرة «عددية» وحسب، وتكثر رموز السلطة كالمأمور والعمدة والقاضي ووكيل النيابة والخفير، ولكل شخصيةٍ منهم أهميةٌ محددةٌ، فلا يمكن استبدال أحدهم بالآخر، أو الاستغناء عن أحدهم بالآخر.
قصة الحكيم قصةٌ واقعيةٌ، ومسرح بريخت مسرحٌ واقعيٌّ، ولا نقول مع البعض إن واقعية بريخت هي في المضمون دون الشكل، أو نغامر بالانصياع للمعادلة ذات البريق فنقول إن واقعية الحكيم في الشكل لا في المضمون. إن أمثال هذه التصنيفات مزيفةٌ ومفتعلةٌ؛ لأنها في جوهرها عملية إسقاطٍ خارجيٍّ، وليست توغلًا في أعماق العمل الفني، واكتشافًا لقوانينه الداخلية، إن واقعية بريخت هي واقعية الملحمة الشعبية التي يحتمل أحد وجوهها التجريد والتعميم، فهي واقعية المضمون المنحوت بوعيٍ وعمقٍ نافذين من حياة الإنسان المعاصر في عالمنا، وهي واقعية الشكل المأخوذ عن أعرق قوالب التعبير الفني في تراث الشعوب. أما توفيق الحكيم، فيستلهم الواقع حقًّا، ويضع النظام بأكمله بين قوسين، ولكنه لا يكتشف القانون الداخلي لهذا النظام الآيل للسقوط؛ لهذا تظلُّ ثورية الحكيم في حدود الواقعية النقدية التي تكتفي بالصورة الموضوعية للمجتمع المتآكل، وتلعن القوانين الدستورية التي تكفل لهذه الصورة البقاء، ولكنها لا ترتفع إلى مستوى الواقعية الثورية في أدب بريخت، حيث ينشغل باكتشاف القانون الرئيسي الشامل للمجتمع، ولا يهبط إلى مستوى الواقعية النقدية أو الواقعية الطبيعية في أوروبا، حيث يكتفي أصحابها بالنقدات الجزئية للمجتمع.
ونعود إلى قولنا بأن الحكيم يعمم ويجرد في المستوى الفني للصياغة الجمالية وأدوات التعبير فحسب، فهو يجعل من قصة «ريم وقمر الدولة» هيكلًا عظميًّا مجردًا، هو جريمة القتل التي وقعت للرجل أولًا، وللفتاة أخيرًا. وإذا كان المؤلف قد شاء أن تقيَّد الجريمة ضد مجهولٍ، فليس ذلك للانتهاء بقصةٍ بوليسيةٍ شيقةٍ إلى خاتمةٍ تثير البلبلة والحيرة، وإنما لكي يدعنا نتمعن أكثر فأكثر فيما يكسو الهيكل العظمي العام من لحمٍ ودمٍ خاصٍّ، ليس «قمر الدولة» إلا أحد الرجال العديدين في القرية المصرية ممن يلقون حتفهم في لحظةٍ برصاصةٍ عابرةٍ مع سبق الإصرار وإن اختفت عن الأعين، أو تعامت عنها الأعين. وليست الفتاة «ريم» إحدى الفتيات الجميلات بالقرية ممن تطفو جثثهن على مياه ترعةٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ. وليست زوجة «قمر الدولة» بأول أو آخر زوجة تموت خنقًا في ظروفٍ مريبةٍ، ولكن ماذا صنع الفنان بهذه الشخصيات وتلك المصائر التي اختلطت خيوطها وامتزجت؟ إن هذا السؤال يجرنا إلى ما استهدفه الحكيم من روايته الأولى «عودة الروح»، فقد كانت هذه الرواية صراعًا عنيفًا بين مختلف الاتجاهات الفنية التي سيطرت على الحكيم في أوائل حياته الفنية، وكان الاتجاه الواقعي هو أحد هذه الاتجاهات، وكانت الحصيلة النهائية لعودة الروح هي «الرؤية المصرية» التي شهدت ميلادها على يديه. وإذا كانت هذه الرؤيا في عودة الروح على درجةٍ ما من الغموض لما كان عليه الصراع من حدةٍ واشتعالٍ، فإن هذه الرؤيا قد اتجهت إلى الوضوح في «يوميات نائب»، بالرغم من الصعاب التي اعترضتها في «عصفور من الشرق».
ففي «يوميات نائب» لا تصبح مصر مجرد فكرةٍ ميتافيزيقيةٍ خالدةٍ، وإنما هي واقعٌ مليءٌ بالبؤس والعار، وقابلٌ للزوال من خريطة الحضارة. مصر في «يوميات نائب» هي تلك الجحور المسقفة بحطب القطن والذرة يأوي إليها الفلاحون، في لونها الأغبر الأسمر، لون الطين والسماء وفضلات البهائم، وفي تكدسها وتجمعها «كفورًا» و«عزبًا» مبعثرة على بسيط المزارع، «لكأنها هي نفسها قطعان من الماشية مرسلة في الغيطان». وها هو ذا الفلاح المصري في «يوميات نائب» لم يعد هو الكائن الحي الذي ترقد في أعماقه عشرة آلاف سنة من المجد الحضاري القديم فحسب، بل هو قد يحتوي نقصًا خلقيًّا يُضاف إلى أمراضه الجثمانية والفكرية والاجتماعية، وربما كانت قلة مقدرته وضعف ثقته بالنفس منشؤها اشتغاله بأعمال العبيد من قديمٍ في الأرض والزراعة وترك الفروسية والجندية للمغيرين، وربما كان داء الشكوى قد استوطن دم الفلاح على مدى أحقابٍ من الجور مرت به. وهكذا تتطور الرؤيا المصرية عند الحكيم من حدودها الوطنية التي تستنشق عبير الماضي العظيم لبعث النخوة الوطنية في الأجيال المعاصر المناضلة من أجل الاستقلال، إلى الآفاق الاجتماعية التي تنفسح أحلامها فيما وراء الاستقلال، أي إن الرؤيا المصرية في «عودة الروح» كانت في صميمها رؤيا وطنية خالصة؛ لهذا كانت ترى الريف والفلاح بمنظارها الرومانسي، أما في «يوميات نائب» فتتحول إلى رؤيا اجتماعيةٍ خالصةٍ، ترى الريف والفلاح بمنظارٍ واقعيٍّ.
فماذا قالت الرؤيا الجديدة؟
قالت إن الحكيم بفطرة الفنان المصري الأصيل، قد أدرك الوجهين المعاصرين لحضارتنا؛ «التقاليد» غير الديمقراطية في أسلوب الحُكم من جانبٍ، و«التخلف الحضاري» المدمر من جانبٍ آخر.
وقد كان هذا الإدراك في جوهره إحساسًا ووعيًا ثوريًّا عميقًا بما آلت إليه الأرض من جفاف، وما آلت إليه الروح من بوارٍ، إنه لم يتخلَّ قط عن مصرية رؤياه، ولكنه تخلى بكل تأكيدٍ عن مضمونها الرومانسي الثابت المطلق إلى مضمون جديد، حي ومتطور. لم يتخلَّ الحكيم عن مصرية رؤياه، بدليل تدعيمه لإحياء الشخصية المصرية في الفن، تلك التي ظلت نائيةً عن البناء الروائي في أدبنا الحديث أمدًا طويلًا، ولكنه تخلى عن المطلقات الرومانسية الجامدة، فأخذ يتشكل بما يمليه الواقع المتحرك من تطوراتٍ قد تبطئ في الظاهر، ولكنها تضمر في الباطن تغيرًا ديناميكيًّا هائلًا.
ويلتقط الفنان من جزئيات هذا الواقع ما يؤيد وجهة نظره الجديدة، فما إن يدخل وكيل النائب العام على مأمور المركز حتى يراه وهو يفض مجلسًا للعمد ويشيعهم إلى الباب قائلًا: «فتح عينك يا عمدة انت وهو … مرشح الحكومة في الانتخابات لازم ينجح، أنا نفضت ايدي وانتم أحرار … مفهوم؟» وعندما يهم وكيل النيابة بتفتيش سجن المركز التفتيش «المفاجئ»، يخبره معاونه بأنه يفضل الاكتفاء بالتوقيع على دفاتر السجن هذه الأيام، فلا شك أن المركز مزدحمٌ الآن بخصوم الحكومة الجديدة بغير وجه حقٍّ، ومن الأفضل تجاهل عبارة «ياما في الحبس مظاليم»، فإذا استفسر الوكيل موافقًا: «يعني نمضي على دفاتر المركز ونسكت؟» يجيبه المعاون: «يا سيدنا البك، احنا حنكون أحسن من مين … كان غيرنا أشطر.» وأين وكيل النيابة الذي يعارض المركز اليوم في إصدار أوامر الحبس؟ ويخرج العمدة من مكتب المأمور كأنه خادمٌ أو مجرمٌ، ويحس الفنان أن الذلة التي يذوقها في حضرة رجال الإدارة لن تذهب سدًى، فهو سيذيقها لأهالي القرية التي يحكمها، «فإن كأس الإذلال تنتقل من يد الرئيس إلى المرءوس في هذا البلد، حتى تصل في نهاية الأمر إلى جوف الشعب المسكين، وقد تجرعها دفعةً واحدةً»، ويسأل وكيل النيابة «حضرة المأمور»: والانتخابات؟
– عال.
– ماشية بالأصول؟
فنظر مليًّا، وقال في مزاحٍ كمزاحي: حنضحك على بعض؟! فيه في الدنيا انتخابات بالأصول؟!
فضحكت وقلت: قصدي بالأصول مظاهر الأصول.
– إن كان على دي اطمئن.
ثم سكت قليلًا، وقال في قوةٍ وخيلاء: تصدق بالله؟ أنا مأمور مركز بالشرف، أنا مش مأمور من المآمير اللي انت عارفهم، أنا لا عمري اتدخل في انتخابات، ولا عمري أضغط على حرية الأهالي في الانتخابات.
ثم يكمل: «دي دايمًا طريقتي في الانتخابات، الحرية المطلقة، الحرية المطلقة، أترك الناس تنتخب على كيفها، لغاية ما تتم عملية الانتخابات وبعدين أقوم بكل بساطة شايل صندوق الأصوات وأرميه في الترعة، وأروح واضع مطرحه الصندوق اللي احنا موضبينه على مهلنا.»
هذه النصوص المطولة قد توحي بأن الحكيم رأى الواقع كله سوادًا في سواد. والحق أن الحكيم لا يؤمن بنظرية السواد المطلق أو الشر الكامل التي آمنت بها الواقعية الأوروبية في القرن الماضي، ولكنه يحاول استكمال الرؤيا التي بدأ بناءها في «عودة الروح»، فقد كانت هذه الرؤيا من التفاؤل بحيث جنحت نحو «الخير المطلق» الذي تراه العين الرومانسية في كل ما هو مصريٌّ، ولولا الأهداف الوطنية الواضحة التي أبان عنها الكاتب في «عودة الروح» لجاء تصويره للريف، وتصوره عن الفلاح أقرب إلى المخدرات الذهنية من ناحيةٍ، وأقرب إلى الحاسة العنصرية من ناحيةٍ أخرى؛ لهذا يجيء استكماله لهذه الرؤيا في «يوميات نائب» استكمالًا موضوعيًّا عميقًا، فإذا كانت مصر تتمتع بالأصالة الحضارية وعراقة التاريخ، فإن هذا لا يمنع أن مجدها الحضاري القديم لم يُورَث بشكلٍ قدريٍّ محتمٍ؛ إذ تدهورت حضارتها تدهورًا شديدًا، وألمَّت بها عصورٌ كاملةٌ من الانحطاط، بحيث إن «التخلف الحضاري» ما يزال عنصرًا باقيًا من عناصر تاريخها الحديث. كذلك فإن عراقة تاريخها مع المجتمع العبودي قد ظلت كامنةً كالبذرة في أرضٍ تتسم بمركزية السلطة أمدًا طويلًا، بحيث إن هذه البذرة القديمة هي بعينها التي أنبتت فيما بعد وأثمرت «التقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحُكم».
لذلك لا يصبح الفلاح المصري المعاصر في «يوميات نائب» مجرد رمزٍ إلى حضارةٍ تمتد جذورها إلى عشرة آلاف سنةٍ، كما صورتها لنا «عودة الروح»، وإنما يترك الحكيم هذا الشكل العام وخطوطه العريضة، إلى المضمون الخاص وخطوطه المفصلة، فليس هناك «خيرٌ مطلقٌ» كما قالت العين الرومانسية، ولكنه لا يتردَّى أيضًا في هاوية «الفساد المطلق» كما قالت الواقعية الأوروبية في الماضي، وإنما هو يرى في العشرة آلاف سنة التي تتوسد الفلاح المصري الحديث، مجموعةً معقدةً من العناصر السلبية والإيجابية التي شكَّلها الزمن الطويل والبيئة المتعددة الألوان بالكثير من سمات حضارتنا المعاصرة، وهي نفس الفكرة التي تبناها فيما بعد الاتجاه الواقعي الثوري في أدبنا المصري الحديث، كما تتضح عند عبد الرحمن الشرقاوي في «الأرض»، وعند يوسف إدريس في «الحرام».
ولا شك أن القرية المصرية عرفت طريقها الرومانسي لأول مرةٍ في قصة «زينب»، ثم اختلطت الرومانسية بالواقعية في «عودة الروح»، إلى أن جاءت «يوميات نائب» فاستطاعت أن تعزل العناصر الرومانسية عزلًا نهائيًّا. وقد تبلورت محاولة الشرقاوي في إعادة ذلك المزيج بين الرومانسية والواقعية في «الأرض»، ولكن في مستوًى جديدٍ أكثر تركيبًا مما كان عليه في «عودة الروح»، فضلًا عن «زينب».
كان الريف في «زينب» أشجارًا وشمسًا وقمرًا، وكانت الرومانسية أن يتناقض هذا الجمال المطلق مع الغرام الفاجع بصورته المأساوية المطلقة أيضًا، وكانت رومانسية هيكل على هذا النحو نقلًا حرفيًّا — ساذجًا — للرومانسية الأوروبية التي كان «الريف الجميل» فيها رمزًا للطبيعة العذراء عندما تفتح ذراعيها لمتعبي المدينة وضحايا حضارتها الصناعية، كما كانت مآسي الحب تعبيرًا عن أزمة التناقض بين العلاقات الاجتماعية الجديدة في المجتمع الصناعي الوليد، والقيم الإقطاعية السائدة على هذا المجتمع، ولم تكن هذه المشكلات بصورتها المفصلة هذه هي المحور الأساسي لأزماتنا في بداية هذا القرن، ومن هنا احتوت «زينب» على قدرٍ كبيرٍ من التنقاض والافتعال.
أما «عودة الروح»، فقد حاولت أن تصنع شيئًا آخر، حاولت أن تكون أمينةً مع هذا الواقع، فجاءت ميدانًا للصراع بين الاتجاهات الفنية المتعددة، وميدانًا للصراع لما كنَّا فيه بالفعل من تناقضٍ بيننا وبين الغرب، وجاءت رومانسيتها مجرد وجهٍ من وجوهها المختلفة، ولم يكن وجهًا سالبًا، وإنما كان وجهًا معبرًا عن آلام المخاض لمصر الجديدة، لم تمنع رومانسية «عودة الروح» من أن نرى في الريف بؤسًا وتعاسةً ومشكلاتٍ، وأن نرى في المدينة صعابًا وآلامًا كثيرةً، لم تزيف قط واقعنا، وإنما أرادت أن تقول على الرغم من «كل ذلك» فإن مصر «من أعماق ذاتها الحضارية» سوف تنتصر، وتلك هي رومانسيتها، الثورية في حينها، فقد كنا في أمسِّ الحاجة إلى هذا المصل «الذاتي» في وجه القمر الأجنبي. ولكن هذه الإيجابية المرحلية من الممكن أن تنقلب في مرحلةٍ تاليةٍ إلى «سمٍّ زعافٍ»، هو الحس العنصري، أو إلى مخدرٍ قاتلٍ للحس الاجتماعي؛ لذلك أقبلت «يوميات نائب» لتقول: كلَّا! قالتها بكل شجاعة وخشونة وتطرف «رد الفعل»: كلَّا، ليست مصر — بطبيعتها — قادرةً على كسب المعركة! وإنما هناك إرادة الإنسان. وبدأ «النائب» تحليلًا طويلًا عميقًا لإرادة الإنسان المصري حينذاك، وانتهى بنا إلى تساؤلٍ جادٍّ: هل استطاع الذل والهوان أن يقضيا على النفس المصرية، فيحيلاها إلى دميةٍ من الخنوع والخذلان، أم أن هذا كله رداءٌ من «الصبر» نسجته لها ليالي العذاب والمحن، لتواجه به المصير الأكبر في استبسال الأنبياء والشهداء؟
ولقد جاءت «أرض» الشرقاوي و«الحرام» ليوسف إدريس، مرحلتين من مراحل الإجابة على السؤال الرائد. ألقى الحكيم سؤاله في صياغةٍ مركبةٍ فجاءت الأجوبة أكثر تركيبًا.
إن «الأرض» وقد صدرت عام ١٩٥٤م، أي بعد حوالي ربع قرنٍ من صدور «يوميات نائب»، تعيد التوازن المفقود في يوميات نائب بين الرومانسية والواقعية. هي لا تستعيد رومانسية «عصفور من الشرق»، بل ولا تستعيد رومانسية «عودة الروح»، وإنما هي تستلهم رومانسيتها من طبيعة المرحلة التاريخية التي أثمرتها، مرحلة الأزمة الحقيقية بين التكوين الاجتماعي الجديد والقيم السائدة؛ لهذا تتوهج صفحات الأرض بأحلام الغرام الرومانسي الكامن في أعماق «عبد الهادي» جنبًا إلى جنب أدوات التعبير الشاعري في تركيزها على الظل العاطفي للواقع. ولكن الشرقاوي لا يصور الريف ملاذًا من الحضارة كما فعل هيكل، ولا يصور الريف تجسيدًا لفكرةٍ متيافيزيقيةٍ عن مصر كما فعل حكيم «عودة الروح»، وإنما يصور الريف تجسيدًا للواقع المصري المعاصر كما فعل حكيم «يوميات نائب في الأرياف»، الواقع المصري — في الثلاثينيات — الذي ينضح بالتخلف والدكتاتورية. ولقد نجح الشرقاوي إلى حدٍّ كبيرٍ في صنع هذا المزيج المركب من الرومانسية والواقعية تعبيرًا أصيلًا عما كان يموج به واقعنا من تلاحمٍ غنيٍّ بالصراع، وعندما يقول علواني في «الأرض»، ص٦٨، ط أولى: «هي خلاص الحكومة ماعندهاش شغلانة غير بلدنا؟ مرة ترفد ومرة تحبس وجاية في آخر المواخر تحوش عنا الميه؟» يذكرنا على الفور بقرية «يوميات نائب» في موقفها من القضاء حين اتهمها بسرقة الملابس الجديدة من الكيس الذي طفا على سطح الماء. كذلك حين يقول الشيخ يوسف في أرض الشرقاوي إن العمدة هو الذي ساعد الحكومة في الانتخابات بعد أن قاطعتها الدنيا كلها، فكان يكتب أسماء الموتى والأحياء، ويخدع بعض الرجال بأن دستور حكومة الشعب سيجلب معه البركات، فإننا نتذكر على الفور موقف العمد والبوليس والنيابة والقضاء في «يوميات نائب». وعندما يتهكم عبد الهادي في الأرض على «محمد أفندي» قائلًا: «أيوه يا محمد أفندي صحيح! هو احنا يعني بننام على سراير؟ على سُرر مرفوعة؟ ولا على نمارق مبثوثة؟ ولا يمكن على أرائك مصفوفة؟ داحنا نبقى في الجنة بقى» (ص٩٥). نتذكر المناخ الاجتماعي الذي أوحت به «يوميات نائب»، وكيف كانت بيوت الفلاحين جحورًا مسقفةً بعيدان القطن، هذا هو الجانب الواقعي الذي امتد من «يوميات نائب» إلى «الأرض».
ولكن الشرقاوي استطاع أن ينتقل بالواقعية المصرية إلى مستوًى جديدٍ يرتفع كثيرًا على مستوى الواقعية النقدية. إنه لم يقتصر على «الصورة»، بل تجاوزها إلى التفسير والتحليل، ولم يكتفِ بإرادة التغيير، بل حاول أن يرسم الطريق إلى التغيير. وتبدو لنا واقعية الشرقاوي الثورية منذ البداية، منذ أن بدأ يخطط هيكل القصة وخطوطها الخارجية، فبينما يختار الحكيم في «يوميات نائب» هيكله العام من «جريمة قتلٍ» عاديةٍ كإطارٍ يعلق به الصورة الحقيقية المعتمة التي طالعناها من خلال عشرات المشاهد والأقاصيص الفرعية، نجد أن الشرقاوي يختار هيكله من صلب الأحداث الدامية التي تعيشها مصر في ذلك الوقت، يختار «قضية الأرض» من خلال مشكلة الفلاحين مع السلطة، أو كما جاء على لسان عبد الهادي: «تعطشوا لنا الأرض وتقولوا لنا الحكومة»، «مين اللي فوقنا حياخد الميه؟ المخروبة أرض الباشا» (ص٦٧). أو كما جاء على لسان محمد أبو سويلم: «حجزوا على نص البلد وسكتنا لهم، الله! ويموتوا لنا الأرض من العطش كمان» (ص٧٤). وليس ذلك سوى الهيكل الخارجي فحسب لقصة «الأرض»، وهو بالرغم من أنه «يدخل في الموضوع مباشرةً» إلى صلبه وصميمه وجوهره، إلا أنه بسيط بساطة الفلاحين أنفسهم، وبساطة الأسلوب الذي كتب به الشرقاوي روايته: «… وفي تلك الأيام بالذات كان أهل القرية جميعًا قد عرفوا أن مياه خمسة أيامٍ من أيام الري قد أُخذت منهم لتُعطَى لأرض الباشا القريبة من مدينة المركز عاصمة الإقليم» (ص٩٧). هذا هو المستوى الثوري الجديد للواقعية كما فهمها الشرقاوي وكتب بها روايته، وفي حدود هذا الهيكل الذي يستوعب أطراف القضية كلها، تمكَّن الشرقاوي من أن ينسج روايةً واقعيةً رائدةً تتشابك فيها المصالح بالعواطف بالظروف والمصادفات والصعاب والقيم، لتخلق فيما بينها ملحمةً بطوليةً أقرب إلى الشِّعر منها إلى النثر، ولا شك أن رواية الحكيم كانت أكثر تماسكًا بالرغم من كل ما فيها من استطرادات، إلا أن رواية الشرقاوي تتجاوزها بالرغم من أنها امتدادٌ لها، تتجاوزها لسببين؛ أولهما أن «الأرض» تركيبٌ فنيٌّ جديدٌ من الرومانسية والواقعية، وثانيهما أن «الأرض» رؤيا فكريةٌ جديدةٌ لا تضع النظام بقوانينه الدستورية بين قوسين، وإنما تكتشف القانون الأساسي لذلك النظام والتناقض الجوهري في بنائه الاجتماعي؛ لذلك فمهما قيل إن الأرض مليئةٌ بالشعر حافلةٌ بالجانب الإخباري، تميل إلى شكل الريبورتاج الصحفي، فإنها ستظل علامةً حيةً من علامات الطريق الطويل الذي قطعته الرواية المصرية من «عودة الروح» إلى «يوميات نائب» إلى «ثلاثية» نجيب محفوظ. وتنبع أهمية المقارنة بينها وبين قصة الحكيم في أنهما تناقشان فنيًّا الشريحة الاجتماعية «الفلاح المصري»، فقد اكتفى الحكيم بتصوير النتائج، وحاول الشرقاوي أن يصور المقدمات التي أدت إليها، ولكن الرابطة القوية العميقة التي تربط بين المقدمات والنتائج، هي بعينيها — في المستوى الفني — التي تربط «يوميات نائب في الأرياف» وربيبتها الأولى «الأرض».
وكانت الابنة الثانية ليوميات نائب في الأرياف قصة «الحرام» ليوسف إدريس، ويمتزج الشكل والمضمون في هذه القصة امتزاجًا يكاد يجعلها تخلو من الهيكل الخارجي خلوًّا شبه تامٍّ، فالقصة الرئيسية هي قصة «التراحيل» حقًّا، ولكن الأقاصيص الفرعية حول علاقة «لندة» بابن مأمور الزراعة، وهروبها مع «أحمد سلطان» الكاتب، وغير ذلك من صراعاتٍ بين العمدة والمأمور، وبين الأهالي والترحيلة، ليست إلا النسيج المعقد لقصة «عزيزة» التي تركت زوجها المريض، وجاءت مع الترحيلة لتعود إليه ببضعة قروش. وعزيزة هي الشخصية الفنية التي تحمل في أصالة تكوينها مُختلف رموز «الحرام»، فهي «الخاطئة المصرية» التي يشير بها يوسف إدريس إلى مأساة مجتمعٍ بأكمله، هي الزوجة الريفية التي سمعت زوجها المريض يطلب «البطاطا» في إحدى لحظات «الدلال»، فذهبت لتوها إلى أقرب حقول البطاطا، وراحت تحفر الأرض باحثةً عن جذرٍ قريبٍ تخلعه لزوجها، وفي الحفرة التي تمكنت من صنعها أقبل ابن صاحب الحقل ليساعدها على الخروج، ولكن بعد أن فقدت شيئًا اعتزت به طويلًا، هو «الشرف». وهكذا عادت مرةً أخرى، ومرات عديدة، لتأخذ البطاطا، وتعطي ذلك الشيء الذي اعتزت به طويلًا، وعندما تذهب مع الترحيلة تكون بطنها قد تكورت بشيءٍ غريبٍ عليها، فالقرية كلها تعلم أن زوجها لا يقربها منذ أمدٍ طويلٍ، منذ ألمَّ به المرضُ وأقعده عن مواصلة السعي، ويأتيها المخاض أثناء العمل مع الترحيلة، فتلد طفلها في مكانٍ قصيٍّ، ثم تقتله خنقًا، وتعثر القرية على «اللقيط» الميت، وتبدأ قصة يوسف إدريس. فليس هذا التلخيص الذي قمت به إلا «البرولوج» الذي يمكن أن نتصوره لأحداث «الحرام»، فالحق أن الفضيلة تبدأ بعد ذلك، بعد اكتشاف «الخطيئة» تبدأ في رحلةٍ طويلةٍ مع الضمير الإنساني الموزع بين أهل القرية والتراحيل، والمأمور والعمدة ولندة وفكري وأحمد سلطان، ذلك الضمير الذي يحاصر به الفنان نظامًا اجتماعيًّا بكامله، ولكن الحصار يتم في وقتٍ واحدٍ مع اكتشاف القانون الأساسي لذلك النظام. ولولا الخاتمة «الحدوتية» التي أنهى بها يوسف إدريس قصته، لجاءت خطوة بعيدة المدى والأثر في الصياغة التفصيلية لمراحل الثورة في بلادنا.
إن يوسف إدريس في هذه القصة امتدادٌ طبيعيٌّ لتوفيق الحكيم في «يوميات نائب»، وإن تجاوز واقعيتها النقدية إلى آفاق الواقعية الثورية. هو يستلهم «يوميات نائب» في ذلك المزيج المركب من فجيعة القرية المصرية، وما تدل عليه من إيحاءاتٍ تشمل حضارتنا بأكملها، وإن ركزت «الحرام» على جانب التخلف الحضاري المدمر، وربما كان هذا هو السبب في اقتراب يوسف إدريس من الرواية الأم «يوميات نائب» في امتصاصها الدءوب لمأساة الواقع، وتبنيها الصريح للرؤيا الاجتماعية. وبالرغم من التدفق الحار في سياق «الحرام»، والانسياب الشِّعري في صياغتها الجمالية، إلا أنها لا تتورط في رومانسية الشرقاوي وبنائه الشِّعري، فالأرض قد بُنيت عند الشرقاوي بسيمتريةٍ شعريةٍ، يمكن بواسطتها «وزن» الكثير من مقاطعها بمعيار الشِّعر وقواعده وأصوله، والأرض عند الشرقاوي قد تبنت أشعة الرومانسية في مستوى الرؤية الفكرية لا في مستوى الأسلوب فحسب. أما «الحرام» فتعود إلى المنبع في «يوميات نائب»، وترشف منه الرؤيا المصرية في مستواها الاجتماعي المحض، وإن تجاوزت حدود الواقعية النقدية إلى آفاق الواقعيَّة الثوريَّة.
على أن أهمية المقارنة بين رواية الحكيم وروايتَي الشرقاوي ويوسف إدريس تبدو شديدة الوضوح في نقطتين:
- الأولى: هي «الخبرة الواقعية المباشرة» التي يمكن تسميتها بالتجربة الشخصية من حيث دورها في صياغة العمل الفني. فلعل الوعي الاجتماعي المرهف الذي تتسم به «يوميات نائب في الأرياف» هو نتيجة اللقاء الواقعي الحميم الذي تم بين الحكيم والقرية المصرية؛ لذلك تكاد هذه الرواية أن تخرج عن حدود «تجربة الذهن» التي عاشها الحكيم، فجاءت تصوراته عن الواقع في إطار التجربة الذهنية وحدها، أما «يوميات نائب» فهي الاستثناء شبه الوحيد الذي يتميز بعمق التجربة الشخصية وحرارتها. والتجربة الشخصية في «يوميات نائب» أكثر موضوعيةً — فنيًّا — من التجربة الشخصية في «عودة الروح»، حيث تخلصت من المطلقات الرومانسيَّة والأفكار المثاليَّة المسبقة، وكان «الواقع الخام» هو العمود الفقري ليوميات نائب، وكان البناء الفني المتماسك استخلاصًا حيًّا عميقًا لإطار ذلك الواقع، وهذا هو السر في أن أبوة هذا الرواية تمتد إلى «الأرض» و«الحرام» وغيرهما من أعمالٍ تناولت القرية المصرية بهذا المنظار الواقعي، حيث يتوهج العمل الفني بحرارة التلاحم بين الفنان وواقعه.
- أما النقطة الثانية: التي يلتقي عندها الحكيم بأبنائه من الجيل الروائي الجديد، فهي «الرؤيا المصرية» التي تهدف إلى خلق الشخصية المصرية في الفن، ولا شك أن الشخصية الفنية المصرية قد عانت الكثير من التطورات قبيل ظهور توفيق الحكيم، إلا أن المرحلة الكيفية الجديدة التي ظهرت بها هذه الشخصية في «عودة الروح»، ثم في «يوميات نائب»، هي التي عاشت فيها بعدُ في تاريخ الرواية المصرية، الذي تُعَد «الأرض» و«الحرام» من معالمه الرئيسية البارزة. وليس المقصود بالشخصية المصرية في «عودة الروح» مثلًا أن تكون محددة الطابع الفردي، كشخصية محسن، وليس المقصود بها في «الأرض» أن تكون وثيقة الارتباط بأحلام القرية، كشخصية «عبد الهادي»، وإنما المقصود بالشخصية الفنية المصرية أن تكون صوتًا حقيقيًّا نابعًا من أعماق الضمير المصري في إحدى مراحل تطوره، فليست هناك شخصيةٌ مصريةٌ مطلقةٌ في الفن من حدود الزمان والمكان، كما أنه ليست هناك شخصياتٌ مصريةٌ محددةٌ في الفن بجدران الذات الفردية التي تختلف من إنسانٍ إلى آخر. وإنما الشخصية المصرية — فنيًّا — هي ذلك الكائن الذي يلتئم في داخله الوجه الإنساني العام بالوجه الحضاري الخاص، هي بذلك شخصية لها جانبها المطلق، كما أن لها جانبها النسبي، هي من زاويةٍ شخصيةٍ أصيلة الملامح، ومن زاويةٍ أخرى هي شخصيةٌ متطورةُ السمات، ولعلَّ أصالتها لا تتناقض مع تطورها، بل هما معًا يصوغان ما ندعوه بالشخصية «المعاصرة».
وفي «يوميات نائب» بالذات أمثلةٌ عديدةٌ لهذه الشخصية، فالمأمور والعمدة ووكيل النيابة والقاضي والشيخ عصفور، كلهم أوجهٌ عديدةٌ متنوعةٌ للشخصية المصرية في لحظة حضورها، وفي أصالة جذورها معًا، بل إن الشيخ عصفور على وجه التحديد، الذي نراه فيما بعد حيًّا متجددًا في أعمال نجيب محفوظ تحت أسماءٍ مختلفةٍ، يكاد يجمع في كيانه الفردي الخاص مختلف الوجوه التي نراها للشخصية المصرية، فهو ذلك «السر» الذي ينطق بما يستشفه من «الغيب»، ويبقى لغزًا دائمًا أبديًّا لا تستطيع أن تمسك به، قد نسمِّيه «درويشًا»، وقد ندعوه «أبله»، ولكنه في جميع الأحوال يجسد «الغموض» الجوهري في حياتنا.
والمأمور أو ضابط البوليس، أو العمدة، ذلك الممثل البارع للسلطة المركزية أو «الحكومة» أو «الدولة»، هو حجابٌ ضخمٌ من عدم الثقة يرتفع بين الفلاح المصري و«أولياء الأمر» منذ قديم الزمن. إلى جانب هذه «المطلقات» هناك الصفات النسبية التي تتعلق باللحظة العابرة، وبين المطلق والنسبي، بين الإنسانية والبيئة المحلية، تعيش الشخصية المصرية صراعاتها اليومية في كفاحٍ مريرٍ يتسم بلون المأساة، تلك المأساة التي قد تتلون بأنغام عاطفة الحب كما هو الحال في أرض الشرقاوي، أو تتلون بأنغام العذاب والضنى والهلاك كما هو الحال في «الحرام»، وليست المأساة المصرية في هذه الأعمال إلا دبيب الحياة الذي انتقلت حرارته من «عودة الروح» إلى «يوميات نائب»، إلى بقية الأعمال الشامخة في تاريخنا الأدبي الحديث.
في «يوميات نائب» نلتقي بهذه الشخصية في صورةٍ جماعيةٍ أحيانًا، وفي صورةٍ فرديةٍ أحيانًا أخرى، يسأل مساعد النيابة المتهم: انت سرقت كوز الذرة؟
فأجاب الشيخ لفوره من جوفٍ مقروحٍ: من جوعي!
فنظر المساعد إليَّ وقال في لهجة الانتصار: اعترف المتهم بالسرقة؟
فقال الرجل في بساطةٍ: ومن قال إني ناكر، أنا صحيح من جوعي نزلت في غيط من الغيطان سحبت لي كوز.
وعندما تأمر النيابة بحبس الرجل، يعلق في هدوءٍ: وماله، الحبس حلو، نلقى فيه على الأقل لقمة مضمونة.
هذا نموذج للوجه النسبي في الشخصيَّة الفنيَّة، مرهونٌ باللحظة التاريخيَّة التي يعالجها الفنان، وهناك نموذج للوجه المطلق لا تبرزه شخصيةٌ مهمةٌ، وإنما تحدده شخصيةٌ غاية في التفرد، هي شخصية الشيخ عصفور، عندما تسأله النيابة عن «صناعته» يرفع عقيرته بالغناء:
فإذا استحثه للكلام، ردد فيه همسٍ:
هذا الشكل «الهذياني» لكلمات الشيخ عصفور، يحقق مضمونها الفني جانبًا هامًّا من جوانب الشخصية المصرية، هو ما تتمتع به من غورٍ داخليٍّ تخفيه أحيانًا سطحيةٌ خارجيةٌ مقصودةٌ.
والشخصية المصرية في الفن كما تحققت في «يوميات نائب» هي عماد الرؤيا المصرية في مستواها الاجتماعي، كما قدمها الحكيم، وهي العنصر الذي أعاد «الروح» إلى الرواية المصرية بعد طول بوارٍ.